هوامش حرة
رمــوز كاذبــــة
يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة
كانت مصر دائما تصنع رموزها عليعينها قيمة ودورا ومهابة‏..‏ وكانت دائما قادرة علي أن تفرق بين الغث والثمين‏,‏وبين النخيل والحشائش‏,‏ وبين الحقائق والأكاذيب‏..‏وكان المصريون لديهم قدرة عجيبةعلي فرز معادن البشر بحكم التجربة والوعي واليقين‏..‏ قد يكون البعض نجح أحيانـا فيتجميل القبح وتحليل الباطل وخداع البصر وليس البصيرة ولكن مصر كانت دائما قادرة عليفرز معادن البشر‏..‏

من يستعرض مسيرة الحياة علي ضفاف نيلنا الخالد يريالصورة واضحة في كل ملامحها‏..‏

في الثقافة كانت رموز مصر تتجسد في إبداعحقيقي ومواهب فذة في كل المجالات‏..‏ في الشعر كانت أمارته لمصر علي يد أميرها أحمدشوقي دون منازع وخلف شوقي كانت هناك كتيبة من القامات الشعرية التي لم يختلف عليهاأحد من حيث التنوع والتميز والأصالة‏..‏

في الغناء حدث ولا حرج‏,‏ فأنت أمامأم كلثوم والسنباطي وعبد الوهاب وعشرات الأصوات الجميلة‏..‏

وفي المسرح وهوفن مصري خالص أنت أمام طليمات ويوسف وهبي وكتيبة من المبدعين العظام الذين جعلوا منالمسرح فنا عربيا نصا وإخراجا وأداء‏..‏

وفي الفن التشكيلي أنت أمام تاريخطويل من العمارة التي كانت ومازالت حديث العالم باختلاف عصورها وتنوعجمالياتها‏..‏

وفي رأس المال مازالت صورة طلعت حرب تجسد الرأسمالية المصريةفي أعظم أدوارها‏..‏

وفي السياسة أنت أمام تاريخ حافل من الرموز الحقيقيةالتي أدت دورها وحملت رسالتها بانتماء حقيقي وصدق شديد مع قضايا الوطنوهمومه‏..‏

إن الشيء الغريب في مصر الآن هو هذه الظاهرة العجيبة في خلق رموزمزيفة‏..‏ أشياء غريبة تحدث في مصر الآن‏..‏ في الفن تجد عشرات بل مئات الأسماءالتي صنعتها الأضواء الكاذبة وتراها تتساقط خلف بعضها كأنها ثمار فاسدة‏..‏ والغريبأنك تحاول أن تبحث عن الأيدي التي تحمل هذه النماذج الممسوخة ولا تري شيئـا‏..‏وتشعر بأنك أمام مؤامرة ضخمة لتقديم أشياء مشوهة كان هدفها تشوية أذواق هذا الشعبوإفساد ذاكرته الفنية والفكرية وهدم ما بقي له من تراث الأصالةوالتميز‏..‏

تستطيع ببساطة أن تضع أمامك قائمة طويلة بأسماء كاذبة ومواهبغير حقيقية تسيدت الساحة في الغناء والسينما والمسرح وتحاول أن تقيم هذه المواهبولا تجد بين يديك غير الرماد‏..‏ حاول أن تسترجع أغنية اشتهرت كثيرا منذ عشر سنواتمضت بل حاول أن تستعيد أغنية مضت عليها شهور قليلة‏..‏ لاشيء يبقي في ذاكرةالناس‏..‏ وإذا ذهبت إلي السينما فسوف تجد عشرات الأفلام ولكن ما القيم التيأضافتها؟‏..‏وما القضايا التي خلفتها ؟‏..‏لا شيء علي الإطلاق‏..‏ وفي بلاط صاحبةالجلالة كانت أسماء الكتاب المصريين مثل قطع الماس تتناثر في عقول القراء فتضيء لهمكل شيء‏..‏ والآن أصبح‏'‏ الردح‏'‏ أسلوبا في الكتابة وأصبحت السطحية والضحالة وسامالرموز الكاذبة واختلطت الأعشاب بالأشجار‏..‏ بالحشائش وتحت كل شجرة عتيقة تجد بعضالطحالب التي صنعتها أيد خفية أو معلومة الله أعلم‏..‏

والأخطر من ذلك تلكالأسماء التي تنطلق في السماء مثل اللعب الفسفورية وتحاول أن تجد فيها بريقـا أصيلايذكرك بعهود ذهبية للإبداع المصري‏..‏ ولا تجد غير ثمار ضحلة لا طعم لها ولا لونولا رائحة‏..‏

والأغرب من ذلك كله ما يحدث في دنيا السياسة تجد أسماء غريبةتنطلق أمامك بلا مقدمات وتحاول أن تبحث عن جذورها وأصولها ومحتواها ولا تجدشيئـا‏..‏ هناك أسماء صنعتها أجهزة الدولة أيا كانت هذه الأجهزة وتجد آله الإعلامالجهنمية قادرة بأساليب الإلحاح اليومي علي أن تشكل هذه الرموز لتصبح حديث الناس فيالصحف وعلي الشاشات وفي المؤتمرات وعلي النت وتراها في قاعات مجلس الشعب‏..‏ وعليصفحات الجرائد‏..‏ وربما السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة‏..‏ وتحاول أن تفهم حدودهذه اللعبة ولا تجد من يعينك علي هذا الفهم‏..‏

إن صناعة الرموز المزيفة لمتعد تجارة محلية بل إن هناك مؤسسات دولية تشارك في هذه العملية‏..‏ في السنواتالأخيرة ظهرت في السماء أجسام غريبة تشبه النجوم وفرضت نفسها علي الساحة بالإعلاموالضجيج والتضليل والتهويش وتحاول أن تدرس الظاهرة‏..‏ هل هذه النجوم خرجت من طينهذه الأرض أم أنها لعبة مزيفة صنعتها أجهزة وفرضتها سلطة علي حياة الناسوواقعهم‏..‏ وهنا تتشابك الصور والأحداث بين السياسة والبيزنس والفكر والثقافةوالدعاية‏,‏ أنها لعبة الأضواء التي تخفي الوجه الحقيقي أمام إبهار يتجاوز كل حدودالمقاومة‏..‏ إنها لعبة الرموز الكاذبة التي تحدث في مصر الآن بصورة غاية فيالبراعة والدقة والتحايل‏..‏

ويتساءل الناس‏:‏ هل ما نري من الرموز يمثلرمزا حقيقيا أم أنها صناعة حكومية جاءت لتؤدي دورا أو تكمل مشهدا لم يكتمل بعد فيمسرحية هزلية يخدعون بها السذج والبسطاء من الناس‏..‏

في هذا الوقت وبنفسالصورة تجد رموزا حقيقية تختفي تماما من الساحة أمام محاولات التهميش والإهمال لنجدأنفسنا أمام طابور طويل من الرموز المصنوعة‏..‏ تختفي نجوم حقيقية وتحل مكانهااللعب الفسفورية المزيفة في الفن والكتابة والصحافة والسياسة ورأسالمال‏..‏

إن معظم الرموز التي تحيط بنا الآن رموز مصنوعة وتسأل‏:‏ أينالرموز الحقيقية؟‏!‏ ولا تجد إجابة للسؤال‏..‏ أين رموز مثل أحمد زويل والبرادعيوطلبة والقصاص وفاروق الباز ومجدي يعقوب؟‏..‏ أين القضاة العظام والكتاب الأجلاءورجال الأعمال النبلاء ؟‏..‏ أين أساتذة الجامعات الكبار الذين ماتوا حزنـا وكمدامن الإهمال ؟ وتجد حولك مئات الأسماء من الرموز الحقيقية التي تهمشت وغابتوانسحبت‏..‏

وتدور العجلة الجهنمية الكاذبة لتصنع صخبا وضجيجا حولنا فنشعربالدوار ولا نجد أمامنا غير صور غريبة لرموز مسخوطة اقتحمت حياتنا في كل شيءوصدقناها رغم كل مظاهر التناقض في كل فصولها‏..‏ ولا أدري علي من تقع هذهالمسئولية‏..‏ هل هي السلطة التي تصنع كل رمز كاذب ؟‏.‏ هل هي سذاجة الشعوب التيصدقت؟‏..‏ أم خيانة الصفوة التي عرفت كل شيء ولم تكشف الحقيقة أمام من لايعرفون‏..‏

إن أسوأ ما في ظاهرة الرموز الكاذبة أننا أحيانـا لا نعرف نقطةالبداية حتي نتتبع الخيوط التي تصل بنا إلي حقيقتها ولكننا أمام كيانات عشوائيةومخلوقات هلامية وأعشاب بلا أرض ولا جذور ولا ملامح‏..‏ هناك صفحات كثيرة غامضة فيمشوار هذه الرموز وهذا يتعارض تماما مع طبيعة وتكوين كل رمز حقيقي‏..‏ إن الرموزالكاذبة مثل أطفال الأنابيب لا نعرف عنهم شيئـا‏..‏ في السياسة نحن نعرف مشوارمانديلا وغاندي وسعد زغلول ومصطفي كامل ومحمد فريد والنحاس باشا‏..‏

وفيالفن والفكر والثقافة والإبداع‏..‏ كل رمز له جذور معروفة ولكن أمامنا الآن رموزكاذبة لا نعرف أين نشأت وكيف خرجت من أحضان السلطة‏..‏ والسؤال الآن‏:‏ هل أصبح عليكل مصري يحلم أن يكون رمزا حقيقيا في مجال من مجالات الحياة أن يبحث عن سلطة ينشأفي أوكارها أو سفارة تحميه أو جهة تنفق عليه أو لعبة يكمل فصولها كالبهلوان أمامالناس ؟‏!..‏ وكيف تستعيد مصر رموزها الحقيقية بعيدا عن هذا الواقع الملوث الكريه؟‏!..‏

في كثير من الأحيان أشاهد بعض الوجوه وأتتبع تاريخها فلا أجد صفحةواحدة نقية‏..‏ ويكون السؤال‏:‏ من أي ارض خرجت هذه الحشائش ووقفت تناطح أشجارالنخيل؟‏!..‏ قد تتلوث المياه في الأنهار‏..‏ وقد يتلوث الهواء وهو يتسلل في صدورالناس وقد تفسد سلوكيات البشر‏..‏ ولكن الجريمة الأبشع أن تجد الشعوب أمامها رموزامزيفة وتصدقها وربما سقطت ضحية التحايل والتضليل والخداع‏..‏ وهذه المأساة هي مانراه الآن علي امتداد الساحة في المال والفن والصحافة والكتابة والسياسة‏..‏ رموزكاذبة صنعتها أيد خفية وتركتها تملأ السماء صراخـا وضجيجا وصخبا‏..‏ وللأسف الشديدالناس تصدق ما تري‏..‏