الفرع الأول :مبدأ الفصل بين السلطات


ويقصد بمبدأ الفصل بين السلطات عدم تركيز السلطات في هيئة واحدة في الدولة وإقصاء أو تهميش الهيئات الأخرى ، وإنما تمارسها هيئات مختلفة مستقلة عن بعضها البعض، ولا يعني هذا الفصل التام والشامل إنما يلزم وجود قدر من التعاون ، وهذا الفصل التام قد ثبت فشله في تجارب سابقة والتجربة الحالية له في الولايات المتحدة، حيث أثبت الواقع العملي وجود قنوات للتعاون بين السلطات فيها ، وغني عن الذكر ذلك الجدل الفقهي حول عدد السلطات ونظريات الفصل وفي دراسات حديثة ظهور ما يسمى بالسلطة الدستورية[21] وغير ذلك، إلا أن الفقه الحديث استقر على وجوب الفصل بين السلطات مع وجود قدر من التعاون لتحقيق المصلحة العامة، وينبه جانب من الفقه إلى ضرورة تحقيق الفصل بين السلطات خصوصاً من تدخل السلطة التنفيذية بعمل السلطة القضائية، وهذا المبدأ هو نسبي ويختلف من بلد لآخر، يجب عدم تدخل السلطات الثلاث باختصاصات بعضها إلى جانب عدم تأثير الصحافة على القضاء[22]، ومن ثمرات هذا المبدأ تحقيق التخصص في العمل مما يؤدي لرفع الأداء كماً ونوعاً([23]) وقد أصبح هذا المبدأ هو الطريقة التي يمكن بها الحفاظ على السلامة العضوية لوظيفة القضاء وقد أصبح حاضراً بقوة في النزعة الدستورية الجديدة المتمثلة بتقييد الحكومات القانونية ويقتضي تحقيق الفصل بين السلطات كركن لاستقلال القضاء تحقيق ما يلي :-
1. وجود درجة من الاحتراف في الوظيفة القضائية .
2. عزل السلطة القضائية عن التأثير الخارجي .
3. وجود استقلال ذاتي للإدارة القضائية .
4. تحديد مسئولية الجهاز القضائي في إطار مفاهيم استقلال القضاء .


الفرع الثاني : مبدأ عدم القابلية للعزل

نتيجة لوجود الأنظمة الشمولية والاستبدادية ظهرت الحاجة إلى إعداد نظام قانوني بضمانات تُطمئن القاضي، لاستقلاليته و حياديته ، واهم هذه الضمانات، ضمانة عدم القابلية على عزله، إلا من قبل السلطة القضائية ذاتها وبموجب قواعد قانونية حاكمة وصارمة، وهو باختصار عدم ترك الفصل في عزل القاضي من عدمه بيد السلطة التنفيذية، وذلك لا يعني عصمة القاضي لكن يضمن إحاطة عزله بضمانات تكفل له أداء مهامه بأمان واطمئنان ، ولا يتعارض مع هذا المبدأ إمكانية مساءلة القاضي تأديبياً أو حتى جزائيا وفي قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 المعدل[24] توجد نصوص في الفصل الثالث بعنوان الإشراف على أعمال القضاة والأمور الانضباطية، وحدد الآليات التي يجب ان تتبع في حال عزل القاضي وعلى وفق المواد (55 ـ 62)، وحالات إنهاء خدمة القاضي ذكرت في القانون بعدد محدد من الحالات منها ، إدانة القاضي بفعل لا يأتلف وشرف المهنة في القضاء بموجب قرار حكم صادر من محكمة مختصة ومكتسب لدرجة البتات، أو بموجب قرار من لجنة شؤون القضاء عن محاكمة تجريها، يثبت فيها عدم أهلية القاضي في العمل القضائي[25]، أو عدم أهلية القاضي من الصنف الرابع[26]، وبموجب قرار مسبب من قبل مجلس القضاء الأعلى[27]، كما يعني هذا المبدأ عدم إمكانية النقل إلى وظيفة خارج سلك القضاء، إلا على وفق ما أشير إليه في قانون التنظيم القضائي ، أما النقل المكاني والنوعي داخل السلك القضائي فجائز وفق قواعد محددة بموجب القانون المذكور .وذكر هذا المبدأ في " المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية " التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1985م ، حيث ورد في البند 11 منها (يضمن القانون للقضاة بشكل مناسب تمضية المدة المقررة لتوليهم وظائفهم واستقلالهم وأمنهم وحصولهم على أجر ملائم وشروط خدمتهم ومعاشهم التقاعدي وسن تقاعدهم) كما نص البند 12 على :" يتمتع القضاة سواء كانوا معينين أو منتخبين بضمان بقائهم في منصبهم إلى حين بلوغهم سن التقاعد الإلزامية أو انتهاء المقرر لتوليهم المنصب ..." بل وزاد البند 8 "... لا يكون القضاة عرضة للإيقاف أو للعزل إلا لدواعي عدم القدرة أو دواعي السلوك." وكذلك البند 19 : "تحدد جميع الإجراءات التأديبية وإجراءات الإيقاف أو العزل وفقاً للمعايير المعمول بها للسلوك القضائي ." حيث جعلت للإجراءات التأديبية وإجراءات العزل معايير عالمية لا تستطيع الدول التحكم بها ، وكذلك نظمت الجهة التي تصدر العزل بالبند 20 : "ينبغي أن تكون القرارات الصادرة بشأن الإجراءات التأديبية أو إجراءات الإيقاف أو العزل قابلة لإعادة النظر من جانب جهة مستقلة) وفي الدستور العراقي الدائم ذكر هذا المبدأ وأشار إليه بعدم إمكانية عزل القضاة إلا بالأحوال التي يحددها القانون[28].


الفرع الثالث : الاستقلال الفني والإداري والمالي للقضاء

هذا الركن يضم كل شكل من أشكال الاستقلال، وفيه عدد من النقاط المهمة لتدعيم مبدأ استقلال القضاء وعلى وفق ما يلي:ـ
أولاً: الاستقلال الفني :-
يقصد بالاستقلال الفني، باستقلالية القاضي في إصدار القرارات وكتابة أحكامه، فلا يمكن التدخل وتغيير منطوق الحكم أو القرارات الصادرة من القاضي من قبل أي شخص إلا إذا اتبعت الطرق القانونية بالطعن فيه أمام المحاكم ذات الدرجة الأعلى من المحكمة التي أصدرت القرار، وذكر ذلك في إعلان "المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية" في نص البند الرابع (لا يجوز أن تحدث أية تدخلان غير لائقة أو لا مبرر لها في الإجراءات القضائية ولا تخضع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإعادة النظر) ، كما نص الدستور العراقي الدائم على ذلك أيضا[29]، كما تجلت هذه الاستقلالية حينما اعتبرت الأحكام القضائية تصدر باسم الشعب[30]، الذي هو مصدر السلطات، مما يمنع أي سلطة تسعى لتعديل الأحكام القضائية، إلا إذا كانت مفوضة من الشعب وبموجب القوانين النافذة التي تنسجم وإحكام الدستور.
ثانياً : الاستقلال الإداري
إن الاستقلال الإداري هو استقلال القضاة عن السلطة التنفيذية فيما يتعلق بشئون عملهم ، ويحتوي على أربعة أنواع من الاستقلال:-
أ- ترقية القضاة : حيث أن ترقية القاضي تعد من أولى اهتماماته وطموحاته لذلك يجب قطع الطريق على السلطة التنفيذية باستقلال هذه النقطة بمكافأة من يطيع ومعاقبة من يعصي، فحرصت التشريعات على أن تحيط ترقية القضاة بعدد من الضوابط حرصا على استقلالهم وتمكينا لأدائهم المستقل، وهذا ما جعل بعض التشريعات لا تأخذ بنظام ترقية للقضاة فالقاضي لديهم في درجة واحدة لا يجاوزها طول حياته هادفين للسمو بالقاضي من النفاق والرياء للحصول على ترقيته، وفي قوانين جميع البلدان العربية أمر ترقية القضاة إلى السلطة القضائية حصرا[31]، وف العراق نظم قانون التنظيم القضائي أمر الترقية وجعلها من اختصاص مجلس القضاء الأعلى[32].
ب- نقل القضاة وندبهم : ضمانة عدم النقل ذات صلة وثيقة بضمانة عدم العزل، لان النقل قد يشكل عقوبة مبطنة للقاضي، مما يؤثر سلباً على استقلاله، ولكن عكس ذلك قضية ندب القضاة التي قد تعطي السلطة التنفيذية يداً لمجازاة ومكافأة من تريد ، ونرى كذلك إمكانية معاقبة وإقصاء القضاة بطريقة الانتداب مما يعني التخلص منهم واقعياً خاصة إذا ما علمنا أن مدة الانتداب في قانون التنظيم القضائي تصل إلى حد ثلاث سنوات، ولتحقيق هذه الضمانة اقترنت عملية الانتداب بعدة شروط منها أن تكون بموافقة مجلس القضاء الأعلى وبطلب تحريري من القاضي[33] .
ج- الإشراف على أعمال القضاة : الطبيعة البشرية للقضاة تجعلهم كغيرهم بحاجة لمن يراجع أعمالهم وأوضاعهم، ومن ذلك كانت فكرة هيئة الإشراف القضائي،والتي مهمتها تتمثل في التقييم والتوجيه والتحقيق في أمور القضاة سواء ما تعلق بعمله القضائي أو سلوكه الشخصي على وفق ما أشير إليه في المادة (55) من قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 المعدل[34] .
د- المساءلة التأديبية : لما كان القاضي يفوق الشخص الطبيعي بضمانات عديدة، لغرض ضمان عدم التأثير عليه ، ولما كان بشراً يعيب ويخطأ يظلم ويحق، كان لا بد من وجود ضمانة للناس ولجهة القضاء من القاضي المسيء، ولكن هذه الإجراءات التأديبية يجب أن تحدد بقانون وأن تشرف عليها جهة القضاء بنفسها وهو ما شارت إليه سلفا وعلى وفق ما ذكرته المواد القانونية في قانون التنظيم القانوني[35] .
ثالثاً: الاستقلال المالي
وهذا الاستقلال نرى ضرورة إتحاد عنصرين للقول به أولهم "عنصر شخصي" وهو ما يوجب توفير الحياة الكريمة للقضاة وينأى بهم عن الشبهات ، كما يعلله البعض بأن توفير المزايا المالية للقضاة كالمرتبات العالية وغيرها يضمن لهم مركزاً سامياً يقيهم من التطلع إلى الوظائف الأخرى مما يجعل الدولة تخسر ذوي الخبرة والدراية. واصبح مجلس القضاء العراقي له ميزانية خاصة منفصلة عن ميزانية السلطة التنفيذية على وفق ما جاء بأمر سلطة الائتلاف المنحلة المؤقتة رقم 12 لسنة 2004[36]
المطلب الخامس :وسائل تعزيز دعم استقلال القضاء

إن محور استقلال القضاء هو الاهتمام بالمنظومة القضائية الممثلة بالسلطة القضائية وكذلك الاهتمام باستقلالية القاضي، وهذا الاهتمام لا يكون لشخص القاضي، بل للدور العظيم الذي يقوم به القضاء والهدف النبيل الذي يسعى لتحقيقه، وكذلك فعلت كل التشريعات الوضعية في العالم القديم والمعاصر، إذ كان القاضي عند السومريون والاشوريون، هو الحاكم وفي العصور الحديثة في البلدان المتقدمة والمتحضرة، نجد إن القاضي له مميزات مادية ومعنوية تفوق ما لرئيس البلاد، كذلك في العراق ، كان للقضاء دور في نهوض هذا البلد منذ تأسيسه ولحد الآن، على الرغم مما عانى هذا الجهاز من ظلم واعتداء وجور السلطات الحاكمة، التي كانت تتصف بالشمولية والديكتاتورية فوقف لها القضاء موقف شرف تمثل بالعديد من القرارات الجريئة التي قدم ثمنها القضاة حياتهم وتعرضوا للسجن والأذى (وبقيت في ضمير كل قاض جذوة الانتصار للحق بوسيلة أو بأخرى , ورغبة جامحة في أبعاد أصابع السلطة التنفيذية من التدخل في شؤون القضاء وعملت قدر المستطاع على أبقاء القضاء مستقلاً في أداء مهامه وكافح القضاة في سبيل ذلك بشكل منظور وغير منظور حتى لحظة سقوط النظام في 9/4/2003 ... ارتفع الصوت عالياً باستقلال القضاء ليأخذ دوره في ترسيخ سلطة القانون وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة وقد كان للقضاة ذلك)[37]. لذلك فان تعزيز هذه الاستقلالية وحمايتها، لا يكون إلا بأربعة وسائل دستورية وجزائية وشعبية وذاتية سأعرض لها بإيجاز على وفق ما يلي: ـ
الفرع الأول:الحماية الدستورية

الحماية الدستورية لمبدأ استقلال القضاء تعني صياغة المبدأ في نصوص دستورية ترفعها إلى مستوى الإلزام القانوني وتحميها من الاعتداء من ، وذكرها في الدستور يمنحها صفة السمو على النصوص القانونية العادية ، حيث إن الدستور هو القانون الأعلى والأسمى في سلم الهرم التشريعي، ولا يجوز إصدار أي قانون يتقاطع وإحكام الدستور النافذ ، بالإضافة إلى إن القاعدة الدستورية لا يمكن تغييرها أو إلغائها من قبل السلطة التشريعية، وإنما بموجب آليات حددها الدستور الدائم من خلال الاستفتاء الشعبي والحصول على نسبة من عدد أعضاء مجلس النواب على وفق أحكام[38], وفي نصوص الدستور ذكرت عدة مواد تؤكد على ضمان استقلال القضاء منها ماورد في المادة (19) ( القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون) وفي اليمين التي يؤديها عضو مجلس النواب[39] وفي نص المادة (85)(القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لاية سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة) وهذا المنهج لم يقتصر على الدستور العراقي بل سارت عليه العديد من الدساتير العربية منها الاردني ، العراقي ، التونسي ، المصري، السوري، اللبناني، الكويتي[40].
الفرع الثاني :الحماية الجزائية

النصوص الدستورية لا تكفي لصيانة مبدأ استقلال القضاء وحمايته، ما لم تقرر هذه الحماية بموجب قوانين تفرض جزاءات تمنع انتهاك هذا الاستقلال وتعاقب عليه، وتكون الحماية الجزائية وهي محور هذا الطرح، أو ما تسمى بالحماية التشريعية فإنها تتمثل بإصدار القوانين التي تتضمن دعم استقلال القضاء، ولمجلس النواب الدور المتفرد في هذا المساق، لأنه صاحب السلطة التشريعية في البلد وفي التشريعات العراقية توجد العديد من النصوص العقابية التي تعاقب على فعل التدخل في شؤون القضاء، ومنها ما جاء في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل في الباب الرابع وعدَّ بعض الأفعال التي تتعلق بسير العدالة جريمة وحدد لها العقوبة في المواد ( 233 ـ 242) ولم يقف الأمر عند التدخل، بل عاقب على الأفعال التي يرتكبها الموظف في عدم تنفيذه للأحكام القضائية المكتسبة لدرجة القطعية، إذ نص في قانون العقوبات على تجريم فعل الامتناع عن تنفيذ قرارات وأحكام القضاء وفرض عقوبات تصل إلى الحبس لمدة لا تزيد على سنتين لمن لا ينفذ هذه الأحكام القضائية ومنها ما ورد في نص المادة 329 من قانون العقوبات العراقي في رقم 111 لسنة 1969 المعدل ونصها كما يلي (1 – يعاقب بالحبس وبالغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين كل موظف أو مكلف بخدمة امة استغل وظيفته في وقف أو تعطيل تنفيذ الأوامر الصادرة من الحكومة أو أحكام القوانين والأنظمة أو أي حكم أو أمر صادر من إحدى المحاكم أو أية سلطة عامة مختصة أو في تأخير تحصيل الأموال او الرسوم ونحوها المقررة قانونا.2 – يعاقب بالعقوبة ذاتها كل موظف أو مكلف بخدمة عامة امتنع عن تنفيذ حكم أو أمر صادر من أحدى المحاكم أو من أية سلطة عامة مختصة بعد مضي ثمانية أيام من إنذاره رسميا بالتنفيذ متى كان تنفيذ الحكم أو الأمر داخلا في اختصاصه.)، وكان لنا رأي في هذه المادة بالعمل على تشديد العقوبة من اجل ضمان استقلال العمل القضائي لان الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية هو تعطيل لمهامه وكانت دعوة موجه لمجلس النواب للتفاعل مع الفكرة[41].