نص الحكم
------------------
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة 2 فبراير سنة 1992 .
برئاسة السيد المستشار الدكتور /عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين : : الدكتور محمد ابراهيم أبو العينين وفاروق عبدالرحيم غنيم وعبدالرحمن نصير وسامى فرج يوسف ومحمد على عبدالواحد وماهر البحيرى
وحضور السيد المستشار / السيد عبدالحميد عمارة المفوض
وحضور السيد / رأفت محمد عبدالواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 13 لسنة 12 قضائية " دستورية " .
الإجراءات
بتاريخ 19 مارس سنة 1990 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً الحكم بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 فيما تضمنته من إقامة قرينة قانونية افترضت بها العلم بالتهريب فى حق الحائز للبضائع والسلع الأجنبية بقصد الاتجار إذ لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضرائب الجمركية المقررة عليها .
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة ، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها .
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق ، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن النيابة العامة كانت قد اتهمت المدعى فى القضية رقم 142 لسنة 1986 جنح قسم قنا بأنه فى يوم 3 يناير سنة 1983 بدائرة قسم قنا " حاز بقصد الاتجار بضائع أجنبية مهربة من الرسوم الجمركية مع العلم بذلك " . وطلبت عقابه بالمواد 121 و 122 و 124 و 124 مكرراً من قانون الجمارك الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 75 لسنة 1980 ، وبتاريخ 8 فبراير سنة 1988 قضت محكمة جنح قسم قنا حضورياً بحبس المدعى سنتين مع الشغل وكفالة عشرين جنيهاً لإيقاف التنفيذ ، وغرامة ألف جنيه والمصادرة والمصاريف الجنائية ، وإلزامه بأن يؤدى للمدعية بالحق المدنى بصفتها ( وزارة المالية ) تعويضاً قدره 390 مليماً و222 جنيه ، فطعن المدعى فى هذا الحكم بطريق الاستئناف ، وقيد استئنافه برقم 1188 لسنة 1988 جنح مستأنفة قنا ، وبجلسة 21 ديسمبر سنة 1989 دفع الحاضر عن المدعى بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 ، فقررت المحكمة التأجيل لجلسة 19 أبريل سنة 1990 كطلب الحاضر مع المتهم لإقامة الدعوى الدستورية ، فأقام الدعوى الماثلة .
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 والمعدل بالقرار بقانون رقم 187 لسنة 1986 تنص على أن " يعتبر فى حكم التهريب حيازة البضائع الأجنبية بقصد الاتجار مع العلم بأنها مهربة ، ويفترض العلم إذا لم يقدم من وجدت فى حيازته هذه البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت عنها الضرائب الجمركية .... " .
وحيث إن المدعى ينعى على النص المطعون عليه أنه إذ أقام قرينة قانونية افترض بمقتضاها علم الحائز للبضائع الأجنبية بقصد الاتجار فيها بتهريبها ، إذ لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضرائب الجمركية عليها فإنه يكون قد خالف قرينة البراءة التى تضمنتها المادة 67 من الدستور التى تنص على أن " المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه " .
وحيث إن الدستور هو القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ويقرر الحريات والحقوق العامة ، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها ، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها ، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أى منها فى أعمال السلطة الأخرى أو مزاحمتها فى ممارسة اختصاصاتها التى ناطها الدستور بها .
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقاً لأحكامه فنص فى المادة 86 منه على ان " يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع ، ويقر السياسة العامة للدولة ، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، والموازنة العامة للدولة ، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ، وذلك كله على الوجه المبين فى الدستور " . كما اختص السلطة القضائية بالفصل فى المنازعات والخصومات على النحو المبين فى الدستور فنص فى المادة 165 منه على ان " السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون " .
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين لا يخولها التدخل فى أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها ، وإلا كان هذا افتئاتاً على عملها وإخلالها بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية .
وحيث إن الدستور كفل فى مادته السابعة والستين الحق فى المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه ، وهو حق نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى مادتيه العاشرة والحادية عشرة التى تقرر أولاهما أن لكل شخص حقاً مكتملاً ومتكافئاً مع غيره فى محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة ، تتولى الفصل فى حقوقه والتزاماته المدنية ، أو فى التهمة الجنائية الموجهة إليه ، وتردد ثانيتهما فى فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية فى أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه .وهذه الفقرة السابقة هى التى تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها ، وهى تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها فى الدول الديمقراطية ، وتقع فى إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوماً للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها فى الدول المتحضرة ، وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها وكيفية تطبيقها من الناحية العملية ، كما أنها تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائى وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور فى المادة 41 منه بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه ، ولا يجوز بالتالى تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً ، إذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية ، وهى التى تكفل تمتعه بها فى إطار من الفرص المتكافئة ، ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائى وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية ، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوماً فى الدعوى الجنائية وذلك أياً كانت طبيعة الجريمة وبغض النظر عن درجة خطورتها ، وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديداً لحقه فى الحياة ، وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد فى الحرية من ناحية ، وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى ، ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائى معرفاً بالتهمة مبيناً طبيعتها مفصلاً أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها ، وبمراعاة أن يكون الفصل فى هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون ،وأن تجرى المحاكمة فى علانية وخلال مدة معقولة ، وان تستند المحكمة فى قرارها بالإدانة – إذا خلصت إليها – إلى موضوعية التحقيق الذى تجريه ، وإلى عرض متجرد للحقائق ، وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة ، وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها ، ومن ثم كفلها الدستور فى المادة 67 منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها وتندرجان تحت مفهومها ، وهما افتراض البراءة من ناحية ، وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائى من ناحية أخرى ، وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على ان حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول .
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها فى صلبه الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية ، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة سالفة الذكر عند فصلها فى الاتهام الجنائى وهيمنتها على إجراءاتها تحقيقاً لمفاهيم العدالة حتى فى أكثر الجرائم خطورة لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التى كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه ، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع العقوبة المقررة لها ، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها ، فقد كان من المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها ، ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها ، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها ، وألا تفرض عليها أى جهة أخرى مفهوماً محدداً لدليل بعينه ، وان يكون مرد الأمر دائماً إلى ما استخلصته هى من وقائع الدعوى وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها .
وحيث إنه على ضوء ما تقدم ، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة فى مجموعة من القواعد المبدئية التى تعكس مضامينها نظاماً متكامل الملامح يتوخى بالأسس التى يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافه ، وذلك انطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية ، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها فى مجال فرض العقوبة صوناً للنظام الاجتماعى بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفاً مقصوداً لذاته ، أو ان تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها . وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية فى الأصل – إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية ، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة ، وتوجبها حقائق الأشياء ، وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها فى المادة 67 منه مؤكداً بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على ما سلف بيانه ، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان .
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبهاً فيه أو متهماً باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين ، وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة الإجرامية ، ذلك أن الاتهام الجنائى فى ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دوماً ولا يزايله سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو اثنائها وعلى امتداد حلقاتها وأياً كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها ، ولا سبيل بالتالى لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة ، وبشرط ان تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائى استنفد طرق الطعن فيه .
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية ، ولا هو من صورها ، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلى ممثلاً فى الواقعة مصدر الحق المدعى به ، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها . وهذه الواقعة البديلة هى التى يعتبر إثباتها إثباتاً للواقعة الأولى بحكم القانون ، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور ، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلاً عنها ، وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الإنسان عليها ، فقد ولد حراً مبرءاً من الخطيئة أو المعصية ، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لازال كامناً فيه ، مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال ، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء حازم لا رجعة فيه هذا الافتراض على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها إليه فى كل ركن من أركانها ، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها بما فى ذلك القصد الجنائى بنوعيه إذا كان متطلباً فيها . وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة إذ هو من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور ، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر فى ذاتها مستعصية على الجدل ، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها ، تقتضيها الشرعية الإجرائية ، ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية ، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن فى مواجهة التحكم والتسلط والتحامل ، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية تحكمية ينشؤها .