[align=justify]وليس من الواجبات المفروضة أن يعتقد الناس في بعضهم البعض أنهم لصوص خاطفة، وإذا شئت أن تجعل هذا الاعتقاد واجبًا لوجب على ذلك المدين الجاهل الأمي أن يحضر من يقرأ له الورقة، ولكن الواجبات العامة وأحكام الاجتماع تقضي باعتبار الإنسان بريئًا، فإذا ما ثبت هذا الواجب في نفس أحد المتعاملين فعمل به فلا يحرمه هذا من حماية القانون .
على أنه طبيعي أن يكون من آثار المعاملة بين اثنين أن تزيد في هذا الواجب تأكيدًا فليس للذي صدقه مدينه - في اعتذاره لعدم إمكانه رد السند - أن يتمسك عليه لماذا لم يعتقد أنه لص، وعلى هذا ينجو من العقوبة، لا لسبب آخر غير حُسن الظن به. !!
هذا نقوله - من باب المساجلة مع جارسون في رأيه - فيما يختص بالواقعة الأولى وهي تسليم الدين بدون أخذ مخالصة لكن حكم النقض واقع على الواقعة الثانية المستقلة، وهي دعوى الدائن أنه لم يقبض الدين، واستعمال سنده القديم الذي أصبح باطلاً، وطلب قبضه مرة ثانية، وفي هذه الدعوى كل أركان النصب كاملة، ولم يبدِ جارسون في شأنها شيئًا يعترض حكم النقض .
نخرج من هذا - حينئذٍ - على أن القول الشائع بأن الدائن إذا طلب دينًا قد سبق أن أخذه لا يدخل عمله في دائرة قانون العقوبات، إنما هو قول يخالف القانون، ويخالف الآداب العامة، ويخالف الأحكام، وإجماع المذاهب .
إلى هنا بحثنا الموضوع من ناحيته العامة، على اعتبار أن صاحب الوديعة دائن، وأن المودع لديه مدين، ونريد الآن أن نبحث في الوديعة بذاتها، وإذا جئنا إلى هذا البحث وجدنا الموضوع لا خلاف فيه ولا نزاع.
لم نجد في المطولات بابًا معقودًا للوديعة على وجه العموم، لكنا وجدنا بابًا عنوانه النصب في أمانات مصلحة السكة الحديد، وما تقرر في شأنها ينطبق على الودائع عامة - لأنه لا يوجد تشريع خاص لمصالح أو شركات السكة الحديد، بل الأحكام فيها راجعة إلى قواعد القانون العامة.
وردت في جارسون صفحة 1357:
(615 - أن طرق الاحتيال التي تحصل ضد شركات السكك الحديدية - كثيرة - وأن أهمها يكون جنحة النصب، لأن جميع أركانها متوفرة فيها).
ثم قال بعد ذلك في صفحة 1358، وهذا هو موضوع الوديعة.
(633 - كذلك نقل البضائع - قد يكون ظرفًا لاستعمال حيل تتكون منها جنحة النصب).
وقد تقرر أن المادة (405) تنطبق على من استلم كل أو بعض البضائع، ثم حفظ السند، وطالب بالبضائع من جديد.
اقرأ هنا ماذا يقول جارسون بعد الذي نقلناه فيما مضى، تراه قد رجع صراحةً عن رأيه وانضم إلى رأي أحكام النقض فيما تقدم، وصدق على وجهة النظر التي نبديها !! وكأنه هنا قد فطن إلى العملية الثانية، التي تقول إنها منفصلة تمام الانفصال، وهي واقعة المطالبة الجديدة، بصرف النظر عن واقعة استلام الوديعة.
يقول جارسون هنا ما يأتي:
هذه الواقعة لا يمكن اعتبارها سرقة - لأن المسافر الذي استلم بضاعته قد استلم شيئًا هو ملكه، لكن جميع أركان النصب متوافرة لأن هذا المسافر يكذب، في تأكيده أنه لم يستلم البضاعة، وهو يؤيد هذا الكذب بطرق احتيالية، هي طلبه رد البضاعة، وتمسكه بقسيمة، يستدل بها على حق وهمي لا أثر له.
- كاساسيون - 3 ديسمبر سنة 1885 - سرى سنة 1887 - 1 - 238.
- كاساسيون - 9 يونيو سنة 1888 - سرى سنة 1888 - 1 - 448.
- كاساسيون - 16 يناير سنة 1892 - سرى سنة 1892 - 1 - 216.
- ليموج - 12 نوفمبر سنة 1898.
- كورنيل - 18 مايو سنة 1900.
كذلك نجد هذا الإجماع، في كل مطول من المطولات، وفي المجموعات، والمؤلفات بدون شذوذ، وفي داللوز وفي سيرى، وفي جارو، وهكذا، فوضح أن قولنا الذي صدرنا به هذا البحث أن هذه قضية يخيل لنا أنها بديهية لا تحتاج بحثًا، إنما هو الصواب بذاته وقد أدى بنا الاستقراء إلى أن إجماع العلم وفقه المحاكم قائم على أن النصب لا خلاف في توافر أركانه. وإذا تأملت إلى هذا الإجماع في حالة ودائع مصلحة السكة الحديد، وليس بين المصلحة وبين مالك البضاعة، علاقة شخصية !!، فلا ثقة تصلح عذرًا للتساهل في استرداد سنة الوديعة !!، ولا معاملة مستديمة تخجل الموظف من طلب السند !! ولا صداقة مانعة من رفض تسليم البضاعة بدون استرداد القسيمة .
فما بالك بالواقعة إذا حصلت بين صديقين، أو زميلين في صنعة أو في تجارة، قد تعاملا كثيرًا في أموال جسيمة سنوات متواليات، سواء بإيصالات أو بغير إيصالات، مما يبعث على الثقة ؟!.
بل ما قولك إذا كانت المعاملة في نوعها، إنما كان جوهرها وموضوعها الثقة بين الفريقين كأن تكون نفس الوديعة حاصلة لمصلحتهما معًا كبيع البضاعة واقتسام الربح، إلى غير هذا من الظروف التي توحد بين الناس، وتجمع بين المتعاملين بجامعة المصلحة والتعاون، فتجعل تصديق كل اعتذار لعدم رد السند واجبًا أدبيًا للخروج عن حكمه ؟!! اللهم إلا في أخلاق اللئام والأشرار !
وإنك لتعجب وهذا هو الإجماع إذا علمت أننا لما عرضنا الواقعة على أنها نصب، كان الاعتراض علينا من كل ناحية، ومن كل مشتغل بالقضاء كأننا نبدي كفرًا بالقانون، بل شذوذًا عن مرامي العقل الإنساني، فمن قائل، ولماذا سلم المودع لديه الأمانة بغير إيصال ؟ ومن قائل، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته من الوديعة بشهادة الشهود رغمًا عن وجود السند المكتوب ؟!!!
أما لماذا سلم الأمانة فهذا لا يدخل في المناقشة بوجه من الوجوه، لأن واقعة النصب ليست هي تسليم الأمانة بغير إيصال، وقد قلنا كثيرًا ونعيد أن مالك الوديعة إنما قد استلم منقولاً هو يملكه فليس في هذا الاستلام نصب، ولكن النصب يبتدئ من المطالبة بالوديعة مرة ثانية، وبدعوى أنه لم يستلم كذبًا، ثم الاستلال على هذا الكذب بالإيصال الذي بقي بيده ولكنه أصبح باطلاً، وأصبح وديعة على ذمة المودع لديه الذي برئت ذمته، ثم في تهديده للمودع لديه باتهامه بالتبديد ظلمًا، إنما لم يعطه شيئًا من المال !!!
هذا هو النصب بالإجماع وهذا هو الذي لا يستطيع أحد أن يعارضه من طريق نقل البحث فيه إلى الواقعة السابقة عليه، وهي لماذا وكيف سلم المودع لديه الأمانة بلا إيصال ؟!!
على أني لا أفهم معنى لهذا الاعتراض غير أنه جمود أمام الواقع، وعصيان لتقدير هذا الواقع وتعرف حكمه، فإنه لولا هذا التسليم بدون إيصال لما وجدت الواقعة أصلاً !!! ولما كان هناك سبيل لارتكاب الجنحة !!! ولعرض البحث مطلقًا، فكأنما الذي يضع هذا الاعتراض، يعلل الشيء بذاته، أو يقول إن الواقعة لا يعقل حصولها، أو هي لم تحصل، فهي لا تعتبر أيضًا من جهة القانون، والمفهوم بداهةً أن البحث في تكييف الواقعة من جهة القانون إنما لا يأتي إلا مع التسليم بأن الواقعة قد حصلت في ذاتها والمقصود إفراغها في قالبها القانوني، وتحديد المادة التي تنطبق عليها.
بل ويتقدم الاعتراض خطوة فيأخذ شكلاً يفهم صاحبه أنه القانون بذاته، فيقول، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته بشهادة الشهود والأمانة ثابتة بسند مكتوب !!!
الاعتراض هو بذاته نفس الاعتراض الذي تقدم لكنه يأخذ شكلاً جديدًا، تتوهم فيه النفس العاصية عن البحث، أنها تتمسك بمبدأ قانوني، والواقع أن القانون ليس فيه شيء من هذا إذ هو يقضي بأن وقائع النصب تثبت بشهادة الشهود، مهما كان موضوع النزاع، وهذا هو الإجماع.
فالذي يعترض بقواعد الإثبات، إنما يخطئ الخطأ كله، إذ لا توجد قاعدة تقضي بأن للنصاب أن يتمسك بقواعد الإثبات المدنية، ليحمي به جريمته، وإذا شئت ما دمنا في عصيان مستمر أن تقدم رأي العلم لا رأينا، فخذ أي كتاب نجد هذه القاعدة مقررة، ونراها مثلاً في جارو جزء (5) - صفحة 277 فقرة (276)، وفي أي كتاب آخر غيره، ونراها في البندكت جزء 30 صفحة 307 إذ ورد فيها، ويثبت النصب دائمًا بشهادة الشهود مهما كانت أهمية الحق المتنازع عليه وكذلك البينة ضد العقود المكتوبة وضد العقود الرسمية.
على أني لست أدري كيف خفي على النفس المعترضة نتيجة هذا الاعتراض الخطر، فإنه لا يوجد من يستطيع أن ينكر أن مثل هذه الواقعة قد تحصل، والاعتراض موضوعه أنها إذا حصلت فقد أصبح الذي أدى الأمانة لصاحبها، في حكم من لم يردها، مقيدًا بالأغلال ملزمًا بالرد، وهذا محال عليه لأنه قد ردها فعلاً، وملزمًا بالتعويض، ولا تعويض عليه لأنه غير مدين في الواقع، ومعرضًا للعقوبة باعتباره مبددًا وهو بريء، ثم هو في هذا الموقف المظلم ممنوع حتى عن الدفاع عن نفسه، بإثبات براءة ذمته ليتقي توقيع عقاب لا يستحقه !!!، والواقع أن كل جنايته إنما انحصرت واقعيًا في أنه قصر في حق نفسه، أو صدق عميلاً وصديقًا لم يكن خصمًا في وقت أن صدقه، لا في أنه بدد أمانة أعطيت له فعلاً، لأنك إنما تضع هذا الفعل من باب الاستنتاج النظري بناءً على قواعد الإثبات التي تتوهمها.
أن القانون لا يحمي في أي حكم من أحكامه ولا في أية قاعدة من قواعده بما في ذلك قواعد الإثبات غير المعاملات البريئة.
أما من أجرم فإنه خارج على القانون عابث به، فلا يحميه، ولهذا تقرر أن جميع أعمال العدوان وجميع التهم، تثبت بشهادة الشهود، بل جميع أعمال الغش والاحتيال حتى في دائرة النزاع المدني تثبت بالشهود أيضًا !! وبقرائن الأحوال، فتبطل العقود بالشهود، وتثبت براءة الذمة بالشهود، ولولا هذه القاعدة الأصلية لما كان ذلك الإجماع الذي نقلناه على اعتبار الواقعة نصبًا.
والقول الصريح إن هذا الجدل بذاته، بما فيه من الإعراض عن الواقع، والعصيان عن تحري الحقيقة وترتيب المسؤوليات الحقة عليها، إنما هو مساعدة للنصاب في أن يتم عمله، وفي أن ينجو من المسؤولية، بناءً على وهم يراد إسناده إلى القانون وهو في موضوعه تأثيم بريء، بتهمة أنه بدد الأمانة نظريًا، لا واقعيًا.
وأنها لمسؤولية كبرى أن يريد المسيطرون على العدالة أن يصموا الآذان عن معرفة الواقع !!! وأن، فإنك إذا قضيت على من صدق فسلم الوديعة على وعد أن يستلم السند غدًا، فإنما تقضي عليه لأنك ترى محالاً أن يحصل مثل هذا التصديق، فأنت حينئذٍ تقول إن القانون وضع لحماية الكذابين والمكذبين، لا لحماية الرجل الطيب المصدق، وإذا كان ذلك ما تريده القوانين بين الناس فاللهم رفقًا بهذه النجمة السوداء ومن عليها، وأنه لعبث أن يقال إن القوانين وضعت لحماية الصالحين !!
[/align]