فارس حامد عبد الكريم / ماجستير في القانون


يتردد على السنة الناس قول لطيف ومحبب، وخاصة عندما يجدون انفسهم في موقف صعب امام القضاء سواء عن دين او تهمة ، او كانوا مجرد مشاهدين ، مفاده ان (الرحمة فوق القانون ) ، وهم محقين في ذلك فالرحمة يجب ان تكون فوق القانون كلما كان ذلك ممكنا، لان غاية القانون هي العدالة ، والعدالة،كمفهوم انساني واخلاقي حسب الاصل، لايمكن ان تتنكر للرحمة وللقيم الخلقية العامة السائدة حتى في اشد الاحوال والظروف قسوة، وقد يكون مصدر هذه الرحمة هو المشرع ذاته عندما يتبنى في تشريعه العقابي ظروفا واعذارا مخففة للحكم او انه يمنح القاضي في تشريعه المدني سلطة تقديرية تمكنه من تقدير ظروف الواقعة القانونية واصدار الحكم الملائم مع روح العدالة ، وقد يكون مصدرها القاضي عندما يفصل في نزاع فيجد نفسه امام حالة خاصة تستدعي الرحمة فيفسر القانون على نحو يستهدف فيه العدالة الحقة ، كلما كانت القاعدة القانونية غامضة (1) تقبل الاجتهاد في التفسير او انها اتاحت له عدة خيارات للحكم كلها في ميزان الشرعية سواء.ولفهم هذه المقولة على نحو واضح،ينبغي التلميح الى التطور القانوني لهذه الفكرة الجوهرية في عالم القانون والعدالة الحقة عبر التاريخ .

الرحمة فوق القانون مطلب انساني قديم جدا ،فقد كانت القوانين القديمة شديدة وقاسية ومجحفة بحقوق الضعفاء ولاتعرف للرحمة طريقا الا في حالات نادرة(2)، واذا كانت القوانين اوالاعراف القديمة تفرض على ابناءها عقوبات قاسية ولاتعترف بالحماية القانونية الا لأفرادها، فأنها في مقابل ذلك لم تعترف للغريب عنها بأية حقوق بل كانت تستحل قتله وتبيح ماله وعرضه ، فبين افراد الجماعات المختلفة ( لم يكن الاعتداء على شخص الغير او ماله جريمة ، ولايجر على صاحبه وزراً ولا عاراً ، بل كان السلب مسلكا شريفا،والاغارة مبعثاً للفخر،والانتقام واجباً تحتمه المروءة ) . وكانت القوانين في اغلب الاحيان سرا من الاسرار لايعرفها الا الكهنة والملوك ورجال الحكم، ولم يكن يسمح للعامة بالاطلاع عليها مطلقاً.

وسارت قوانين اليونان (قانون دراكون 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م) على هذا النحو من القسوة ، فكان من حق الدائن ان يسترق مدينه استيفاءاً لدينه او ان يبيعه في سوق المدينة او ان يقتله،واذا كان مدينا لعدد من الدائين كان بامكانهم ،وفقا لتلك القوانين، قتله واقتسام اشلائه، ومن جانب اخر بقي مشهد اعدام المدانين امام الملأ في الشوارع العامة ومن ثم التمثيل بجثثهم امرا مقبولا ولا يجرح المشاعر الى عهد قريب ، وكان من حق الاباء بيع ابنائهم او قتلهم بل ان سلطة الاب تجاه عائلته كانت شبه مطلقة وكذلك كانت سلطة الحاكم ،وكانت مسألة تعذيب الاسرى وقتلهم كوسيلة للانتقام وشفي الغليل امرا مألوفا ايضا.

وفي اطار القونين الجرمانية كانت المبارزة افضل وسيلة لاثبات الحقوق واستحصالها ، ومن ينتصر في المبارزة او يقتل خصمه فهذا يعني انه صاحب الحق الذي لاينازع ، وكانت المبارزة في اول الامر تتم بدون ضوابط وغالبا ماتجر الى نزاعات عائلية اوقبلية ، وفي تطور لاحق اضحت تتم تحت اشراف القاضي .

ان مثل هذا الوضع المأساوي للقانون لم يلق قبولا لدى المفكرين والفلاسفة القدماء والمحدثين على حد سواء، فتمت مواجهته بافكار قانونية جديدة خلاقة بهدف الحد من قسوة القانون وصرامته ،فظهرت للوجود فكرة القانون الطبيعي وتم التمييز بين العدل الشكلي والعدالة الحقة، كما ظهرت فكرة المعايير القانونية كعامل مساعد للتخفيف من صرامة القاعدة القانونية.وهذا يتطلب ان نلقي نظرة على فكرة القانون الطبيعي ، ومن ثم التمييز بين فكرتي العدل والعدالة .

اَمن الفلاسفة الاغريق عموما ، بوجود نظام عقلاني للكون تحكمه قوانين تسير على نسق واحد ، يمكن ادراكها بالبحث العقلاني ، تتكشف لذوي العقول النيرة ،وبأن هذه القوانين الابدية الخالدة هي معيار صلاحية او فساد اي فعل انساني، ومنها القوانين الوضعية والاحكام القضائية والعلاقات الاجتماعية .

ويعد سقراط اول من حول ايجاد معيار ثابت تقاس به خيرية الافعال او شريتها عندما حاول رد الاحكام الانسانية الى مباديء عامة موضوعية تصدق في كل مكان وزمان ، مستمدة من الطبيعة ويمكن الوصول اليها اهتداءاًَ بالعقل ، وبحسب وجهة نظر سقراط فان القوانين العادلة انما تصدر من العقل ومطابقة للطبيعة الحقة ، فكانت حقائق ثابتة مطلقة وهي صورة من قوانين غير مكتوبة نقشتها الاله على قلوب البشر ، طاعتها واجبة لانها رمز للعقل الذي ينبغي ان تكون له السيادة .

ان فكرة القانون الطبيعي تتجسد في ان على العقل البشري ان يتمعن في نظام الكون ومنطق الاشياء وطبيعة الروابط الاجتماعية فيستخلص منها هذا القانون الطبيعي ويصوغ قانونه الوضعي على مثاله ، ومثل هذا القانون يكون موضوعيا يحكم الناس على وجه سواء ، دون النظر الى ارائهم الخاصة ومصالحهم الذاتية ، فالطبيعة وحدها هي التي تنأى بالقانون عن القسوة والضيق والنقص والتغيير وعن هوى الفرد وتحكم المشرع ،

وينبغي على القاضي حين يجد نقصاً او قصوراً في التشريع ان يستلهم حكمه من هذه القاعدة الابدية التي تحكم الكون وتضفي بظلالها على الطبيعة الانسانية الصافية .

وهكذا كما توازن قوانين الكون بين الاشياء الضارة والنافعة، والاشياء الوحشية والاليفة، والقحط والوفرة ، توازن العدالة الكونية بين العقوبة والرحمة ، وعلى البشر ان يحذو حذو الطبيعة .