بــسـم الله الرحمــن الرحيــم
جــواهـر آل سعــود

الســؤال : مــا هو رأي جمهــور الفقهاء في التوبة كـسبب لإسقاط العقــوبة ؟

الجواب :

الحدود هي حقوق الله عز وجل و إن كانت في مداها و غايتها للمحافظة على حق المجتمع . و من المقررات الشرعية أن حقوق الله تعالى قابلة للغفران و أن الله غفور رحيم يعفو عن
السيئات لمن تاب و آمن و عمل صالحاً و لا شك أن التوبة تجْبْ ما قبلها بالنسبة لحقوق الله عز وجل . و إن الله يغفر ما يكون في حال الكفر اذا انتهى الكافرون الى الايمان كما
قال تعالى : " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " .
فهل تنطبق هذه المبادئ على الحدود , بحيث اذا تاب الشخص غفر الله له ؟
إن من الثابت و المسلم به في الشريعة الاسلامية انه اذا تاب الشخص بعد اقامة الحد عليه يغفر الله له و قد ورد عن النبي عليه الصلاة و السلام :
" إن السارق اذا سرق و تاب سبقته يده إلى الجنة و إن لم يتب سبقته يده إلى النار " أو كما قال رسول الله عليه الصلاة و السلام .
فـ هل التوبة قبل إقامة الحد تسقط العقوبة أم لا تسقطها ؟
1. حد القذف : لـقد اتفق الفقهاء أن التوبة في حد القذف لا تسقطه لأنه يتعلق بحق العبد من حيث صونه لكرامته و يتعلق بحق الله و حق المجتمع من حيث إشاعته للفاحشة في الذين
آمنوا . و ما يتعلق بكرامة العبد لا تسقطه التوبة عن الْمرتكب لأن التوبة في حقوق العباد بشرط إسقاطهم لحقوقهم . إذن لا تسقط التوبة حد القذف كأصل إلا اذا تاب القاذف و عفا
عنه المقذوف فإن الله يغفر للعبد الذي تاب عنه توبة نصوحا.
2. حد الحرابة : و اتفق الفقهاء أن المحاربين يسقط عنهم حد الحرابة إذا تابوا لوجود النص من القرآن الكريم :
" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " .
* لذا نجد أن موضع الخلاف بين الفقهاء في التوبة هو في حدود السرقة , الزنى و الشرب قبل التنفيذ هل تمنع من اقامة الحد أم لا ؟
أ. الحنفية و المالكية : لا تسقط الحد .
ب. الحنابلة , الشافعية و الظاهرية : إنها تسقط الحد و قد قرب الشافعي الموضوع في كتابه فبين اوجه القضية و الأنظار و تنازعها في كتابه الأم فقال رضي الله عنه :
" الحد حدان , حد الله تعالى لما أراد من تنكيل من غشية و ما أراد تطهيره به أو غير ذلك مما علم به و ليس للآدميين , و حد أوجبه الله تبارك و تعالى على ما أتاه الآدميين أي لأجل
الآدميين فذلك إليهم " .
فأصل حد الله عز وجل هي ما حاء في آية حد الحرابة فأخبر الله عز وجل اسمه بما عليهم من الحد و لم يذكر فيهما ما استثنى , فاحتمل الا يكون استثناء الا في المحارب خاصة , و احتمل
أن يكون في كل حد لله عز وجل فتاب صاحبه قبل ان يقدر عليه سقط عنه . كما احتمل حينما قال النبي عليه الصلاة و السلام في حد الزنى " الا تركتموه " . أن يكون كذلك عند أهل
العلم , السارق اذا اعترف و الشارب اذا اعترف ثم رجع قبل ان يقام عنه الحد يسقط عنه . فقيل أن كل حق من حقوق الله تاب صاحبه يسقط عليه حق الله و يؤخذ بحقوق الآدميين و
احتج بالمرتد عن الاسلام ثم يرجع الى الاسلام فيسقط عنه حد القتل للرده .
و نرى من وجهة نظر الشافعي أنه احتفل بإثبات وجهة نظر الذين يرون أن التوبة تسقط حدود الزنى , الشرب و السرقة , فذكر أنهم يقيسون كل حدود حق الله تعالى على الحرابة الثابت
فيها أن التوبة قبل القدرة تسقط الحد فلا يقام .
و مهما رأى الشافعي في هذا الأمر _ هذه المسألة _ فإنه ثبت مما ساقه و مما جاء به في كتب الفروع المذهبية أن الفقه الاسلامي بالنسبة لأثر التوبة في إسقاط الحدود فيه رأيان متعارضان
الأول : أن التوبة تسقط حدود الزنى , الشرب و السرقة . الثاني : أن التوبة لا تسقطهم .
أدلة المحتجين بسقوط تلك الحدود :
أ. من القرآن الكريم : " و اللذان يأتيانها منكم فآذوها فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما " .
" و الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " .
ب. من السنة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " . فهذا دليل على أن التوبة تجْبْ ما قبلها .
ج. أن التوبة السريعة تدل على أن النفس لم تدنس بالرجس و قد قال الله تعالى : " إنما التوبة على لله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " .
د. إن أشد جرائم الحدود هي الحرابة لأنها أكثر فتكاً و أشد ضررًا و خطراً على المجتمع فهي تحوي الجرائم , فإذا كانت التوبة تسقط الحد و تجبْ أشد الجرائم فكان من الأولى تجب بالنسبة
لما دونها .

أما بالنسبة إلى حجج الذين قرروا أن التوبة لا تسقط الحدود الثلاث ( سرقة , زنى و شرب ) :
أ. أن الأمر في القطع عام يشمل من تاب و من لم يتب , ولم يجيء استثناء فإسقاط التوبة عن التائب إهمال للنص , إذ هو تخصيص له من غير دليل من النص على التخصيص . و التوبة
المذكورة في آية السرقة إنما هي في توبته بعد اقامة الحد . و إن لم يتب سبقته يده الى النار و إن تاب سبقته الى الجنة , و كذلك الحال بالنسبة للزانين .
ب. أن النبي عليه الصلاة و السلام أقام الحد على الذين جاؤوا لتطهير أنفسهم بإقامة الحد عليهم . و قد قال الرسول عليه الصلاة و السلام في إمرأة قام عليها الحد :
" لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينةى لوسعتهم " . و كذلك أحد الأشخاص جاء إلى النبي ليعترف بسرقة الجمل و أقام عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الحد مع أنه
جاء لتطهير نفسه معلناً توبته .
ج. الحد كفارة للذنب في الدنيا و الكفارات تجبْ مع التوبة , فإن ظاهر من إمرأته ثم تاب و أراد العودة إليها فإنه لا يعود إلا إذا أتى بالكفارة مع أن ظاهر حاله أنه تاب توبة نصوحاً عما
ارتكب .
د. أن قياس الزنى و السرقة و الشرب على الحرابة قياس مع الفارق لأن الجريمة في الحرابة مجاهرة بالعصيان و انتقاض على الدولة فإن تابوا قبل القدرة عليهم ذهبت المغالبة و انقطع السير في
الجريمة فهي جريمة مستمرة تنتهي بانقطاعها مع بقاء آثارها و لم يعفو التوبة عن آثارها , فالعقاب يكون على الاستمرار فيها .
أما العقوبة في الزنى , الشرب و السرقة فهي على أمر وقع و تم أي لا استمرار فيه و بتمامه استحق العقاب و من جهة أخرى فالتوبة بالحرابة لها دليل مادي و هي إغماد السيوف و التسليم
و الخضوع التام للسلطان , فصح أن يبنى على هذا الدليل المادي سقوط العقاب من غير ذهاب الآثار للأفراد . فيقتص منهم إن وجب القصاص و تؤخذ الأموال التي استلبوها أما التوبة في
غيرها فإنا أمر معنوي لا مادي ولا يوجد دليل مادي عليه . فلو قام عليها دليل مادي تقبل . و بذلك قرر الفقهاء توبة السارق قبل القدرة عليه و رده المال الذي سرقه مسقط للعقوبة .
* و قال أبو حنيفة و بعض من الفقهاء : أنهم قصروا التوبة على اسقاط العقوبة على هذه الصورة فقط .
و هذا دليل على اتفاق الفقهاء على ان السارق اذا تاب قبل القدرة عليه ورد المال الى صاحبه تسقط عنه العقوبة اي الحد , و لا عبرة بتوبته بعد اقامة الحد لانه يرد المال اجبارا وليس اختيارا
كما لو كان قبل القدرة عليه . و ذلك لأن الشرط في إقامة الحد هو الخصومة . و رد المال قبلها لا مكان لاقامة الحد فيها لانه لا مجال للخصومة التي انقضت .

* ثار خلاف بين الذين قرروا اعتبار ان التوبة مسقطة للحد , أ تكون قبل رفع الأمر الى القاضي أم تكون مسقطة للحد و لو بعد رفع الأمر للقاضي بطريق شهادة الحسبة في الزنى و الشرب
و بالخصومة في السرقة ؟
لم يذكر هذا الأمر في كتب الخلاف , لذا فإن التوبة تكون مسقطة للعقوبة في الحالتين سواء قبل رفع الأمر إلى القضاء أم بعد رفعه بل و لو كانت بعد الحكم و دليلهم على ذلك ما ساقه الشافعي
وغيره عن النبي عليه الصلاة و السلام عندما أخبروه بأن ماعزاً هم أن يفر فقال " ألا تركتموه " . و الرسول اعتبر ذلك رجوعا في الاقرار لأن التقدم بالاقرار ذاته بعد توبة خالصة و طلب للطهارة
كاملة .
إلا أن المارودي جاء في الأحكام السلطانية و قال بأن التوبة يجب ان تكون قبل رفع الأمر ووصوله الى القضاء و هذا معنى القدرة عليه و استدل بذلك بقوله تعالى :
" ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " .

إذاً اتفق الفقهاء :
1. أن التوبة في الحرابة مسقطة للحد .
2. و أن التوبة في السرقة قبل إقامة الجد مسقطة للعقوبة لأن شرط اقامتها هي الدعوى و التي بدورها انقضت لعدم وجود موضوعها و هو الخصومة لان المطالبة بالمال انقضى برده الى صاحبه .
لكن الاختلاف كان في حدود الزنى و الشرب :
1 . الحنفية : التوبة لا تسقط الحد قبل القدرة أو بعد القدرة و استدلوا بذلك على حديث الرسول عليه اتم الصلوات و التسليم في اقامته للحد على الزانية الذي اراد ان يتطهر من الزنى باعترافه
بها . " قد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينةى لوسعتهم"
2. الشافعية : التوبة في الحدود كلها تقبل على النحو المبين , اما بعدها فلا تقبل و هو قريب مما أثر على لاسلف الصالح من قول بعضهم : اذا بلغت الحدود السلطان فلعن الشافع و
المشفع .
3: الحنابلة : التوبة في الحدود قبل اقامتها تقبل اما بعدها فرويت روايتنا عن الامام احمد بن احنبل احداهما تقول بصحة التوبة و اسقاطها للعقوبة بعد اقامة الحد و الأخرى فـ لا .

أركان سقوط الحد بالتوبة :
1. الندم على ما وقع .
2. العزم المؤكد على ألا يقع .
3 . ألا يعود الفعل .

و عليه فإن الدليل المادي على الندم في السرقة وهو اعادة المال المسروق الى صاحبه . اما الدليل المعنوي فلا يعلمه الا الله . اما غيرها من الافعال فلا يوجد عليها دليل مادي ظاهر يدل
على الندم و عدم العود الى الفعل .
لذلك اكتفى البعض على الدليل الظاهري و ذلك مثل استمرار الصلاة و لزوم الجماعة .
اما التوبة القضائية فتكون بعد مضي 6 اشهر على ارتكاب صاحبها الكبيرة التي ارتكبها , فهل مضي الزمان يعد من اسباب التصديق الظاهر على التوبة ؟
فقد قرر انا التوبة يكفي فيها اظهار الندم و العزم على عدم ارتكابه و انتهى الى النتيجة التالية :
1. الفقهاء متفقون على ان السارق الذي رد المسروق قبل وصول الامر الى القضاء و تاب فالدعوى لا ترفع لعدم وجود المطالبة و زوال سببها .
2.الفقهاء متفقون على ان التوبة اذا قامت دلائلها بمضي المدة على ارتكاب الجريمة تسقط الحد , و رأى ابو حنيفة ان مضي المدة كافية لاسقاط الحد سواء قبل الترافع ام بعده و لم ينظر الى
التوبة . اما المذاهب الاخرى فرأت ان اسقاط العقوبة مقتصر على قبل الترافع دون بعدها .
3. حد الشرب: اشترط الحنفية ان يساق الى القضاء ورائحة الخمر تنبعث منه و هذا لان الحد مثبوت في السنة و هو ثابت في موضع النص و موضع النص , كان في رجل رؤي سكران و رائحة
الخمر تنبعث منه فإذا استفاق و ذهبت الرائحة فلا حد عليه .
4. موضع الخلاف في حد الزنى اذا كانت التوبة قبل الترافع و لم تمض مدة طويلة و فيما اذا كانت التوبة بعد الترافع في الزنى , الشرب و السرقة فهي ان كانت موضع اختلاف في المذهب الحنبلي
فهي ليست موضع اختلاف في المذهب الشافعي .
فإذا كان للتوبة مقام في اسقاط الحد سواء قبل وصل الأمر إلى القضاء كما قرر الفقهاء بالنسبة للسرقة و كما قرر الجمهور بالنسلة للزنى فإنه بلا شك لا تتصور التوبة ممن تعددت سرقاته أو ممن
تعدد زناه أو شربه فإنه معتاد و لا يمكن اعتبار استغفاره باللسان دليل على توبته في القلب فإن قلنا من تكرر فعله في تلك الأمور توبته باللسان معتبرة كان القاضي يغتفل نفسه و يستهين بحدود
الله عز وجل .
فالتوبة تقبل عن الجريمة الأولى لا الثانية لأن كذبها واضح و لا خداع فيها للقضاء , لان شرط التوبة الصحيحة التي تقبل الغفران هي التي لا يعود اليها مرة أخرى لندمه على ما فات و الدليل على
ان النفس التي تمرست المعصية استولت عليها , قوله تعالى :
" بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب التار هم فيها خالدون " .
إذا العقوبة تكون على المعتادين في السرقة , الزنى و الشرب و لا يأمنان منها بسبب العود .

,

المرجع : الإمام محمد أبو زهرة , الجريمة و العقوبة في الفقه الإسلامية, جزء ال عقوبة , دار الفكر
العربي , القاهرة , 2006 م , ص 224 - 234 .