[align=justify]
وعادة ما تكون القرارات المؤقتة لتلبية حاجة ملحة لأحد الخصوم لا تحتمل التأخير، كتقرير سلفة
للدائن الذي يكون دينه غير قابل لنزاع جدي، فمثل هذه القرارات تمتاز بالتأقيت، بمعنى أنه يجوز
للقاضي العدول عنها نهائيا أو تعديلها في حال تغيرت الظروف التي استدعت تقريرها
. 15

مما سبق يتضح لنا الفرق الجوهري بين كل من الحكم والقرار القضائي، فالأول هو الذي يفصل في
الخصومة أو بأصل النزاع دون الثاني، فمثلا لا يصح القول بأن القاضي حكم في دعوى ما بمنع
المدين من السفر، لأن هذا الإجراء لا يعدو أن يكون قر ارا مؤقتا هدفه توفير السبل الملائمة لحسن
سير إجراءات المحاكمة، التي تهدف في النهاية إلى إصدار حكم نهائي في أساس الدعوى المنظورة،
وبالتالي حسم النزاع
. بتعبير آخر، فإن مثل هذا القرار لا يفصل في المسألة موضوع الدعوى وإنما
اقتضته ظروف وملابسات النزاع التي لا يكون حسمها إلا بحكم منهي للخصومة
.

وقد لجأ المشرع الفلسطيني في قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية إلى استعمال مصطلح

"
قرار" في معرض حديثه عن أحكام الطلبات المستعجلة، 16 التي تتضمن اتخاذ إجراءات وقتية آنية، ما
يفهم منه أن النظام القانوني في فلسطين يفرّق بين الحكم والقرار القضائي، على اعتبار أن الأخير لا
يشكل مساسا بأصل الحق المدعى به، وأنه لا يعني سوى كونه إجراء مؤقت لا تتحدد قيمته إلا بعد
الفصل في الدعوى الأصلية بحكم نهائي
.

أما القرارات التمهيدية، فيقصد بها تلك التي تصدر قبل الفصل في أصل النزاع، وهي التي ت تناول
أحد تدابير التحقيق أو الإثبات، فغايتها التمهيد لحسم النزاع بحكم قضائي ولا شأن لها في حسمه
مباشرة واستقلالا،
17 فلا تغل يد المحكمة عن نظر النزاع، كما أن هذه القرارات لا تتمتع بحجية
القضية المقضية، فض ً لا عن أنها تقبل الطعن على وجه الاستقلال قبل صدور الحكم النهائي، ومن
أمثلتها، قرار المحكمة سماع الشهود أو ندب خبير أو استجواب الخصوم
...الخ.

لكن وعلى الرغم مما سبق ذكره، إلا أن القضاء الفلسطيني متردد بين استعمال المصطلحين، فأحيانا
يطلق تسمية
"حكم" وفي أحيان أخرى يستعمل مصطلح "قرار" على الحالات التي يكون فيها ا لحكم
منهيا ل لخصومة
. وبالتالي يبقى البون الشاسع قائما بين ما يذهب إليه الفقه من ضرورة التفريق بين
المصطلحين، وبين ممارسة القضاء التي لا تعير اهتماما بالنسبة لهذه التفرقة
.

.
230- 15 لمزيد من التفصيل راجع: حلمي الحجار، المرجع السابق، ص 229

.(
114- 16 راجع الفصل الثاني من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية (المواد 102

.
17 أنظر: حلمي الجار، المرجع السابق، ص 230

المطلب الثاني
: تحليل الحكم القضائي من حيث الشكل والموضوع

من المقرر أن الأحكام القضائ ية تصدر في
شكل معين ينبغي توافره فيها، 18 وقد أوضحت القوانين
ذات الصلة
(أصول المحاكمات المدنية والتجارية، قانون الإجراءات الجزائية ) ما يجب مراعاته من
أحكام في هذا الصدد
. لكن قد يَش ُ كل على البعض تحديد الأسس التي يقوم عليها هيكل الحكم القضائي
أو عناصره، من هنا يكون من الضروري إجراء عملية تحليل لشكل هذا الحكم بغية التوصل إلى
معرفة الحدود الفاصلة بين العنصر والآخر وحجم الإطار الذي يتعين رسم كل عنصر فيه
. فمثلا
ديباجة الحكم يستدل عليها من مجمل الحكم من خلال معيارين رئيسين، الأول هو أن الديباجة تمثل
صدر أو مقدمة الحك م، والثاني يتعلق بمحتوياتها حيث أنها تشتمل على البيانات التي تستلزمها القوانين
سالفة الذكر
. 19 وبعدها يتم الانتقال إلى العنصر الثاني وهو الوقائع، إذ تقوم المحكمة بعرض تسلسلي
لمجريات أحداث النزاع
. وبخصوص التسبيب؛ أي إيراد العناصر القانونية للنزاع، فإنه عادة م ا يختلط
بالوقائع؛ أي العناصر الواقعية والموضوعية للنزاع
. لذا ولغاية التمييز بينهما تلجأ المحاكم عادة إلى
عرض الوقائع أولا ثم تنتقل إلى تأويل وتفسير العناصر القانونية بهدف تحديد النصوص والقواعد
القانونية التي يتعين تطبيقها وإسقاط حكمها على الوقائع
. ويمكن ل نا إسدال الستار عن هذا الخلط من
خلال القول بأن عبارة
"بالمداولة والتدقيق " تنصرف إلى الوقائع، وأن عبارة "في القانون " أو ما
شابهها من عبارات تشير إلى العناصر القانونية للنزاع
. أما بخصوص منطوق الحكم أو ما يطلق
عليه بالفقرة الحكمية، فإنه يمكن تحديده وفصله عن ع نصر التسبيب من خلال عبارة
"فلهذه الأسباب "

التي تسطرها المحكمة في حكمها، حيث يعبر ما يليها عن المنطوق وهو الحل الذي ينهي النزاع
.

ومن
ناحية الموضوع، هناك أسس منهجية لعمل القاضي تتيح له التوصل إلى حسم النزاع بحكم
نهائي، إن هو طبّق القانون بشكل صحيح انطلاقا من وقائع النزاع المعروض أمامه
.

وقبل الشروع في عملية تحليل موضوعي لحكم القاضي، ينبغي أن يكون هناك افتراض مؤداه أن
القاضي يستند في حكمه إلى وعي وإدراك بموضوع وطبيعة النزاع المعروض عليه وبآليات عمله،
وأنه كذلك يفصل بهذا النزاع وفق ما يمليه صحيح القانون، بمعنى آخر، ينبغي أن يكون هذا
الافتراض هو المنطلق والمحدد لتحليل المنحى أو المذهب الذي تبناه القاضي في حكمه
.

وإذا تمت مراعاة ما سبق فإنه يصار بعد ذلك إلى البدء بالتحليل الموضوعي والممنهج للإجراءات
التي سلكها القاضي والتي فصل بالدعوى على ضوئها، ولعل البداية تنطلق م ن المقابلة بين وقائع
النزاع ونصوص أو قواعد القانون المحددة لعناصر المركز القانوني المجهول
إلى هذه اللحظة -

18
راجع المبحث الثاني من هذه الدراسة (عناصر الحكم القضائي).

19
راجع المبحث الثاني من هذه الدراسة.

والمطلوب الكشف عنه، فالوقائع هي التي تكشف للقاضي ما إذا كانت عناصر المركز القانوني
كما
حددتها القاعدة أو القواعد القانونية
- متوافرة أم لا . وإذا ك ان من المفترض في القاضي علمه
بالقانون، إلا أن قواعد القانون متعددة
وتتناول بالتنظيم ظواهر اجتماعية عديدة، لذلك يتعين على القاضي أولا أن يحدد من بين هذه القواعد
تلك التي تحكم موضوع النزاع، وهذا الأخير لا يتحدد إلا على ضوء عناصره الواقعية
. 20

والتحليل السليم لموضوع الحكم القضائي لا يكون إلا من خلال تتبع الخطوات التي ينبغي على
القاضي سلوكها حتى يتوصل إلى الحكم النهائي الذي يعطي حلا قانونيا للنزاع، وبالتالي مقارنة ما
بدر من خطوات قضائية من قبل القاضي الذي ينظر النزاع مع ما يجب أن يكون من خطوات
وإجراءات حسبما يمليه صحيح القانون
.

ويمكن تلخيص هذه الخطوات بالآتي
:
-
دراسة العناصر الواقعية للنزاع، الأمر الذي يحدد للقاضي -ولو بشكل مبدئي - موضوع
النزاع وأطرافه وأسبابه
.
-
دراسة طلبات الخصوم؛ للتعرف على الآثار القانونية للطلبات المدعى بها على الأقل في نظر
الخصوم
.
-
تكييف عناصر النزاع الواقعية توصلا لمنحها الوصف القانوني الصحيح، وبالتالي إسقاط أحكام هذا
الوصف عليها، والعبرة في ذلك للجوهر والمعاني لا للألفاظ والمباني؛ أي لا عبرة لما يطلقه الخصوم
من مسميات وأوصاف على النزاع، وإنما يكون التعويل على حقيقة الفروض التي تتضمنها القواعد
القانونية التي يمكن تطبيقها لحسم النزاع
.
-
اتخاذ القاضي موقفا بعد تحديد العناصر الواقعية للنزاع يقضي بقبولها أو ردها.
-
تقييم مدى توافر عناصر المركز القانوني وذلك بعد الفراغ من حصرها، ويخلص من ذلك إما إلى
ثبوت المركز القانوني المدعى به فيصدر حكمه ب ترتيب الأثر المطلوب، وإما إلى نفي هذا المركز
فيصدر حكمه برفض ترتيب الأثر المطلوب
.

بالتدقيق فيما سبق يتضح لنا أن جوهر عمل القاضي يتمثل في إجراء قياس منطقي بين مضمون
القاعدة القانونية التي تحكم موضوع النزاع والعناصر الواقعية لهذا النزاع، فهذا القياس يفضي إلى
نتيجة محددة هي الحكم؛ أي وجه الفصل في النزاع على النحو الذي تتم صياغته في المنطوق أو
الفقرة الحكمية
. 21

.
20 في هذا المعنى: عكاشة عبد العال، سامي منصور: المنهجية القانونية، بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، 2003 ، ص 146

21
لمزيد من التفصيل أنظر: عكاشة عبد العال، سامي منصور، المرجع السابق، ص 146 وما بعدها.

المطلب الثالث
: المبدأ القانوني والمبدأ القضائي

يشير الواقع العملي لدى الفقه والقضاء إلى الخلط بين المبدأ القانوني والمبدأ القضائي، حيث يطلقون
تسمية أي منه ما على الآخر على اعتبار أنهما يحملان ذات الدلالة والمضمون، بل إن غالبية الفقه
والقضاء يذهبون إلى إطلاق تسمية
"المبادئ القانونية " على ما تقرره المحاكم في بعض المسائل التي
تعرض عليها، فالفقهاء والباحثون يطلقون على مؤلفاتهم حول الأحكام القضائية التي يجمعونها باسم
المبادئ القانونية لمحكمة كذا في موضوع كذا، وكأن هذه التسمية من المسلمات بالنسبة لهم، فلا
يولون اهتماما خاصا لمسألة التفريق بين الاصطلاحين
.

ورغم هذا الموقف الفقهي والقضائي إلا أننا نرى أن حقيقة الحال ليست بهذه السهولة، وأن الأمر
بحاجة إلى بحث وتحليل ع لمي قبل القول بالأخذ بأي من الاصطلاحين دون الآخر، أو بأنهما
مترادفان ما يتضمنه أحدهما ينطبق على الثاني وبالتالي ليس هناك دا ٍ ع للتفريق بينهما
.

فكلمة مبدأ تعني الشيء الثابت والراسخ؛ أي يشترط للقول بأن هناك مبادئ أن تتمتع الأحكام بالثبات
والاستقرار ردحا من الز من وأن تتواتر المحاكم على الأخذ بها مدة زمنية طويلة نسبي ا
. ولا مشكلة
في هذه الناحية من الموضوع؛ إذ أن كلمة
"مبدأ" مشتركة بين الاصطلاحين، لكن الإشكال يكمن في
تحديد المصطلح الأكثر دقة فيما إذا كان مبدأً قانونيا أم مبدأ قضائيا؟
من المعلوم أن وظيفة المشرع هي و ضع قواعد قانونية عامة ومجردة قابلة للانطباق على جميع
الحالات التي وضعت لأجلها، فهذه القواعد يطلق عليها كذلك تعبير أحكام أو مبادئ قانونية؛ كونها
تتمتع بالثبات
-ولو النسبي - ومصدرها القانون . ومثال ذلك النص القانوني : "كل من سبب ضررا
بالغير يلزم من ارتكبه بالتع ويض
"، فهذا النص يقرر مبدأً قانونيا يقضي بوجوب التعويض عن
الإضرار بالغير، أو بتعبير آخر فإن المبدأ هو أن مناط أو أساس المسؤولية عن الفعل الضار هو
الضرر، فإذا جاءت المحكمة وقالت بأن الضرر هو أساس المسؤولية التقصيرية فإنه لا يمكن لنا أن
نقول بأن ما قالت به ا لمحكمة هو مبدأ قضائي بل علينا إطلاق مصطلح مبدأ قانوني؛ لأن المحكمة لم
تضف شيئا، بمعنى آخر فهي لم تبتدع أو تنشئ قاعدة جديدة بل كشفت عن قاعدة وحقيقة قائمة
بالفعل
. أما إذا عرض عليها نزاع ما أو مسألة معينة في نزاع ولم يوجد بشأنه نص أو حكم قانوني
خاص، أو تطرقت ه ذه المحكمة لتفسير نص قانوني معين، فاجتهدت إزاءه وقررت قاعدة جديدة
واستقرت فيما بعد وتواتر القضاء على الأخذ بها، فإنه عندها يمكننا القول بأن ما جاءت به المحكمة
هو مبدأ قضائي وليس مبدأ قانوني؛ لأن محاكم الأساس
(الموضوع) تفصل في العناصر الواقعية
للنزاع؛ أي ت نظر النزاع من حيث الموضوع وليس القانون، فكل ما تبتدعه من قواعد في هذا الجانب
من النزاع تكون تسميتها مبادئ قضائية وليست قانونية إذا ما توافرت فيها شروط المبادئ بوجه عام
.

وبخصوص محكمة النقض
(التمييز) وبالنظر إلى صلاحيتها ووظيفتها فإن ما تقرره يكون مبادئ

قانونية وليست قضائية من حيث الأصل، فهي تراقب صحة تطبيق وتفسير القانون على الوقائع،
[/align]