نص الحكم
------------------
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة 16 مايو سنة 1992 م .
برئاسة السيد المستشار الدكتور /عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين : محمد ولى الدين جلال وفاروق عبدالرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف ومحمد على عبدالواحد والدكتور عبدالمجيد فياض
وحضور السيد المستشار / السيد عبدالحميد عمارة المفوض
وحضور السيد / رأفت محمد عبدالواحد أمين السر

أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 6 لسنة 13 قضائية " دستورية " .

الإجراءات
بتاريخ 12 يناير سنة 1991 أودع المدعيان صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبين الحكم بعدم دستورية المادة 15 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة ، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها .
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .

المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق ، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى الثانى كان قد أقام الدعوى رقم 12074 لسنة 1989 مدنى كلى أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية ضد المدعى عليهما الثالثة والرابع ، وفيها حضر المدعى الأول مدافعاً عن المدعى الثانى ، وإذ نعى المدعى عليهما على إجراءات الدعوى بطلانها استناداً إلى أن المدعى الأول كان وزيراً سابقاً للعدل ويشغل حالياً منصب أستاذ القانون العام بجامعة الإسكندرية ، ولا يجوز بالتالى أن يمارس المحاماة أمام المحاكم الابتدائية عملاً بنص المادة 15 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983 ، فقد دفع الطاعن بعدم دستورية تلك المادة ، وصرحت له المحكمة برفع الدعوى الدستورية ، فأقام الدعوى الماثلة .

وحيث إن الفقرة الأولى من المادة 15 من قانون المحاماة المشار إليه تنص على انه : " لا يجوز لمن ولى الوزارة أو شغل منصب مستشار بإحدى الهيئات القضائية وأساتذة القانون بالجامعات المصرية ، أن يمارس المحاماة إلا أمام محكمة النقض وما يعادلها ومحاكم الاستئناف وما يعادلها ومحاكم الجنايات ومحكمة القضاء الإدارى " كما تنص فقرتها الثانية على ألا يسرى هذا الحظر على المحامين المقيدين لدى غير هذه المحاكم وقت صدور هذا القانون . وتنص فقرتها الثالثة على ان يقع باطلاً كل عمل يتم بالمخالفة لأحكام هذه المادة .

وحيث إن المدعين ينعيان على هذه المادة مخالفتها لنص المادتين 40 ، 69 من الدستور ، التى تكفل أولاهما مبدأ المساواة أمام القانون، وتقرر الثانية أن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول ، وذلك قولاً منهما بأن النص المطعون فيه حرم من المرافعة لدى المحاكم الجزئية والابتدائية : الوزراء ومستشارى الهيئات القضائية السابقين وأساتذة القانون بالجامعات المصرية ، وكفل فى الوقت ذاته لمن عداهم من المحامين ممارسة المحاماة لدى المحاكم جميعها وبالنسبة إلى درجات التقاضى على اختلافها ، مقيماً بذلك تمييزاً تحكمياً بين هؤلاء وأولئك رغم تماثل مراكزهم القانونية وخضوعهم جميعاً لذات الواجبات التى فرضها عليهم قانون المحاماة ، وبالتالى أخل هذا التمييز بنص المادة 40 من الدستور وكذلك بما كفلته المادة 69 لكل متقاض من الحق فى اختيار محاميه الذى يثق فى قدراته القانونية ومستواه الخلقى . هذا بالإضافة إلى أن النص المطعون فيه يعكس انحرافاً فى استعمال السلطة التشريعية فى ابلغ صوره وأكثرها مجافاة للمصلحة العامة وخروجاً عليها ، ذلك أن ما قصد إليه النص المطعون فيه من استبعاد فئة بذاتها من المحامين من المرافعة لدى المحاكم الجزئية والابتدائية ، لا يعدو مجرد الرغبة فى التضييق عليهم فى الرزق إضراراً بهم ومحاباة للآخرين ، وهو ما تؤكده غرابة القيود التى أتى بها النص الطعين ، إذ لا تعرفها تشريعات النقابات المهنية الأخرى .

وحيث إن ما ينعاه المدعيان من مخالفة النص المطعون فيه للمادة 69 من الدستور فى محله ، ذلك أن الدستور نظم حق الدفاع محدداً بعض جوانبه مقرراً كفالته كضمانة مبدئية أولية لعدم الإخلال بالحرية الشخصية ولصون الحقوق والحريات جميعها سواء فى ذلك تلك التى نص عليها الدستور أو التى قررتها التشريعات المعمول بها ، فأورد فى شأن هذا الحق حكماً قاطعاً حين نص فى الفقرة الأولى من المادة 69 من الدستور على أن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول ، ثم خطا الدستور خطوة أبعد بإقراره الفقرة الثانية منها التى تنص على أن تكفل الدولة لغير القادرين مالياً وسائل الالتجاء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم مخولاً المشرع بموجبها تقرير الوسائل الملائمة التى يعين بها المعوزين على صون حقوقهم وحرياتهم من خلال تأمين ضمانة الدفاع عنها ، وهى بعد ضمانة لازمة كلما كان حضور المحامى فى ذاته ضرورياً كرادع لرجال السلطة العامة إذا ما عمدوا إلى مخالفة القانون مطمئنين إلى انتفاء الرقابة على أعمالهم أو غفوتها ، بما مؤداه أن ضمانة الدفاع لا تقتصر قيمتها العملية على مرحلة المحاكمة وحدها بل تمتد كذلك مظلتها وما يتصل بها من أوجه الحماية إلى المرحلة السابقة عليها التى يمكن أن تحدد نتيجتها المصير النهائى لمن قبض عليه او اعتقل وتجعل بعدئذ من محاكمته إطاراً شكلياً لا يرد عنه ضرراً ، وبوجه خاص كلما أقر بالخداع أو الإغواء بما يدينه ، أو تعرض لوسائل قسرية لحمله على الإدلاء بأقوال تناقض مصلحته ، بعد انتزاعه من محيطه وتقييد حريته على وجه أو آخر . وتوكيداً لهذا الاتجاه وفى إطاره ، خول الدستور فى المادة 71 منه كل من قبض عليه أو اعتقل حق الاتصال بغيره لإبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذى ينظمه القانون، بما يعنيه ذلك من ضمان حقه فى الحصول على المشورة القانونية التى يطلبها ممن يختاره من المحامين ، وهى مشورة لازمة توفر له سياجاً من الثقة والاطمئنان ، وتمده بالمعاونة الفعالة التى تقتضيها إزالة الشبهات العالقة به ومواجهة تبعات القيود التى فرضتها السلطة العامة على حريته الشخصية . والتى لا يجوز معها الفصل بينه وبين محاميه " بما يسئ إلى مركزه ، وذلك سواء أثناء التحقيق الابتدائى أو قبله وضمانة الدفاع هذه هى التى اعتبرها الدستور ركناً جوهرياً فى المحاكمة المنصفة التى تطلبها فى المادة 67 منه كإطار للفصل فى كل اتهام جنائى تقديراً بأن صون النظام الاجتماعى ينافيه أن تكون القواعد التى تقررها الدولة فى مجال الفصل فى هذا الاتهام مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، وانطلاقاً من ان إنكار ضمانة الدفاع أو فرض قيود تحد منها إنما يخل بالقواعد المبدئية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة ، والتى تعكس نظاماً متكامل الملامح يتوخى صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها . كما ينال الإخلال بضمانة الدفاع من أصل البراءة ، ذلك أن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه يقترن دائماً من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر كذلك – ومن ناحية أخرى – وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع وتتمثل فى حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى قدمتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة ، والحق فى دحضها بأدلة النفى التى يقدمها ، وهو ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة وقررته النصوص الصريحة للتعديل السادس للدستور الأمريكى والمادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان . متى كان ذلك ، وكانت الفقرة الأولى من الماد 67 من الدستور التى افترض بموجبها براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تتوافر له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه ، تعكس الموازنة التى أجراها بين حق الفرد فى الحرية من ناحية وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى ، وكان المتهم بجناية غالباً ما يكون مضطرباً ، مهدداً بإدانته بارتكابها وبأن تفرض عليه عقوبة متناسبة مع خطورة الجريمة إذا أساء عرض دفاعه وأعوزته الحجة القانونية ، وهو ما يقع فى الأرجح إذا حرم من حقه فى الاتصال بمحاميه فى حرية وفى غير حضور أحد، أو افتقد المعاونة الفعالة التى يقدمها ، فقد حتم الدستور بنص الفقرة الثانية من المادة 67 أن يكون لكل متهم بجناية محام يدير دفاعه ويوجهه بما يصون حقوقه ويكفل من خلال الأدلة الواقعية والنصوص القانونية الحماية الواجبة لها سواء كان هذا المحامى منتدباً أو موكلاً . والحق أن دور ضمانة الدفاع فى تأمين حقوق الفرد وحرياته يبدو أكثر لزوماً فى مجال الاتهام الجنائى باعتبار أن الإدانة التى قد يؤول إليها قد تفصل من الناحية الواقعية بينه وبين الجماعة التى ينتمى إليها منهية – أحياناً آماله المشروعة فى الحياة ، ويتعين بالتالى أن يكون حق النيابة العامة فى تقديم أدلة الاتهام موازناً بضمانة الدفاع التى يتكافأ بها مركز المتهم معها فى إطار النظام الاختصامى للعدالة الجنائية كى يتمكن بوساطتها من مقارعة حجمها ودحض الأدلة المقدمة منها . ولقد غدا أمرا مقضياً أنه إذا كان حق الدفاع – فى هذا المجال – يعنى فى المقام الأول حق المتهم فى سماع أقواله ، فإن حق الدفاع يغدو سراباً بغير اشتماله على الحق فى سماعه عن طريق محاميه ، ذلك أن ما قد يبدو واضحاً فى الأذهان لرجال القانون، يكون شائكاً محاطاً بغلالة كثيفة من الغموض بالنسبة إلى غيرهم أياً كان حظهم من الثقافة وبوجه خاص إزاء الطبيعة المعقدة لبعض صور الاتهام وخفاء جوانبها المتعلقة بالقواعد التى تحكم الأدلة بما يعزز الاقتناع بأنه بغير معونة المحامى الذى يقيمه الشخص باختياره وكيلاً عنه إذا كان قادراً على الوفاء بأتعابه أو معونة من تندبه المحكمة له إذا كان معسراً ، فإنه قد يدان بناء على أدلة غير متعلقة بواقعة الاتهام أو غير جائز قبولها .