فالمجتمعات الحديثة المعاصرة معقدة في تركيبها المؤسسي: الاقتصادي والصناعي والمعرفي وأيضاً الاجتماعي، بعكس المجتمعات القديمة: الزراعية أو الرعوية، التي عاشت على بنية اجتماعية تراتبية، واقتصاد متوارث، معلومةٌ مشكلاتها وحلولها، بعكس المجتمعات الصناعية أو المعلوماتية المعاصرة، بمصانعها التي يعمل فيها مئات الآلاف، وأسواقها التي تشمل ملايين البضائع والأصناف، وموانئها ذات الحاويات العملاقة التي تبحر في المحيطات والبحار، حاملة ملايين الأطنان من المنتجات ما بين مواد خام أو مصنوعات، ناهيك عن البحارة الذين يعملون عليها، ما يعني الحاجة المتزايدة للإبداع والمبدعين. ولكي تتضح الصورة أكثر، فإن السيارة الواحدة تتكون من ثمانية آلاف قطعة، تحتاج إلى ثمانية آلاف خط إنتاج في المصنع الواحد، فما بالك بأن كل نوع من السيارات له موديلات عديدة، ما يستلزم عشرات المصانع، وإدارات فاعلة، تتغلب على المشكلات اليومية، وتسعى للإنتاج والابتكار، والدعاية والتسويق. وهذا كله، يجعل أي تنمية تنظر إلى الشعب على أنه طاقة فاعلة في العمل وفي الابتكار وفي الإنتاج، فهي في حاجة لكل فكر وابتكار وجهد وذراع. كما يلتقي الاقتصاد الإبداعي مع فلسفة التنمية المستدامة، والتي تشمل أبعاداً ثلاثة: التنمية الاقتصادية، والإدماج الاجتماعي، والاستدامة البيئية، مدعومة بالحكم الرشيد. كما تعد نظم القياس والبيانات السليمة حاسمة لتحويل أهداف التنمية المستدامة إلى أدوات عملية لحل المشكلات وتحريك الحكومات والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني وقطاع الأعمال، توفير بطاقة تقييم لمتابعة التقدم المحرز وضمان تحقيق المساءلة[5]. وسنلاحظ هنا، أن المسألة لم تعد محصورة في وجود أشخاص، وإنما إستراتيجية تنتهجها الدولة، على مستويات عدة، من أجل تحقيق سبعة عشر هدفاً، تمثل أهداف التنمية المستدامة، التي سترعى كل فئات الشعب، بمختلف شرائحه، وأبرز هذه الأهداف: القضاء على الفقر، والجوع، وتوفير بيئة سليمة، ومدن صحية، وتعليم جيد، ومساواة، وطاقة نظيفة، وفرص عمل، تحقيقاً لمجتمع الرفاه[6]. ولا شك أن هذه الخطط والإستراتيجيات، ستوجد مجتمعاً منتجاً مبتكراً نشيطاً فاعلاً، يستخدم موارده بشكل صحيح، ويستفيد من عقول أبناء وطنه، ويوقف نزيفها المستمر بالهجرة إلى الخارج، أو بالانكفاء في الداخل. وقد تصدرت كوريا الجنوبية - مثلاً - قائمة الدول في مجال الاقتصاد الإبداعي، لأنها نجحت في التحول بفضل برامجها القومية، وإنفاقها السخي، حيث تنفق ما يزيد على 4% من ناتجها القومي على البحث والتطوير، وهي إستراتيجية اعتمدتها هذه الدولة منذ عقود، جعلها تتحول من دولة زراعية إلى دولة صناعية[7].