تأتى اهمية مشروع قناة السويس الجديدة - الذى احتفل به المصريون شعبا وجيشا وقيادة- من انها تجسيد حى لعدة جوانب بعضها يمثل الواقع والحدث والبعض الآخر يمثل العمق الزمنى والتاريخى ومن هنا يتجاوز الحدث حدود اللحظة ويتخطى حدود الإنجاز ليصل بنا الى مناطق ابعد بكثير من كل ما ترصده العين او يراه الإنسان .. فى صورة القناة الجديدة اليوم نستطيع ان نقرأ ما وراء الحدث ..
> اولا نحن امام إنجاز قام على عدة محاور اهمها المدى الزمنى الذى تم فيه هذا العمل وهو ان ينتهى خلال 12 شهرا وكانت اقل التقديرات تقول انه يستغرق ثلاثة اعوام .. ان اختصار العامل الزمنى بهذه الصورة من اهم ملامح نجاح هذه التجربة الفريدة .. كان من الممكن ان يستغرق العمل فى القناة الجديدة عدة اعوام- كما هو سائد فى مثل هذه المشروعات - ولكن عامل الزمن اضاف للإنجاز جوانب اخرى وخرج به من سراديب البيروقراطية المصرية العريقة .

> العامل الثانى هو مصادر تمويل هذا المشروع وقد كانت مصرية خالصة تجسدت فى اكثر من 65 مليار جنيه دفعها المصريون فى اسبوع واحد فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تجسيد الإرادة الشعبية ومعنى الانتماء الحقيقى، كان من الممكن ان تجتمع كل عناصر المشروع من حيث القرار والزمن والأساليب ولا تتوافر مصادر التمويل ويبقى الحلم طيفا مسافرا على ضفاف القناة .. ولكن الصورة اكتملت حين جاء القرار والتخطيط والمدى الزمنى والجهة المنفذة ثم كان التمويل وهو من اهم عناصر المشروع .

> العامل الثالث ان المشروع جاء فى إطار خطة شاملة اكبر من مرور السفن او عبور الحاويات وتحصيل الرسوم .. هناك فكر آخر يضع منطقة القناة كلها فى إطار جديد للتنمية الاقتصادية والسكانية والإنتاجية، وهذا الأمر يبدو جديدا فى فكر الإدارة المصرية التى اعتادت دائما ان تتعامل مع مشروعات التنمية دون وجود تخطيط شامل .

هذه العوامل الثلاثة الإنجاز والتمويل وشمولية المشروع تؤكد اننا امام فكر اقتصادى يقوم على التخطيط بعيدا عن عشوائية القرار وارتجالية الرؤى.

لقد اعادت قناة السويس ومشروعها الجديد نظرة العالم -التى غابت احيانا وسط سحابات من الغموض وغياب الوعى- صوب اهمية جغرافيا المكان وما اطلق عليه جمال حمدان عبقرية المكان .. ان موقع مصر وفى القلب منها قناة السويس كان دائما مثار جدل وخلاف وإبهار .. بسبب هذا الموقع كانت الغزوات الخارجية لأرض الكنانة وبسبب هذه الجغرافيا الفريدة كانت اهمية مصر ودورها الحضارى والتاريخى والإنسانى .. لم يستطع احد ان ينزع من مصر اهمية وخطورة موقعها الفريد .. وحين يجتمع العالم اليوم فى احتفالية قناة السويس الجديدة فهو تأكيد على خطورة واهمية وتميز هذا الموقع الفريد، ومن هنا فإن قناة السويس جزء اصيل من مكونات هذا الموقع الذى يحظى دائما بمكانة خاصة فى جغرافيا العالم .. يجب ان يقرأ المصريون هذا الحدث من خلال تميز الموقع والمكان وبلاشك فإن قناة السويس تمثل اهم جوانب هذا التميز .. ان المطلوب الأن ان يقرأ المصريون هذا الحدث فى إطار تاريخى يعكس المكان والمكانة التى حظيت بها مصر عبر تاريخها الطويل .. ان جغرافيا المكان هى التى منحت قناة السويس هذه المكانة وهذا التميز دون بقاع الأرض كلها .

> فى السياق نفسه فإن البشر كانوا العامل المؤثر فى جغرافيا المكان ومن هنا فإن الموقع بلغة الجغرافيا اضاف للبشر، وفى جانب آخر اضاف البشر للموقع من خلال الجهد الإنسانى الخلاق ومن هذه المنظومة صنعوا التاريخ .. ثلاثية عجيبة ومركبة اعطت لمصر هذه المكانة .. انها جغرافيا المكان وهى الموقع وتميز البشر ثم الدور التاريخى الذى قام على الإثنين معا البشر والمكان .. ورغم كل ما تعرضت له مصر من متغيرات وازمات بقيت هذه العناصر اهم قدرات هذا الوطن .. حين تراجعت قيمة البشر لم تسقط اهمية المكان .. وحين تراجعت مواكب التاريخ كان الصراع على المكان وهذا يعنى ان مكانة المصريين كانت وستبقى فى عبقرية المكان لأنه الثابت وكل الأشياء تخضع لحسابات ومقاييس اخرى .. ان التقدم البشرى احيانا يصاب بالضمور .. والتاريخ تحركه احداث يصنعها البشر وهنا نتوقف كثيرا عند حالات الخمول والتكاسل والسلبية التى اصابت العنصر البشرى فى مصر وكانت سببا فى حالة التراجع التى اصابت مسيرته فأصبح مطمعا للآخرين ..

> ان المطلوب الأن بعد هذا الإنجاز الذى صنعته إرادة مصرية خالصة ان نتجه بكل إمكاناتنا الى العنصر البشرى وان نستغل هذه اللحظة التاريخية وهذه الصحوة التى فجرت فى الشعب المصرى هذه الطاقة لكى يكمل مسيرته فى البناء والتقدم .. فى اوقات كثيرة عشنا لحظات مشابهة انتفضت فيها إرادة المصريين ولكنها لم تكتمل فى نفس السياق .. كانت ثورة يوليو من اهم الأحداث التى حركت الإنسان المصرى ولكنها تخبطت وغيرت مسارها فى اكثر من اتجاه ما بين الاشتراكية والانفتاح والنصر والهزيمة.. والحرية والاستبداد .. وكان نصر اكتوبر ايضا لحظة مضيئة فى تاريخ المصريين ولكنها ترنحت ما بين الحرب والسلام والتبعية والاستقلال وتحرير الإرادة واستعباد القرار .. وكان الأخطر من ذلك كله ان الدور المصرى تعرض لهزات عنيفة بسبب ذلك كله .. ومن هنا تأتى اهمية هذه اللحظة التى احتفلت فيها مصر بمشروع كبير وحد إرادة ابنائها ووضع سلطة القرار على اول طريق حقيقى للبناء .. ان سلطة القرار يجب ان تدرك انها بالشعب سوف تفعل كل المعجزات وفى غياب الشعب لا شئ يكتمل ومن هنا يجب ان تحرص على استكمال البناء بالتعليم والصحة والسكن والاستقرار والأمن وقبل هذا فإن الإنسان الحر يصنع المعجزات.. ان هذا الشعب حين يثق فى الحاكم يمضى معه الى آخر المسار مهما كان حجم التضحيات .

ان هذه اللحظة يمكن ان تعيد مصر كلها الى المسار الصحيح ليس بالشعارات او الهتافات ولكن بالإرادة والثقة والإصرار .. هناك فرق كبير بين سلطة تبنى وسلطة تتاجر هناك مسافة بعيدة بين سماسرة الأراضى والعقارات وتجار الفرص السريعة وبين دولة تبنى لكل ابنائها من اجل مستقبل للجميع .. هناك فرق كبير بين قرار يصنع طبقة مستغلة وقرار يصنع شعبا واعيا .

> ان كل عناصر التفرد والتميز مازالت بين ايدينا ولم نخسر فيها شيئا، وكل ما فى الأمر ان يخرج الشعب من غيبوبة التكاسل والسلبية وحالة الارتجال والعشوائية التى تعانى منها مؤسسات الدولة الى آفاق من الجدية والتفاعل والإصرار على النجاح .. ان مشروع قناة السويس يمكن ان يجسد ذلك كله لنجعل منه نموذجا جديدا فى حياتنا فى الفكر والاداء والرؤى والجدية .. ان الأفكار المريضة التى تحاصرنا الأن ابتداء بفكر الإرهاب والعنف الدينى وانتهاء بسطوة المال وجبروته وصلت بنا الى ما نحن فيه من صراعات ومعارك كان الإنسان المصرى اهم ضحاياها .

> ان قناة السويس تحتاج الى خطط وامكانات وبشر وهذه العناصر جميعها لدينا ولن نحتاج لشئ إلا الجدية والأمانة .. يجب ان نفتح ابوابها للمصريين فى الخارج بأموالهم وخبراتهم وتجاربهم .. يجب ان نفتح ابوابها لشبابنا الضائع فى الشوارع بلا عمل او امل او يد تخرج به الى مستقبل مضئ .. لقد كانت لنا تجارب كثيرة فاشلة يجب ان نراجعها حتى لا نكرر اخطاءها .. وكان لدينا مسئولون فى سلطة القرار لم يكونوا امناء على مال هذا الشعب ويجب ألا يكون لهم مكان بيننا .. وكانت لنا مشروعات ضاعت فيها اموال كثيرة ولم تجد من ينفذها فى الوقت المناسب واصبحت ذكرى فى مسلسل الفرص الضائعة.

ان قناة السويس الجديدة يمكن ان تفتح لنا آفاقا اوسع فى العمل والإنتاج والمستقبل وهى خطوة تأكدت فيها قدرتنا على الإنجاز من خلال قرار حكيم اصدره الرئيس عبد الفتاح السيسى وقدرات قوية ومؤثرة تأكدت فى آداء القوات المسلحة .. ومع هذا كانت وقفة المصريين التى تجسدت فى هذه الروح البطولية فى تمويل المشروع ..

ان اهم ما فى احتفالية القناة الجديدة انها قالت لنا بأعلى صوت ان النجاح ممكن وان العمل فريضة وان الإنجاز شئ يستحق الجهد كل الجهد وان علينا ان نعيد لمصر منظومتها الأبدية .. موقع فريد .. وشعب مميز .. وتاريخ وراؤنا يمتد آلاف السنين ومن العار ان تكون لدينا هذه الثلاثية ونفشل مرة اخرى .

لقد اصبح العنصر البشرى اقل مكونات المنظومة المصرية فى الأداء والدور والمسئولية امام عوامل كثيرة شاركت فى تراجعه وسطحيته وسلبية مواقفه، ولا شك ان استرجاع هذه المكونات يمثل نقطة انطلاق، قد يكون انجاز مشروع قناة السويس الجديدة اولى بوادر النجاح فى تجاوزنا محنة التراجع والسلبية والإخفاق امام نظم حكمت ولم تكن على مستوى المسئولية .


فاروق جويدة