[align=justify]حماية الأسرار التجارية والمعرفة التقنية
د. جلال وفاء محمدين مستشار قانوني في المصرف الصناعي الكويتي . دولة الكويت
مقدمة
تحتل اليوم المعرفة الفنية Know –How مكاناً هاماً وبارزاً بين موضعات الملكية الصناعية وذلك لما تثيره من مسائل شائكة ومعقدة سواء على الصعيد الوطني في الدول الصناعية الكبرى أو على الصعيد الدولي وبمناسبة نقلها من تلك الدول إلى مثيلاتها من الدول النامية.
والحقيقة أن أغلبية الدراسات العربية قامت بمعالجة المشكلات المصاحبة للمعرفة الفنية من منظور العقد الدولي أي في إطار النقل الدولي للتكنولوجيا من الدول الصناعية إلى الدول النامية، وعالجت هذه الدراسات العديد من المسائل الهامة مثل القانون الواجب التطبيق على عقود نقل التكنولوجيا، وشروط هذه العقود وأسلوب فض المنازعات التي قد تنشأ عنها.
ولايثور لدينا أدنى شك في جدوى هذه الدراسات من الناحيتين النظرية والعلمية، وخاصة بالنسبة للدول النامية على أن القليل من الدراسات قد توجهت إلى معالجة المشكلات القانونية للمعرفة الفنية في إطار النظم الوطنية في الدول الصناعية الكبرى، ولاجدل أيضاً في أهمية هذه الدراسات، ولاتستمد هذه الدراسات الأخيرة أهميتها فقط من كونها مجالاً خصباً للمقارنة النظرية بين النظم القانونية المختلفة، وإنما أيضاً لأنها من الناحية العملية تساعدنا على فهم طريقة التفكير والأسلوب الذي ينتهجه المشروع المالك للمعارف التكنولوجية عند التفاوض، ثم التعاقد على نقلها إلى الدول النامية، ومن بينها مصر، ذلك أننا لاينبغي أن نغفل عن المشروع مالك التكنولوجيا، في الدول الصناعية الكبرى عادة مايكون متأثراً حتى وهو يتعاقد على نقل التكنولوجيا خارج الحدود الإقليمية بالأفكار الوطنية السائدة في نظامه القانوني، بل إنه يحاول بطريقة أو بأخرى فرض هذه الأفكار على المشروع المتلقى لهذه المعارف التكنولوجية.
ومن ثم فلقد رأينا أن نتوجه في دراستنا للمعرفة الفنية إلى أحد القوانين الداخلية واخترنا لذلك القانون الأمريكي، فدراسة المعرفة الفنية في القانون الأمريكي لها مغزى هام، إذ أن الأفكار والمشكلات القانونية للمعرفة الفنية ظهرت أول ماظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية فأخذ الفقه بدعم من القضاء في تطوير نظرية عامة لحمايتها، وذلك من خلال مايعرف بقانون الأسرار التجارية Law of trade Secrets فأصبحت هناك معالجات فقهية عديدة، وتطبيقات قضائية لاحصر لها في هذا المجال، كما استقرت مصطلحات هذا الفرع الجديد من فروع القانون، لدرجة أن اصطلاح Know –How بات يستخدم في الكثير من الأحيان حتى في خارج الولايات المتحدة دون ترجمته.
وتزداد أهمية دراسة المعرفة الفنية إذا ما علمنا أن نظام براءات الاختراع أمسى في أفول في الآونة الأخيرة، فالحصول على براءة اختراع يقتضي من المخترع أو من المشروع الحائز للاختراع الكشف عنه للمجتمع في مقابل الحصول على حق استئثاري لاستغلاله لفترة محددة يصبح بعدها من حق أي مشتغل بالفن الصناعي استخدام الاختراع واستغلاله، ولما كان نظام براءات الاختراع لايضفي على المخترع إلا حماية مؤقتة، بحيث لاتندثر هيمنته على اختراعه بعد انقضاء مدة البراءة فلا غرو أن تسعى المشروعات، وبالذات في الدول الصناعية الكبرى إلى الاحتفاظ بما لديها من اختراعات ومعارف فنية في طي الكتمان من أجل استغلالها لأطول فترة ممكنة، وذلك خارج التنظيم القانوني لبراءات الاختراع، وبهذا الأسلوب تتمكن هذه المشروعات من ممارسة نوع من الاستئثار الفعلي على ماتحوزه من عناصر ومعارف تكنولوجية طالما استطاعت الحفاظ على سريتها.
فالسرية إذاً هي عصب حماية المعرفة الفنية، فإذا فقدت المعرفة الفنية ماتتميز به من سرية زالت عنها ماكانت تتمتع به من حماية إذ لايستطيع حائزها الأول بعدئذ منع أي شخص من استغلالها أو استعمالها.
ولما كان المشروع المالك للمعرفة الفنية يسعى إلى استثمارها بعدها عنصراً هاماً من عناصر المشروع الرأسمالي، فإنه عادة مايدخل في علاقات متعددة قد تتعرض فيها السرية التي تتميز بها المعرفة الفنية للإفشاء، ومن ثم فغالباً مايتم تضمين العقود التي يكون محورها المعرفة الفنية شروطاً صريحة تلزم متلقي التكنولوجيا أو من يتصل علمه بها بالحفاظ على سريتها، وعادة ما يتضمن الشرط الصريح نطاق السرية من حيث الموضوع، أي تلك المعارف التكنولوجية التي يتعين على المتلقي أن يحفظها في طي الكتمان كذلك يتضمن هذا الشرط تحديداً لنطاقه من حيث الأطراف والمدة أي الأشخاص الذي يسمح لهم بالاطلاع على الأسرار التكنولوجية وأيضاً المدة التي يتعين خلالها الحفاظ على السرية، فإذا لم يحترم متلقي المعرفة الفنية الشرط الصريح المنصوص عليه في العقد فلا جدل أن مالك هذه التكنولوجيا سيبادر إلى الالتجاء إلى القضاء لاستصدار حكم يلزم الطرف المتلقي باحترام تعهداته بالالتزام بالكتمان، أو التعويض إن كان قد حصل بالفعل إفشاء للأسرار التكنولوجية.
فالعقد إذاً هو أساس الحماية القانونية للمعرفة الفنية عند وجود شرط صريح يلزم المتلقي لها بالحفاظ على السرية ولكن تثور مشكلة حماية المعرفة الفنية عندما يخلو العقد من نص أو شرط صريح يلزم المتلقي بالحفاظ على السرية، كذلك تثور مشكلة حماية المعرفة الفنية خارج نطاق العقد، أي في الأحوال التي لاتتوافر فيها مقومات العقد بين مالك المعرفة الفنية والشخص الذي اتصل علمه بها، ومثال ذلك حالة فشل المفاوضات في عقد الترخيص باستغلال المعرفة الفنية، أو فشل المفاوضات المؤدية إلى بيعها ...إلخ ففي هذه الأحوال يصعب القول بأن العقد يمثل الأساس القانوني للحماية، إذ لايوجد عقد بالمعنى الفني الدقيق بينما اضطر مالك المعرفة الفنية إلى اطلاع الطرف الآخر على بعض الجوانب السرية للتكنولوجيا التي بحوزته، ترغيباً في إتمام الصفقة، هنا يكون من غير الإنصاف ترك مالك المعرفة الفنية دون ما أساس قانوني لحماية ماتسرب من أسرار تكنولوجية في أثناء فترة المفاوضات.
وبقد أخذ القضاء الأمريكي يؤازره في ذلك الفقه، في بسط الحماية القانونية على المعرفة الفنية معتمداً في هذا على بعض الأفكار في قانون العقد في الشريعة الإنجلوسكسونية التي تسمح له بمد الحماية القانونية حتى لو لم يكن هناك اتفاق صريح يلزم الشخص الذي اتصل علمه بالأسرار التكنولوجية بالحفاظ على سريتها، بل لقد لجأ القضاء الأمريكي إلى حماية المعرفة الفنية حتى خارج نطاق العقد وتأسيس هذه الحماية على بعض الأفكار المتعلقة بنظرية المسؤولية التقصيرية Tort Law، ولقد صاغ كل من القضاء والفقه الأمريكي هذين الأسلوبين في الحماية في شكل نظرية تعرف الآن في محيط قانون الأسرار التجارية الأمريكي بنظرية علاقة الثقة بل مد القضاء الأمريكي الحماية الواجبة للمعرفة الفنية في بعض الأحوال دون فحص للعلاقة الفعلية للأطراف (مالك المعرفة الفنية والمتلقي لها) إلا في اللحظة أو في الوقت الذي حصل فيه إفشاء للسرية ويكون ذلك في الحالة التي يحقق فيها المتلقي للمعرفة الفنية إثراء على حساب مالكها.
ومن ثم فإن حماية المعرفة الفنية في القضاء الأمريكي تعتمد على وجود علاقة ثقة معينة أياً كان الأساس الذي ترتكز عليه هذه العلاقة وسواء كان هذا الأساس منبثقاً عن الأفكار العقدية أو المسؤولية التقصيرية أو الإثراء بلا سبب على أنه يمكن مع ذلك حماية المعرفة الفنية حتى خارج نطاق علاقات الثقةـ فالمعرفة الفنية تعد حسب السائد في القانون الأمريكي حقاً من حقوق الملكية وفقاً للمفهوم الفني لهذا الاصطلاح، ومن ثم فإن الاستيلاء عليها حتى في حالة غياب علاقة من علاقات الثقة بعد استيلاء غير مشروع لحق حقوق الملكية فيكون لصاحبه الدفاع عنه واسترداده، أو طلب التعويض أو تنفيذهما معاً، وذلك كما في حالة الحصول على المعرفة الفنية بطريق الغش أو في حالات التجسس الصناعي وهي حالات قد تثير في الوقت نفسه الحماية الجنائية على أنه باستثناء حالات الاستيلاء غير المشروع على المعرفة الفنية فإن نظرية علاقات الثقة تبقى هي الأساس لحماية المعرفة الفنية، ويكون في الوقت نفسه على طالب الحماية إثبات ملكيته للمعرفة الفنية فملكية المعرفة الفنية حتى في الأحوال التي تتوافر فيها علاقة الثقة وإن كانت لاتشكل الأساس القانوني للحماية إلا أنها على الأقل تعد بمنزلة الطبيعة القانونية للحق المطلوب حمايته وعليه فإن طالب حماية المعرفة الفنية يتوجب عليه إبراز ملكيته عليها بجانب الاستناد إلى علاقة معينة من علاقات الثقة التي تبرز هذه الحماية.
وسنحاول من خلال هذه الدراسة إبراز مفهوم نظرية علاقات الثقة كأساس لحماية المعرفة الفنية في القانون الأمريكي وذلك من خلال بيان الأسس الفنية التي تقوم عليها هذه النظرية وأهم تطبيقاتها القضائية، وذلك في إطار قانون الأسرار التجارية، على أنه قبل البدء في شرح أبعاد نظرية علاقات الثقة فإنه يتعين بيان مضمون المعرفة الفنية والطبيعية والقانونية لها بعدها حقاً من حقوق الملكية في القانون الأمريكي.
وعليه يمكن تقسيم هذه الدراسة إلى مبحثين:
المبحث الأول: مضمون المعرفة الفنية وطبيعتها القانونية في القانون الأمريكي.
المبحث الثاني: الأساس القانوني لحماية المعرفة الفنية في القانون الأمريكي (نظرية علاقة الثقة).
[/align]