سخر أحدهم من ندوة عُقدت بغزة بعنوان: " اليوم العالمي 23/4/2009 لحفظ حقوق التأليف والملكيات الفكرية" وقال: ما شاء الله لا ينقص غزة المُدمَّرة سوى قانون حفظ الحقوق !!
قلتُ:
ظلّ الفلسطينيون طوال تاريخهم النضالي، يتكئون على القوانين في تدعيم حقوقهم ، فهم ما يزالون يطالبون بتطبيق القوانين الدولية التي تخص اللاجئين ، وظلوا ينادون بإلزام إسرائيل بقرار التقسيم وفق قرار الأمم المتحدة ، وظلوا يناشدون العالم بأن يُلزم إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967 أيضا وفق القانون الدولي.
ألم يكن من الأجدر بالفلسطينيين أن يُضيفوا قانون حفظ الحقوق والملكيات الفكرية إلى قائمة نضالهم، ليصبح القانون شعارا يقول: ها نحن رغم الضائقة والعوز والفقر والدمار والعدوان والقتل ننشد حياة قانونية حرة كبقية الأمم ؟
ألا يُعزِّز ذلك من نضالهم العادل؟
إن قانون حماية الملكيات الفكرية وحفظ حقوق المبدعين والمؤلفين وكذلك احترام الحقوق المجاورة للملكيات الفكرية صار في عالم اليوم بمثابة جواز سفر للوصول إلى عالم الألفية الثالثة، عالم التكنلوجيا الرقمية، ففي ظل عدم وجود قانونُ لحفظ الحقوق، فإن الوطن أولا يخسر أبناءه المبدعين، فيتسربون منه ويهاجرون منه ليس هجرة عمل وإنتاج ، بل هجرة لجوء أبدي إلى وطن آخر، لأن قانون حفظ الحقوق والملكيات الفكرية ملازمٌ دائما للمبدعين، فلا يوجد المبدعون في بيئة لا تحترم حقوق عقول المتميزين فيها،ليشعروا بأن إبداعاتهم ستسجل بأسمائهم ولن يسرقها غيرُهم وينسبوها إلى إليهم .
ومن مخاطر عدم وجود قانون حماية الحقوق الفكرية أيضا، أن ترفض الشركات والمؤسسات الكبرى تأسيس شركاتها ومؤسساتها في بلاد القراصنة، لذا فلن يتمكن الوطن الذي يخلو من القانون، من أن يقبس تجارب الشركات الكبرى.
وإذا أضفنا إلى ما سبق بأن الأوطان التي تخلو من قوانين حفظ الحقوق لا تتمكن من إقامة بُنية اقتصادية مضبوطة ومحسوبة بدقة، ففي أوطان القرصنة وسرقات حقوق المبدعين،تنتشر سرقات الجمارك والضرائب والمكوس، ويصبح مستحيلا معرفة ناتج الدخل القومي، وهذه إحدى نكبات أوطان العرب، وتصاب الشركات المخلصة الصادقة الأمينة بانهيار ناتج عن تقليد بضائعها وسرقة إبداعاتها، فتُغلق أبوابها بعد إفلاسها.
ولعل أبشع الأمور في أوطان القرصنة وسرقة الملكيات الفكرية، هو أن هذه الأوطان تُصبح ملاذا لقراصنة سرقات الحقوق والملكيات، ويُصبح القراصنة طبقةً برجوازية اجتماعية جديدة، تعتمد مبدأ القرصنة، التي تُغري عددا كبيرا من الشباب لارتياد هذه المهنة ، فتُؤسس في هذه الدول صناعة جديدة ، اسمها " صناعة القرصنة" بدلا من صناعات الابتكارات والإبداعات!
فبدلا من أن ينشغل الشباب المبدعون في إنتاج برامج كمبيوترية ينافسون بها منتجي العالم ، ويحظون بالسبق،وهذه هي المنافسة الشريفة ، يصبح همهم الرئيس، إنتاج البرامج المضادة التي تفكّ شفرات البرامج المحفوظة الحقوق، كما يحدث في كثير من الدول العربية ، وعلى رأسها فلسطين، وهذا يدفع الشباب إلى تحويل النشاط من غايته الرئيسة، وهي( الإبداع) إلى غاية أخرى وهي قرصنة التحدي، وبذلك يتحول النشاط من نشاطٍ إيجابي يصبُّ في نهر الإبداع العالمي يرفده ويغنيه ، إلى نشاطٍ سلبي، يُعكِّر صفو هذا الإبداع ويُعيق مجراه أيضا.
والغريب في الأمر أن أكثر دول القرصنة لم تعد تعتبر سرقة الأفكار والحقوق سرقاتٍ يُعاقب عليها القانون، لأنها هذا النمط من السرقات لم يرد في نصوصها القانونية البائدة، ونتيجة لذلك تصبح السرقاتُ شرعيةً ، فترى في شوارعنا عشرات المحلات التي تبيع مصنوعات القرصنة، تعلن عن بضائعها المسروقة بطرقٍ قانونية وتحصل على ترخيص بذلك ، وتبيعها كذلك بإيصالاتٍ موقعة ومختومة بأختام رسمية !
حاولتُ في إحدى المحاضرات عن قوانين حفظ الحقوق الفكرية والإبداعية والحقوق المجاورة أن أُناقش الحاضرين، وما أزال أحفظ اعتراضين على إرساء حقوق الفكر والتأليف في فلسطين.
أما الاعتراض الأول فكان من شابٍ جعل من انتهاك الحقوق والقرصنة الفكرية بطولة أخرى تُضاف إلى بطولات الشعب الفلسطيني المناضل ، وعزا الأمر إلى الاحتلال وجرائم الاحتلال، وأن ما يحدث من قرصنة وفق تسميتي ما هو إلا نضالٌ وطني، ومن العيب أن يُسمى قرصنة أو سرقة!
أما الاعتراض الثاني فجاء على لسان رجل يعمل في المجال الفقهي الديني فقال:
اختلف كثيرون منذ أزمان طويلة في تحديد مفهوم السرقات، فالسرقة عند الفقهاء الأولين كانت تعني سرقة الأمتعة والممتلكات، ولا يمكن إثبات السرقة إلا إذا كان السارق بالغا مكلفا عالما بالمسروق وبحرمته، وأن يكون للمسروق نصابٌ ، ونصابه ثلاثة دراهم أو ربع دينار أو غرام واحد من الذهب وفق الراهن ، وأضاف الفقهاءُ أيضا شروطا أخرى منها أن يكون المسروق من مكان مقفلٍ، وألا تكون السرقة في عام قحط ومجاعة، وأن تكون السرقة للشخص نفسه وليست لآخرين، وألا تكون السرقة من العائلة المقربة أي من الابن للأب ومن الزوجة للزوج، وألا تكون السرقة من الأجير لربّ عمله، وألا تكون علنية.
ويشترط في السرقات أيضا أن يقوم صاحب المسروقات بالادعاء على السارق.
أما عن سرقة بيت المال الذي تملكه الدولة ، وسرقة الأمكنة العامة، وسرقة الكتب من المكتبات ، فهي أيضا لا تدخل في باب السرقات الموجبة للعقوبات لأسبابٍ كثيرة، منها أن للسارق نصيبا فيها ، ولأسباب أخرى غيرها !!
إذن فسرقات البرامج والعلامات التجارية وكل الحقوق ، لم تعد عندهما سرقاتٍ، فهي إما أن تكون نضالا وطنيا، أو أن تكون غير منصوصٍ عليها في الشريعة.
وما أزال أحفظ الردّ عليهما، فأما الأول فقد أقنعته بالحقائق التي عرضتها في بداية المقال وأضفتُ إليها: إن المحتلين الإسرائيليين كانوا يريدون بالضبط أن نعتاد هذه السرقات حتى لا يكون بمقدورنا أن ندخل عالم اليوم، أو أن نؤسس دولتنا ، وكانت وسيلتهم لذلك التضييق والحصار والإفقار لكي نلجأ نحن إلى تلك الوسائل.
أما عن الفقيه فقد طلبتُ منه أن يُعدد لي مخاطر هذه القرصنة ونتائجها على الأوطان، فهل هي حلالٌ، وميزة من المزايا، أم أنها أشدّ خطرا من السرقات الموصوفة في كتب الفقه، وأيهما أكثر ضررا على المجتمع السرقات المصنفة في الفقه الموجبة للعقاب، أم سرقات الكبار وسرقات الشركات وسرقة إبداعات العقول التي تُحطّم الأوطان ؟
فصمتَ ولم يُجبُ، ثم أفاد بأن هذه الأنماط من السرقات، والتي لم ترد نصا في الفقه مكروهة فقط لأنها تؤدي إلى الضرر!!
وأخيرا فإن أكثر الدول التي تغضُّ الطرف عن القرصنة الفكرية، تخضع في الغالب لأنظمة سلطوية ديكتاتورية، تستفيد هذه الأنظمة من تفشي الظاهرة فتجني المنافع والأرباح التي تدخل جيوب المسؤولين فيها ، حتى وإن أنهكت الأوطان وقوّست ظهورها ، وأصبحت هذه الأوطان تمشي على عكازين، وهذه الأنظمة ستظل تحيا في ضبابية تحول بينها وبين رؤية واقعها الأليم، ومستقبلها المظلم، فتقنع شعوبها بأن العالم كله عالم انحطاط وفسوق، حتى وإن بقيتْ المسافة بين هذه الشعوب، وبين العالم المتحضر، لا تُقاس بسنواتٍ، بل تقاس بالقرون.
منقول