لقد وضعت مناهج لتفسير النص التشريعي بما يمكن من تطبيقه على الواقع المتغير وعلى الحالات المتنوعة، ولهذا الأمر مناهجه في الفقه الغربي، مما ينقسم إلى مدارس ومذاهب، فيقال مدرسة الشرح على المتون والمدرسة التاريخية والمدرسة الاجتماعية وغير ذلك، وأساس الخلاف بينها في ضبط المنهج يتعلق بثبات النص ومحدودية معانيه الواردة بألفاظه وعباراته وبتغير وقائع الزمان والمكان وتنوع الحالات.. وفي فقه الشريعة الإسلامية وضعت مصادر لاستخراج الأحكام مثل القياس وضوابطه الذي يضيف إلى الحالات المنصوص عليها حالات أخرى وكذلك المصالح المرسلة التي تشغل من المجالات ما يقع بين المأمور به والمنهي عنه وما يقارب كلا منهما، وكذلك الاستصحاب والاستحسان لمن يقول به وغير ذلك، كما وضعوا مذاهب في تخريج الأحكام من خلال عباراتها ولاستقراء القواعد الشرعية العامة من الأحكام التفصيلية إدراكا للمقاصد العامة الهادية في التفسير وغير ذلك، ولا أريد أن أزيد في أمر يدخل بنا إلى ما يخرجنا عن السياق العام الذي نحاول رسم خطوطه العامة.

والذي أريد أن أشير إليه في هذا الحديث أن النص التشريعي له اتصال مباشر بزمان التطبيق، وليس بزمان الإصدار فقط، بل إن اتصاله بزمان التطبيق أكثر وثوقا من اتصاله بزمان الإصدار، ونحن كلما أعملنا حكمه في حالة عرضت في لحظة زمانية ما.. كان هذا النص ليس ابن الزمن الذي صدر فيه بقدر ما يكون ابن الزمن الذي أعمل فيه؛ لأنه ليس ماضيا ولى، ولكنه حاضر في هذا الزمن الذي نزلت فيه النازلة التي استدعت تطبيقه عليها، وإن أي واقعة تحدث في تاريخ معين يمكن أن تتجمع في حكمها مجموعة من النصوص وليس نصا واحدا فقط، فواقعة قتل شخص مثلا في سنة 2007 يحكمها قانون العقوبات الصادر في 1937 بالنسبة للجريمة وقانون الميراث الصادر في 1943 بالنسبة لواقعة الإرث واقتسام المال الموروث، وقوانين المعاشات والتأمينات الصادرة في 1975 مثلا أو ما بعدها بالنسبة لما يصرف لأولاده القصر وزوجته من معاش.

وهكذا، وكل من هذه القوانين صدر في وقت مختلف عن وقت صدور الآخر، ولكنها تجتمع في حكم الواقعة بصرف النظر عن تاريخ صدور كل منها، وهي تجتمع على ذات المستوى من الفاعلية بحسبانها كلها قوانين الحاضر بالنسبة للواقعة التي حدثت في 2007 مثلا، وأن أحكامها بحسبانها من "حاضر الواقعة" تتداخل في التفسير وتبين الدلالات.

وهذا النص التشريعي يتجدد تطبيقه وتتجدد دلالاته، وهو بتنوع الحالات التي تعرض له في التطبيق تغتني معانيه وما يستفاد منه من أحكام، وإنه مثل الكائن الحي الذي تكسبه الحركة والتعامل خصوبة وخبرة وثراء في الأثر والدلالات، وفي العمل القانوني التطبيقي نلحظ نصوصا تصير ثرية جدا وخصبة جدا في معانيها، ويمكن أن يوضع في تفسيرها ما لا يكاد يحصى من الشروح، نلحظ ذلك مع طول المعايشة في العمل التطبيقي حتى في داخل القانون الواحد، وذلك بسبب كثرة تعامل الناس بما يخضع لها من أحكام، نتيجة أوضاع اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، والكثرة تفيد التنوع وكثرة التداخل بين الأنشطة وتستثير الالتباس والعمل على إعادة الضبط والتحديد، وتستثير الأذهان لتبيين الضوابط والفروق وتحديد الآثار المترتبة على الوقائع والتصرفات.

وعلى سبيل المثال، فإن الدستور المصري الذي صدر في سنة 1923 فيه مواد استغرقت جهودا هائلة في تفسيرها، وكان ذلك يعود إلى الصراع السياسي المحتدم إبان سريان الدستور بين أنصار التوسعة في الحركة الشعبية وبين أنصار التوسعة في سلطات الدولة والملك مثل المادة 15 الخاصة بحرية الصحافة، والمادة الخاصة بتنظيم الاجتماعات، وثمة نصوص ترد في كتب الشرح والمجموعات القانونية تسرد سردا مجردا، فلا يكاد يلتفت إليها، مثل المادتين 16 و17 الخاصتين بالتعليم في الدستور ذاته، وعلى سبيل المثال أيضا، أذكر منذ سنوات بداية عملي في مجلس الدولة في شبابي في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت ترد إلينا في إدارة الفتوى بالمجلس المشاكل القانونية الخاصة بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي وتحديد ما يستولى عليه لدى كبار الملاك، فكانت هناك نصوص تخضع لضغط كثيف في التطبيق من كثرة المشاكل وتنوع الحالات التي تعرض وهي النصوص الخاصة بما تستولي عليه الحكومة من الأرض وما تسمح للمالك باستبقائه وما يعتبر مملوكا للمالك وما لا يعتبر مملوكا، مثل المادتين 3 و4 من القانون 178 لسنة 1952 وما يليه، وكان ثمة مادتان لا يكاد يفطن إليهما قارئ القانون وهما المادتان 22 و23 منه الخاصتان بالحد الأدنى للملكية الزراعية وعدم جواز تفتيتها لأقل من فدانين وعدم جواز التجزئة لأن المتعاملين جميعا ابتعدوا عنها ولم يلتفتوا إليها ويكاد ألا يكون أحد طلب تطبيقها.

أردت بذلك كله أن أشير إلى أن النص التشريعي لا يتصل بزمان صدوره فقط، ولكنه يكاد يولد يوميا مع كل حادث أو تصرف يقتضي استدعاء حكم هذا النص، ويعتبر عنصرا من عناصر الحاضر، حاضر الواقعة الحادثة أو التصرف الصادر مما يخضع لمجال انطباق النص التشريعي.

النص الإخباري وحقيقته

أما النص الإخباري فهو يثبت حدثا أو ينبئ به، سواء أكان الحدث واقعة مادية أو كلاما قيل أو كتبا أو علاقة ظهرت أو أمرا تنظيميا جرى، أو كان شيئا من ذلك تغير وتعدل، هو واقعة أو فعل لبشر أو قول لبشر، على أن يتعين أن نلحظ أن النص الإخباري المعني هذا ليس هو فقط الواقعة التي نزلت وليس فقط العمل الذي مورس، ولكنه أيضا "الإخبار" بأي من ذلك بالكتابة أو بالرواية أو بأي صورة من صور التناقل أو التداول لما حدث.

فنحن هنا إزاء واقعة حدثت وحفظها بعد حدوثها ذكرها أو الإخبار عنها، ويتعين أن نتأمل في هذا الشأن، فإن الواقعة في بذاتها كان من شأن حدوثها أن تستوعب وتمتص فيما حولها من وقائع وأحداث وأن يذهب بها ويطمسها من بعد ما يتلوها من وقائع وأحداث تتلوها وتزيلها أو تغيرها أو تتراكم عليها بما يطمس تفردها وتبينها بحسبانها حدثا متميزا منظورا إليه في ذاته. ولكن ذكر الواقعة أو الإخبار عنها ثبتها أولا، فصار هذا الذكر لها أو الإخبار بها مما يبقي النبأ عنها حتى بعد زوالها أو استيعابها في غيرها مما يجري حولها أو يتلوها. ثم إن هذا الذكر لها أو الإخبار بها يحملها بالتناقل خارج محيط حدوثها، سواء في داخل الزمان الذي وقعت فيه إلى غير من تعاملوا مع وقوعها تأثيرا فيها وتأثرا بها، أو إلى خارج زمان حدوثها كله.