ثانيا ـ المرحلة الشامية ( 3000ـ 1200 ق. م )


بدأت هذه المرحلة مبكرة إبان بدء العصور التاريخية ، حيث بدأت الهجرة الكنعانية من السواحل العراقية للخليج العربي وضفاف الفرات الجنوبي ، وربما اتخذ مسار هذه الهجرة طريقين : الأول مع نهر الفرات صعودا ، ثم الاتجاه الى السواحل الشامية الشمالية وتأسيس مدن ( رأس من شمرا ) و (أوجاريت) و(أرواد) و (جبيل) و (صيدا) و (صور) .. أي سواحل سوريا ولبنان .

أما الهجرة الثانية ، فكانت برا باتجاه فلسطين مباشرة ، وقد أسسوا أو سكنوا مدنا برية مثل ( قادش و بيت شان و شكيم وأريحا وبوس (أورشليم ) وبئر سبع و مجدو والسامرة .. الخ ) . ومدنا ساحلية مثل (عكا و دور و يافا و غزة الخ ) .. وقد كانت المدن تعبر عن اسمها الكنعاني ( رأس شمرا ) والسامرة
وهي مشتقة من سام و شام و أصبح سكانها فيما بعد شوام و شاميون الخ .

وبالتأكيد فإن الكنعانيون لم يكونوا أول من وطئ أرض سوريا أو فلسطين ، وعندما حضروا وجدوا في تلك الأرض أقوام سبقتهم خصوصا في مناطق (تل المريبط) و (تل الرمد) و منطقة ( المنحطة ) و (البيضا ) وغيرها .. فاندمج الكنعانيون مع السكان الأقدم .. ومع ذلك لم يستطيعوا تكوين دولة موحدة واحدة ، بل كانت هناك دول ( المدن ) كما كانت منتشرة تلك الظاهرة في تلك الأزمنة ، وكان لكل مدينة إلهها رغم أنه كان هناك إله واحد لكل الكنعانيين . وقد أدى عدم تنسيق دول المدن فيما بينها الى مشاكل كثيرة أمام العدو الخارجي .

ويمكن تقسيم فترات التاريخ الكنعاني في بلاد الشام الى :

أ ـ فترة تأسيس المدن الكنعانية ( 3000ـ 2400ق.م)

يربو عدد المدن التي عثر عليها و رد أصلها للكنعانيين في بلاد الشام عن 135 مدينة ، من أهمها رأس شمرا ، وأوغاريت ، وأرواد (جزيرة) وجبيل وبيروت و صيدا وصور وعكا و عسقلان و أسدود و جت و غزة ، و قادش و بيسان و بيت إيل و جبعون أريحا و يبوس (أورشليم) وبيت لحم و حبرون و عجلون وبئر السبع وغيرها .. كما وجد 1200 قرية تعود نشأتها للكنعانيين .

ب ـ فترة النفوذ المصري ( 2400ـ 1500ق م ) :

ابتدأت فترة النفوذ المصري على الساحل الشرقي للبحر المتوسط ، مع بداية الأسرة السادسة ، وبالذات أيام الملك الأول من تلك الأسرة و اسمه (تتي) فقد جهز جيشا بقيادة (وني) مكون من عشرات الألوف من الجنود . ويعتقد أن هذا الإجراء جاء نتيجة تهديد بقطع خطوط التجارة التي تمر بفلسطين ، من قبل جهات متمردة داخل تلك الأراضي ، أو من تهديد سومري في احتلال تلك المنطقة ، إذ تزامن إجراء المصريين ، مع تحرك لقوات الملك السومري (لوكال زاليزي) .. وما تلاها من تحرك لقوات الملك الأكدي ( سرجون ) .. للهيمنة على سواحل المتوسط الشرقية .

وبقيت بلاد كنعان تحت السيطرة المصرية حوالي ألف عام ، ولم يجعلها تتخلص من السيطرة المصرية ، إلا أثناء حكم الرعاع و الهكسوس لمصر زهاء قرنين من الزمان .. هذا مما حقق استقلالا للمدن الكنعانية .

في حين برزت في تلك الفترة ممالك مثل (أوغاريت) وملكها (نقمد) ومملكة (رأس شمرا) و (جبيل) وغيرها .


فترات التاريخ الكنعاني في بلاد الشام

ج ـ فترة الصراع المصري الحوري الحيثي (1200ـ 1500) ق م

كان الملك الحيثي (خاتوشيلي الأول ) 1530ـ1570ق م .. قد مهد للنفوذ الحيثي شمال سوريا ، عندما أسس أمارة في حلب ، واستطاع أن ينفصل بالنصف الشمالي من سوريا و ينتزعها من النفوذ المصري ، وكان ذلك في عهد الملكة (حتشبسوت) .. واستطاع النفوذ الحيثي أن يتوسع ، وبقي كذلك ، حتى استطاع الملك (تحتمس الثالث) (1450ـ 1502ق م) أن يسترد النصف الشمالي من سوريا . وهكذا استطاع تحتمس الثالث من خلال سبعة عشر حملة أن يحتل في آخرها حصن قادش (حمص ) ، حيث تزعمت تلك المدينة الحلف المناوئ للمصريين .

وبقيت الحروب بين الحيثين والمصريين ، حتى بعد وفاة تحتمس الثالث ومجيء تحتمس الرابع .. ولكنها هدأت وانتهت تقريبا بعد أن تزوج فرعون مصر (أمنحوتب الثالث ) من ابنة الملك الحوري (شوتارنا) .. وأنجبا ولدا هو (أخناتون) الذي تنازل لأخواله عن حكم شمال سوريا ، وقيل أن هذا الاتفاق كان قبل الزواج ..

والجدير بالذكر أن التحالف المضاد للمصريين ، كان يتكون من أمراء كنعانيين وأموريين وملوك الميتانيين ، وكان يسمى ( رابطة القسَم ) ..

وبعد أن ضعف نفوذ المصريين بعد أن استلم الملك (أخناتون) حكم مصر ، عاد نفوذ الحيثيين للبروز ثانية ، في عهد ملكهم المعروف (شوبيلو ليوما ) .. فتنصل الأمراء الموالون للحكم في مصر وانضموا الى الملك الحيثي الذي توسع فاستولى على بيروت وجبيل ..

اغتنم تلك الفترة ملك طامح هو (عبدي عشيرتا) انتزع الحكم عن طريق المراوغة والحيلة ، ووحد الإمارات الكنعانية والأمورية ( حماة ، وسومورو ) وانفرد بشمال سوريا ، وفرض الجزية ابنه (عزيزو) الذي تولى الحكم بعد وفاته .

وبقيت البلاد هكذا حتى اعتلى عرش مصر ( سيتوس الأول ) 1315ـ1301 ق . م .. فأدرك خطر الحيثيين ، فقاد جيشه و احتل جنوب فلسطين و مجدو وحوران ولبنان الخ .. وتكررت حملاته ، حتى أبرم صلحا أقر به الحيثيون سيطرة المصريين على جنوب بلاد الشام ، في حين تركت شمال بلاد الشام للحيثيين ، واستمر الهدوء لمدة قرن من الزمان ..

ولكن الهدوء لم يطل كثيرا ، فكانت العاصفة المدمرة قد هبت في مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، بتهديد عنيف تمثل بغزوات الفستو و الآشوريين والعبريين لتدمر مدن بلاد الشام خلال قرنين من الزمان تدميرا كاملا ..

فترات التاريخ الكنعاني في بلاد الشام

د ـ فترة تدمير المدن (الغزو الفلستي والآشوري والعبري (1200ـ 1000) ق م :


الغزو الفلستي :

سقطت الدولة الحيثية عام 1190 ق م ، على يد قبائل غريبة عن المنطقة ، هاجمت من الغرب والشمال الغربي ، ويعتقد أن هذا الغزو كان جزءا من حركة الغزو والهجرة التي كانت تقوم بها القبائل الإغريقية من وسط وشمال أوروبا نزولا الى بلاد اليونان واستمرارا الى آسيا الصغرى وسواحل المتوسط الشرقية.

وكان هذا الغزو يتم من خلال ثلاثة محاور :

المحور الأول : من اليونان باتجاه آسيا الصغرى : وتكون من (الفريجيين والمسيين والكاشكيين ) وقد دمر هذا المحور قلب الإمبراطورية الحيثية .

المحور الثاني : من كريت وقبرص : وتكوَن من القبائل التي تجمعت هناك من (الشاردانية ) و ال (لوكية) وال ( ميسية) ، وكان الغزو عن طريق البحر ، وتحالف مع القبائل الليبية ، لكن الملك المصري (رمسيس الثالث) ردهم وأقف زحفهم ، وشتت شملهم ، فغزوا فلسطين من الجنوب واحتلوها أثناء فرارهم من المصريين ..

المحور الثالث : من كريت وقبرص الى السواحل الشامية : وتكون من قبائل (فلستو ، والليرية والزاكارية ) .. ثم انضمت إليهم القبائل المهزومة من رمسيس الثالث ، لتحتل تلك القبائل مجتمعة عموم الساحل الفلسطيني ، حيث احتلت ( عكا و أسدود و عسقلان و جت وغزة ) .. وانصهرت هنا مع قبائل بحر إيجة التي خربت (أوغاريت ) عام 1180 ق م .. والتي قضت عليها نهائيا وهكذا انقسم الشريط الكنعاني الى قسمين : الثلثين العلويين للكنعانيين الذين سيصبح منذ تلك اللحظة اسمهم (الفينيقيين ) والثلث السفلي للفلسطينيين . وستتحالف هذه الكتلتين السياسيتين ضد العبريين فيما بعد .

الغزو الآشوري :

تنفس الآشوريون الصعداء لما حل بالإمبراطورية الحيثية ، خصمهم العتيد الذي حصر نفوذهم وجعله يتقوقع .. فما أن زالت دولتهم حتى اجتاحوا جنوب سوريا ، وفرضوا الجزية على (أرواد) بعد احتلالها .. واستغل الملك الآشوري (تجلات بلاسر الأول ) 1116ـ1090ق م .. وجوده في لبنان ليقطع خشب الأرز الذي يرتبط بالأساطير العراقية في موضوع الخلود (ملحمة كلكامش) .

الغزو العبري :


تكاد المصادر المتيسرة لأيدي المؤرخين ، محصورة بما دون العبريون أنفسهم فلم يتم لحد الآن إيجاد حفريات تؤكد إدعاءاتهم المليئة بالمغالطات ، والتي تسللت الى كتب التاريخ ، ليعيد المؤرخون اعتمادها كأسس تأريخية ، فقولهم أن جن سليمان قد بنا تدمر ، في حين تذكر الحفريات الآشورية أن الملك (شلمن ناصر الثالث) جد الملك الآشوري المذكور أعلاه ، قد ذكر أنه حاصر تدمر لثلاثة شهور دون أن يستطيع فتحها ، وهو دحض لادعاءات اليهود واليونانيين والرومان .. أما العبريين وإدعائهم بأن جن سليمان هم من بنوا تدمر وسليمان ابن داوود و داوود ابن شاؤول الذي كان ملكا عام 1020 ق م يبين كذبهم وافترائهم ..

لكن العبريين استطاعوا أن يسيطروا في عهد شاؤول على فلسطين عدا الساحل منها .. وكان ذلك في حدود عام 1000 ق م .. ولكن مملكتهم قد انقسمت في عهد سليمان الى قسمين ( السامرة ويهودا ) ..

ويعتقد أن المعارضين للسكان الأصليين هم من أوجد تلك الشرذمة في المنطقة والتي حاولت طيلة وجودها الانخراط بالمنطقة وسكانها ، تتقرب من الأنبياء تارة وتقتلهم في النهاية .. وهذا دأبهم منذ دخلوا تحت مسميات مختلفة منذ الألف الأول قبل الميلاد أو قبله بقليل ( مع الفصل بين الأدعياء و ما ترك نبي الله ابراهيم عليه السلام من أتقياء اعتنقوا في النهاية ديانة الرسل الذين تلوهم ) .