وقد سبقت الإشارة إلى أن النص الإخباري هو بوصفه صيغة ذكر لحدث ماض، إنما يحمل غالبا وصفا لهذا الحدث، وفقا للدلالة أو الفحوى التي وقرت لدى من صاغ الحدث في خبر مكتوب أو مروي، وأن الوصف أو التعبير الذي صيغ به الخبر، الغالب أن تختلف أو تتنوع عليه وجوه النظر من كتاب أو رواة أو باحثين، ناهيك عن أن يكونوا أطرافا في خصومة أو أن يكونوا من ذوي المصالح المتعارضة، وهنا يتفاوت ما تفضي إليه الدلالات التي يمكن استفادتها أو استخلاصها من الحدث؛ لأن النص هنا إنما يكون صنعه من أعد الحدث أو شارك في صنعه أو عاصره، أو يكون هو من أثبته من بعد أو علق عليه، فهو من ثم يحمل أثرا لوجهة النظر الحكمية لمن قام بصياغته.

ولكن مع ذلك كله سيبقى الحدث دائما منسوبا إلى زمان وقوعه، وسيبقى محل تقديره وفهمه واستخلاص دلالته هو موقف الحدث مما واكبه وأحاطه من ظروف في السياق الزماني والمكاني له، وسيبقى صحيحا القول بأننا إذا نزعناه من سياقه هذا فسيفقد دلالته ومعناه، ونحن لكي نفهم دلالة حدث ما (تصرفا كان أو واقعة) يتعين أن نحيط بأوضاع نشأته وظروف تكونه وما تجمع على تشكيله من أوضاع وما ترتب على قيامه من آثار، ونحن نكون أقرب لفهم هذا النص وأصوب في استخلاص دلالته كلما اقتربنا من طريق نشأته وتكونه، وكلما وصلناه بالأوضاع والأحداث التي صدر فيها، وهذا الوصل بأوضاع النشأة يكون هو ما يجلي الحقيقة بقدر الإمكان بما يكون علق به من شوائب الأوصاف غير الدقيقة، أو المنحازة لطرف ضد طرف.

ومن هنا يتعين ملاحظة عدد من الأمور لاستكمال فهم دلالة النص الإخباري، من ذلك سياق الحدث المنصوص عليه في المجال الثقافي، أي مجال إدراك المتعاملين له معناه لغة ومصطلحا وتعارفا، وكذلك سياقه في المجال الاجتماعي والسياسي إن كان حدثا ينتمي إلى هذه المجالات، وسياق النص المصاغ به الخبر في إطار ما كان يجري به الخطاب بين من يوجه الخطاب ومن يتوجه له الخطاب، لأن وجوه التركيز في الكلام ووجوه التفصيل والإجمال فيه تكشف عن طبيعة الجدل والحوار العام الدائر عند وضع النص الإخباري وصوغ الخبر عن الحدث.

والخلاصة أننا نقترب من النص التشريعي أكثر من فهم دلالته وإدراك معانيه كلما استطعنا أن ننقله أكثر إلى حاضرنا، وكلما أعملناه في سياق هذا الحاضر، ولا شك أن أوضاع إصدار النص التشريعي في زمانه وتتبع تعامل الأجيال السابقة معه في أزمانهم المتوالية هي مما يساعدنا في إيضاح دلالات هذا النص وقدراته في توليد الأحكام منه، مما يسمى "اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان"، إلا أنه يبقى أمر مهم وهو أن ثمة علاقة مباشرة بين النص التشريعي وبين الواقع المستقبل في تطبيقه على الوقائع الحاصلة.

وبالمغايرة لهذا الوضع بالنسبة للنص الإخباري فنحن نقترب منه أكثر في فهم دلالته وإدراك معانيه كلما استطعنا أن ننتقل نحن إليه في زمان حدوثه وصياغاته، واستحضرنا بهذا الانتقال أكثر ما يمكن استحضاره من وقائع ماضيه وأحداثه المحيطة به على المستويات الإدراكية الثقافية والاجتماعية، والحادث أنه في النص التاريخي الذي يتعلق بأوضاع عامة سياسية واجتماعية، فكثيرا ما يجري فيه إسقاط ثقافي من أوضاع الحاضر المعاش على الماضي الذي ينتمي إليه الحدث وتشكل في ثناياه وصيغ الخبر فيه، وكذلك بالنسبة للنص الإخباري الذي يجري بين أفراد الناس في تعاملاتهم الحقوقية يمكن أن يطغي فكرنا الحاضر على تفهم صياغات جرت في الماضي عن أحداث جرت في هذا الماضي، وفقا لدلالات تعدلت، وهذه عيوب وشوائب يتعين الحذر منها، وسيبقى الأمر الجوهري هو أننا لن نقترب من فهم النص الإخباري اقترابا أكثر إدراكا للصواب إلا إذا انتقلنا إلى زمانه واستوضحنا معانيه في ذلك السياق، وبالعكس لن نقترب من النص التشريعي اقترابا أكثر إدراكا للصواب إلا إذا نقلناه إلى زماننا الذي يطبق فيه بحسبانه من عناصر هذا الزمان المتجدد............