الوضع الدولي – رؤية مستقبلية
في كل الأحوال ، سيظل الوضع الدولي لفترة طويلة نسبيا ، قد تمتد حتى نهاية العقد الثاني من القرن الحالي ، مفتوحة على كل الاحتمالات ، ولكن من المؤكد في مواجهة كل ذلك ، أن هيمنة النظام الرأسمالي وأحاديته القطبية الراهنة ، ليست ولن تكون نهاية التاريخ كتجسيد لانتصار الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ففي مقابل حقائق القوة ومقوماتها التي تعطي الانطباع على أن الولايات المتحدة تملك من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية وغيرها ، بما لا يجاريها أي اقتصاد آخر في هذا العالم ، إلا أن هناك وجه آخر للحقائق أو الوقائع الأمريكية التي تنمو وتتراكم بصورة سلبية، ستجعل وجه الولايات المتحدة الأمريكية في نظر شعوب العالم في بلدان الأطراف خصوصاً، أكثر بشاعة من وجه النازية في أحط درجاتها وممارستها، وذلك عبر سياسة "عولمة السلاح" وإرادة القوة الباغية التي تمارسها الولايات المتحدة ضد شعوب عالم الأطراف عموماً وفي بلداننا العربية خصوصاً عبر وكيلها الامبريالي الصغير دولة العدو الصهيوني التي تقوم في هذه المرحلة بممارسة أبشع أدوارها الوظيفية في خدمة المصالح والسياسات الامبريالية الأمريكية في بلادنا، يشهد على ذلك ما جرى ويجري في فلسطين ولبنان من قتل عنصري للطفولة والمرأة والشيوخ وتدمير منهجي للمدن والقرى والمخيمات، ليس بذريعة ضرب المقاومة الفلسطينية واللبنانية فحسب، بل لتنفيذ السياسات الأمريكية فيما يسمى بالشرق الأوسط الجديد. أما الصورة الأخرى لهذا الوجه الأمريكي البشع فهي تتجلى في حالة المد الثوري اليساري المتصاعد في أمريكا اللاتينية... فنزويلا شافيز وبوليفيا والبرازيل والبيرو، والعديد من دول هذه القارة السائرة في الحراك والتغيير الثوري النقيض لهيمنة الامبريالية الأمريكية ونظام العولمة الرأسمالي برمته، كما تتجلى أيضاً في داخل المجتمع الأمريكي عبر أزماته الاقتصادية والمجتمعية والأخلاقية المتراكمة، وهي أزمات تحمل من الدلالات والمعاني بما يتناقض مع صورته "الوردية" المرسومة –بشكل مبرمج- في أذهان الكثير من الليبراليين العرب أو الحالمين في هذا العالم ، المأخوذين بشكل الظاهرة فقط بعيدا عن مضامينها . فبالرغم من انتصارها في الحرب الباردة، "تبدو الولايات المتحدة اليوم وكأنها تخسر حاليا حرب البطالة والمخدرات والإنتاجية والتعليم، علاوة على تزايد أزمة الاقتصاد الأمريكي منذ عام 2000-2005 عبر جملة من المؤشرات :
1-حسب ميدل ايست اون لاين
http://www.middle-east-online.com فقد أكد تقرير بنك الاحتياط الفدرالي عام 2001 على استمرار ضعف النمو في قطاعي الصناعة والتجارة مع اتجاه لمزيد من الخفض في اسعار الفائدة، كما "شكل افلاس كل من شركتي world com للاتصالات في يوليو 2000 التي بلغت ديونها 41 مليار دولار، وشركة انرون enron وهي أكبر شركة في قطاع الطاقة التي تجاوزت ايراداتها 100 مليار دولار في ديسمبر 2001، أكبر حالتي افلاس في تاريخ الولايات المتحدة، مما كشف طبيعة الأزمة الموجودة في مفهوم السلطة السياسية corporate governance، كما طال مسلسل الفضائح شركة "زيروكس zerox" العالمية التي تعد أكبر شركة لتقنيات التصوير في العالم، كما تعرضت مؤسسة "جي-بي مورجان تشيس" ثاني أكبر شركة مصرفية قابضة في الولايات المتحدة، وشركة "ميريل لينش" المالية، ومؤسسة "كلوبال كروسينج" و"أديلفيا للاتصالات" و"تشارتر للاتصالات" ثاني أكبر شركة كابل" ، اما "بالنسبة لأثر هذه الأزمة على الاقتصاد الأمريكي، فإن أغلب التقديرات تشير الى أن الخسائر قد طالت ما يزيد عن 80مليون من المستثمرين الأمريكيين قدر حجم خسارتهم نحو 8.6 تريليون دولار" .
2- من واقع قراءة الأرقام والبيانات الاقتصادية الهامة التي يوردها د.عبد الخالق عبد الله في دراسته المشار إليها ، فإن الولايات المتحدة تستهلك أكثر مما تنتج ، وتستورد أكثر مما تصدر ، وخلال السنوات الماضية سجلت الولايات المتحدة –كما اشرنا من قبل- أعلى حالات الإفلاس في كل تاريخها المعاصر ، (أكثر من (700) ألف حالة إفلاس) ، كذلك أخذت الولايات المتحدة تعاني من أكبر عجز مالي في العالم تجاوز 400 مليار دولار ، أما إجمالي ديونها فإنه قد تجاوز كل الأرقام القياسية بعد أن أصبح يزيد عن ثلاثة آلاف مليار دولار ، أي أكثر من 1.5 ضعف إجمالي الديون المترتبة على كل الدول الأخرى في العالم ، الى جانب أكثر من (10) مليون شخص عاطل عن العمل (8% من القوة العاملة) ، كما تراجعت الولايات المتحدة الى الدولة رقم (13) من حيث الإنفاق على الصحة ، والدولة رقم (17) من حيث الإنفاق على التعليم ، ورقم (29) من حيث عدد العلماء والفنيين بالنسبة الى إجمالي السكان، حيث أن لديها (55) عالما وفنيا فقط لكل ألف نسمة مقابل (317) عالما وفنيا لكل ألف نسمة في اليابان ، وبالنسبة لاستهلاك المخدرات والكحول فإن الولايات المتحدة هي الأولى في العالم في هذا المجال ، حيث أنها تستهلك 80% من إجمالي المخدرات في العالم ، وهي من أعلى الدول في العالم بالنسبة لحالات التفكك الأسري والعنف والاغتصاب والقتل، حيث أصبح 50% من الشعب الأمريكي يتعرض لشكل من أشكال الإجرام ، ونسبة 21% من كل النساء يتعرضن للاغتصاب .
3- لقد بات من الواضح أن الاقتصاد الأميركي في السنوات الأخيرة يعاني عدة صعوبات من بينها الركود، فقد وصل عجز الموازنة الأميركية في العقد الأخير من القرن الماضي إلى ما يناهز 350 ملياراً وبلغ حجم الديون الخارجية 3.5 تريليون دولار، وزادت ديون الأفراد بنسبة 12 في المئة، في حين لم يرتفع دخل الفرد إلا بنسبة 7 في المئة، كما ارتفعت معدلات البطالة إلى 8 بالمئة. وخلال فترة التسعينيات هبطت معدلات البيع في أسواق السيارات والعقارات هبوطاً حاداً, وأصبحت سرعة الإنتاجية تقل ثلاث مرات عن مثيلاتها في اليابان ومرتين عنها في أوروبا الغربية، هذا بالإضافة إلى التردي الذي تعرفه الخدمات الصحية والتعليمية، وتزايدت نسبة الإقصاء والتهميش في أوساط الفئات الفقيرة, وتراجعت نسبة العلميين والفنيين حسب تقرير التنمية البشرية في العالم، فهناك 55 فنياً وباحثاً لكل ألف من السكان الأميركيين مقابل 129 في كل من السويد وهولندا، و257 في كندا و317 في اليابان، وتشهد المدارس والجامعات الأميركية حالات من التدهور ، يبرزها تراجع طلابها أمام الطلاب الأجانب وخاصة في مجال الرياضيات والكيمياء وعلوم الحاسب الآلي. وحسب "ايمانويل تود" صاحب كتاب: (ما بعد الإمبراطورية، دراسة في تفكك النظام الامريكي) الذي يتنبأ بانهيار الولايات المتحدة الأميركية، وهو كان سبق وتنبأ بتفكك الاتحاد السوفيتي قبل عشر سنوات من انهياره، فإن أميركا بحاجة إلى 1.5 مليار دولار يومياً لتغطية العجز في ميزانها التجاري الذي قارب عام 2000 الـ 450 مليار دولار. وهو يعتبر أن أميركا عشية القرن الحادي والعشرين أصبحت غير قادرة على أن تعيش على إنتاجها وحده إذا شاءت الاحتفاظ بنفس مستوى المعيشة، ويتنبأ المؤلف الذي أثار كتابه ضجة, بأنه مع ازدياد قوة "أوراسيا" ستنخفض وتتوقف التدفقات المادية والمالية التي تغذي أميركا اليوم، مما سيجعل منها دولة مثل غيرها من الأمم.
4- الولايات المتحدة تعاني من عجز كبير في الموازنة يُقدَّر أن يصل إلى أكثر من ستمائة وخمسين مليار دولار في العام (2005) وربما يصل حتى سبعمائة مليار دولار ، وحسب ما يقول رجل الاقتصاد الأمريكي "وارن بافيت" (وهو ثاني أغنى رجل في أمريكا) فإن العجز المتوقع في الموازنة الأمريكية أو مجموع الديون الأمريكية سيصل عام 2015 إلى (11) تريليون دولار، وهذا يعني أن خزينة الولايات المتحدة ستتكبد فقط فوائد سنوية على هذه القروض تشكل حوالي خمسمائة وتسعين مليار دولار، ستكون عبء الفائدة التي ستتكبدها الخزينة الأمريكية، وقد حذر مدير مكتب الكونغرس في تصريحات نشرتها وكالة الأنباء الفرنسية في 6مارس 2004 إن العجز التجاري الأمريكي المتراكم قد يلامس 2600مليار دولار من الآن وحتى العام 2015 .
وفي هذا السياق يكشف "صموئيل هنتنغتون" ، صاحب نظرية صدام الحضارات ، الهاجس الديموغرافي الذي يخيف أميركا ويستشهد بإحصائية تقول أنه عام 2050 سيكون من بين السكان الأميركيين 23 بالمئة من أصول لاتينية و16 بالمئة سوداً و10 بالمئة آسيويين. ويعلق على هذه الإحصائية بالقول ، انه إذا نجحت الولايات المتحدة في السابق في استيعاب المهاجرين فلأنهم في الغالب كانوا أوروبيين، فهل ستنجح مستقبلاً عندما سيصبح 50 بالمئة من السكان لاتينيين أو غير بيض؟.
نعم الولايات المتحدة الأميركية هي الأولى في الإنفاق العسكري والرؤوس النووية والطائرات المقاتلة، إلاّ أنها الثامنة في متوسط عمر الفرد والثامنة عشرة في معدل وفيات الأطفال وأظهرت دراسات أكاديمية حديثة فيما يتعلق بالكسب والعمالة والتعليم والجريمة أن الولايات المتحدة تبدو وكأنها تتكون من أمتين بينهما تفاوت هائل ، وهي كذلك بالفعل ، بل ربما أسوأ بكثير .
لا يعني عرض ما تقدم التهوين من قدرات الولايات المتحدة الأميركية وقوتها، إلا أنه يعني بوضوح أن المشروع الإمبراطوري على المدى البعيد يقف على أرض اقتصادية واجتماعية رخوة, وهي تتجه يوماً بعد يوم لتصبح أكثر هشاشة .
وبالرغم من إدراكنا لطبيعة هذه المظاهر ، كسمة أساسية من سمات الرأسمالية التي يصفها ماركس بقوله "إن الرأسمالية تنزف دما من كل مساماتها" ، إلا أن أهميتها تكمن في أنها تعكس الواقع الداخلي للمجتمع الأمريكي، وتكشف بوضوح الوجه القبيح للرأسمالية التي لا يمكن ان تنمو وتتراكم بعيدا عن الانقسامات الطبقية الحادة ، والفجوات الهائلة بين من يمتلكون الثروة من جهة ، والمحرومين من جهة ثانية في إطار من الصراعات المباشرة وغير المباشرة ، المكشوفة أو الكامنة ، التي لن تتوقف عن الحركة والاستمرار بين من يملك ومن لا يملك ، بين المُستغلِّين والمستَغلين ، تلك هي حقائق الحياة المعبرة عن مسار التاريخ وحركته التي لا مستقر لها ، وهي حقائق تتناقض بصورة كلية ومطلقة مع كل أولئك الذين يتحدثون عن نهاية التاريخ أو سقوط الأيديولوجيا ، تعبيرا عن أكذوبة الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي الامريكي وأيديولوجيته، بالرغم من هذا الانتشار الواسع له على معظم مساحة كوكبنا ، إذ أن هذا الانتشار عمَّق الى درجة كبيرة ، عملية الاستقطاب الآخذة في التصاعد ، وهو "استقطاب يتمثل في التضاد بين ثروة المراكز المتزايدة ، وفقر الأطراف المتفاقم ، خاصة وأن هذا الاستقطاب ليس ناتج ظروف خاصة بمختلف مناطق العالم –كما تدعي أيديولوجية الليبرالية الجديدة- بل هو ناتج عمل التوسع الرأسمالي في حد ذاته ، إذ ان هذا التوسع يقوم على عولمة سوق المنتجات ورؤوس الأموال دون أن يصاحبها اندماج أسواق العمل التي تظل متفتتة ومحبوسة في أطر السياسة القائمة ، ولذلك فإن التحدي الحقيقي بالنسبة لقوى اليسار العربي وقوى اليسار العالمي، ، يتلخص في مقولة واحدة مفادها ، ضرورة تجاوز حدود الرأسمالية من أجل ضمان بقاء الإنسانية ، فالخيار التاريخي الحقيقي قد أصبح كالآتي: إما ان تتيح النضالات الاجتماعية تجاوز منطق آليات وقوانين الرأسمالية ، وإما في غياب ذلك ، أن يؤدي فعل هذه الآليات الى انتحار جماعي للإنسانية وتدمير للكرة الأرضية" .
فبعد مرور ما يقرب من أربعة عقود على ولادة نظام العولمة، يتكشف اليوم، طبيعة التناقضات الملازمة للنظام الرأسمالي عموما، وتفجر هذه التناقضات في المشهد الراهن لعولمة السوق عبر عدد من المظاهر:
1-طغيان آليات السوق الحر المفتوح والمنفلت في جميع بلدان العالم، وما أدت اليه هذه الظاهرة من تراجع وتدمير للصناعة المحلية والمنتجات السلعية في بلدان العالم الثالث، حيث تتكشف لشعوب هذه البلدان حجم الويلات التي أفرزها تطبيق آليات السوق الحر التي أثبتت مجددا أنها اعادت انتاج التشوهات في النشاط الاقتصادي، من خلال تزايد حجم البطالة الثابتة (البنيوية) والبطالة المؤقتة، والتضخم وارتفاع الأسعار وثبات الأجور، وما يرافق ذلك من تزايد انتشار الفقر والفقر المدقع في اوساط الجماهير الكادحة، بحيث أصبحت هذه الاحوال المتردية السمة الرئيسة للعولمة الراهنة في تطبيقاتها على بلادنا وبلدان العالم الثالث، علاوة على تزايد انتشار السرقة والجريمة والمخدرات والدعارة والانهيار النفسي، جنبا إلى جنب مع اقتصاد الكومبرادور والمضاربة والمقامرة والطفيليين بكل أشكالهم.
2-التدهور الشديد والمتفاقم في المساوة الاجتماعية، بفعل الفجوة الهائلة في توزيع الثروات والدخل من ناحية والزيادة الكبيرة في نسبة الفقراء التي تزيد في بلادنا وبلدان العالم الثالث عن 70% من ناحية ثانية.
3-تطور الفقر وتفاوت الدخول عالميا واقليميا وقطريا بفعل العولمة الراهنة حيث اتسع الفقر افقيا ليشمل أوسع الفئات الوسطى، وينحدر بها إلى ما يقرب من خط الفقر .
4-التراجع المهني على الصعيد العالمي، عن نظام الخدمات الاجتماعية، بينما تتقدم التكنولوجيا وتنتشر بصورة هائلة غير مسبوقة، لتحقق انتاجية فائقة وارباحا اسطورية، والمفارقة هنا –كما يقول د.عصام الزعيم- "في العولمة، بينما تزيد الانتاجية وتتضاعف، تتقلص الخدمات الاجتماعية للفقراء العاطلين عن العمل وذوي الدخل المحدود".
فالعولمة –كما يقول "اريك هوبسبوم ERIC HOBSBAWM - قد بلغت طوراً مستجداً على ثلاثة مستويات: هي الترابط والتكنولوجيا والسياسة ، فبادىء ذي بدء بتنا اليوم نعيش في عالم مترابط الى درجة أن العمليات الجارية يتعلق بعضها ببعض، وأن أي انقطاع قد يولد انعكاسات عالمية فورية".
ثم أن "هناك هذه السلطة الفائقة لتكنولوجيا في حالة ثورة مستمرة، تفرض نفسها في المجال الاقتصادي كما في المجال العسكري بنوع خاص" .
وأخيراً ، -كما يستطرد هوبسبوم- فإن "السياسة في أيامنا هذه باتت تتسم بطابع على درجة من التعقيد. فعصرنا هذا لا يزال عصر الدول القومية، وهو العنصر الوحيد الذي يعوق سير نظام العولمة. لكن المقصود دولة ذات نمط خاص حيث الشعب العادي يلعب دوراً مهماً".
ومع استمرار تراكمات التناقضات الداخلية للعولمة الامريكية الراهنة، يصبح سؤال اريك هوبسبوم مطروحا بقوة:
فهل أن امام هذه السياسة فرصة للنجاح؟ ويجيب بقوله : يبدو أن العالم هو على درجة من التعقيد بما لا يسمح بسيطرة دولة واحدة، ولا ننسينّ أن الولايات المتحدة وباستثناء التفوق العسكري، مرتهنة لموارد تنقص أو في طريقها الى النقصان. ومع أن اقتصادها عظيم الا ان الحيز الذي يحتله في الاقتصاد العالمي يتضاءل ، ولا بد من الاستنتاج أن الأميركيين خلال عامي 2002/2003 (الهجمة ضد أفغانستان والعراق)، قد ضحّوا بمعظم اوراق قوتهم السياسية، حتى وإن ظلوا يمسكون بالبعض منها ، ثم يضيف : "غير أن الميزة الرئيسة التي يملكونها في مشروعهم الامبراطوري تكمن في الناحية العسكرية. إن الهدف الأساسي –من الهجوم على أفغانستان والعراق- من العملية قام على استعراض القوة عالمياً، مما يعني أن السياسة التي تحدث عنها المتطرفون في واشنطن، ومنها إعادة صياغة شاملة لمجمل الشرق الأوسط، لم تكن ذات معنى. ونحن ندرك أنهم إذا كانوا يخططون جدياً لتغيير المعطيات في المنطقة فليس أمامهم الا أمر واحد يقومون به وهو ممارسة الضغط على اسرائيل".
ومن المستحيل التنبؤ كم من الوقت سيدوم التفوق الأميركي، لكن الأمر الوحيد الذي نحن متأكدون منه كلياً هو أن في الأمر ظاهرة موقتة في التاريخ كما كانت جميع الامبراطوريات.
وفي هذا السياق يقول هوبسبوم "والامبراطورية الأميركية قد تسقط لأسباب داخلية، والأكثر الحاحاً منها هو كون الامبريالية بمعنى السيطرة على العالم وإدارته، لا تثير اهتمام معظم الاميركيين الملتفتين بالأحرى الى ما يحدث داخل الولايات المتحدة، فالاقتصاد هو على درجة من الوهن ما سيحمل الحكومة والناخبين الأميركيين يوماً على اتخاذ قرار بأن من الأهم الانكباب على هذا الأمر بدلاً من خوض المغامرات في الخارج . أضف الى ذلك أنه وكما يحدث حالياً، سوف يكون على الأميركيين انفسهم أن يمولوا جزءاً كبيراً من هذه التدخلات الخارجية، وهذا ما لم يحدث لا في حرب الخليج ولا الى حد كبير إبان الحرب الباردة".
على أي حال ، ومع تقديرنا لاهمية العوامل الداخلية الامريكية كما يقول "هوبسباوم"، إلا أن عملية الاستقطاب الخارجي ستظل عاملا رئيسا اوليا ، وفي هذا السياق يقول د.سمير امين "إن التوسع الرأسمالى على صعيد عالمى قد أنتج استقطاباً لم يسبق له مثيل منذ آلاف السنين، ففى أوائل القرن التاسع عشر لم يتجاوز مدى التفاوت الأقصى فى توزيع الثروة بين 80% من سكان الكوكب نسبة الواحد إلى اثنين. وبعد قرنين من التوسع الرأسمالى صارت هذه المعادلة نسبة الواحد إلى ستين، بينما انكمشت نسبة سكان المراكز إلى 20% فقط من سكان الكوكب" .
ومن هنا يستطرد د.سمير امين : يمكن أن نميز المرحلة الأولى للاستقطاب وتشكيل التفاوت الاجتماعى على الصعيد العالمى والأصعدة القطرية فى الفترة من عام 1800 إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما عن آليات الاستقطاب المتحكمة فى هذه المرحلة، ومن ثم أنواع "الفقر" الناجمة عنها فنلحظ أولاً قيام منطق التوسع الرأسمالى على الصعيد العالمى على أساس "سوق مبتورة"، أى الميل إلى تكوين سوق عالمية للمنتجات ورؤوس الأموال، دون أن يصاحبه ميل موازِ إلى اندماج أسواق العمل عالمياً، وتجلى هذا المنطق فى "إقامة تقسيم العمل الدولى على أسس غير متكافئة، أهمها انفراد قوى الثالوث فى المركز (الولايات المتحدة، أوربا، واليابان) بالإنتاج الصناعى، وتخصيص دول الأطراف لإنتاج الخامات (الزراعية والمعدنية) للتصدير. وقد صار هذا "التبادل غير المتكافىء" الآلية الرئيسية الفاعلة فى إنتاج الاستقطاب المعنى، أى امتصاص الفائض المنتج فى الأطراف لصالح المراكز. وكان الشرط السياسى لضمان فعالية هذا التوسع هو التحالف بين رأسمالية المراكز من جانب، ومن الجانب الآخر الطبقات الحاكمة محلياً فى الأطراف -وهى طبقات ذات جذور "اقطاعية" سابقة - وتحويلها إلى "برجوازيات كمبرادورية" أى تابعة .
أما المرحلة الثانية –كما يقول د.سمير أمين- للاستقطاب فهى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت مقدماتها فى المرحلة السابقة حيث أنتج الاستقطاب المترتب على التوسع الرأسمالى فى تلك المرحلة انتفاضات ضد النظام السائد، تجلت فى ثورات اشتراكية فى روسيا والصين (وهى مناطق طرفية، ولم يكن هذا مجرد صدفة) وفى ثورات التحرر الوطنى فى آسيا وأفريقيا. وقد كان الانتصار المزدوج للقوى الشعبية والديمقراطية ضد الفاشية والكولونيالية القديمة بمثابة فاتحة لمرحلة جديدة من التراكم الحثيث، فساد رواج (ارتفاع معدلات النمو) فى الأقسام الثلاثة للمنظومة: الغرب والشرق والجنوب. وتجلى هذا الرواج فى تبلور أشكال اجتماعية خاصة بكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة؛ فكانت دولة الرفاهيةWelfare state فى الغرب، وبناء الاشتراكية فى الشرق، وتجارب إنجاز مشروع تنمية وطنية مستقلة فى الجنوب. وبالرغم من تباين خصوصيات هذه الأشكال الثلاثة، فقد كان بينها قاسم مشترك ألا وهو قيامها على توازنات اجتماعية عملت لصالح الطبقات الشعبية - ولو نسبياً على الأقل-، أى أقيمت على أساس ظروف اجتماعية ملائمة لتعجيل النمو. إذن، كان الرواج نتاج تكيف التراكم لمقتضيات العلاقات الاجتماعية التى فرضتها القوى الديمقراطية والشعبية، وهو وضع معاكس تماماً "للتكيف" الذى يدعو إليه أصحاب النظام حالياً .
واتخذ تكيف التراكم لهذه المقتضيات الاجتماعية -فى المرحلة السابقة- -كما يؤكد سمير أمين- أشكالاً من "تقنين الأسواق" Regulation خاصة بكل منطقة من المناطق الثلاث المذكورة. فالرواج يأتى دائماً نتيجة لتقنين الأسواق، وليس نتيجة إطلاق الحرية لها كما تدعى الأيديولوجية الليبرالية السائدة حالياً. فالأسواق لا تحقق "توازناً" من تلقاء نفسها، إذ إن الطابع الانفجارى الذى تتسم به لا بد وأن ينتج تصاعد التفاوت، ومن ثم أزمة تراكم، وهو ما نراه حالياً. لقد نتج عن تقنين التراكم وتعجيل النمو المترتب عليه تحسن ملحوظ فى أشكال توزيع الدخل قطرياً وعالمياً، ومن ثم تخفيف ظواهر الفقر. واتسمت هذه المرحلة بمعدلات مرتفعة فى العمالة، كما ارتفعت مستويات الأجور بموازاة معدلات نمو الإنتاجية فى المراكز، فتقلصت البطالة وأقيمت نظم ضمان اجتماعى فعالة فى المراكز. أما فى الجنوب فقد قام الرواج على أساس تحقيق إصلاحات على الأصعدة الوطنية، من أهمها الإصلاح الزراعى والتأميمات وإصدار بعض القوانين لصالح العمل. وبفضل هذه الإصلاحات دخلت بلدان الجنوب فى مرحلة التصنيع والتحديث .
ونأتى إلى المرحلة الحالية، وهى –كما يصفها سمير أمين- مرحلة تفكك عالم ما بعد الحرب العالمية، والعودة إلى تصاعد ظواهر الاستقطاب والتفاوت الاجتماعى والفقر. فالتوازنات الاجتماعية التى قام عليها التراكم الحثيث أخذت فى التآكل التدريجى، الأمر الذى أدى بدوره إلى سقوط النماذج الثلاثة المذكورة: دولة الرفاهية فى الغرب، وبناء الاشتراكية فى الشرق، ومشروع الدولة الوطنية الشعبوية فى الجنوب. وهو ما أدخل النظام فى أزمة هيكلية عنيفة منذ أوائل السبعينيات. واتخذت هذه الأزمة مظاهر عدة من أهمها انخفاض معدلات النمو والتراكم والعودة إلى مستويات مرتفعة من البطالة فى الغرب، واتجاهات نحو الخلف (أى التكور) فى مناطق عديدة من الشرق الاشتراكى سابقاً ومن الجنوب. وتجلت هذه الأزمة فى أن الأرباح المستخرجة من الاستغلال الرأسمالى أصبحت لا تجد منافذ كافية للاستثمارات المربحة القادرة على إعادة توسيع القدرات الإنتاجية. وقد حدثت خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تغيرات ملحوظة فى هرم ترتيب الأمم فى المنظومة العالمية، من بينها انقسام العالم الثالث السابق إلى مجموعتين من التشكيلات الرأسمالية الطرفية: إحداهما حققت بالفعل -من خلال التصنيع- قدرة على مواجهة المنافسة فى الأسواق العالمية فى مجال تصدير المنتجات الصناعية، أما المجموعة الأخرى فلم تتحقق لها هذه القدرة بعد، فالمجموعة الأولى قادرة على المساهمة فى تشكيل المنظومة العالمية بصفتها فاعلة، وعلى أن تطور استراتيجياتها الخاصة التى تدخل فى تناقض وتفاعل مع خطط الثالوث المهيمن، ومن ثم تستحق تسميتها "بالعالم الثالث". أما المجموعة الثانية فهى فى موقع المفعول به والعاجز عن تطوير استراتيجيات خاصة به، فالقوى المهيمنة عالمياً هى التى تفرض على بلدان هذه المجموعة "تكيفاً" أحادى الجوانب والخضوع لاحتياجات التوسع الاستعمارى، وهى بهذا المعنى منطقة مهمشة تماماً، ومن ثم يمكن أن نطلق عليها "العالم الرابع" .
وتتجلى فى المرحلة الراهنة (مرحلة أزمة التراكم) ظواهر متجددة من التفاوت الاجتماعى والفقر يمكن أن نسميها أشكالاً من "تحديث الفقر". فلا تزال مجتمعات الأطراف تعانى من حجم كبير "لجيش احتياطى" من قوى العمل يستحيل امتصاصها فى إطار سيادة منطق التراكم الرأسمالى، وخاصة فى إطار انفتاح التراكم المحلى على العولمة الليبرالية وإطلاق حرية الأسواق دون تقنين يذكر. فالمنافسة فى هذه الأسواق المفتوحة تفترض تركيز الاستثمارات فى مشروعات تمتص أموالاً هائلة نظراً لاحتياجات التكنولوجيات الحديثة، وبالتالى يتقلص الاهتمام برفع مستويات الإنتاجية فى القطاعات التى تعمل فيها أغلبية قوى العمل. وإذا كانت ظواهر "تحديث الفقر" قد أخذت فى البروز خلال المرحلة الأخيرة للنظم الاشتراكية والنظم الوطنية الشعبوية (أى مرحلة التآكل والتفكك)، إلا أنها قد تفاقمت بحدة خلال العقدين الأخيرين مع دخول آليات التراكم أزمتها الراهنة .
وبالتالى فإن مشروعات "التخلص من الفقر" (حسب لغة البنك الدولى) لن تكون فعالة، بل ستظل حبراً على الورق، ما لم يتم التخلى عن اعتناق مبدأ سيادة السوق الحرة، والعودة إلى مبدأ تقنين الأسواق، الأمر الذى يفترض بدوره –كما يقول سمير امين- الشروط الآتية:-
1- على المستوى القطرى، إقامة نظم حكم ديمقراطية جذرية ذات مضمون اجتماعى حقيقى. 2- على المستوى العالمى، بناء عولمة بديلة متعددة الأقطاب تتيح هامشاً لتحرك الطبقات الشعبية فى مختلف المجتمعات المكونة للمنظومة العالمية بما يمكن من حلول هذه العولمة البديلة محل نمط العولمة الليبرالية السائدة .
أخيراً يتحدث د.سمير أمين ، عن تحديات المستقبل ممثلة فى الاستقطاب الجديد الآخذ فى التكوين، ألا وهو مشروع العولمة الليبرالية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية. وفى البدء لابد من تسجيل أن التطورات التى طرأت على المنظومة العالمية مؤخراً قد أدت إلى تبلور تدريجى لوسائل جديدة لضمان السيطرة على صعيد عالمى لصالح الثالوث المركزى المهمين وهى ما أطلق عليها "الاحتكارات الخمسة الجديدة".
(أ)احتكار التكنولوجيات الحديثة، وهو ما يؤدى إلى تحول صناعات الأطراف إلى نوع من إنتاج الباطن، حيث تتحكم احتكارات المركز فى مصير هذه الصناعات وتصادر النصيب الأعظم من أرباحها المحققة.
(ب)احتكار المؤسسات المالية ذات النشاط العالمى، وهو يكمل عمل الاحتكار السابق فى تدعيم هيمنة المركز على التصنيع من الباطن فى الأطراف.
(ج) احتكار القرار فى استخراج واستخدام الموارد الطبيعية على صعيد عالمى، والتحكم فى خطط تنميتها من خلال التلاعب بأسعارها، بل وقد يصل الأمر إلى الاحتلال العسكرى المباشر للمناطق الغنية بهذه الموارد.
(د) احتكار وسائل الإعلام الحديثة على صعيد عالمى، كوسيلة فعالة لصياغة والتأثير فى "الرأى العام" بما يدعم الهيمنة وخططها عالمياً وقطرياً.
(هـ) احتكار أسلحة التدمير الشامل والوسائل العسكرية المتطورة التى تتيح التدخل "من بعيد" أو "من فوق" دون خوض عمليات حربية طويلة ومكلفة بشرياً .
إنها احتكارات خمس متضامنة ومتكاملة وتعمل معاً لإعطاء قانون القيمة المعولمة الجديد مضمونه. وليس هذا القانون تعبيراً -بحال من الأحوال- عن ترشيدية اقتصادية "محضة" يمكن فصلها عن السياقات الاجتماعية والسياسية التى يعمل فيها هذا القانون. بل إن قانون القيمة هو تعبير "مكثف" عن هذه التكيفات الاجتماعية والسياسية. إذ إن التكيفات المذكورة تعمل على إلغاء مغزى تصنيع الأطراف من خلال تخفيض القيمة المضافة المنوطة بهذه الصناعات، بينما ترفع فى المقابل نصيب القيمة المضافة فى الأنشطة المرتبطة بالاحتكارات الخمسة إياها. إذن فهى تكيفات تنتج تراتبية جديدة غير متكافئة تمثل جوهر الشكل الجديد والمستقبلى للاستقطاب على صعيد عالمى. ذلكم هو منطق آليات الرأسمالية المعاصرة.
أخيرا ، وفيما يتعلق بنظام العولمة الامريكي ، فإن البحث المدقق والمتعمق فى صميم هيكل المجتمع الأمريكى وعلاقاته بالمنظومة العالمية يوضح أن طاقاته أقل من طموحاته. فالولايات المتحدة – كما أشرنا من قبل- تعانى من عجز مزمن فى ميزانها التجارى، أى أنها لا توفر لباقى العالم الأموال اللازمة لدفع التوسع الرأسمالى قدماً، وبما يضمن شروط إعادة إنتاج هيمنتها. وهو وضع يختلف عن وضع بريطانيا فى القرن التاسع عشر، حيث كانت الأخيرة تصدر أموالاً للعالم كله فى ظل وجود فائض هيكلى للميزان التجارى البريطانى، ومن ثم توفرت لها الشروط الملائمة لإعادة إنتاج موقعها المهيمن . أما الولايات المتحدة فهى أكبر مستورد للأموال، ومن ثم أصبحت مجتمعاً طفيلياً يمتص النصيب الأعظم من الفائض المنتج خارجه. ولا شك أن استمرار هذا الوضع الهش ، رهين برضوخ بقية بلدان العالم لتفاقم إفقارهم بلا نهاية. ونظراً لإدراك الولايات المتحدة التام لذلك ، فإنها تسعى بدأب إلى تعويض ضعفها الاقتصادى باستغلال تفوقها العسكرى والنووى، وذلك من خلال إقناع شركائها فى "الثالوث المركزى" بضرورة تسليم زمام إدارة العالم لحلف شمال الأطلنطى، حتى تتحقق عبارة كيسنجر الذائعة: "العولمة ليست إلا مرادفاً للهيمنة الأمريكية"، دونما أي اعتبار لمؤسسات الأمم المتحدة ووثائقها وقراراتها، يؤكد على ذلك استفراد الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين عموماً، ودولة العدو الإسرائيلي خصوصاً في استمرار الهجمات العدوانية على العراق ولبنان وفلسطين في محاولة يائسة لإخضاعها للشروط والسياسات الأمريكية في إطار ما يسمى ب "الشرق الأوسط الجديد".
من كل ما سبق تتجلى أمامنا حقيقة ساطعة لا ضير من تكرارها، ألا وهى أن ردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء -عالمياً وقطرياً- يتطلب عملية تحرر مزدوج من العولمة الليبرالية ومن الهيمنة الأمريكية، فهما وجهان لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما .
وفي ضوء ذلك ، تبرز الأسئلة الحقيقية ، هل ستؤدي حركة النضال التحرري والاجتماعي الديمقراطي لشعوب العالم –وفي بلدان وطننا العربي بالذات- الى بلورة مشروعات سياسية مجتمعية على قدر التحدي المطلوب، بما يؤدي الى كسر هذه الأحادية القطبية وخلق مقومات الثنائية القطبية في إطار من التوازن والصراع ؟ .

والجواب على ذلك يكمن في استجابة القوى اليسارية الطليعية في كافة الأقطار العربية، للضرورات الموضوعية التي تؤكد نضوج المناخ والظروف المهيأة لعملية التغيير ، بالرغم من كل التراجعات والانهيارات السياسية الدولية عموما ، وفي الحركة التقدمية العالمية خصوصا التي أربكت أعدادا غفيرة من اليساريين ، في الوطن العربي والعالم الثالث وبلدان الجنوب بالذات ، عبر تساؤلاتهم سواء من موقع الحرص والالتزام ، أو من موقع الدفاع عن الليبرالية الجديدة والاستسلام لمغرياتها: هل يمكن أن نظل ماركسيين بعد كل هذه الانهيارات ؟ نقول لكل هؤلاء –بكل هدوء ووضوح وإدراك- أن السؤال الواجب طرحه اليوم هو: هل يمكن ألا نكون ماركسيين في ضوء هذا التوحش الإجرامي للعولمة والنظام الرأسمالي ضد مصالح أكثر من 85% من شعوب العالم ؟ صحيح أن الأزمة تحيط باليسار الماركسي وتحاصر مشروعه الوطني/القومي ، والإقليمي ، والأممي ، ولكن الإشكالية التي تعيق عملية مواجهة هذه الأزمة ، لا تكمن في الفكر الماركسي والاشتراكي ، بقدر ما هي أزمة العامل الذاتي أو قوى اليسار أنفسهم ، إذ أنه ليس ثمة بديل للماركسية كنظرية ومشروع تغييري ، طالما بقيت تناقضات النمط الرأسمالي المعاصر وميله الدائم نحو المزيد من الفجوات ، والمزيد من الإفقار والتخلف الذي يصيب اليوم أكثر من 4.5 مليار نسمة في هذا الكوكب ، تتزايد تراكمات معاناتهم واستغلالهم بصورة تلقائية ناتجة عن ارتباط هذه المعاناة بعملية التوسع الرأسمالي واستمرارها من جهة ، وفي ظل غياب المشروع الشعبي التقدمي على الصعيد القومي والإقليمي والأممي ، النقيض من جهة أخرى.

إن التحدي الذي تفرضه إمبريالية العولمة اليوم على شعوب العالم ، هو في حقيقته انعكاس لظرف موضوعي، يعبر عن التناقض التاريخي الذي وصل اليوم الى ذروته عبر الصراع أو التناقض بين التراكم الرأسمالي في المراكز من جهة، وضرورات كسر التبعية والتخلف في بلدان الأطراف وسعيها نحو النهوض والتقدم من جهة أخرى ، إذ أن هذا الصراع التناحري بين المراكز والأطراف هو أيضا ، تعبير عن التناقض الصارخ بين الطابع الاجتماعي أو الجماعي للإنتاج الرأسمالي ، بوصفه محددا رئيسيا للعلاقات الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية من جهة، وبين ما يسميه ماركس الطابع الخاص أو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بوصفه المحدد الرئيسي للإنتاج الرأسمالي الهادف الى ضمان استمرارية الحصول على فائض القيمة ، أو زيادة معدل الربح والتراكم الرأسمالي الهائل الذي دفع الى تطور القوة الاقتصادية المعولمة الراهنة ، أو الشركات المتعددة الجنسية من جهة أخرى ، خاصة بعد أن أصبحت الأسواق المحلية أو القومية غير قادرة على استيعاب هذا التوسع غير المسبوق في الإنتاج وفي تراكم رأس المال وحركته المتسارعة والمعولمة ، ولذلك فإن الوجود المتزايد الاتساع و التراكم ، و الدور المتنامي للشركات المتعددة الجنسية هو في الحقيقة شكل من أشكال تطور الرأسمالية المعولمة المتوحشة في طورها الإمبريالي الراهن ، كنتاج مباشر لعملية التراكم الرأسمالي الذي بات بحاجة إلى أطر عالمية قادرة على احتواء حركته و توسعه المستمرين ، و هنا بالضبط تتبدى مدلولات و مضامين العولمة الأحادية، ليس فقط تعبيراً عن البعد السياسي للهيمنة الأمريكية ، و إنما أيضاً كأحد تعبيرات هذا التراكم الرأسمالي و قوته الاقتصادية التي وجدت في العولمة ملاذها و مستقرها الأخير .

فهذه القوة الاقتصادية المتجسدة في الشركات المتعددة الجنسية ، هي المحرك الأساسي للسياسة و العلاقات الدولية المعاصرة ، عبر سيطرتها –المباشرة و غير المباشرة- على صناع القرار في الدول الصناعية الكبرى ، فهي تقوم بتوجيه و صياغة هذه العلاقات بين الأمم ، وفق معايير استراتيجية خاصة ، تتمحور كلها عند تعظيم معيار الربح كغاية أولية ، و من أجل تأمين هذه الغاية فإن هذه الشركات تمتلك اليوم دوراً مركزياً خفياً في صياغة و توجيه السياسات العالمية ، لا يقابلها أي قوة سياسية في مثل ضخامتها ، سوى الولايات المتحدة الأمريكية التي تتماهى وتتطابق سياساتها مع مقتضيات الشركات المتعددة الجنسية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة .

وفي ضوء ذلك ، لم يكن غريبا ما يجري اليوم ، من تزايد حدة التناقضات بين ظاهرة العولمة والرأسمالية من جهة، وبين مفهوم الاستقلال الكامل والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية بآفاقها الاشتراكية في دول العالم الثالث من جهة أخرى ، وهي تناقضات كامنة حتى اللحظة ، ومقتصرة على المستوى الجماهيري الشعبي الذي يفتقر للقوى التغييرية اليسارية الديمقراطية المنظمة ، القادرة على الخروج بهذه التناقضات الى شكل المواجهة العلني الديمقراطي والثوري المطلوب ، خاصة وأن أنظمة دول العالم الثالث عموما تتعرض اليوم –بحكم تبعيتها ومصالحها الخاصة- لحالة من الرخاوة والخضوع والتراجع ، لأسباب ملموسة وواضحة ومعروفة ، في ظل تنامي مظاهر ثورة المعلومات والإنترنت والقنوات الفضائية المبرمجة والمسيطر عليها من المراكز ، وهي مظاهر ترافق نموها بصورة مباشرة وعضوية مع تنامي حركة صعود رأس المال المالي في إطار العولمة ، عبر شبكة عالمية أدخلت البشرية عموما ، والجماهير الشعبية الفقيرة خصوصا في مرحلة من القلق والفوضى والإحباط والميل نحو الاستسلام واليأس ، وهي حالة تعبر عن الاختلال الكبير في التوازن بين دول المركز الرأسمالي من جهة ، والشعوب الفقيرة من جهة ثانية ، الناجم عن اتساع التناقضات وتزايد مظاهر الاستغلال والاضطهاد ، الى جانب الفجوة الهائلة في ثورة التكنولوجيا والعلوم والحداثة .

إننا نرى في هذا الاختلال والتناقض شكلا غير متبلور من الثنائية أو التعددية القطبية في مراحلها الأولى ، والتي ستتنامى في حركتها تدريجيا –وبصورة موضوعية- عبر تطور العامل الذاتي ، لكسر أحادية القطب الواحد وإزاحته ، خاصة وأننا نثق أن هذه الأحادية لا يمكن أن تستمر في القدرة على امتلاك مقومات استقراره رغم كل مظاهر القوة وغطرستها ، فالعولمة بما تتضمنه من تناقضات داخلية ، وتوازنات غير مستقرة ، لا يمكن استمرارها ضمن هذه الصورة الأحادية ، إلا على حساب المزيد من السيطرة والانقسامات الحادة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع ، أو بين الشمال والجنوب ، وهي انقسامات قد تطيل أمد هذه الأحادية، ولكنها لا تلغي الضرورة الحتمية لولادة النظام التعددي في العلاقات الدولية ، وهذا بدوره مرهون بتشكيل الحركة أو الأطر اليسارية المنظمة ، خاصة في بلدان الجنوب ، أو العالم الثالث التي يتحمل طلائعها المثقفة الملتزمة مسؤولية المبادرة في هذا الفعل أو التشكيل ، وانتقاله من طور الفكرة الى طور الحركة ، وامتلاكها لمفهوم وبعد أيديولوجي مغاير ونقيض لمفاهيم وأيديولوجية العولمة أو الليبرالية الجديدة .
وفي هذا السياق ، فإن المثقفين اليساريين عموما ، وبخاصة في إطار القوى والأحزاب التقدمية –في البلدان المهمشة بالذات- يتحملون دورا مركزيا في هذا التوجه بكل ما يترتب عليه من قمع ومعاناة وتضحيات ، للخروج من هذا المأزق ، عبر صياغة وامتلاك البرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي المستند الى أيديولوجية الماركسية كمنهج لتحليل الواقع وتفسيره من جهة، ودليل عمل في النضال من أجل التغيير من جهة ثانية ، بشرط إعادة النظر –بصورة موضوعية وبعقل جمعي- في كثير من الاستنتاجات والتحليلات الماركسية التي تلقاها معظم المثقفين العرب بصورة ميكانيكية في المرحلة السابقة ، دون أي نقاش جدي أو وعي جدلي حقيقي بها ، بحث أصبح الواقع الاجتماعي الاقتصادي وتفاصيله الحياتية في واد ، والنظرية عبر تلك العلاقة في واد آخر ، وهو ما يفسر بقاء المثقف في بلدان العالم الثالث والوطن العربي ، متلقيا للمعرفة عاجزا –بشكل عام- عن إنتاجها ، ولا شك أن لهذه الظاهرة أسبابا متعددة ، ولكن يبدو أن أهمها –كما يقول- المفكر العربي التقدمي محمود أمين العالم "إننا لا نمتلك معرفة حقيقية بالماركسية ، وعلينا أن نعترف بأن هذه المعرفة معرفة محدودة، مسطحة، واليوم ونحن نتساءل عن مصير الماركسية وأزمتها ، فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا بالفكر الماركسي . على أنه برغم ما حدث خلال السنوات الماضية ، وبرغم البلبلة الفكرية التي تغذيها ترسانة النظام الرأسمالي ضد الفكر الاشتراكي عامة ، والماركسي خاصة ، فلم تبرز الحاجة الى الاشتراكية والى الفكر الماركسي كما تبرز إليه هذه الأيام، فالحكم على الاشتراكية لا يكون بما أصاب التجربة السوفيتية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني، بل وبشراستها العدوانية والاستغلالية إزاء شعوب العالم الثالث بوجه عام" .

إن العلاقات الدولية في هذه المرحلة التي دخلت فيها الرأسمالية طورها الإمبريالي المعولم ، لا يعني أنها قد تغلبت على تناقضاتها ، ولا يعني أن الكامن ، ونقصد بذلك حركة فقراء العالم وكادحيه قد مات ، فبالرغم من أن الرأسمالية قد أفلحت في تأجيل الانفجار عبر توسيع مجال التناقضات باسم العولمة ، إلا أنه تأجيل سيؤدي بالضرورة الى تزايد معاناة وإفقار شعوب العالم وأممه المسحوقة من جهة والى تزايد حركات المقاومة الشعبية ببعدها الطبقي الثوري اليساري- رغم ظاهرة انتشار المد اليميني الرجعي في اللحظة الراهنة- من جهة اخرى ، ولذلك فمن الطبيعي والضروري بصورة حتمية ، أن تسعى هذه الأغلبية المتضررة من هذا النظام الشرير ، الى تقويض أركانه من أجل بناء نظام لا تحكمه هذه التناقضات ، بشرط امتلاك البرنامج الواضح المستند الى مفهوم وتطبيقات الاشتراكية بصورة أولية، بمثل استناده الى مقومات العلم والحداثة والمعرفة المعاصرة ، والتكنولوجيا التي أصبحت –قوة أساسية من قوى الإنتاج في هذه المرحلة ، تمهيدا لصياغة المشروع الإنساني التقدمي البديل ، وتفعيل حركته ، خاصة في بلدان العالم الثالث ، من أجل إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الاجتماعي ، ومن أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري ، لقد حانت اللحظة الضرورية للعمل الجاد والمنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضة من نوع آخر ، عبر أممية جديدة ، ثورية وعصرية وإنسانية .

منقولAS