المؤمن الفطن من وزن الدنيا بميزانها، وأعطاها مستحقها، ولم يجعلها أمله وغايته ونهايته؛ فإن الدنيا مرحلة عمل وسعي، يعقبها موت وحياة برزخية في القبر لا يدري العبد كم يمكث فيه، فربما مكث ألف سنة أو ألفين أو أكثر أو أقل، ثم يعقبها حياة كاملة سرمدية في الدار الآخرة، ومن الغبن العظيم أن يعمل العبد لدنياه وهي بضعة عقود فقط، قد تصل إلى قرن إذا عُمر الإنسان، وينسى حياة برزخية قد تمتد إلى قرون طوال، ويهمل دار باقية سرمدية، لا موت فيها أبدا، بل بقاء وخلود؛ فإما منعم وإما معذب. ومن أدرك ذلك حق الإدراك كان عمله لما بعد الموت أكثر من عمله لدنياه. وشهر شعبان شهر عظيم يقع بين شهر رجب المحرم، وبين شهر رمضان المعظم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الصيام فيه؛ كما جاء في حديث عَائِشَةَ رَضَيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» رواه الشيخان. وفي رواية لمسلم: «وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا». وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سبب كثرة صيامه في شعبان؛ كما في حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» (رواه النسائي). فذكر النبي صلى الله عليه وسلم سببين لصيامه في شعبان: أولهما: غفلة الناس عنه، وسبب هذه الغفلة أن شعبان وقع بعد شهر رجب، وهو شهر محرم، وقد قال الله تعالى في الأشهر الحرم {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وقبل شهر رمضان، وهو شهر الصيام والقيام والقرآن والإحسان. وهذا الحديث أصل في استحباب ذكر الله تعالى في وقت الغفلة، وقد دل على ذلك نصوص عدة، منها: قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» (رواه مسلم). والهرج هو الفتنة واختلاط الأمر، وحينها ينشغل الناس بالفتنة، ويغفلون عن العبادة، فكانت العبادة إذ ذاك كالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وجوف الليل وقت نوم، وغالب من يسهرون فيه يسهرون على لعب ولهو وغفلة، فحرض النبي صلى الله عليه وسلم على الذكر في ذلكم الوقت لكثرة الغفلة فيه. ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ» » وذكر منهم: «وَالْقَوْمُ يُسَافِرُونَ فَيَطُولُ سُرَاهُمْ حَتَّى يُحِبُّوا أَنْ يَمَسُّوا الْأَرْضَ، فَيَنْزِلُونَ، فَيَتَنَحَّى أَحَدُهُمْ، فَيُصَلِّي حَتَّى يُوقِظَهُمْ لِرَحِيلِهِمْ» (رواه أحمد وصححه ابن حبان). فهذا الرجل صلى في استراحة من سفر طويل، وهي حال غفلة وطلب للنوم، فاستحق محبة الله تعالى. ومنها ما جاء في الحديث القدسي: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» رواه الشيخان، والخلو بالنفس مظنة الغفلة، وذكر الله تعالى يدل على اليقظة، كما يقطع فيه بالإخلاص؛ ولذا كان من السبعة الذين يظلهم الله تعالى يوم القيامة «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (رواه الشيخان). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: «وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل؛ كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة».