ويمكن أيضا اتقاء مركزية السلطة من خلال إعطاء المجتمعات المحلية سلطات إدارية ، قضائية ، واقتصادية.

فالديمقراطية يجب أن يتم ترويضها ، داخل إطار الدولة الفطرية ، من أجل تمثيل الشعب بطريقة فعالة ومساوية ، والمحافظة على التوازن الطبيعي الذي يضمن إقامة مجتمع يسوده العدل.

ففي حالة غياب هذا الإطار الطبيعي سوف تتحول الديمقراطية إلى أداة في يد الأغلبية المستبدة على حساب الأقليات. وسوف يستغل الحكام بدهاء الديمقراطية من أجل تحقيق أطماعهم ، ويقودوه مرة أخرى إلى حكم الفرد المستبد. فهؤلاء الحكام يحاولون في العادة كسب عامة الشعب إلى جانبهم بوسائل ملتوية كثيرة ، مثل : مصادرة أملاك بعض الأقليات ، وإعطائها كرشوة لشراء تعاطف الأغلبية ، أو إيهامهم بأنهم في خطر عظيم ، سواء كان هذا الخطر حقيقي أم كاذب ، وأن خلاصهم يتوقف على طاعتهم لحكامهم ، وخضوعهم لكل القيود التي يفرضونها عليهم. وبالطبع لا توجد وسيلة أكثر فاعلية من الحرب لشراء تعاطف الأغلبية. ولهذا سنجد أن النظم الديمقراطية التي لا تضع أي قيود على رأي الأغلبية ، تتورط في كثيرا من الحروب.

أما في الدولة الفطرية فإن رأي الأغلبية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يلغي القوانين الطبيعية التي سنها الله سبحانه وتعالى. فتلك القوانين هي التي تضمن كرامة الإنسان ، والمساواة ، والأمن للأقليات ، وعدالة الحكم. فالمبادئ الفطرية التي في القرآن تضمن لكل فرد حقوقة ، حيث أن تلك المبادئ لا يمكن تخطيها سواء بواسطة قرار من الحكومة ، أو بواسطة أصوات أغلبية الشعب. ونتيجة لذلك سوف تتوفر البيئة التي يصبح كل شخص فيهاآمن على نفسه ، وماله ، وعمله. وبالتالي سوف يعمل كل فرد بكل طاقاته ، ومواهبة من أجل تحقيق أحلامه ، وتحقيق النفع لمجتمعه. فطاعة الشعب ، والحكومة لقوانين الخالق الطبيعية هي التي سوف تحقق الحرية ، وتضمن الاستقرار.

ونتيجة لتأمين الناس ، سواء الغني منهم أم الفقير ، و الإطار المستقر للدولة الفطرية ، سوف يمكن تحقيق الديمقراطية الاقتصادية. فمن خلال تكافئ الفرص ، وتقديم المساعدات المالية (أنذر9:60) سوف تصبح هجرة الفرد من طبقة إلى أخرى شيئا مستمرا ، وتتحقق المرونة في المجتمع ، وتقل فرص تكون صفوة ثابتة (أنذر 59:7).



إرساء دعائم الدولة الفطرية

إن الآية 13:11 تنص بوضوح على الشرط الوحيد لإرساء دعائم الدولة الفطرية: وهو أن أفراد تلك الدولة عليهم أن يغيروا ما بأنفسهم إلى الأفضل . فهذا هو السبيل الوحيد لتغيير ظروف حياتهم أيضا إلى الأفضل. وأفضل وسيلة تهدي إلى هذا الطريق الصحيح هي اتباع المبادئ التي في القرآن ، وإستلهام ما تمليه الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ[13:11]

إذن لا تتوقع أن يأتي إليك المهدى أوالمسيح ليخلصك من مشاكلك ، ويرسى لك دولة فطرية. فهذه المعتقادات الكاذبة ليست سوى مخدر للشعوب. بل في الواقع أنها السبب في تدمير العديد من الدول ، حيث تحقق الأغلبية الأكاذيب التي تبشر بالحروب والدمار.

والأمثلة التي تتوفر لنا في القرآن تبين لنا أنه حتى لو تم إرساء دعائم الدولة الفطرية ، فإن تلك الدولة لن تستمر سوى لفترة من الزمن. فالدولة المثالية لا وجود لها في دنيانا هذه ، بل هي ، كما هو واضح من القرآن ، لن تتحقق سوى للصالحين من الناس في الجنة.

ونموذج دولتي ، عاد ، وثامود يوفر لنا الرؤية الصحيحة للكيفية التي تفسد بها الدول ، فحتى الدول التي تبدأ بداية صحيحة يصيبها الفساد فيما بعد ، حيث أن المجرمون المغرورون موجودين في كل زمان ، ومكان.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [6:123]

وعندما تساند الإغلبية في المجتمع طبقة المجرمون تلك تفسد الدولة. وعندما يحدث هذا يحاول المجرمون اختلاق الأعذار للتقليل من أهمية القانون الطبيعي ، وتبني قوانين ملتوية ، ومعقدة ، وغير واضحة. ولن يعاني من جراء تلك القوانين في البداية سوى الأقليات ، ولكن تدريجيا سوف يقع الجميع تحت سطوتهم.

ولكن ماذا سوف يحدث للأقلية في المجتمع التي سوف تتمسك بالنظام الفطري الذي شرعه الله؟ والآيات 4:97 , 29:56 , 39:10 تجيب على هذا السؤال.

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [ 39:10]

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [29:56]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [4:97]

فالوسيلة الأكثر إحتمالا هي أن هذه الأقلية الصالحة سوف تهاجر إلى مكان آخر يمكنهم أن ينشئوا فيه دولتهم الفطرية. ومتى تم إنشاء الدولة في صورة تحالف ودي بين المجتمعات المحلية سوف تساعد حرية الانتقال فيما بينهم على الحفاظ على الخواص الفطرية للدولة من خلال تنافسهم على تحقيقها. فالمجتمع الذي يقهر مواطنيه ، على سبيل المثال ، سوف يفقد تدريجيا مواطنيه من ذوى المواهب الذين ما زالوا متمسكين بشريعة الله الفطرية. ولهذا السبب سنجد أن فكرة إنشاء حكومة واحدة على مستوى العالم كله أو حكومة مركزية قوية هي فكرة غير مقبولة. حيث أن الحكومات الكبيرة تميل في كثير من الأحيان نحو الطغيان ، والتسلط. وفي هذه الحالة لن يتبقى لمواطنيها مكان يهاجرون إليه.



المبدأ رقم خمسة عشر : يجب عدم وضع أي قيود على حرية الهجرة ، وحرية الحركة.


وهذا هو المبدأ المهم الذي أود أن أنهي به المقالة. شكرا على مشاركتك.


كلمة ختام أخلص بها ذمتي

ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2 البقرة ،2)

غدا سوف يتطور فهمنا للقرآن ، والعالم حولنا ، إلا أن يشاء الله. وهذه المقال لا تعكس سوى تفسيرى الشخصي للآيات القرآنية في 14 أغسطس من عام 2002. ولهذا فأرجو أن يكون القارئ في نفس تواضع الملائكة في الآية [2:32] ، وأن يتأكد من كل المعلومات التي أوردتها بنفسه كما أمره الله في الآية [17:36] ، وتذكروا أن إجابة المتقين على السؤال الذي ذكره الله في الآية [45:6] يجب أن تكون بالنفي.