موقف السفارة السعودية في العاصمة الإندونيسية منه

مطالبة تقدمت بها السفارة السعودية في العاصمة الإندونيسية جاكرتا لهيئة كبار العلماء في المملكة بإصدار فتوى رسمية ببطلان زواج السعوديين من إندونيسيات بنية الطلاق بعد أن تحولت لظاهرة.. تكشف مدى تحايل البعض في استخدام الدين مطية لتحقيق شهواته المحرمة شرعًا، حتى وإن كان عن طريق عقد زواج رسمي مكتمل الأركان الشرعية الظاهرة.
القضية بدأت بتحذير من خالد العراك مدير قسم الرعايا بالسفارة السعودية في جاكرتا، من أنه ما لم تصدر فتوى واضحة من هيئة كبار العلماء بشأن تحريم الزواج بنية الطلاق سيزداد الأمر استفحالاً ليخرج عن نطاق السيطرة، وخاصة مع وجود سماسرة إندونيسيين يقومون بتجهيز ولي أمر مزور، وتكون الزوجة غالباً من بنات الهوى، وتنتهي العلاقة بمجرد انتهاء مهمة الزوج في البلاد للدراسة أو غيرها، وتكون النتيجة طفلا بلا أب.. بحسب العراك!
ويقر العراك بأن الحالات المسجلة لدى السفارة من تلك الزيجات لا تمثل سوى 20% على الأكثر من الواقع الحقيقي، وأن عدد حالات الزواج بأذون رسمية للعام الماضي بلغت 110 فيما لم تسجل هذا العام سوى 18 زيجة فقط، وسجلت في العام الماضي 20 حالة طلاق، ولم تسجل هذا العام سوى 4 حالات فقط، وما يتم دون أوراق رسمية أكبر من هذا العدد بكثير.
يذكر أن تكلفة مثل تلك الزيجات تتراوح بين 5: 10 آلاف ريال، ويتم دفع ربع مبلغ المهر في السفارة، وتحجز السفارة بقية المهر إلى حين وصول الزوجة إلى السعودية، ومن ثم دفعه لولي أمرها.. وذلك في الزيجات المسجلة بها.
واعترفت كثير من الزوجات المخدوعات -وليس محترفات الدعارة- أن مسلمي إندونيسيا يرون أهل مكة والمدينة خاصة والعرب عامة أصحاب بركة، وخاصة أن ملامحهم المتدينة كفيلة بأن تقنع العائلة بأنها ستحصل على البركة، وليست المسألة مادية فحسب، برغم الفقر الذي تعاني منه بنات إندونيسيا.
تراجع جريء
جاء في مقدمة المؤيدين لمطلب السفارة السعودية الداعية السعودي الشهير الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء، الذي أكد لإسلام أون لاين أن مسألة الزواج بنية الطلاق ليست جديدة، وإنما هي مسألة قديمة ذكرها مجموعة من أهل العلم، وقال بجوازها شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر توجيه القول بجوازها في أكثر من أربعين صفحة في كتابه "مجموع الفتاوى"، وقال بجوازها غيره من الأئمة، ومنهم ابن قدامة ذكر ذلك في كتابه "المغني"، مشيرا إلى أنه لا مانع من نسبة الأقوال لأصحابها دون تبنيها أو الدعوة للأخذ بها بالضرورة، مع بيان حكمها في حالة الاضطرار ودفع الحرج وبواعث الفتنة في السفر، لا السفر من أجل هذا الزواج.
وأكد بن منيع أنه سبق له بحث هذه المسألة واطلع على ما ذكره القدامى والمعاصرون فيها، وأفتى بجواز ذلك لمن كان مسافرًا لغرض الدراسة أو التجارة أو غيرهما وخشي على نفسه الفتنة، ولكنه -أي بن منيع- بعد أن سافر لبعض الدول التي كثر فيها استخدام هذه الفتوى من الخليجيين المسافرين إليها وغيرهم راجع فتواه وتراجع عنها، بعد أن رأى بنفسه الاستخدام السيئ لها.. حسب تعبيره.
واعتبر بن منيع أن الزواج بنية الطلاق من قبيل زواج المتعة الذي أجمع علماء السنة على تحريمه واعتباره من صور النكاح الباطلة، موضحًا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، ومشددًا على أن "أئمتنا القدامى والمحدثين القائلين بجوازه لو اطلعوا على ما وصل إليه سوء تطبيق فتواهم لرجعوا عنها وتبرؤوا منها.."، لافتا إلى أن "هذا التراجع أو تغير الفتوى لا يعد عيبا، بل ميزة.. حيث يتم درء المفاسد الناتجة عن تهاون وتحايل الناس، وفي نفس الوقت جلب المصالح بالمحافظة على المقاصد الشرعية، ومنها المحافظة على العرض..".
وأنهى بن منيع كلامه بتأكيد أن الفتوى كما تتغير بالتيسير فقد تتغير بالتعسير للاحتياط والبعد عن الشبهات أو الوقوع في الحرام، لافتا إلى أن "هذا ليس جديدا بل هناك سوابق كثيرة لعل أشهرها ما جاء في الصحاح أن الطلاق بالثلاث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخليفة الأول أبي بكر، بل وفي بداية عهد الفاروق عمر بن الخطاب كان يعتبر واحدة، ثم تغير الوضع واستهان الناس بالطلاق فأمضاه أمير المؤمنين عمر ثلاثا، وقال ما معناه: "لقد استعجلوا أمراً كان لهم فيه أناة "فأمضاه عليهم ثلاثا..".
أسوأ من المتعة
من جانبه هاجم العلامة الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري هذه العلاقة التي رفض تسميتها "زواجا" واصفًا إياه بأنه أسوأ من زواج المتعة، خصوصًا إذا كانت المرأة عالمة بالأمر، ومؤكدًا أن إضمار نية الطلاق سلفًا قبل الزواج ينافي مقتضى عقد النكاح، فالإسلام شدد على منع الطلاق إلا لضرورة، فكيف بإضمار النية مقدمًا، واعتبر أن ذلك خداع للمرأة المسلمة.
جائز بضوابط
الشيخ صالح السدلان عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض له رأي آخر، فهو يجيز الأمر؛ لأن هذا النكاح صحيح عند أهل العلم بشرط مراعاة الضوابط الشرعية، غير أنه يرى أنه ليس من الوفاء والصدق، خاصة بعد استخدامه من قبل بعض الشباب العربي كتُكأة لعدم تحمل مسئولية الزوجة والأولاد، وبالتالي يذهب شخصيًّا إلى منعه.
الضوابط الشرعية تلك يوضحها الشيخ عبد الله المطلق عضو هيئة كبار العلماء، وهي أن يكون الشاب مسافرًا سفرًا بعيدًا قد تطول مدته، فإنه يجوز له الزواج بنية حماية نفسه من الوقوع في الفتن، غير أنه اشترط على من يضطر لهذا الأمر ألا يضمر نية الطلاق مقدمًا وأن يجتهد أن يكون زواجه أصيلا بناءً.
وحول مصارحة المرأة وولي أمرها قال: لا يشترط على الرجل إخبارها بذلك حتى لا يلزم نفسه ما لا تطيق، فإن أحبها الرجل استمر معها وإن كرهها طلقها.
أترضاه لأختك؟!
أما الدكتور يوسف بن أحمد القاسم الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للقضاء بالسعودية، فقد بدا في صوته غضب شديد وهو يتساءل: كيف يكون هذا الزواج صحيحا وهو مفتقد لأهم أركانه وهي رباط السكن والمحبة والذي لا يأتي إلا بالاستقرار ونية بناء البيت الصالح.
وتابع مستنكرًا ومتعجبًا: كيف يحتج من يفعل ذلك بآراء الفقهاء على فعل نفسه ولا يحتج بها على فعل غيره أن أراد آخرون الزواج بشقيقته أو ابنته مثلا بنفس الطريقة؟ وهل تطمئن نفس المؤمن وقلبه لنكاحٍ يخدع فيه المرأة ويبدي لها فيه صدق المودة والمحبة وهو يضمر الفرقة والطلاق خلال أيام أو حتى أسابيع؟
وأكد القاسم أن الفقهاء الذين أجازوا النكاح بنية الطلاق لم يجيزوه بالصورة التي نراها اليوم حيث يعزم الشاب السفر ويحزم أمتعته لغرض النكاح بنية الطلاق حتى يشبع شهوته الجنسية، مضيفًا أن من أجاز هذا النكاح من القدامى إنما أجازه في عصر له ظروفه الخاصة وحاجاته التي تختلف عن عصرنا، ومن المؤسف أن ما يفعله الناس اليوم جعل كثيرا من هؤلاء البنات الضحايا يتحولن لداعرات بسبب هذه الزيجات المتكررة وهن في سن صغيرة بحثا عن وهم الاستقرار أو جمع المال.
تشويه لصورة الإسلام
واعترض الدكتور عبد الفتاح الشيخ رئيس لجنة البحوث الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية على هذا النوع من الزواج قائلا: الأصل في عقد الزواج الاستمرار، ولهذا حرم الإسلام كل زواج مؤقت، سواء بشكل ظاهر مثل زواج المتعة أو بشكل خفي مثل إضمار نية الطلاق مما يتنافى مع حقيقة عقد الزواج.
وحذر من أن مثل هذا الزواج فيه تشويه لصورة الإسلام، حيث إنه يعطي الآخرين انطباعًا بأن المسلم متحلل من محاسن الأخلاق، وهمه الأول قضاء شهوته ومصلحته الشخصية وأتحفظ على قول البعض: إن النكاح صحيح مع الإثم؛ لأن هذا تهوين من القضية وما يترتب عليها من أضرار بالزوجة وأهلها وأولادها إن أثمر هذا النكاح أطفالا، وقول بعض الفقهاء بصحة العقد لا يبرئ ذمة المتزوج من الغش والتغرير، بل والظلم المترتب على تصرفه برغم أن العقد استوفى أركانه وشروطه إلا أن مقاصد الشرع من عقد النكاح لم تتحقق كما أرادها الإسلام.
عبث وإهانة للمرأة
وشنت الدكتورة سعاد صالح أستاذ الفقه بجامعة الأزهر هجومًا لاذعًا على هذا الزواج مؤكدة أنه يمثل إساءة بالغة لنظرة الإسلام الحقيقية للمرأة، حيث جعلها هذا الزواج محلا للاستمتاع فقط لفترة يحددها الزوج في نفسه ويخفيها عنها وعن أهلها وهو ينوي الطلاق بقضاء شهواته فقط، وقد قال الإمام مالك عن هذا الزواج وما فيه من خداع وإضرار: "ليس هذا من أخلاق الناس"، وقال الأوزاعي: "هو نكاح متعة ولا خير فيه".
وعارضت إجازة البعض لهذا العقد بحجة استكمال أركانه وشروطه، مشيرة إلى أن نية الاستقرار تعد ركنًا رئيسًا من أركان العقد طبقًا للحديث الشريف: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..".
منع.. وإجازة
جدير بالذكر أن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ذهب إلى القول بمنع الزواج بنية الطلاق حيث قرر ما يلي: "الزواج بنية الطلاق وهو زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه، وأضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة كعشرة أيام أو مجهولة كتعليق الزواج على إتمام دراسته أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله، وهذا النوع من النكاح، برغم أن جماعة من العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه لاشتماله على الغش والتدليس؛ إذ لو علمت المرأة أو وليها بذلك لم يقبلا هذا العقد؛ ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة وأضرار جسيمة تسيء إلى سمعة المسلمين.
وخلاصة الأمر: أن الزواج بنية الطلاق ممنوع شرعًا، ويحرم على المسلم أن يقدم عليه لمخالفته لمقاصد الشارع الحكيم ولما يترتب عليه من مفاسد كثيرة.
وقد سبق أن أفتى بصحة هذا النكاح الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: "الزواج بنية الطلاق فيه خلاف بين العلماء منهم من كره ذلك كالأوزاعي وجماعة، وقالوا: إنه يشبه المتعة فليس له أن يتزوج بنية الطلاق عندهم، وذهب الأكثرون من أهل العلم كما قال الموفق ابن قدامة في المغني إلى جواز ذلك إذا كانت النية بينه وبين ربه فقط، وليس بشرط، كأن يسافر للدارسة أو أعمال أخرى، وخاف على نفسه، فله أن يتزوج ولو نوى طلاقها إذا انتهت مهمته وهذا هو الأرجح إذا كان ذلك بينه وبين ربه فقط من دون مشارطة ولا إعلام للزوجة ولا وليها ولكن ترك هذه النية أولى احتياطًا للدين وخروجًا من خلاف العلماء؛ ولأنه ليس هناك حاجة إلى هذه النية لأن الزوج ليس ممنوعًا من الطلاق إذا رأى المصلحة في ذلك ولو لم ينوه عند النكاح.
وخالفه العلامة السعودي الراحل الشيخ ابن عثيمين فأفتى بأن هذا الزواج محرم، ولا يجوز شرعاً؛ وذلك لأن هذا الزواج فيه غش للمسلمين، ولا أحد من المسلمين ممن يتبعون مذاهب أهل السنة والجماعة يرضاه لابنته أو أخته.