القسم الثالث : دول مغربية تسقط

القسم الثالث ‏:‏ دول مغربية تسقط
o سقوط الأغالبة في تونس
o سقوط دولة الخوارج في الجزائر
o غروب الأدارسة في المغرب الأقصى
o سقوط صقلية الإسلامية
o سقوط المرابطين بالمغرب
o سقوط دولة صنهاجة في تونس
o سقوط بني حماد في الجزائر
o سقوط الموحدين

o ------------------------------------------------------


سقوط الأغالبة في تونس


الحركات الانفصالية في العالم الإسلامي ارتكزت على عديد من الأسس المتباينة ، وجنحت كل منها إلى حجة تعطيها مشروعية الوجود والبقاء ، فبعضها قد التمس السبب في الانفصال من نزعة سياسية ، وبعضها قد التمسه من نزعة مذهبية ، وبعضها قد التمسه من نزعة قومية ، وبعضها قد التمسه من ‏(‏ ضعف الخلافة ‏)‏ ‏.‏
ولم نجد في تاريخ هذه الحركات ذلك الشجاع الصريح الذي يعلن أن رغبته في الانفصال ترجع إلى سبب حقيقي واحد هو الرغبة في الوصول إلى السلطة ‏.‏‏.‏ وتملك الحكم ‏.‏‏.‏ والمجد الأدبي والمالي ‏.‏
وفي فترة متقاربة بدأت الحركات الانفصالية تظهر في العالم الإسلامي ، وكأنها خصيصة جديدة من خصائص التطور التاريخي لهذه الفترة ، فالأندلس انقسمت عن الخلافة العباسية بقيادة عبد الرحمن الداخل ‏(‏ صقر قريش ‏)‏ ومثلت بوجودها آخر ومضة من ومضات وجود بني أمية ، وظلت باقية ثلاثة قرون تمثل هذه الومضة ، وانقسم بنو طاهر في خراسان انقساما تبعوا فيه دولة الخلافة العباسية عكس بني أمية في الأندلس ، وانقسم في مصر ابن طولون في تاريخ قريب من هذا ‏.‏
وكان لا بد للمغرب العربي ، وهو الأرض الواقعة كجسر تاريخي بين الامتداد العقائدي الذي وصل إلى مشارف باريس وبدأ ينحسر بعد موقعة بلاط الشهداء و استشهاد عبد الرحمن الغافقي ‏.‏‏.‏ بينه وبين مركز الإسلام الأصيل ومهبط الوحي وأرض العرب أن تظهر فيه هذه الظاهرة ‏.‏
والحق أن الحركات الانفصالية في المغرب العربي كانت تملك المبرر في الانفصال ، فإن عمال بني أمية كانوا قد أساءوا السيرة فيهم وعاملوهم ‏"‏ كبربر ‏"‏ أي كمواطنين من الدرجة الثانية ، كما أن أهل العراق بكل ما أثير بينهم من جدل كلامي وفتن عقائدية ‏.‏‏.‏ قد حملوا هذا الجدل وهذه الفتنة إليهم وحرضوهم على خلفاء بني أمية ، وولدوا فيهم الرغبة في الانفصال ‏.‏ وعلى مشارف القرن الثالث الهجري كانت هناك دول ثلاث منفصلة تحكم المغرب العربي ولا تخضع للخلافة العباسية إلا اسما ‏.‏‏.‏ وهي ‏:‏ الأدارسة و الأغالبة و الرستميون ‏.‏‏.‏ وكانت هذه الدول بوضعها ذاك تمثل الأرض القابلة لأي امتداد طموحي ‏.‏‏.‏ ووجد فيها الفاطميون فيما بعد الأرض الصالحة لغرس بذورهم ‏.‏
وكانت دولة الأغالبة التي قامت في تونس سنة 184 هـ أبرز الدول الانفصالية في المغرب العربي ‏.‏وكان مؤسسها إبراهيم بن الأغلب الذي أرسله الخليفة العباسي هارون الرشيد لخلق الاستقرار في المغرب العربي في ظل حماية العباسيين ، يتمتع بقدر كبير من الشجاعة والذكاء ، وقد اتخذ إبراهيم مدينة القيروان عاصمة له ، وبعد وفاته سار بنو الأغلب على منواله في توطيد أمن المغرب وتقوية أسطوله وجيشه وتنمية موارده ‏.‏
وكان أبرز ما قدمه الأغالبة للإسلام هو فتحهم لصقلية وضمها إلى أرض الإسلام ، بقيادة قائدهم أسد بن الفرات في عهد أميرهم زيادة الله بن إبراهيم الأغلب ، الذي تولى الحكم سنة 201 هـ ، كما أنهم تقدموا فاستولوا على جنوب إيطاليا ، ويقال ‏:‏ إنهم واصلوا زحفهم حتى دقوا أبواب روما ‏.‏
وقد ازدهرت الحركة الاقتصادية والعمرانية في أفريقيا التونسية على عهدهم ، كما أن الأمن قد ساد البلاد وأصبحت تونس ـ على الجملة ـ عامرة مزدهرة ازدهارا عظيما ‏.‏‏.‏ وقد أسسوا بالقيروان عدة مساجد لعبت دورا كبيرا في تدعيم الحضارة الإسلامية ، ومن أبرزها جامع الزيتونة الذي أصبح في المغرب كالأزهر في الشرق ولعب دورا مهما في الحياة العلمية الإسلامية ‏.‏
وقد اشتهر بعض ملوك الأغالبة بالقسوة الشديدة ، وكان سفك الدماء عندهم أسهل من شرب الماء ، ولعل هذا من أبرز ما أخذ عليهم ، وقد مد من عمرهم في المغرب انصراف الخلافة العباسية إلى مشكلاتها المشرقية ‏.‏‏.‏ وعدم قطعهم لكل أواصر المودة مع الخلافة العباسية ، وبالتالي رضيت الخلافة في ظل ظروفها بالقدر الذي يدينون به بالطاعة لها ‏.‏ كما أسكتها انتصارات الأغالبة في معارك الجهاد ضد الصليبيين في أوروبا والساحل الجنوبي الأوروبي وجزر البحر الأبيض المتوسط ‏هذا كله قد غفر لهم بعض أخطائهم وجعلهم يعيشون أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها ، ويحكمون صقلية ويفرضون هيبتهم على الدول الأوروبية ‏.‏
لكن الدول الانفصالية لا يمكن أن تقف أمام الحضارات الجامعة التي تمثل كيانا وجوديا له أبعاده الحضارية المتكاملة ‏.‏
ومن هنا فلم يستطع الأغالبة الصمود أمام الفاطميين الذين برزوا في المغرب بقيادة داعيتهم أبي عبيد الله المهدي ‏.‏‏.‏ فسقطوا على يد الفاطميين هؤلاء سنة 296 هـ ‏.‏
لقد سقطوا ـ أولا وقبل كل شيء ـ باعتبارهم حركة انفصالية لا تستطيع أن تصمد أمام كيان حضاري زاحف له راية الأيديولوجية يقف تحتها ، مهما اختلفنا في أبعاد هذه الراية ‏.‏‏.‏ أو هذه الأيديولوجية ‏.‏
سقوط دولة الخوارج في الجزائر
منذ خرج ‏"‏ الخوارج ‏"‏ عن طوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتسببوا في قتله على يد عبد الرحمن بن ملجم ، وهم يشكلون على امتداد التاريخ الإسلامي المادة الخام لكثير من الحركات الثورية ‏.‏ لقد انتشر الخوارج على امتداد الأرض الإسلامية ولقد دخلوا في عديد من المعارك واجهوا في بعضها تصفية جسدية هائلة ‏.‏‏.‏ لكنهم مع كل ذلك ـ ظلوا شعلة ثورة في الأرض الإسلامية ، وشعارهم قول أحد روادهم ‏"‏ قطري بن الفجاءة ‏"‏ ‏:‏
فصبرا في مجال الموت صبرا ** فما نيل الخلود بمستطاع
سبيل الموت غاية كـل حـي ** فداعيه لأهل الأرض داع
وبالطبع لم يكن المغرب الإسلامي ، وهو تلك الأرض الإسلامية العذارء ليفلت من أيدي الخوارج ‏.‏
لقد حاولوا بكل الطرق أن يشكلوا على أرضه قوة إسلامية خارجية ينشرون من خلالها مبادئهم الخارجية ‏.‏
وقد كان أهم بروز لهم سنة 122 هـ في طنج برئاسة ‏"‏ ميسرة المطغري ‏"‏ ، وقد عرف المغرب من مذاهب الخوارج ‏:‏ الصفرية والإباضية ، وقد انتشرت الصفرية في الجهات الغربية ، بينما انتشرت الثانية في النواحي الشرقية ، وكانت أكثر القبائل البربرية ‏(‏ المغربية ‏)‏ الموالية للخوارج زناتة وهوارة ‏.‏ بيد أن حركاتهم ظلت حركات ثورية فوضوية ، لم يقدر لها إلى منتصف القرن الثاني الهجري أن تنتظم في دولة ‏.‏‏.‏ ولذا فمعظم حركاتهم ماتت وكانت تذوب في بوتقة المجتمعات المنظمة ، لا سيما وقد أصيبت كثير من حركاتهم بما أصيبت به الحركات التي تقف على الطرف الآخر منهم ‏.‏‏.‏ أي أنهم أصيبوا بكثير من المغالاة والتطرف ، والميل إلى نزعة التكفير وإراقة الدماء والقتل لأوهى الأسباب ‏.‏ لكن مع بروز سنة 144 هجرية بدا وكأن الخوارج يستمتعون بإقامة دولة مستقرة لهم بالمغرب ‏.‏
وقد نجح عبد الرحمن بن رستم الإباضي عبر سلسلة من المغامرات والتعرض للموت غير مرة ، والتحايل على جذب القبائل البربرية ‏.‏
نجح في إقامة دولة خارجية تعتمد على البربر وعلى العرب والعجم وتتمركز في مدينة جزائرية يفصلها عن الصحراء الجزائرية أكثر من مائتي كيلو متر ، وتقع في منطقة النجود ، وتتبوأ مكانا جيدا يحميها من الإغارات ، ويحميها كذلك من الشمس التي لا تكاد تظهر في سمائها ‏(‏ ‏!‏‏!‏‏)‏ وهي مدينة ‏"‏ تاهرت ‏"‏ ‏.‏
وقد نجح عبد الرحمن بن رستم هذا في توطيد دعائم دولته خلال الفترة التي قدر له أن يحكمها ‏(‏ 144 ـ 168 هـ ‏)‏ وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذي بقي في حكم الدولة التي تنسب إلى أبيه ‏"‏ الدولة الرستمية ‏"‏ عشرين سنة ‏.‏‏.‏ ثم ‏"‏ أفلح ابن عبد الوهاب ‏"‏ الذي عمر أطول مدة عمرها حاكم رستمي ، فقد بقي في الحكم أكثر من خمسين سنة ‏(‏ 188 ـ 238 هـ ‏)‏ ، ثم تتابع في حكم الدولة الرستمية خمسة من الأمراء ‏(‏ أبو بكر بن أفلح ‏.‏‏.‏ فأبو اليقظان ، فأبو حاتم ، فيعقوب بن أفلح ، فاليقظان ابن أبي اليقظان آخر أمرائهم ‏)‏ والذي لم يتمتع بالحكم أكثر من عامين عاشهما في اضطراب ، ثم غلبه على أمره الشيعة الروافض وقتلوه في شوال سنة 296 للهجرة ، وانتهت به الدولة الرستمية التي حكمت جزءا كبيرا من أرض الجزائر ‏"‏ تيهارت وما حولها ‏"‏ قرنا ونصف قرن من الزمان ‏(‏ 144 ـ 296 هـ ‏)‏ ‏(‏ وكان ظهورها الذي دعمه الرخاء الاقتصادي والاجتماعي أبرز مثل لبروز دولة خارجية ‏)‏ ‏.‏
إن الخوارج الذين اشتهروا بالحمية والتفاني في سبيل المبدأ ، قد تحولوا في ظل دولتهم الرستمية إلى رجال حكم ودولة أكثر منهم رجال عقيدة ودعوة ‏.‏
وقد عاشت طوائف كثيرة مختلفة النزعة في ظل دولتهم الرستمية حياة رغدة طيبة سهلة ‏.‏‏.‏ وبعد أن كان الخوارج أرباب سيف سقط السيف من يدهم منذ أبو بكر بن أفلح ، وقد رضوا بسلم يمكن لهم البقاء في حدود ما حول تاهرت ، عقدوه مع جيرانهم الأغالبة والأدارسة ‏.‏
وجلي أن الذي لا يتقدم يكون عرضة للتأخر ‏.‏‏.‏ وهكذا تأخر الرستميون بعد أن فقدوا روحهم النضالية ‏.‏‏.‏ ودعنا من انحرافات كثيرة منهم لدرجة المغالاة والتطرف ‏.‏‏.‏ ودعنا كذلك من سذاجة آخر ملوكهم ‏"‏ اليقظان ‏"‏ واضطراب الملك في يديه ‏.‏
لقد عمل ذلك عمله في سقوط الدولة الرستمية ‏.‏‏.‏ كما عمل في سقوطها كذلك أخطر قانون من قوانين الحضارة ‏.‏‏.‏ وهو أن الدولة التي تفتقد راية حضارية جديرة بالانتشار والبقاء ‏.‏‏.‏ دولة جديرة بالانحسار والفناء .