دروس وعبر تنموية : تجربة سنغافورة

أ. د. يوسف خليفة اليوسف


دروس وعبر تنموية : تجربة سنغافورة
عندما اصدر لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة لواحد وثلاثين سنة الجزء الثاني من مذكراته اطلق على هذا الكتاب عنوانا لافتا للأنتباه وهو قصة سنغافورة : من العالم الثالث الى الأول وهو عنوان ، كما قال كوفي عنان السكرتير العام السابق للأمم المتحدة ، يعبر عن طموحات جميع الدول النامية ولكنه لم يتحقق الا في عدد قليل منها . وسنغافورة هي في اعتقادنا من الدول التي اصبحت تمثل نموذجا عمليا للدولة التي انتقلت من معسكر الدول النامية الى مصاف الدول المتقدمة على الرغم من كل المعوقات لأنها قدر لها ان تقودها كفاءات لديها رؤية مجتمعية ولديها نزاهة في ادارة الموارد ولديها اصرار على النجاح وتوفير كافة شروطه والمثابرة على تحقيق الأنجاز وراء الأنجاز ولديها قبل ذلك وبعده احترام لشعبها واعتمادها عليه اولا وأخيرا . لذلك رأينا ان نخصص حديثنا هذا الشهر لهذه التجربة وسبرأغورها من اجل تعميق فهمنا لعملية التنمية وتشابكاتها وابعادها المختلفة عسى ان يكون في ذلك عونا لنا في التأسيس لنهضتنا المنشودة والتي تأخرت كثيرا لأسباب نعرف بعضها ونجهل الآخر . وكما كان تركيزنا في تجربة " بوتسوانا " ، تلك الدولة الأفريقية التي اطلقناعليها " نمر أفريقيا" والتي تطرقنا لها في حديث شهري سابق كمثال على النظام السياسي المستقر الذي يستمد شرعيته من المجتمع بأكمله ، فان حديثنا عن سنغافورة سيكون التركيز فيه على اهمية " المنظومة القيمية " التي يعتقد فيها ويمارسها ابناء المجتمع خاصة القيادات واثرها على تهضته وعطاء ابنائه . ففي رأي احد علماء الأجتماع وهو بيتر بيرغر ان سنغافورة ما كانت لتحقق ما حققته من انجازات لو أن سكانها كانوا من امريكا اللاتينية بدل ان يكونوا صينيين اشارة الى القيم الكونفوشسية التي يمارسها الصينونيون [1]. ومهما تحفظنا على مدلول هذه المقولة خاصة وما فيها من تحيزضد القيم السائده في أمريكا اللاتينية الا ان هذه المقولة توجه انظارنا الى اهمية القيم والعادات والمواقف التي يؤمن بها المجتمع في الكيفية التي يوجه بها هذا المجتمع موارده ويحقق بها ازدهاره وامنه . فهل هناك ادلة من واقع تجربة سنغافورة تؤكد ان القيم والثقافة التي تحكم المجتمع لها اثر محوري على اداء هذا المجتمع التنموي ؟ هذا ما سنحاول تلمس الأجابة عليه في الفقرات التالية .

عوامل ساعدت وفرص اغتنمت !

كانت سنغافورة احد الموانيء التي اقامتها شركة الهند الشرقية التابعة للأمبراطورية البريطانية في في عام 1819 في نطاق التوسع الأوروبي في آسيا من اجل الأسواق والموارد الطبيعية ويتكون سكان سنغافورة من غالبية صينية واقليات مالاوية وهندية . وفي أواخر الستينيات عندما بدات شمس الأمبراطورية البريطانية في الأفول تم تقليص القواعد العسكرية البريطانية بما في ذلك قواعدها في سنغافوره ، وخلال هذه الفترة بدأت المطالبه المحلية باستقلال سنغافوره وقد كانت الشرائح التي طالبت بالأستقلال مكونة من المثقفين الذين تعلموا في الجامعات البريطانية ومجموعة من اليسارين من المتعلمين في الصين وغيرهم وقد اشتركت هذه الشرائح في توجهها الأشتراكي ومنها تأسس حزب العمل الأشتراكي عام 1954 وقد حاز على الأغلبية البرلمانية عام 1959 وبعد الأستفتاء على انضمام سنغافورة الى ماليزيا عام 1953 انشق الجناح الأكثر اشتراكية في هذا الحزب وشكل المعارضة وقد انفصلت سنغافورة عن ماليزيا عام 1965 وقد تآكلت شعبية الجناح المنشق خاصة بعد مقاطعته للأنتخابات العامة عام 1968 ، ومنذ ذلك الوقت هيمن حزب العمل الشعبي على المسرح السياسي ولايزال .

غير ان البعض يرى ان روح الأشتراكية التي تأسس عليها الحزب ظلت سارية في سلوكيات قياداته التي اتصفت بالتواضع والحرص على مفاهيم العدالة والتقرب من الفئات العاملة ومحاربة الفساد وعندما رفع لي كوان يو اجور موظفي الدولة خاصة القيادات الرئيسية في بداية التسعينيات لتتساوى مع اجور القطاع الخاص قبل تركه للمنصب كان هناك عدم ارتياح من شرائح المجتمع الذين لم يعهدوا هذه الروح في الحزب الحاكم .

ومما عمق من شرعية الحزب الحاكم النجاحات التي حققها على صعيد النمو الأقتصادي واعداد ابناء المجتمع ليساهموا في تحقيق التنمية ، كما وانه قام بتحسين مستوياتهم المعيشية مما دفعهم الى التفاني في الألتزام بواجباتهم . وعلى الرغم من هيمنة هذا الحزب على السياسة فانه لم يلغي او يعطل الأنتخابات العامة منذ عام 1959 , وكما يقول هنري كيسنغر ، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ، في تقديمه لكتاب لي كوان يو المذكور سابقا ، ان سنغافورة بقيادة لي كوان يو استطاعت ان تحقق زيادة في دخل الفرد السنوي من 1000 دولار عند الأستقلال الى اكثر من 30000 دولار في بداية الألفية الثالثة [2].

وعندما انفصلت سنغافورة عام 1965 عن ماليزيا لم تكن تملك رأسمالا يمكنها من التأسيس لنهضتها ولكن الأقدار ساعدتها بتدفق الأستثمارات الخارجية التي كانت تبحث عن عمالة رخيصة وقرب من الأسواق ، خاصة وان هذه الأستثمارات لم تكن مرغوبة في تلك الفترة من قبل الدول المحيطة بسنغافورة كالصين والهند واندونيسيا نظرا لتوجهاتها السياسية المعادية للرأسمالية بوجه عام مما اتاح لسنغافورة فرصة ذهبية احسنت الأستفادة منها [3].

قيادات ذات رؤية ونزاهة

ومما ساعد على ازدهار سنغافورة بعد استقلالها انها لم تحمل ارثا عسكريا ينتج عنه تسلط الجيش على السياسة ويفسدها كما حصل في اندونيسيا وكثير من الدول العربية ، كما وانها لم تتكون من سلاطين ومشيخات تعطل مسيرتها وتهدر ثرواتها كما حصل في كثير من الدول العربية خاصة الخليجية منها ، وانما تحولت من مستعمرة سابقة الى دولة- مدينة تحكمها انتخابات ومعارضة ورؤية تنموية واضحة وشعب يشارك في مسيرة التنمية بخيرها وشرها ، اي انها اخذت باحدث نظام ابدعته الحضارة المعاصرة ، وأقصد بذلك الديمقراطية ولكنها لم تتقمصها بكل قيمها وانما جعلتها آلية لتحقيق الرقابة والمساءلة الشعبية واسقطتها على واقعها وبذلك استطاعت ان تتجنب كثير من مثالبها. وهذه القيادات المتعلمة والمدركة لأهمية دور المجتمع بكل شرائحه في التنمية لم تبحث عن مبررات لتستفرد في الثروة او السلطة كالقول بأن الشعوب ليست مؤهلة او ان هناك وظائف سيادية مفصلة لزيد وعمر او انها خصصت جزء من ثروة المجتمع او اراضيه او بحاره للملكية الشخصية أوأي مبرر آخر من المبررات الرائجه اليوم في دولنا الخليجية ، وانما بدات هذه القيادات السنغافورية بقناعة واضحه بان الجميع شركاء والمجتمع بأكمله ومن خلال مؤسساته هو الذي يقرر وجهة المجتمع وكيفية استخدامه لموارده وهكذا انطلق مجتمعهم الى التقدم بينما بقيت مجتمعاتنا تراوح مكانها مهمشة الموارد البشرية ومبعثرة للموارد النفطية .

أمر آخر ساعد على نهضة سنغافورة الا وهي النزاهة والواقعية والمرونة التي اتصفت بها قيادات الحزب الحاكم ، فهذه القيادات لم ترفع شعارات جوفاء ولم تبذر ثروة المجتمع على مشروعات مظهرية ولم تحاول ان توجه الأموال الى اعلام فاشل يبث الرذيلة ويجمل القبيح ويغطي الفضائح وانما كان هم هذه القيادات هو احداث تنمية فعلية للمواطن وبالمواطن . فالأنفاق على التعليم كان متمحورا على تخريج عمالة منتجة الأمر الذي جعل المقررات تميل الى العلوم والتخصصات الفنية بدل التخصصات الأخرى الأقل اهمية في هذه المرحلة التنموية .والأهم من ذلك ان هذا النظام التعليمي قام على اساس " الأهلية والأستحقاق" ولم يؤسس ليتسلق عليه زيد وعمر حتى ينتقلوا بعد ذلك الى المناصب القيادية وهم ليسوا اهلا لها ويؤبدوا بذلك اخفاق المجتمع وركوده . فبعد ست سنوات من التعليم الأبتدائي يتقدم الطلبة لأمتحانات تحدد قدراتهم واستعداداتهم ومن ثم يتم ارسالهم الى مدارس ثانوية تتناسب مع قدراتهم الذهنية ، فالأقدر بينهم يتوجهون الى افضل المدارس الثانوية وهكذا كلما تراجعت قدرات الطفل كلما كان مستوى المدرسة الثانوية التي يلتحق بها اقل من حيث الجودة . اما الطلبة الذين لم يثبتوا جدارتهم للذهاب الى الثانوية فانهم يذهبون الى مدارس تجارية تعدهم للعمل . وبعد اربع سنوات من الدراسة الثانوية يتقدم الطلبة الى امتحان آخر يحدد من يذهب الى الجامعة ومن هو اقل منه قدرة فيذهب الى كليات التقنية للتدرب على مهارات للعمل . اما الذين يذهبون الى الجامعة فانهم يتقدمون لأمتحان آخر بعد سنتين فاذا كان اداؤهم عالي فانهم يكملون التعليم الجامعي . هذا النظام الصارم حقق لسنغافورة مخرجات كانت هي القاعدة التي ارتكز عليها المجتمع في تنميته ، ولاشك ان الأنضباط العملي بهذا النظام وعدم الولوج في الأستثناءات ، جعلت جميع اطراف العملية التعليمية من الطالب الى المعلم الى الأسرة ثم الحكومة تدرك ان تطبيق هذا النظام هو وحده كفيل بمساعدة ابناء المجتمع على اكتشاف قدراتهم والتعبير عنها في الميدان التعليمي ومن بعده المجال الوظيفي ، وقد يفسر هذا النظام جزئيا كفاءة وامانة القيادات التي تسلمت مقاليد القرارات في هذه الدولة الصغيرة لأن هذه القيادات بذلت جهود مضنية وادركت معنى التأهيل والأستحقاق اي مفهوم الثواب والعقاب في مسار هذا الكون . ولانريد ان نقارن المسار الشاق الذي مرت به هذه القيادات السنغافورية ونتيجته على تنمية هذه الدولة بالطرق التي تصل بها القيادات الخليجية والعربية الى المناصب العامة فليست هناك مقارنة . ولاشك ان هذا النظام السنغافوري ستظهر فيه بعض العيوب مع مرور الوقت ولكن القيادات السياسية التي اسسته مدركة لبعض هذه العيوب ولاشك انهم سيجدون لها حلولا طالما انهم يفكرون بعقلية هادفة ويطمحون لبناء بلدهم ليواكب تحديات العولمة باشكالها كما فعل جيل لي كوان يو .

بناء الأنسان المنتج

ويؤكد لي كوان يو اهمية الكفاءات الوطنية في بناء الدولة بالقول " بعد عدة سنوات في الحكومة ، ادركت انني كلما اخترت اصحاب المواهب كوزراء واداريين ومهنيين ، كلما كانت سياساتنا اكثر فعالية واكثر نجاح "[4] ، بل ان هذا الرجل اثار ضجة في مجتمعه عندما قال في كلمة في مناسبة اليوم الوطني عام 1983 بأنه " من الغباء ان يتزوج الخريجين زوجات اقل تعليما منهم واقل ذكاءا منهم اذا كانوا يرغبون في انجاب ذرية بنفس كفاءاتهم " [5]. ومهما كانت هناك من مبالغة في هذا القول الا انه يشير الى حرص هذا الرجل على تنمية الأنسان وتطوير مواهبه وتشجيعه على التفوق والريادة وهذا الشعور وللأسف لايستشعره الأنسان لدى القيادات في مجتمعاتنا التي يبدوا ان جلها يخاف من ، بل ويحارب من لديه قدرة او تميز او موهبه لأسباب لاتخفى على لبيب . ومما يؤكد هذا الأهتمام بالكفاءات هو انه بحسب سلم الرواتب المعمول به في سنغافورة ابتداء من عام 2007 يمكن ان يحصل شخص في قمة الجهاز الأداري على راتب سنوي يصل الى مليون ونصف دولار وهو راتب يفوق ما يحصل عليه الرئيس الأمريكي البالغ 400 ألف دولار في السنة وراتب رئيس وزراء بريطانيا الذي يعادل تقريبا 351 ألف دولار في السنة [6]. اذن وظائف الدولة في سنغافورة لم تكن عبارة عن غنائم توزع على الأقارب والمؤيدين والأتباع كما يحصل في دولنا الخليجية وللأسف وانما كانت قمم عالية لايتربع عليها الا من هو أهل لها علما وامانة وخبرة وجهدا والا فمن يدفع رواتبا كالتي سبق ذكرها .


بيئة مؤسسية فاعلة
وسنغافورة كانت حريصة على ادارة نظامها المالي بشفافية وكفاءة تجنبا للكوارث التي حصلت في الأسواق الأخرى . فعلى سبيل المثال رفضت هيئة الرقابة المالية السنغافورية طلب بنك الأعتماد والتجارة ، الذي كانت حكومة ابوظبي تملك نصيب الأسد فيه، لأنشاء فرع في سنغافورة ويؤكد لي كوان يو ان حتى وساطة رجل كهرولد ولسون وغيره لم تجدي ، ويؤكد ان قرار الحكومة السنغافورية كان صائبا ، فقد تمخض الفساد في ادارة هذا المصرف عندما انهار واغلق عام 1991 عن حوالي 11 مليار دولار خسائر للمودعين [7]. هذه الكفاءة في ادارة وتنظيم سوق المال اتت اكلها عندما نجت سنغافورة وهونكونغ من السونامي المالي الذي حل بدول شرق آسيا في عام 1997 وادى الى خسائر مالية وانهيارات في العملة وافلاس مصرفي وتزايد اعداد الفقراء في هذه الدول .

اما تعامل الحكومة السنغافورية مع الأعلام فقد كان متحضرا ودليل على ثقة في النفس ورغبة في تأكيد الشفافية وعدم الخوف من نشر المعلومة حتى ولو كانت تتعلق برئيس الوزراء نفسه ، وقد كانت الحرية للأعلام المحلي اكثر منها للأعلام الأجنبي نظرا لقرب الأعلام المحلي من الأحداث وهذا عكس ما دابت عليه الحكومات الخليجية والعربية . وقد كانت هناك اكثر من حاله لجأ فيها رئيس الوزراء نفسه الى القضاء ليفصل بينه وبين الأعلام في قضايا تتعلق بتهم الفساد وعدم الكفاءة وقد ربح رئيس الوزراء كثير من هذه القاضايا المتعلقة بالمدافعة مع الأعلام . ولاشك ان هذا دليل آخر على ادراك لي كوان يو ان كسب القضايا امام الأعلام الحر افضل بكثير من اسكات هذا الأعلام واستبداله باعلام دعائي كما هو الحال في دولنا الخيجية ، بل ان الطريقة التي تعامل بها لي كوان يو وحكومته مع الأعلام تدل على ثقة في النفس وعدم الخوف من كشف الحقائق وقد أكد ذلك لي كوان يو بقوله اننا كنا حريصين على الشفافية مع شعبنا حتى يسندنا في عملية التنمية خاصة عندما نتخذ قرارات صعبة ، نعم هو حريص على مساندة شعبه ولذلك فانه لايخفي الحقائق او يزورها .

كذلك فان الدعم الذي قدمته الحكومة لم يكن لتخدير شرائح المجتمع وتعميق نزعة الأستهلاك لديها أو للسقوط في حمى المضاربات في اأسواق المال وانما تركز هذا الدعم على مساعدة الفرد العادي على تملك بيته واحساسه بالأنتماء وحرصة على الأستمرار في عمله حتى يدفع قيمة منزله والذي قد يستخدمه كضمان لتأسيس مشروعه المستقل في المستقبل . والسياسات السكانية بدأت بفرض تقليل الدعم الصحي والتعليمي لمن يزيد عدد ابنائه على اثنين الا اولئك الذين استطاع اباؤهم ان يصلوا الى اعلى مستويات التعليم ، ولكن عندما اصبح النمو السكاني الطبيعي يقترب من أن يكون سالبا في أواخر الثمانينات اي ان معدلات الوفيات تزيد على معدلات المواليد في السنة ، تغيرت السياسات السكانية واصبحت تشجع على الزواج وزيادة النسل وهكذا يظل المجتمع في حراك وسياساته تتأقلم مع التحديات الداخلية والخارجي .
وحرص على قيم المجتمع

وسنغافورة حكومة وافراد تأثروا بالنظرة الكونفوشسية بأن الأسرة وليس الفرد كما هو في الغرب الليبرالي هي المرتكز الأول للمجتمع وفي هذا تشترك الكونفوشسية مع رؤية الأسلام الذي يجعل الأسرة اساس المجتمع مع مساحة من الحرية لفردية الأنسان من غير تأصيل الأنانية الفردية التي تطغى على المجتمعات الغربية اليوم والتي كان لها آثار سلبية على الأسرة واستقرارها ونموها . ولكن الفرق بيننا وبين سنغافورة ان الدولة هناك تسعى لتعميق هذه الأهمية للأسرة . فعلى سبيل المثال اذا مرض شخص فان اول من يتكفل بمصاريف علاجه هم اقاربه ولاتتدخل الدولة الا عندما تكون مدخرات هؤلاء الأقارب غير كافية لتغطية مصاريف العلاج وكذا الحال في تكاليف العائلة في التعليم وهنا نحن نتحدث عن مجتمع ليست له موارد طبيعية وقد يفكر بعض المسؤولين في دولنا ان يتبنى هذه السياسات ليس لأنه يرغب في تعويد ابناء المجتمع على تحمل المسؤولية وانما ليتمادى هو وامثاله في الأستحواذ على ثروات هذه المجتمعات ولذلك فاننا نقول لهذا وامثاله ان القيادة في سنغافورة تطالب شعوبها بالتقشف وتقودهم في ذلك لأنها تكشف لمجتمعها عن ما حققته من ايرادات وكيف انفقتها فهي لذلك تقوده واما عندنا فان الخزائن مغلقة والحسابات سرية والموازنات تتصف بالعمومية وهذا التعتيم لغاية في نفس يعقوب وبالتالي فان الأستفادة من ايجابيات سنغافورة تتطلب شروط لابد من توفرها واولها قيادات نزيهه وعلى مستوى من الكفاءة وهي ترى في شعوبها شركاء وليسوا رعية تقاد كقطيع الأغنام .

وللقانون سيادة
وأخيرا ياليت الحكومات الخليجية ومعها العربية تتعلم درسا في استقلال القضاء وتطبيق احكامه بعدالة من غير خضوع للضغوط الداخلية أو الخارجية واليكم مثل بسيط من تجربة سنغافورة . يذكر لي كوان يو في كتابه السابق انه في عام 1993 قام امريكيا عمره 15 عام يسمى مايكل في ومعه مجموعة من الأصدقاء بتخريب بضع اشارات المرور ورش الأصباغ على اكثر من 25 سيارة وقد حكمت عليهم المحكمة وقد أقروا بالجرم وطلب المحامي من المحكمة تخفيف العقوبة التي كانت عبارة عن 6 ضربات بالعصا والسجن لأربعة أشهر . وقد جن جنون الأعلام الأمريكي وكيف ان هذا الأمريكي يضرب على مؤخرته ويهان من قبل السنغافورين القساة وتدخل الرئيس كلنتون وكان موقف الحكومة السنغافورية محرجا ، كما يقول لي كوان يو، فاذا لم يعاقب الأمريكي فبأي حق يعاقب السنغافوري وغيره ؟ وقد خفت الضربات بالعصى الى اربع ضربات بدل الست ولكن الحكم طبق ، وهكذا يحترم القانون ويكون مؤديا الى الأستقرار والأزدهار ، اما في مجتمعاتنا الخليجية فان الأمر مختلفا لأن القوي لايقام عليه الحد وانها لمفارقة حقا ان تكون سنغافورة وهي دولة غير اسلامية اقرب الى روح الأسلام من الدول الأسلامية في حفاظها على العدل ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول " لقد هلك الذين من قبلكم لأنهم اذا سرق فيهم القوي تركوه ، واذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ............" او كما قال ، اما ابن تيمية رحمة الله عليه فيقول ان الله سبحانه وتعالى ينصر الدولة الكافرة اذا كانت عادلة ويهزم الدولة المسلمة اذا كانت ظالمة " ، فهل ندرك عواقب الظلم على استقرار المجتمعات ونهضتها ؟

ولكن يبقى السؤال الهام هو :اذا كان الحزب الحاكم في سنغافورة قد هيمن على المسرح السياسي منذ اواخر الخمسينات ، واذا كان لي كوان يو قد تقلد منصب رئاسة الوزارة لأكثر من ثلاثين عاما فلماذا استمر هو والقيادات المشاركة له الى توجيه جهودهم وموارد مجتمعهم الى بناء اقتصاد متطور تفوق على كثير من اقتصاديات الدول الصناعية ولم يعبث هو ومن معه بثروات مجتمعه كما فعلت بقية القيادات في الدول القريبة والبعيدة ؟ هل "القيم الكونفوشسية" المترسبة في سلوكيات الغالبية الصينية في سنغافورة هي التي هذبت سلوك هذه القيادات وجعلتها تترفع عن الأنانية وتؤسس لنهضة فعلية على الرغم من ندرة الموارد الطبيعية وتسطر سجلا لايسع الأنسان الا ان يعتز به مهما كانت فيه من مثالب وجوانب قصور وهذا امر طبيعي فكل من يعمل ويتحرك لابد أن يخطيء؟ وهل هذا يعني ان دول الخليج والدول العربية والأسلامية تفتقر الى المنظومة القيمية التي يمكن الأرتكازعليها في التأسيس لنهضة لاتقل اشعاعا من نهضة دول شرق آسيا ؟ الم يشهد القاصي والداني للحضارة الأسلامية في عصرها الذهبي ؟ الم يقل المسترشق برنارد لويس بأن المسلمون كانوا روادا للحضارة البشرية في مجالات التنمية والتقنية والحرية عندما كانوا أقرب الى اصول دينهم وتعاليمه الصافية ؟ نعم ان مكن الداء ليس في قيمنا التي تأسست عليها ارقى حضارة عرفتها البشرية ولكن مكمن الداء في قيادات هذه المجتمعات التي طالما عجزت عن الأرتقاء الى مستوى القيم التي تصرح بها صباح مساء ولكنها لاتمارسها الا في ما يحقق مصالحها الشخصية وينسجم مع اهوائها ؟ ان الداء في هذه القيادات وفي في بقية شرائح المجتمع من مثقفين ورجال اعمال وعلماء وعامة التي قبلت بهذه القيادات ولو كانت هذه الشعوب بشرائحها المختلفة تستحق افضل من هذه القيادات الفاشلة لما حرمها الله منها وكما يقال " كما تكونوا يولى عليكم " . لقد اصبحنا على يقين بان مجتمعاتنا العربية والأسلامية لن تنهض بالقيادات الحالية لكنها ستنهض بشعوبها اذا وعت من سباتها وطالبت بحقوقها واحدثت تغييرات جذرية في الكيفية التي تحكم بها مواردها البشرية والمادية وأعجب من أبناء هذه المنطقة الذين يرون ما يرون من تردي في اوضاع المنطقة على كل صعيد وينتظرون غيرهم ان يبادر بالتغيير بدل ان يكونوا رواده .

[1]Peter Berger and Michael Hsiao, eds., In Search of an East Asian Development Model (New Brunswick, NJ : Transaction Books , 1988) >
[2] Lee Kuan Yew (2000) From the Third World to First, HarberCollins Publishers. P.xi.
[3] Beng-Huat , Chua (2006) “ Values and Development in Singapore” in Developing Cultures , (eds. Lawrence E. Harrison and Peter L. Berger . Routledge , p.p:101-105.
[4] Lee Kuan Yew (2000) From the Third World to First, HarberCollins Publishers. P.136
[5] Lee Kuan Yew (2000) From the Third World to First, HarberCollins Publishers. P.135
[6] Mahbubani, Kishore (2008) The New Asian Hemisphere, Public Affairs . New York . P.73.
[7] Lee Kuan Yew2. Ibid. P75.


المصدر
http://www.darussalam.ae/print.asp?contentId=1140