كان الحكم بخصوص قضية "تأديب" مقامة من النيابة الإدارية، ضد طبيب استشاري، وأخرين، وحيث أن الإستشاري في القانون تقابل وظيفة أستاذ بالجامعة، فمن هنا بدأت القضية تتخذ مسار أخر، حيث طعن دفاعه بعدم إختصاص المحكمة في نظر الدعوى.

وإستند الدفاع إلى المادة 46 من القانون رقم 117 لسنة 1958، الخاصة بتنظيم النيابة الإدارية والمحاكمات التأديبية، والتي من خلاله يتم إستثناء عدة جهات وهيئات من محاكمتهم تأديبيا أمام مجلس الدولة، وعدم جواز احالتهم من قبل النيابة الادارية الى المحاكم التأديبية بمجلس الدولة وأبرز هذه الجهات هي الجامعات وجهاز الشرطة والدبلوماسيين، والذين كان لهم محاكمات "إستثنائية" تأديبية "مجالس التأديب" خاصة بهم داخل جهات عملهم.

وذكر الحكم، أن دستور عام 1971 الملغي، نص فيما يخص تنظيم السلطة القضائية، على كيفية تحديد الهيئات القضائية واختصاصاتها وتنظيم طريقة تشكيلها وشروط واجراءات تعيين أعضائها ونقلهم والمحاكم الإستئنائية، وكان ذلك في نص المادة 167 من ذلك الدستور، ومن هنا كانت المحاكمات التأديبية "الإستئنائية" المنصوص عليها بقوانين تلك الجهات وبموجب نص المادة "46" من القانون رقم 117 لسنة 1958، الذي استثنى هذه الجهات من ولاية النيابة الادارية والمحاكم التأديبية بمجلس الدولة تستمد مشروعيتها الدستورية من ذلك النص "الدستوري" الصريح بالدستور الملغي.

أما بالنسبة لدستور 2014 القائم، فقد خلت النصوص المنظمة للسلطة القضائية من نص يماثل نص المادة 167 من دستور 1971 المذكورة، والتي كانت تمثل الأساس الدستوري لمحاكم التأديب "الإستثنائية"، حيث أنه عندما أنشأ المشرع بعض مجالس التأديب اعتبرها القضاء في تكييفه القانوني هيئات قضائية تفصل في نزاع تأديبي كإستثناء من الأصل العام، وهذا "الأصل العام" يتمثل في أن مجلس الدولة هو قاضي القانون العام في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية.

وقد نصت المادة 197 من دستور 2014، على أن النيابة الإدارية هيئة قضائية لها ولاية التحقيق في المخالفات الادارية والمالية، وكذلك التي تحال إليها، وولاية تحريك ومباشرة الدعاوى والطعون التأديبية أمام محاكم مجلس الدولة، ولما كان مجلس الدولة أصبح هو قاضى القانون العام، وصاحب الولاية العامة بالفصل فى الدعاوى والطعون التأديبية، وكانت ولاية النيابة الإدارية بما ذكر لها من اختصاصات دستورية تدور وجودا وعدما مع ما تقرر لمجلس الدولة من اختصاصات عند الفصل في الدعاوى والطعون التأديبية.

ومن ثم فإن الولاية العامة لتأديب العاملين بالجهاز الإداري للدولة في وزارات الحكومة ومصالحها والعاملين بالهيئات العامة، وكذلك الذين تنظم شئونهم قوانين خاصة – ممن لم يستثنهم دستور 2014 –، ومن ثم فان هذه الولاية معقودة للمحاكم التأديبية بمجلس الدولة، كما أن ولاية التحقيق في المخالفات الإدارية والمالية وكذالك تحريك ومباشرة الدعاوى والطعون التأديبية أمام محاكم مجلس الدولة معقودة للنيابة الادارية باعتبارها الأمينة على الدعوى التأديبية وبالتالى لا يجوز نقل هذه الاختصاصات أو تلك لأية جهة أخرى مالم ينص على ذلك صراحة نص دستورى وليس تشريع عادى أو لائحى.

بالاضافة إلى أن دستور 2014 نص صراحة على الجهات والهيئات القضائية على سبيل الحصر، دون أن يفوض المشرع في انشاء أو تحديد هيئات قضائية أخرى، وهذا له دلالته على اتجاه المشرع الدستورى في إزالة كل لبس أو غموض بشأن كل ما أثير في الأحكام القضائية المختلفة.

وأصبحت الصورة واضحة بألا يتولى السلطة القضائية سوى المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وذلك عن طريق قضاة مستقلين غير قابلين للعزل، وفي جلسات علنية إلا إذا قررت المحكمة سريتها، وفى ضوء ذلك أصبح مجلس الدولة هو قاضي القانون العام، وصاحب الولاية العامة دون غيره من جهات القضاء بالفصل فى كافة المنازعات الادارية والتأديبية، إلا ما يتعلق منها بشئون أعضاء الجهات والهيئات القضائية المستقلة الأخرى التى ينعقد الاختصاص بنظرها والفصل فيها لتلك الجهات، وكذلك ما يتعلق بضباط وأفراد القوات المسلحة والمخابرات العامة والتي لها نص خاص في الدستور أيضا.

وبالتالي أصبحت كل مجالس التأديب الأخرى بتنظيمها الحالى المنصوص عليها فى الجهات والهيئات الإدارية محلا خصبا للشبهات بعدم الدستورية، لكونها، بتنظيمها الحالي، تعتدى على اختصاصا محجوزا وموقوفا دستوريا على المحاكم التأديبية بمجلس الدولة، وتحرم العاملين بالجهات والهيئات من المحاكمة أمام قاضيهم الطبيعى بما له من استقلال وحصانة وحياد تعتبر ضمانات أساسية لحماية حقوق وحريات هؤلاء العاملين.

مما يكون معه نص المادة "46" الخاصة بوقف ولاية النيابة الادارية عن العاملين بتلك الجهات والتى تسمح بمحاكم التأديب الإستثنائية"مجالس التأديب" بتلك الجهات مشوبا بشبهة عدم الدستورية لتعارضه مع نص المادة 197 من دستور 2014، والتي حررت النيابة الادارية من أي قيود، ومنحها ولاية التحقيق في المخالفات الإدارية والمالية دون تقييد سوى ما نص عليه الدستور صراحة، لما تمثله المادة "46" من الوقوف حجرة عثرة أمام النيابة الادارية فى ممارسة اختصاصاتها الدستورية، وهو ما يمثل إهدارا لضمانة دستورية للمخالفين من العاملين بعدم احالتهم لقاضيهم الطبيعى – المحكمة التأديبية المختصة – بدلا من "المحاكم التأديبية" الإستثنائية "مجالس التأديب"، والذى يفتقد الأساس الدستورى والإستقلال القضائي.

وأبرز من سيصطدم بهم هذا الحكم هم 3جهات، وهي وزارة الداخلية والدبلوماسيين والجامعات، حيث لا يوجد نص إستثنائي صريح في دستور 2014، ينص على المحاكمات التأديبية "الإستثنائية" للعاملين بهذه الهيئات، وكانت المحاكمات التأديبية لهم مستندة على نص المادة "46" من قانون النيابة الإدارية التي كشف حكم مجلس الدولة عوارها الدستوري، ومخالفتها لنص مواد الدستور.

وقد أحيل ملف الدعوى إلى المحكمة الدستورية العليا لبحث عدم دستورية المادة "46"، والتي إذا أقرت بعدم دستوريتها سيتسبب في أزمة كبرى بين هذه الجهات، وبين الهيئات القضائية، نتيجة إلغاء المحاكمات التأديبية بها، وتغيير مراكز قانونية، وتفعيل المحاكم التأديبية داخل مجلس الدولة وولاية النيابة الإدارية على العاملين بتلك الجهات، والتي إعترضت عليه الجهات الثلاث وفقا لتأكيدات مصادر بداخلها، وأكدوا خوضهم لمعركة قانونية لمخالفة الحكم لما هو ثابت ومتبع على أرض الواقع منذ عشرات السنين.