لقد تفوقت كوريا الجنوبية على دول عظمى مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان، والتي احتلت مراتب تالية لها، برغم صغر مساحة هذه الدولة، ومحدودية مواردها الطبيعية، وقلة عدد سكانها، ومع ذلك، فإن صناعاتها تغزو العالم، جنباً إلى جنب مع أعمال فنانيها في المسلسلات والأفلام، وأيضاً في الإبداعات. الجناح الثاني للاقتصاد الإبداعي هو المفهوم الأضيق الذي يختص بالإبداع في أبعاده الثقافية والفلسفية والفكرية والتشكيلية والسينمائية، حيث ينظر إلى أثر الفنون والآداب والفكر في البنية الاقتصادية والاجتماعية، ومنتجاتها ومخرجاتها، وهي تحمل بعداً رمزياً وأيدلوجياً يعبر عن ثقافة المجتمع وهي تراعي عادة الاعتبارات البيئية، وتتركّز في المناطق الحضرية الرئيسية الواسعة، وتَستخدم كثيراً عمالاً من ذوي المهارة الرفيعة، وتعتمد اعتماداً كبيراً على النظم والأنشطة والمؤسسات الثقافية غير الرسمية. وتعود أيضاً هذه الصناعات بالمنافع التي لا يمكن قياسها باعتماد أسعار السوق وحدها والتي تعمل عوضاً عن ذلك على تأكيد الهوية الثقافية المميزة للأماكن التي تنشأ فيها هذه الصناعات وتتنامى، مما يتيح تحسين ظروف الحياة والارتقاء بصورة المجتمعات المحلية وبهيبتها[8]. سنلاحظ هنا أن الثقافة بمختلف أشكالها هي المؤثر الأكبر على الاقتصاد الإبداعي، لأنه لا اقتصاد ولا صناعة ولا تقنيات بدون غطاء ثقافي وفكري وفني. ولكي نوضح الصورة أكثر فإن غالبية المنتجات التي تأتي إلينا مستوردة من بلادها، تحمل شعارات وأسماء وأشكالاً تعبر عن ثقافة هذه البلاد، وما انتشار الثقافة الأمريكية إلا بسبب انتشار صناعاتها، مصحوبة بإنتاج فني عملاق في السينما، بجانب تحكمها في عالم الحواسيب والشبكة العنكبوتية. وهذا يؤثر على خيارات المستهلكين أنفسهم، فإذا أحببنا نموذجاً ثقافياً وفكرياً، فهذا ناتج عن القوة الناعمة التي تروّج لهذا النموذج، ما يجعل الناس تقبل على شراء هذه المنتجات، وتتذوق أعماله الفنية، وتردد كلماته وعباراته وشعارات وفلسفاته. إن هذا يحتاج إلى طاقة البشر الإبداعية والابتكارية، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، فهي العامل المحرّك الرئيسي لهذه الصناعات، والمغذية له فنياً وفكرياً، وقد أصبحت هذه الطاقة هي الثروة الحقيقية للبلدان في القرن الحادي والعشرين. وتؤثر بصورة غير مباشرة، وبشكل متزايد على فهم المرء أينما كان للعالم المحيط به، وعلى المعنى الذي يعطيه لوجوده فيه، وعلى الطريقة التي يؤكد بها حقوقه كإنسان ويبني بها علاقات مثمرة مع الآخرين[9]. ومن هنا، فقد أصبح الفنانون والمبدعون يشكلون الصف الموازي في التنمية والنهضة، فلا يمكن لأي مجتمع يريد الحفاظ على هويته الحضارية، أن يقوم بصناعات، وينشئ المدن، معتمداً على غير ثقافته وأفكاره. وإلا سيكون مجتمعاً مسلوب الإرادة والثقافة، مشلول الفكر والإبداع، وستكون تنميته تقليداً للآخرين.