وحيث إنه إذ كان ما تقدم ، وكان الأصل فى الحقوق التى كفلها الدستور أنها لا تتمايز فيما بينها، ولا ينتظمها تدرج هرمى يجعل بعضها اقل شأناً من غيرها أو فى مرتبة أدنى منها ، بل تتكافأ فى ان لكل منها مجالاً حيوياً لا يجوز اقتحامه بالقيود التى تفرضها النصوص التشريعية ، وكان هذا المجال يتحدد بالنسبة إلى الحقوق التى نص عليها الدستور فى صلبه إلى ضوء طبيعة كل حق منها ، وبمراعاة الأغراض النهائية التى قصد الدستور إلى تحقيقها من وراء إقراره ، وفى إطار الرابطة الحتمية التى تقوم بين هذا الحق وغيره من الحقوق التى كفلها الدستور باعتباره مدخلاً إليها أو معززاً لها أو لا زماً لصونها ، وكان إنكار حق الشخص فى ان يختار من المحامين من يقدر تميزه فى الدفاع عن المصالح التى يتوخى تأمينها والذود عنها، لا يتمحض عن مصلحة مشروعة بل هو سعى إلى نقيضها ، باعتبار أن فعالية ضمانة الدفاع ينافيها ما قرره النص المطعون فيه من حرمان فئة بذاتها من المحامين – الأصل أن تتوافر لها الخبرة العريضة والإحاطة بفروع القانون المختلفة مع تعمقها لأغوارها وتقصيها لدقائقها – من مباشرة مهنة المحاماة أمام المحاكم الجزئية والابتدائية وما فى حكمها ، لمجرد كون أفرادها يشغلون وظيفة بعينها أو كانوا قائمين بأعبائها، وذلك لما ينطوى عليه هذا النص من إنكار حق كل متقاض فى اختيار محام من بينهم يكون محل ثقته – سواء فى مجال قدراته القانونية أو القيم التى يتحلى بها أداء عمله أو الكيفية التى يواجه بها مسئولياته المهنية من الناحية العملية – وليس ذلك كله إلا عدواناً على حق الدفاع ينال من القيمة العملية لحق التقاضى مهدراً كذلك مبدأ الخضوع للقانون ومجرداً الحقوق والحريات التى نص عليها الدستور من أبرز ضماناتها . ومن ثم يكون النص المطعون فيه قد اقتحم الحدود التى رسمها الدستور مجالاً حيوياً لحق الدفاع ، وأخل بالحقوق الأخرى المرتبطة به برابطة وثيقة ، ووقع من ثم باطلاً . يؤيد هذا البطلان ما ينعاه المدعيان – بحق – على النص التشريعي المطعون فيه من مخالفته مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه فى المادة 40 من الدستور ذلك أن الدساتير المصرية المتعاقبة بدءاً بدستور 1923 وانتهاء بالدستور القائم ، رددت جميعها مبدأ المساواة أما القانون وكفلت تطبيقه على المواطنين كافة ، باعتباره أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعى ، وعلى تقدير أن الغاية التى يستهدفها تتمثل أصلاً فى صون حقوق المواطنين وحرياتهم فى مواجهة صور التمييز التى تنال منها أو تقيد ممارستها ، وأضحى هذا المبدأ – فى جوهره – وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التى لا يقتصر نطاق تطبيقها على الحقوق والحريات المنصوص عليها فى الدستور ، بل ينسحب مجال إعمالها كذلك إلى الحقوق التى يكفلها المشرع للمواطنين فى حدود سلطته التقديرية ، وعلى ضوء ما يرتئيه محققاً للمصلحة العامة . ولئن نص الدستور فى المادة 40 على حظر التمييز بين المواطنين فى أحوال بينتها هى تلك التى يقوم التمييز فيها على أساس من الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة ، إلا أن إيراد الدستور لصور بعينها يكون التمييز محظوراً فيها مرده أنها الأكثر شيوعاً فى الحياة العملية ولا يدل البتة على انحصاره فيها دون غيرها، إذ لو صح ذلك، لكان التمييز بين المواطنين فيما عداها جائزاً دستورياً ، وهو ما يناقض المساواة التى كفلها الدستور ويحول دون تحقيق الأغراض التى قصد إليها من إرسائها . وآية ذلك أن من صور التمييز التى أغفلتها المادة 40 من الدستور ما لا تقل فى أهميتها – من ناحية محتواها وخطورة الآثار المرتبة عليها – عن تلك التى عينتها بصريح نصها ؛ كالتمييز بين المواطنين – فى مجال الحقوق التى يتمتعون بها وفقاً لأحكام الدستور أو فى نطاق حرياتهم التى يمارسونها بمراعاة قواعده – لاعتبار مرده إلى الملكية أو المولد أو الانتماء إلى أقلية عرقية أو عصبية قبلية أو مركز اجتماعى معين أو الانحياز إلى آراء بذاتها أو الانضمام إلى جمعية أو مساندة أهدافها أو الإعراض عن تنظيم تدعمه الدولة وغير ذلك من أشكال التمييز غير المبررة مما يؤكد أن صوره المختلفة التى تناقض مبدأ المساواة وتفرغه من محتواه ، يتعين إخضاعها لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية . لما كان ذلك ، وكان الدستور قد كفل حق الدفاع بالوكالة بما يعنيه ذلك أصلاً من ضمان حق الموكل فى فرصة مواتية يؤمن من خلالها اختيار محام يطمئن إليه ويثق فيه – ما دام قادرا على أداء أتعابه – وكان الحق فى هذا الاختيار يلعب دوراً متميزاً – سواء فى مجال فعالية المعونة التى يقدمها الوكيل إلى موكله أو باعتباره مكوناً أساسياً لحق الدفاع بالوكالة فى مجالاته العملية الأكثر أهمية – وكانت المعاونة الفعالة التى يقدمها المحامى فى علاقته بموكله أمام المحاكم لا تقتصر على درجاتها العليا ، وإنما تمتد إلى الخصومة القضائية فى مراحلها الأولى أمام المحاكم الجزئية أو الابتدائية – وما فى حكمها – وذلك لإرساء أسسها من البداية على دعائم قوية تؤمن مسارها وترجح كفتها سواء من ناحية عناصرها الواقعية أو دعاماتها القانونية بما قد يضع نهاية مبكرة لها ويوفر لموكله جهداً يهدر ومالاً يتبدد إذا استطال أمرها ، وكان المحامون الذين منعهم النص التشريعى المطعون فيه من مباشرة المهنة أمام المحاكم الجزئية والابتدائية وما فى حكمها – هو هؤلاء الذين يشغلون وظيفة معينة أو كانوا يقومون بأعبائها – ولا يعتبرون بسببها اقل خبرة أو علماً بالقانون ممن خولهم ذلك النص حرية ممارستها أمام هذه المحاكم ذاتها بل هو مهيأون للاضطلاع بمسئولياتهم المهنية أمامها بالنظر إلى خبراتهم المتميزة وأحاطتهم المتعمقة بعلم القانون، ولكونهم من المقبولين للمرافعة أمام المحاكم الأعلى درجة وكان من المقرر أن المحامين ورجال القضاء يلعبون معاً دوراً متكاملاً فى مجال ضمان إدارة أفضل للعدالة ، وأنه فى مجال مهنة المحاماة ، فإن الحماية الملائمة لحقوق الأفراد وحرياتهم مناطها أن تزيل الدولة من خلال تنظيماتها التشريعية القيود غير المبررة التى تحول دون النفاذ الفعال إلى الخدمات القانونية التى يقدمها المحامون لمن يطلبونها ، وكان مبدأ المساواة أمام القانون مؤداه إلا يخل المشرع بالحماية القانونية المتكافئة فيما بين الأشخاص المتماثلة مراكزهم القانونية – فى حين حرم النص التشريعى المطعون فيه الفئة التى شملها الحظر من الحق الذى كفله لغيرهم من المحامين – دون أن يستند فى التميز بين هاتين الفئتين إلى مصلحة مشروعة – بل عمد إلى نقيضها – فإن هذا التميز يكون مفتقراً إلى الأسس الموضوعية التى تسوغه ، ويكون بالتالى تحكمياً ومنهياً عنه بنص المادة 40 من الدستور .

وحيث إنه على ضوء ما بسطناه فيما تقدم يكون حكم الفقرة الأولى من المادة 15 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983 مخالفاً للمواد 40 ، 67 ، 68 ، 69 ، 71 من الدستور . إذ كان ذلك وكانت الفقرتان الثانية والثالثة من المادة 15 من قانون المحاماة – فيما تنصان عليه من عدم سريان الحظر المشار إليه فى فقرتها الأولى على المحامين المقيدين لدى غير المحاكم المنصوص عليها فى هذه الفقرة وقت صدور ذلك القانون ، ووقوع كل عمل يتم بالمخالفة لأحكام هذه المادة باطلاً – مرتبطتين بفقرتها الأولى ارتباطاً لا يقبل التجزئة ، إذ لا قوام لهما بدونها ولا يتصور إعمالهما استقلالاً عنها ، ومن ثم فإنهما يسقطان تبعاً لها .

فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة 15 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983 ، وألزمت الحكومة المصروفات ، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .