وهو ما يقودنا إلى مفهوم الاقتصاد الإبداعي، الذي يعتمد على فكرة استثمار الإبداع، وهو له مفهومان: الأول وهو المفهوم الشامل، ويخص كل أشكال الإبداع في شتى المجالات: العلمية، التقنية، الإدارية، التربوية، الرياضية.. إلخ، والتي تتشعّب بشتى بطرق ووسائل عدة، من النماذج الاقتصادية والصناعية العامة، وهذا ينعكس في طريقة تطبيقها وتنظيمها. ويرتكز الاقتصاد الإبداعي على قياس مدى تقدم المجتمعات والدول في إبداعاتها التنموية بشكل عام، ويتحدد من نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى الناتج القومي، ومدى مشاركة القطاع الصناعي في الإنتاج القومي، إضافة إلى عدد الشركات التقنية المدرجة في سوق الأسهم، ويُقصد بالشركات التقنية هنا الشركات التي تستثمر في البحث والتطوير سواء كانت شركات أدوية أو شركات الإلكترونيات أو الطاقة المتجددة أو شركات الإنترنت أو غيرها من الشركات التي تتخذ من المعلوماتية الجديدة والأبحاث سبيلاً لنهضتها. كما يشمل أيضاً عدد خريجي المؤسسات التعليمية سواء كانوا مهندسين أو حاصلين على شهادات عليا ممن ينضمون إلى مشاريع البحث والتطوير، إضافة إلى نسبة حمَلة الشهادات العليا من مجموع السكان[3]. لقد أصبح الاقتصاد الإبداعي جزءاً أساسياً من التطور الذي وصل إليه الاقتصاد العالمي، وبات يشكل تحولاً كبيراً في بنية الاقتصاد ذاته. فبدلاً من الاقتصاد التقليدي المعتمد على المواد الخام، أو الزراعة، أو الصناعة، صار الاقتصاد الإبداعي رافداً مهماً لا غنى عنه من قبل صناع السياسة الاقتصادية، لأنه يشكل إضافة نوعية من جهة العوائد المالية، ومن جهة توفير فرص العمل وعائدات الصادرات أيضاً. والأهم من هذا، أنه يفتح مجالات جديدة لاستيعاب طاقات أبناء المجتمع، وحفزهم على المزيد من الابتكار والإبداع. ولنا أن نتخيل عندما يجد المبدع نفسه وقد صارت أفكاره وإلهاماته سبباً في مدخول مالي إضافي، ما يشجعه على بذل المزيد من التخييل والجهد الذي سيعود عليه وعلى وطنه بالنفع. الأمر الذي يجعل العباقرة هم قادة الأمم، وأن المبدعين في طليعة العمل، ولا نعني بالقيادة هنا القيادة السياسية، وإنما القيادة العلمية والإدارية والإرشادية والبحثية، أما دور السياسيين فهو توفير المناخ وفرص العمل للجميع وتنفيذ الخطط؛ دون تمييز لفئة على فئة، أو أن تستأثر فئة بعينها بالمناصب وتحرم المستحقين. ففي الماضي، كان أقصى وسيلة للمبدع، أن يتربح من بيع رواية يؤلفها، أو عمل تشكيلي يبيعه، أو قصائد ومقالات ينشرها، وغالباً ما تعود عليه بالقليل. أما المخترعون فقليل ما نالوا المكانة، وحققوا ما يريدون. لذا، نعرف أن كثيراً من المبدعين والمخترعين عاشوا وماتوا فقراء، ولو عاصروا زمننا لوجدوا أن خيالاتهم قد تكون سبباً في ثرائهم، على شريطة أن تتوجه إبداعاتهم دعماً للنهضة والتنمية. إن فلسفة الاقتصاد الإبداعي تلتقي مع مفهوم «التفكير الخلاق» الذي لا يقتصر على فئة واحدة من الناس هم العلماء والمبدعون والمبتكرون كما يتوهم البعض؛ وإنما له مفهوم واسع يتمثل في كونه ملكات عقلية موزعة عل البشر جميعاً، بمستويات وأشكال واتجاهات مختلفة، تتمثل في القدرة على الدفع بالتفكير ليولد أفكاراً جديدة، معتمداً على مقومات متعددة، منها: مساءلة الفروض الراسخة، وتحدي الأوضاع القائمة، والتخلص من قبضة المتحكمين في الأوضاع[4].