القانون الدولي العام الإسلامي وحقوق الدول وواجباتها

الحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية‏
حق الدولة في البقاء:‏
يكون للدولة الإسلامية بل عليها أن تدفع ما يقع عليها من اعتداء عملاً بقوله تعالى:‏
"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير".‏ سورة الحج/ 39/)‏
ولكن رد الاعتداء محدود بقدره التزاماً بقوله تعالى:‏
"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".‏ سورة البقرة /149/).‏
والدولة الإسلامية لا تدع مجالاً للقول بنظرية المجال الحيوي التي نادى بها الفقهاء الألمان لتبرير توسيع دولتهم على حساب جيرانها بزعم أن الدول المتقدمة يتعذر عليها الاستمرار في التقدم والاستفادة من حيويتها إذا ظلت حبيسة حدودها ومقيدة تجاه جيرانها بقيود قانونية تحول دون انطلاقها خارج اقليمها، تنمية لنشاطها الاقتصادي وبحثاً عن المواد الأولية. وواضح أن الإسلام يرفض الأساس النظري لهذه النظرية لأنها تقوم على العدوان، كما أنه لا يترك لها مبرراً من الوجهة العملية لما يدعو إليه من حرية التجارة وتبادل المنافع والانتفاع بالموارد العامة.
حق الدولة في الحرية الاستقلال :‏
وهو حق أصيل للدولة الإسلامية، ولكن ترد عليه قيود من طبيعة الشريعة الإسلامية التي تحكمها، وللاستقلال مظهران في الفكر الإسلامي استقلال داخلي واستقلال خارجي.‏
أولاً- الاستقلال الداخلي:‏
يقتضي الاستقلال الداخلي هنا أيضاً، أن تكون للدولة الإسلامية حرية العمل السياسي والتشريعي والقضائي ضمن حدود اقليمها، وتفصيل ذلك كما يلي:‏
1- حرية العمل السياسي:‏
الدولة الإسلامية حرّة في اختيار نظامها السياسي، إلا أن تلك الحرية مقيدة بعدم خروج هذا النظام على الأسس العامة للتنظيم السياسي التي ورد بها نص قرآن أو سنة. وهي التي تملك وحدها تحدد علاقتها بشعبها فلا يجوز لغيرها التدخل في ذلك. وهي تحديد هذه العلاقة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية التي تتيح ترك الحرية لغير المسلمين من الشعب إلى ما يدينون في شأن أحوالهم الشخصية، غير أن ذلك رخصة لا امتياز، فإذا انقلب إلى هذه الصورة على نحو ينتقص من سيادة الدولة كان لها الغاء هذه الرخصة.
وعلى ذلك فإن للدولة الهيمنة التامة ضمن حدود الشرع ويخضع الحاكم لرقابة الأمة ضمن أوامر الشرع، قال الله تعالى:‏ "يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".‏ سورة النساء /59)‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :‏ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف" وطاعة الحاكم إذاً ضمن حدود الشرع، لا لشخصه، وإنما لما يتمثل فيه من تطبيق أحكام الشريعة، واحترام قواعدها، وتنفيذ حدودها وتحقيق أهدافها، لأن المعوّل عليه في الإسلام هو سيادة الشريعة الالهية المستمدة من الوحي الالهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة، وما يؤول إليها من إجماع الفقهاء أولي الحل والعقد، واجتهاداتهم وفق مبادئ الشرع وقواعده وروحه التشريعية العامة.
2-الاستقلال التشريعي:‏
والدولة الاسلامية هي وحدها التي تملك التشريع على اقليمها ليسري على كافة رعاياها مسلمين وذميين ومستأمنين، غير أنها مقيدة في ذلك بالتزام الأسس العامة التي ورد بها قرآن أو سنة، وذلك لأن الدولة الإسلامية تقوم أساساً كدولة تحمل فكرة ورسالة يلتزم المسلمون باعتناقها وتطبيقها وتبليغها. التزاماً لقوله عز وجل:‏ "وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".‏ سورة الأنعام/ 153/) .‏
"إن الحكم إلاّ لله" سورة يوسف/ 40/و/67)‏
"إن الأمر كله لله" سورة آل عمران/172/)‏
"فالحكم لله العلي الكبير" سورة غافر/ 12/)‏
"وهو خير الحاكمين" سورة الأعراف /87/، سورة يوسف /80/‏ سورة يونس /109/)‏
"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق" سورة المائدة /48/)‏
"أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" سورة المائدة /50/)‏
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" أو "الكافرون"أو "الفاسقون" سورة المائدة /44/و45/و47/)‏
"وأن احكم بينهم بما أنزل الله لا تتبع أهواءهم"‏ سورة المائدة /49/)‏
وكما تحرص الدولة الإسلامية على سيادتها في مجال التشريع، فإنها لا تعتدي على سيادة الدول الأخرى في هذا المجال فيذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل جميعاً إلى أن الشريعة الإسلامية لا تطبق على غير المسلم من مواطني الدولة غير الإسلامية في الوقائع التي تحدث خارج الدولة الإسلامية فلا تمتد ولاية التشريع الإسلامي إلى هذا الأجنبي حتى ولو دخل الدولة الإسلامية مستأمناً، بل يذهب أبو حنيفة ملتزماً حرفية نظرية اقليمية التشريع إلى أن التشريع الإسلامي لا يتناول رعايا الدولة الإسلامية فيما يرتكبون خارج الدولة الإسلامية .
3- الاستقلال القضائي:‏
كذلك تنفرد الدولة الإسلامية بسلطة القضاء فلا يجوز أن يتولى القضاء إلا من توليه ذلك ويلاحظ أن ما أباحه الفكر الإسلامي للذميين من الترافع إلى محاكم خاصة من بينهم في شأن الأحوال الشخصية لا ينتقص من سيادتها. إذ فضلاً عن أن ذلك لا يعدو الرخصة، فإن هذه المحاكم إنما تستند في قضائها إلى سيادة الدولة الإسلامية التي مكنتها بإرادتها وحدها من تولي القضاء، كما تقوم بسلطاتها على تنفيذه، ومن ثم فهي تملك العدول عنه إذا ما خيف أن ينقلب إلى امتياز تحميه دول أجنبية بما ينتقص من السيادة.
ثانياً- الاستقلال الخارجي:‏
يتضح مظهر الاستقلال الخارجي بما يقره القرآن الكريم من مبدأ توفير العزة والاستقلال للدولة الإسلامية، دون السماح لأية سلطة أخرى بانتقاص هذا الاستقلال أو محاولة التسلط على الدولة الإسلامية، قال الله تعالى:‏
"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"‏ سورة النساء /141/)‏
"ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"المنافقون /8/)‏
والعزة تقتضي الاستقلال والمنعة والقوة في مواجهة الدول الأخرى فليس لأي دولة أخرى الحق في التدخل في شؤون الدولة الإسلامية، وبالمقابل فإن الدولة الإسلامية لا تمس سيادة الدول الأخرى إلا بمسوّغٍ كوجود حرب مشروعة لصد العدوان.
حق الدولة في المساواة:‏
جاء القرآن يعلن مساواة جميع الشعوب في قوله تعالى:‏
"يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم"‏ سورة الحجرات/13/)‏
"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"‏ سورة فصلت/34/)‏
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:‏ " ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية " .‏
وبذلك حطم الإسلام كل دوافع الإخلال بالمساواة، ولقد شهد بعض الكتاب غير المسلمين بهذا ومنهم "المسترجب" في كتابه" حينما يكون الإسلام" والذي جاء فيه:‏
"الإسلام ما زال في قدرته أن يقدم للإنسانية خدمة سامية جليلة، فليس هناك أية هيئة سواه يمكن أن تنجح نجاحاً باهراً في تأليف الأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة " .
وهكذا يمكن القول بأن القانون الدولي العام الإسلامي يقبل الوحدات السياسية المختلفة ضمن جماعة دولية تقوم على أساس الإقرار لها بحق المساواة " .‏
حق الاحترام المتبادل :‏
العلاقات الدولية في الإسلام، الأصل فيها "السلم" على الأصح، بل البر والإقساط والتعاون والرحمة، بالنسبة للأمم الأخرى، لقوله تعالى:‏ " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" سورة البقرة /208/)‏
والأصل أيضاً في العلاقات الدولية في الإسلام تحريم البغي والعدوان، أو التعاون والتحالف على العمل على ارتكابه، لأنه تعاون على الإثم، وهذا محرم بالنص، لقوله تعالى:‏
"ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" سورة المائدة /2/)‏
"ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين" سورة البقرة /190/)‏
هذا ومن مقتضى كون الأصل في العلاقات الدولية -في الإسلام- هو السلم، أن التضامن الدولي واجب، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بالتعارف خطاباً موجهاً للناس كافة، لا إلى المسلمين فحسب، بدليل صدر الآية الكريمة:‏
"يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، أن أكرمكم عند الله أتقاكم" سورة الحجرات /13/)‏
هذا بقطع النظر عن اختلاف الأصل أو الدين، وليس المقصود بالتعارف إلا التعاون، وهذا هو التواصل الحضاري الذي يؤكد تحقيق مبدأ السلم العالمي عملاً لقوله تعالى:‏
"وتعاونوا على البر والتقوى" سورة المائدة /2/)‏
والبر كلمة جامعة يندرج في مفهومها الكلي، كافة ضروب "التعاون" في سبيل الخير الإنساني العام، وفي مقدمتها المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات بين الدول، في جميع مجالات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية والعلمية، شريطة ألا تصادم أمراً قاطعاً أو تمس العقيدة أو المقاصد الأساسية لهذا التشريع .
يتبين مما تقدم أن الدولة الإسلامية تحترم الكيان المادي والمركز السياسي للدول الأخرى، كما وتحترم مركزها الأدبي، وبالمقابل فإن من حقها أن تطالب الدول الأخرى بمثل هذا الاحترام.‏


منقول