المرحلة الفينيقية (1200ـ 232 ق م ) :

أ ـ الفينيقيون الشرقيون ( 1200ـ 232 ق م ) :

بعد أن دمرت معظم المدن الكنعانية البرية والساحلية على أيدي الغزاة المختلفين من فلستينيين و آشوريين وعبريين ، مرت المدن والحضارة الكنعانية بمنحدر خطير وطويل من الاحتلال و الغزو الجديد على أيدي المصريين والآشوريين والفرس والبابليين والإغريق والرومان والبيزنطيين ، تم بعد كل ذلك فقدان البلاد هويتها الكنعانية ..

1 ـ الاحتلال المصري :

قام الفرعون (بسوينس) من الأسرة (الحادية والعشرين)، في حدود 1000ق م ، بالهجوم من جديد على جنوبي فلسطين واستولى على مدينة (جزر) الكنعانية وأحرقها ..

وفي فترة حكم الفرعون (شيشناق الأول) والتي امتدت بين 950ـ929 ق م استنجد ملك إسرائيل (يربهام) بالملك المصري لينصره على ملك يهودا (رحبعام) ، فجهز الفرعون (شيشناق الأول) جيشا قويا انطلق به من عاصمته (بوبيتيس) في الشرقية واكتسح فلسطين و151 مدينة في آسيا .. واستولى على كنوز الملك سليمان أثناء إسقاط مملكة يهودا (ملكها رحبعام) .. فتراكضت الزعامات الكنعانية وولاة فينيقيا على كسب ود هذا الفرعون القوي ..

2 ـ الاحتلال الآشوري :


يعتبر عهد الملك (آشور دان الثاني) 930ـ910ق م .. هو الأهم بين المحاولات العراقية للسيطرة على فلسطين وبلاد الشام .. ثم تجددت تلك المحاولات بخلفائه الملك (آشور ناصر بال الثاني) 883ـ859ق م ثم في عهد ابنه (شلما نصر الثالث ) 860ـ825 ق م .. الذي كان يأخذ الجزية من المدن الكنعانية ، ولما رفضت أرواد الدفع هزمها في معركة حاسمة .. ثم تلاه (أدد) الذي غزا سوريا عام 805 ق م ..

وكان بسط السيادة الآشورية على سوريا يتمثل بأخذ الجزية ، أكثر من كونه احتلالا .. وبقيت الأمور هادئة بين 805 و 745 ق م عندما اعتلى عرش آشور ( تجلات بلاسر الثالث ) والذي فرض الجزية على سوريا وصيدا وصور .

ولكن صور استطاعت في عهد الملك الآشوري ( شلما نصر الخامس) أن تدمر أسطوله الذي كان يجوب شرق المتوسط .. وأسرت 500 ملاح آشوري ..

وتصاعد العنف الآشوري في عهد الأسرة السرجونية التي لم تعد تكتفي بالجزية بل بالاحتلال ، وقد قسمت البلاد الى ثلاث ولايات (صيدا وصور وسميرا) .. وقد حرض فرعون مصر (طبرقا) صور على الانفصال عن الدولة الآشورية فاستجابت له ، لكن الملك الآشوري (اسرحدون) كان لها بالمرصاد .

3 ـ الاحتلال البابلي :

سقطت الإمبراطورية الآشورية عام 612ق م .. فتنفست المدن الكنعانية الصعداء ، لكن الفرعون المصري (نخاو ) أراد استغلال تلك الضعضعة في الوضع العراقي، فحاول بسط نفوذه على كل بلاد الشام ، لكنه اصطدم بانتباه الملك البابلي (نبوخذ نصر) الذي انتصر على فرعون مصر في معركة (قرقيش) عام 605م .. وكان هذا الانتصار إيذانا باحتلال بابلي لكل بلاد الشام، وبالرغم من أن نبوخذ نصر قد وضع ولاة وحكام إداريين من الفينيقيين إلا أنه سرعان ما استبدلهم ببابليين ..

4 ـ الاحتلال الفارسي :

ظل حكام المدن الشامية البابليون ، وبعد سقوط بابل على يد (كورش) الفارسي ، هم من يحكمون المدن في بلاد الشام باسم الدولة الفارسية .. وبعد أن تولى (قمبيز) الحكم استبدلهم بحكام فرس، وقد كانت بلاد الشام تشكل في أحلام الفارسيين نقطة انطلاق لإفريقيا .. ففهم سكان مدن بلاد الشام تلك الأحلام وعرضوا مساعدتهم للفرس مقابل إعطائهم حرية في التحركات التجارية البحرية وجعلهم يحكمون أنفسهم بما يشبه الحكم الذاتي ..وكان لهم ذلك .. فاتحدت مدن (أرواد وصيدا وصور) وأنشأت مدينة تكون مركزا للتنسيق هي مدينة تريبوليس (طرابلس اليوم في لبنان طبعا) .. وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد ، وقد أطلق الإغريق عليها هذا الاسم وهو يدل دلالة واضحة على اتحاد المدن الثلاثة وتمثيل تلك المدينة لهم ( تري : ثلاثة .. بوليس : مدينة ) .

وقبل نهاية الحكم الفارسي ثارت مدينة صيدا فدمرها الفرس تدميرا شاملا ، ثم جاء الاسكندر المقدوني الذي هزم الفرس عام 333 ق م في معركة إيسوس . وقد قاومت صور طويلا قبل أن يحتلها الاسكندر .. وبمجيء الإغريق، أخذت الحضارة الفينيقية بالاضمحلال نتيجة انصهارها بالثقافة اليونانية ومن بعدها الرومانية في عام 64 ق م ..

الفينيقيون الغربيون (البونيون والقرطاجيون)


1200ـ 146 ق م

بعد مرور قرنين من الزمان مليئين بالأسى والدمار للمدن الكنعانية والفينيقية شرق المتوسط، وبعد الغزوات من شعوب وقبائل خارجة عن المنطقة، وجد أهالي المدن أن لا رابط يربطهم و يجمع صفوفهم ليستعيدوا قوتهم في درء الأخطار الخارجية. بعد ذلك كله ضجر الفينيقيون وهم سادة البحار في ذلك الزمان وأصحاب أعظم أساطيله، وكونهم تجارا فوق كل ذلك دفعتهم تلك الظروف الى الهجرة صوب السواحل الإفريقية على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، كذلك كان هناك نصيب من تلك الهجرات الى السواحل الأوروبية.

1ـ المرحلة الفينيقية (الانتشار والاستيطان 1200ـ814 ق م) :

ربما تكون هجرات الفينيقيين الى خارج بلادهم قد سبقت تاريخ 1200ق م لكن المؤكد أن بحارة الفينيقيين (الكنعانيين) قد تعرفوا على مناطق كثيرة، ويمكننا تقسيم المناطق التي انتشر واستوطن فيها الفينيقيون الى أربعة :

أ ـ جزر البحر الأبيض المتوسط :

كريت : أسهم الكنعانيون بالإضافة الى المصريين بصبغ حضارة جزيرة (كريت) صبغة واضحة متأثرة بالحضارة الكنعانية والمصرية، ولا يفهم من أن الكنعانيين أو المصريين قد استعمروا (كريت)، بل أن هناك تواصل حضاري ابتدأ منذ الألف الثالث قبل الميلاد ..

قبرص : تشير الحفريات أن (صور) قد اقتسمت إدارة جزيرة قبرص منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد .. وقد بقي جزء من قبرص تحت إدارة صور و حكمها حتى عام 450ق م عندما ضم (بطليموس الأول) ذلك الجزء لحكمه في مصر. ومن المستوطنات الأخرى في جزيرة قبرص، فقد خضعت (جولجوي) و(ايدليون) و(تلماوس) و (ماريون) و (لابيتوس) للحكم الآشوري لفترة طويلة .

صقلية و مالطة : استوطن الفينيقيون في (سيلينونتي) و (موتيا) و (بالرمو) و(سولونتو) في (صقلية). كما استوطن الفينيقيون في مالطة و في (جوزو) و (بانتلليريا) و(لامبيدوس).

وكذلك استوطن الفينيقيون (سردينيا) خصوصا في (نورا، سوليس، كارلوفورت، ثاروس) كما استوطنوا جزيرة كورسيكا .. واستوطنوا جزر (البليار) وجزر (إيجة) مثل ( تكوس، كيثيرا، ميلوس، ثيرا) .

ب ـ السواحل الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط:


وصل الفينيقيون اسبانيا في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حيث أنشئوا مدن (قادس) والذي يعني باللغة الفينيقية (السور) على الساحل الجنوبي لأسبانيا غرب جبل طارق عام 1110 ق م . كما أنشئوا مدينة (تارتيتوس) جنوب غرب أسبانيا التي عرفت ب (تارشيش)، وكذلك مدينة (قرشيش) والاسم يعني بالفينيقية (المنجم) أو مكان صهر .

وصل الفينيقيون الى اليونان في القرن الحادي عشر قبل الميلاد وأنشئوا مدن (كومايس المعروفة الآن بكوماي) و كورنثوس و ساموس (يعني بالفينيقية الشمس و رودس . وذلك تزامن مع انقضاء حضارة (موكناي) في اليونان على أيدي أقوام البحر و (الدوريون) .

ج ـ السواحل الآسيوية للبحر الأبيض المتوسط :

كان للفينيقيين حضور واضح في السواحل الآسيوية رغم قوة (الحيثيين) في آسيا الصغرى ، فقد ظهرت آثارهم واضحة في مدينة (ياليسوس) و جزيرة (رودس) ومدينة (أفيسوس) ومدينة (ساردس) ومدن أخرى.

د ـ السواحل الإفريقية للبحر المتوسط:

التواجد الفينيقي على السواحل الإفريقية بشكله التجاري قديم جدا، كذلك فإن الجانب الديني موجود أيضا، فقد وجد بالإسكندرية التي كان اسمها قبل الاحتلال اليوناني (فاروس) حي من أحياء (منف) يسمى (ساحة صور) .. وكانت السواحل المصرية محطات تجارية أكثر من كونها مستوطنات فينيقية.

أما في ليبيا فقد أنشأ الفينيقيون مدينة (أوبا) أو ( أوبا ملكرت) أو (ماكاريا) وكلها أسماء لمدينة (طرابلس الحالية) ومدينة (صبرات) وتعني سوق القمح، وهي مدينة (صبرا) الحالية، ومدينة (لبكي) وهي مدينة (لبدة) الحالية. ومدن أخرى ثانوية (كفالي) و (غرافارا) و (زوفيس) .

في السواحل التونسية أسسوا مدينة (أوتيكا) عام 1100 ق م ، ومدينة (هاردميتم) و (هيو، عنابة) و (تابسوس) و(أخولا) و (قرطاجة) التي تأسست عام 814 ق م . والتي سيكون لها الشأن الأعظم في تاريخ الفينيقيين الغربيين، وكذلك (هرماكون) و (رأس بون) و (حضرموت) التي أصبح اسمها(سوسة).

وفي السواحل الجزائرية أسسوا مدن (فيليب فيل) و (قسطنطينية) التي كان اسمها (كرت) أي القرية ومدينة (تشوللو) و (جيجلي) و(تيباسا) و(جواريا) .

وفي السواحل الغربية أسسوا مدن (ميليللا) و (ايمسا) و (سدي عبد السلام) و (تامودا) و (ليكسوس) على الساحل الأطلسي، وكان اسمها (تشميش) أي مدينة (الشمس) ومنها انطلقوا لاكتشاف مجاهل الأطلسي، ومدينة طنجة و مليلة والصويرة و مولي بوسلوام ..

يشير هذا الانتشار والاستيطان الواسعين الى أن الفينيقيين قد أسسوا فيما بين القرون الثانية عشر والسادس قبل الميلاد، إمبراطورية يحق لنا أن نسميها(إمبراطورية حوض البحر المتوسط).. ولكن ظهور الإغريق ثم الرومان أنهى تلك الإمبراطوري

الفينيقيون الغربيون (البونيون والقرطاجيون)


2ـ المرحلة البونية 814ـ 550 ق م :

يشير مصطلح (البوني) أو (الفوني) الى (الفينيقي)، ولكن ذكره هنا بهذا الشكل، للتمييز بين تلك المرحلة وسابقتها، حيث ساد استخدام مصطلح (بوني) عند الرومان، في حين شاع استخدام مصطلح (فينيقي) عند (الإغريق) ..

وتبدأ تلك المرحلة منذ تأسيس مدينة (قرطاج) عام 814 ق م . وتنتهي بظهور الأسرة (الماجونية) في قرطاج حيث بدأت قرطاج بعدها تلعب الدور السياسي والحضاري المعروف لها وتمتد كدولة كبيرة تشمل سواحل شمال إفريقيا من خليج (سرت) شرقا حتى سواحل المحيط الأطلسي غربا.

هناك معلومات تفيد بأن مدينة (صور) الفينيقية على السواحل اللبنانية، لعبت دورا بارزا منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد في هجرة وتنظيم هجرة الفينيقيين الى شمال إفريقيا، وبشكل خاص الى تونس، وأن (صور) تعتبر الأم المباشرة لمدينة (قرطاج)، وهناك حكاية تعتبر من الميثولوجيا حول تأسيس الأميرة الصورية (إليسا) أخت الملك الصوري (بيجمالون) لمدينة (قرطاج)، وهي حكاية تتأرجح بين الأسطورة والواقع ويمكن أن نمر عليها فيما بعد.

ومن المعروف أن شمال إفريقيا كانت مسكونة من قبائل ليبية وبربرية، ويعتقد أنه لم يحدث تصادم بين تلك القبائل والفينيقيين، ولم يحدث أن تم إبادة أو قضاء على طرف، لأن طابع الهجرات الفينيقية كانت تجارية واقتصادية وليست ذات طابع عدواني، ومن المحتمل أن تكون عمليات توافق وانصهار بين الطرفين.

وقد كان لموقع قرطاج السهلي وابتعادها عن السواحل ذات الطابع الصخري، يسمح لها بالتوغل في الداخل، أكثر من المراكز التجارية الأخرى.

كان اسم قرطاج الفينيقي (قرت حشدت) أي القرية الجديدة، وكان لها اتصال منذ تأسيسها بالحصن الجنوبي (بيرسا) قرب (لوكرام) ثم بقاعدة (أوتيكا) المجاورة ومدينة (حضرموت) في تونس. وقد نهضت قرطاج بسرعة لأن مؤسسيها من كبار أغنياء (صور) وأمرائها، فأخذت منذ نشأتها طابعا ملكيا فخما، آخذة من صور خبرتها وثروتها وصفوتها.