وكل العوامل الأخرى. . . تدور حول هذه النقاط بطريقة أو بأخرى ‏!‏ ‏!‏ ولقد دفع مسلمو الأندلس جميعا ثمن أخطائهم ‏:‏ دفع الحكام الثمن حين أذلهم الله وسلبهم ممالكهم ، وهل ننسى أشعار ابن عباد البائسة ، حين أذله الله على يد المرابطين في ‏"‏ أغمات ‏"‏ بالمغرب الأقصى ‏؟‏‏؟‏ وهل ننسى قولة ابن صمادح حاكم ‏"‏ ألمرية ‏"‏ وهو يموت ‏:‏ ‏"‏ نغص علينا كل شيء حتى الموت ‏"‏ ‏؟‏ وهل ننسى دموع. . . أبي عبد الله - آخر ملوك غرناطة. . . حين رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود إسلامي في أوربا. . . رحلت به على أنغام الأمواج الهائجة. . . وكلمات أمه المسكينة تدوي في سمعه ‏:‏ ‏"‏ ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال ‏"‏ ‏!‏‏!‏

ولقد دفع الشعب الإسلامي الثمن حين استسلم لأمثال هؤلاء الملوك ‏.‏ ولم يأخذ على أيديهم ، فأحرقت دوره ، وسلبت أمواله ، وأرغم على تبديل دينه ، بل وتغيير اسمه ، وحرمته الصليبية الآثمة أبسط حقوق الإنسان ‏!‏‏!‏

على أن ‏"‏ الأوراق الذابلة من حضارتنا ‏"‏ كانت مجرد تغيير في هيئة الحكم بحثا عن طموح شخصي ، أو انطلاقا من دعوى عنصرية ، أو دفاعا عن نعرة مذهبية، أو فشلا من دولة كبيرة جامعة كالعباسيين والأمويين في السيطرة على كل ما تحت يدها. . . مما يمنح الفرصة للمطامع أن تظهر ، وللنعرات أن تحكم ‏.‏
ونحن لا نستطيع القول ‏:‏ بأن هذه الأوراق كانت كلها خيرا أو شرا ، ولعل بعضها كان لفتة قوية للدول الكبرى كي تسير في الطريق الإسلامي الصحيح. . . كما أننا كذلك لا نميل إلى القول ‏:‏ بأن هذه الصفحات التي أدت إلى تغيير دولة بدولة أو حكم بحكم كانت تسير بالأمة في طريق الهاوية. . . فلا شك أن ثمة مزايا أخرى يمكن أن تكون قد تناثرت على الطريق ‏.‏

إنني لا أميل إلى ما يعتقده البعض من أن التاريخ يسير في طريق عمودي. . . سواء إلى أعلى أو على أسفل. . . عن تجربة تاريخنا الإسلامي تكشف لنا أن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة - كالحضارة الإسلامية - حركة لولبية - إن صح هذا التعبير - فثمة انحناءة إلى أسفل في جانب تقابلها انحناءات إلى أعلى في جوانب أخرى ، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود. . . الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين ، والصعود بفعل الاستجابة لتحديات خارجية قوية ‏.‏ ومن اللافت للنظر أن مراحل الهبوط - في التجربة التاريخية لهذه الأمة - قد ارتبطت بأوضاع داخلية ، فهذه الأمة لم تضرب من خارجها بقدر ما ضربت من داخلها ، بل إن الأعداء الخارجين لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر فيها من الداخل. . . ولقد أفادنا الأعداء بتدخلهم كثيرا ، وغالبا ما كان لتدخلهم فضل إيقاظ الضمير الإسلامي ، أو إعلان الجهاد العام ، أو إظهار ‏"‏ صلاح دين ‏"‏ أو ‏"‏ سيف دين ‏"‏ مما من شأنه أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة ‏.‏

لقد كانت الأمة المسلمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية ، كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات ، ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها - بحكام يشلون حركتها ، ويخنعون أمام أعدائها ، ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم. . . لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ، ولو أن هذه الأمة قد تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها التي غرسها ورعاها الإسلام. . . لو تم هذا لكان في الإمكان أن تحدث منعطفات كثيرة في تاريخ هذه الأمة ‏.‏ هي لصالحها. . . ولحساب رقيها وازدهارها‏.‏

لقد حاولت من خلال هذه الأوراق الذابلة أن أمد الطرف - في تاريخنا الإسلامي - إلى آفاق ثلاثة ‏:‏ الأندلس ‏- ‏أوروبا‏ -‏ والمشرق العربي بخلافتيه الكبيرتين - العباسية والفاطمية ‏-‏ والدول التي تبعتهما ، ثم المغرب العربي. . . وهي الأجنحة الثلاثة الشهيرة التي تزعمت العالم الإسلامي ، ومثلث القيادة الفكرية والسياسية بالنسبة لمسلمي العالم ‏.‏

ولم تكن الأوراق التي اخترتها إلا مجرد نماذج من هذه الأجنحة ‏.‏ ولربما كانت هناك دول أخرى كفيلة بمدنا بشارات من شارات طريق السقوط. . . لكن الاستقصاء ، فضلا عن صعوبته ، لم يكن من أهداف هذه الصفحات ‏.‏

إن هذا البحث. . . وجبة خفيفة من وجبات تاريخنا ‏.‏ لكنها وجبة من نوع خاص. . . ليست زاخرة بأنواع الدسم والمشهيات ، فإن جسم الحضارة كأجسام الأفراد - لا يستقيم بالدسم الدائم ‏!‏‏!‏

وهذا البحث دعوة لتشريح تاريخنا من جديد. . . وبجرأة ، فلأن نشرحه نحن - بإنصاف - أولى من أن نتركه لأدعياء المنهج العلمي يشرحونه - بحقد وعنف وإجحاف. . . ‏!‏‏!‏

وهو كذلك بحث للذين يقرءون تاريخنا. . . ليتعلموا ، أو ليناقشوا ، أو ليعرفوا معالم المستقبل ‏.‏