ما النوع الثاني فهو ينظر إلى الواقع الحادث، أي الواقع الذي جد وحدث بعد صدور النص التشريعي وينظر إلى ما يعتمل في هذا الواقع وليس إلى العبارات في ذاتها، لذلك تكون أسئلته أسئلة عينية تتعلق بالحالات التي يراد إنزال حكم النص عليها، وهي حالات مفردة أو ظواهر مخصوصة طرأت من بعد، وأسئلته هي من نوع: هل المادة السائلة التي أمامنا هي خمر، وهل الذبيحة التي نشاهدها كانت ميتة قبل حز السكين أم أثناء ذلك أم بعده، وهل الأرض المشار إليها مملوكة وهل هي زراعية وما مساحتها ومن مالكها، إلى آخر هذه الأوصاف التي نستخلصها من الواقع المحسوس المحدد في كل حالة على حدة، أو من خلال ظواهر مخصوصة جدت ونريد أن نعرف في أي مركز شرعي أو قانوني يتعين أن نضعها.

وجه الثبات في النص

هذان النوعان من الأسئلة ومن وجوه النظر هما طرفا عملية تفهم النص التشريعي، وهذان الموضوعان ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر، إنما هما متفاعلان يشكلان منهجا واحدا في فهم النص واستدعاء معناه مطبقا على حالة معينة أو حالات مخصوصة، وإن ما نسميه تفسيرا للنص التشريعي أو اجتهادا في فهم دلالته أو فقه أحكامه، إنما يتعلق بهذه العملية مطبقة على حالة أو حالات معينة، أو أنه استخراج لمعاني النص التشريعي منظورا في فهمه إلى سوابق أعماله على الحالات التي طبق بشأنها، وفي كلمة: فإن التفسير هو تحريك النص الثابت على الواقع المتنوع والمتعدد الحالات، وهو ما يصل بين ما تتناهى ألفاظه وعباراته في ذاتها، بما لا تتناهى حالاته في تنوعها وتعددها وإحداثها وتغيرها.

والنص التشريعي بذاته، أو بألفاظه وعباراته، هو دائما نص محافظ، وسواء أكان نصا قديما أو جديدا، وسواء أكان نصا ورد في كتاب سماوي لا يلحقه التغيير والتبديل لوروده من خارج الزمان والمكان، أو كان وضعيا يضعه الناس في كل حين ليحكم ما يتراءى لهم من شئون دنياهم في كل زمان ومكان، هو نص محافظ لأن وظيفته التشريعية أن يحكم واقعا يطرأ بعده، وأن يلزم حركة الواقع من بعد صدوره لكي تكون محكومة به غير خارجة عن ضوابطه ولو لم يرد به حاكموه الواقع التالي عليه ما كان يصدر أصلا، وحتى النص الوضعي الذي يصدره الناس لتغيير أوضاع في نظم حياتهم ومعاملاتهم حتى هذا النص الذي قصد به تغيير البيئة الاجتماعية القائمة عند صدوره، فهو أيضا له وجهة محافظة ترد إليه مما يحمل من أحكام ثابتة وما يفرضه من ذلك على واقع تال، بأشخاصه وعلاقاته.

وإذا كان ذوو الفكر الوضعي الفلسفي يستكثرون أن يحكموا بمبادئ الشريعة الإسلامية، لأنها تشمل نصوصا وردت في مصادر تشريعية أبلغت للناس من ألف وخمسمائة سنة، أو من قبل ذلك كما في أديان سابقة أخرى، فإن من النصوص الوضعية في البلاد الغربية والتي تبنت الفلسفة الوضعية في التشريع، إن منها ما يعود إلى مائتي سنة مثل القانون المدني الفرنسي الذي صدر أيام حكم نابليون فرنسا، ومنها سوابق تشريعية قضائية عرفتها بريطانيا مثلا من مئات السنين، ومجموعات القوانين التي صدرت في مصر سنة 1883 بعضها ظل يعمل لسبعين سنة تقريبا، مثل القانون المدني القديم الآخذ من القانون المختلط الصادر في 1875، وهو الآخذ من القانون الفرنسي وبعضها بهذه المصادر ذاتها ظل يعمل من بعد عشرات السنين في مصر مثل القانون التجاري والقانون البحري. وعاصر كل ذلك - سواء في فرنسا وإيطاليا أو في مصر - نظما سياسية ودستورية واقتصادية ومستويات تطور في الأساليب التقنية ومذاهب فكرية وثقافية وعادات عيش ونظم عمل، عاصر في كل ذلك من التغييرات ما لا يقل حجمه ولا وزنه وأثره ما حدث في العالم على مدى القرون السابقة، وعرف في بلادنا نظم احتلال أجنبي ونظم استبداد وديمقراطية ونظما رأسمالية واشتراكية، عاصر كل ما يعرفه القارئ من تطور وتغير في عشرات من السنين كثيفة الأحداث مزدحمة الوقائع متغيرة العلاقات متنوعة الثقافات.

النص والواقع المتغير

هذا عن وجه الثبات في النص التشريعي، وأما ما يتعلق بتعامله مع الواقع المتغير فإن هذا الوجه من وجوه منهج التفسير هو ما يكسب النص الثابت حركيته وفاعليته، وذلك بالخاصية الأولى التي ذكرتها، وهي أن النص معد في صياغته لأن يتجاوز زمن صدوره بما يلاحق ما يستجد من حالات، وهو معد لأن يتجاوز حدود ألفاظه لكي ينسحب على حالات ذات تنوع، وكل ذلك يجري بمناهج عقلية اجتهد رجال المنطق وعلماء أصول الفقه وفقهاء التفسير لأن يضعوا لها الضوابط والحدود.