ونحن يتعين أن نتنبه هنا إلى أن ما تنوقل، أي ما تجاوز محيط حدوثه مكانيا أو زمانيا، ليس الحدث ذاته واقعة أو تصرفا، ولكن الإخبار عنه هو ما تنوقل وتجاوز محيطه الزماني أو المكاني، وهذا الفارق فارق جوهري، وهذا الفارق وضعنا مباشرة في صميم "نظرية المعرفة" التي تعتبر بابا من أبواب الفلسفة وعلومها، وهي ببساطة تتعرض للمسألة الفلسفية الخاصة بطبيعة المعرفة البشرية للموجودات الكائنة خارج الإدراك البشري وحدود هذه المعرفة ومدى مصداقيتها، ولكننا لا نتكلم في هذا المجال الفلسفي، وإنما نعرض لفكرة التمييز بين الواقعة أو الفعل كما حدث في ذاته وفي سياق ما أحاط به من أحداث سابقة ولاحقة ومواكبة، وبين إدراك الواقعة أو الفعل لدى من أثبتها ونقلها، أي لدى المخبر عنها حسبما صيغت لديه في نص كلام مكتوب أو مروي، وهنا ندخل في مجال نظرية الإثبات في القانون فيما يتعلق بالشهادة والإقرار وتبيين القرائن وغير ذلك، ولكنني هنا لا أتكلم في هذا المجال المتسع الأرجاء المتعدد الوجوه، إنما أتكلم فقط فيما يخص الفرق الأساسي بين ما يشكل نصا إخباريا وبين النص التشريعي، أتكلم عما يخص هذا الفرق من زاوية واحدة تتعلق بمناحي استخراج الدلالات وما يفيد في ذلك.

والأصل في الإخبار عن الحدث أن يكون لصيقا به ولا يجاوزه، وإن كان الحاصل أيضا أنه يتضمن أثرا أسبغه عليه من تحول على يديه الحدث إلى الخبر بالإدراك له وبالنقل، وهو أثر يرد من إنشاء الخبر وذكره، وهو أثر يحتمل قدرا من التحوير والتغيير، بالإضافة إليه أو بالاجتزاء منه أو بالتبعيض له بذكر بعض مظاهره دون بعض، فما لا يعتبر لدى كثيرين مما يكمل الحدث، قد يعتبر لدى آخرين أجزاء متممة ومكلمة له وأن تكون من مقتضاه، كانتقال مال من يد شخص إلى يد شخص، يخبر بها معزولة عما يكملها من اتفاق أو أفعال غصب أو غير ذلك، والأمر أحيانا يدق فلا تكون الزيادة أو النقصان أو الاجتزاء مقصودة ممن أخبر بالحادث ولكنها تكون بسبب عدم تبين المخبر أو بسبب أن تكوينه العقلي المسبق وتجاربه السابقة لم تمكنه من استيعاب جملة ما يعتبر من أجزاء الحدث أو متمماته، مصداق ذلك ما ورد بالقرآن الكريم "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" (البقرة الآية 282).

ثم هناك التشكل العقلي والثقافي وما يولده نوع الخبرات المتراكمة لدى من ينشئ الخبر أو ينقله بما يجعل المخبر يسبغ على الحدث من أحكامه أو تقاريره أو أوصافه التعبيرية ما يتحول به الحدث على يديه إلى الإخبار عنه وصياغته في نص. فمثلا واقعة أن جماعة من الناس تجمعت في الطرق وصارت تهتف هتافا ما، فهذا حدث، ولكن الإخبار عنه قد يورد له وصفا، فهو انتفاضة أو ثورة أو فتنة أو تمرد شعب أو غير ذلك، وهذا الوصف هو ما أضافه الخبر إلى الحدث عندما صار نصا، وهو يحمل أثرا واضحا لمن نقل الحدث وحوله إلى خبر.

النص الإخباري وخصائصه

إن النص في هذه الحالة يكون وسيلة للإخبار بحدث، هو إدخال للحدث في صيغة كلامية من صيغ التعبير بالكتابة أو المشافهة، وهو في ذلك يحمل وصفا للحدث، وصفا ممن تولى صياغة الإخبار به، حسبما ذكر في الفقرة السابقة، فثمة عدد من الخصائص للنص الإخباري (أو النص التاريخي) وهي خصائص لصيقة به لا تكاد تنفك عنه، ومنها:

أولا: أنه نص يتعلق بحدث سابق عليه، أي أنه نص يكون معبرا ومخبرا عن حدث سابق، ومن ثم يكون نصا تاريخيا لأن وجود الخبر يقيد دائما وقوع المخبر عنه وأنه قد مضى.

والأحداث نوعان من حيث الزمان: نوع فوري الحدوث، أي يحدث بدءا وتماما في ذات اللحظة بما يصعب معه في تعاملات الناس الفصل الزمني بين البدء والتمام، مثل الصور المعروفة عن تعبير الشخص الطبيعي عن إرادته القانونية أو أي قول يصدر من شخص معين أو قتل إنسان أو ضربه، ونوع ممتد يستغرق زمانا يدركه الناس في معاملاتهم العادية، مثل القرار الإداري المركب الذي يتشارك في إصداره عدد من الجهات أو المجالس أو المؤسسات، ومثل أحداث التاريخ عامة كحرب مثلا أو عملية انتخابات لمجلس تشريعي تستغرق شهرا أو شهرين، فالغالب فيها أنها أحداث ممتدة زمانيا وليست من نوع ما يبدأ وينتهي في لحظته، إنما هي تبدأ وتستمر في التشابك وسط صراعات ومجادلات بين قوى عديدة، متعارضة أو متخالفة أو تتخلق في مراحل التشكل حتى يكون تمام اكتمالها هو تمام انتهائها وبداية ما ولدت من آثار، ويكفي أن نضرب مثالا على ذلك بحادث حرب أو حادث ثورة أو حادث بناء نظام سياسي.

وأن النص أو النصوص التي تخبر عن أي من الأحداث سواء أكانت أحداثا فورية أو ممتدة إنما تكون مما يخبر عن ماض تنبئ به وتصفه، ووصف الحدث عند ذكره يبدو في الغالب الأعم من الحالات لا مندوحة عنه، لأن الوصف يلتبس بالتعبير عن الحدوث، فأخذ المال من شخص إلى شخص لا يعبر عنه بهذا اللفظ إلا في النزر اليسير من الحالات، إنما يقال أعطى أو استولى أو استرد أو تقاضى أو منح أو استلم، والغالب من هذه الألفاظ أنها تحمل ظلالا من معان تعبر عن رضاء أو كره فضلا عن لفظ اقتحم أو اغتصب أو غير ذلك، والمهم هنا أننا نتعرض لحدث مفرد، ومهما كان له أو صار له من متشابهات فإنه معين بذاته وليس نمطا متكررا، أو بمعنى أدق ليس المقصود عند الإخبار عنه ذكر *** له أو نوع، إنما المقصود إفراده بذاته بما ينبئ عنه ويبينه، ولذلك فإن من يتكلم عنه أو يبحثه أو يتعامل معه بأي من وجوه التعامل إنما يتعين أن يدخل إليه في ماضيه وينظر إليه ويستبينه في بيئته وفي سياقه الذي حدث فيه وتفاعل معه.

وهذا ما يفترق به تماما النص التشريعي عن النص الإخباري أو التاريخي من حيث الطبيعة والخصائص ومناهج التعامل معه، النص التشريعي نتفهمه في سياق ما يتلوه من وقائع، والنص الإخباري نتفهمه في سياق ماضيه وما واكب نزوله.

ثانيا: النص الإخباري بوصفه صيغة لإثبات حدث مضى أو تبيينه، يرتكز في مصداقيته على وسائل التحقيق لأدلة الإثبات للوقائع والتصرفات، أو لمنهاج التحقيق التاريخي للأحداث، ووسائل التحقيق والإثبات في مجال الحقوق والقانون معروفة للوالجين في مجال هذا العلم بفروعه المدنية والإدارية والجنائية، كما أن مناهج تحقيق الأحداث العامة والتاريخية معروفة لذويها، وفيها نقد الرواة الذين تناقلوا ذكر الحدث ونقد الوثائق والمستندات التي دلت عليه واشتملت على ذكره في مدوناتها.

ودلائل الثبوت هنا تتراوح في القوة والضعف، كما تتراوح في نسبية الدليل ومدى حجيته، وفي مجال الحقوق فإن الفروق معروفة في الحجية وطبقا لمداها بين الإقرار على النفس أو الشهادة على الغير أو القرائن بدرجاتها المتباينة، وفي مجال علوم الاجتماع والتاريخ فإن ذكر الوقائع والأحداث يتوافر لها كذلك في الحجية ما يتراءى من مدى حياد المصدر أو انحيازه ومدى مصداقيته، فيما عرف عنه ومدى ضبطه في التثبت، وتتقوى دلالة الثبوت وتضعف وفق ما يتبين في هذا الصدد.

ومن ناحية أخرى أهم، فإنه متى ثبت حدوث الفعل، فيستحيل بعد ذلك إلغاؤه أو نفيه، لأنه فعل مضى وانتهى، ويستحيل إلغاء الماضي كما يستحيل تغيير وقائعه وأحداثه أو تعديل ما وقع.

والنص التشريعي يخالف النص الإخباري (أو النص التاريخي) في هذا المجال من طرفيه، فالنص التشريعي يحتاج للإقرار بقيامه ووجوده إلى درجة أو حد أدنى من اليقين في ثبوت لا يمكن النزول عنها، وإلا انتفى النص التشريعي، لأنه لا يمكن أن يتحاكم الناس في حاضرهم ومستقبلهم إلى ما لم يثبت لوجوده درجة عالية جدا من درجات اليقين المعتبر، سواء أكان قانونا أم عرفا، كما أن النص التشريعي بخلاف النص الإخباري له حجية مطلقة على ما ينتفع به أو يضار به، أما النص الإخباري فحجيته نسبية لأنه ابن واقع محدد ولد في سياقه واكتسب مضامينه من هذا السياق المحيط به، وتحدث دلالته العينية في إطاره دلالة غير قابلة للتكرار، فهو ليس نموذجا يتوالد مع الزمن.

وكذلك فإن النص التشريعي يمكن أن ينسخ إذا ثبت صدور تشريع تال له ألغاه صراحة أو تضمن أحكاما مخالفة له، ويكون نسخه أو إلغاؤه من تاريخ صدور التشريع التالي المخالف حسبما هو معروف، وبسبب قيام هذا التصور فإن النص التشريعي كان إبان سريانه ممتد الأثر على ما يليه من أحداث وهو يحكم ما تلا صدوره من وقائع، أما النص الإخباري أو التاريخي فهو حدث مضى وانتهى وليس له حاكمية وليس له أثر مباشر يمتد في المستقبل، بما يجعله نموذجا قابلا للتكرار، يمكن أن تكون له آثار واقعية ترتبت عليه، ولكن هذه الآثار تلحق به التحاق نتيجة بسبب أو نتيجة عينية ملموسة مفردة بسبب هو عيني وملموس ومفرد كذلك، دون أن يكون النص في ذاته متجدد التطبيق على حالات لم تنجم عنه وإنما لاحقها بحسبانه تشريعيا متجدد الحضور معها ومع كل حالة ممتدة تولد.

سبل تفهم النص الإخباري