لو أقيمت مسابقة فى الرقص والغناء بين فريق يمثل الشعب المصرى وفرق أخرى تمثل بقية شعوب العالم لفاز الفريق المصرى بالمرتبة الأولى دون منازع. ذلك أن كثيرًا من المصريين يتَّصفون بالمبالغة فى التعبير عن حالتى الفرح والحزن. يتملَّكهم الشعور الطاغى بالفرح والبهجة للدرجة التى يخرجهم بها عن وقارهم، رجالاً ونساءً، ويصبح الكبار والصغار والرجال والنساء عاصفة من الغناء والرقص، والتعبير بالصوت وبحركات الجسد، بما يظهر المواهب الكامنة، والقدرات التى لم تتح لها الفرصة للظهور أو التعبير عنها، وما أكثر ما يختزنه كثير من النساء والرجال ولا يتجلى إلا فى الأفراح والليالى الملاح.

كما يتملكهم الشعور الطاغى بالحزن والألم، فى المواقف الشديدة الإيلام، وبخاصة أمام أحداث الفقد والموت، التى تفقدهم كثيرًا من الوعى والاتزان والتوقّر، ولا يستريح البعض منهم - نتيجة للانغماس الهائل فى هذه الحالة، إلا بعد أن يشرف هو نفسه على الهلاك كأنه يودّ اللحاق بمن سبقه إلى الرحيل.
لا توسّط لدى كثير من الناس فى الحالين، ولا مراعاة منهم لاعتبارات السن والعقل والحكمة، وكلما تجاوزوا المعتاد والمألوف، جرفهم اندفاعهم إلى المزيد من التعبير عن مشاعرهم فرحًا أو حزنًا.

ولقد شهدت مصر - من أقصاها إلى أقصاها - صورة حية لهذا الفرح الغامر، عاشته بكامل مشاعرها وأحاسيسها وعواطفها، وعبرت عنه بلغة الرقص والغناء، فى مناسبة وطنية عزيزة وغالية، تمخَّضت عنها الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وكان هذا المهرجان المشهود الذى عاشته مصر، تعبيرًا عن الإحساس الأكيد بانزياح الغمة، وانكشاف الظلام الحالك الذى عاشه الناس، بعد أن ظنوا أن ثورة يناير تفتح أبواب الخلاص، فإذا بها بعد أن اختُطفت تفتح أبواب الجحيم إرهابًا وفشلاً وعدوانًا وطغيانًا، وإلغاء للعقل وطمسًا للضمير.

ولقد أتاح مهرجان الفرح والبهجة، فرصة نادرة لاكتشاف لغة الجسد، عند المشاركين فيه رجالاً ونساء. ولغة الجسد مصطلح جديد سمعنا به لأول مرة فى لغتنا المعاصرة فى مناسبة بعض الكتابات الأدبية، وشاع على ألسنة كثيرة وأقلام عدة. ثم سمعنا به فى صورة أكثر إحكامًا وجدّية عند عدد من علماء التربية المعاصرين، وهم يتحدثون عن ضرورة تأهيل المعلم والمعلمة لاستخدام لغة الجسد فى توصيل المعرفة إلى النشء المتعلم. وقامت دراسات عديدة - فى هذا المجال - تتناول الصيغة المثلى لنجاح من يمارس مهنة التعليم - رجلاً أو امرأة - استنادًا إلى قدرته على استخدام لغة جسده، اقترابًا أو ابتعادًا، انحناءً أو ميْلاً، إسراعًا أو إبطاء فى الحركة والأداء. وكيف أن المهارة فى استخدام هذه اللغة، تجعل الفصل المدرسى مليئًا بالحركة والحيوية والنشاط والتفاعل، بالمقارنة بالمعلم الآخر الذى يظل ثابتًا فى موضعه لا يتحرك، ولا يشارك جسده فى تأكيد معلومة أو رفض أخرى أو تحقيق دهشة أو استثارة شعور معين، الأمر الذى يجعل الموقف التعليمى أو العملية التعليمية جامدة لا روح فيها، شديدة الوطأة على النشء المتعلم مللاً ورتابة، وخُلوًّا من الحيوية والحركية، فاقدة للقدرة على تحويل فراغ الفصل المدرسى - والمدرسة بكاملها - إلى ساحة نشاط وجاذبية وتشويق.

وأعود إلى لغة الجسد التى فجّرتها مواقف الرقص والغناء، وبالغْنا فيها بصورة يختلف فى تقييمها الناس: مُبرّرة وغير مبررة، لأقول إن طوفان الغناء الذى يجتاحنا فى هذه السنوات الأخيرة هو غناء مُوّجه إلى الجسد، وكلما أدّت هذه الأغانى إلى ترقيص الناس، كان ذلك دليلاً على نجاحها وعلوّ فنها ورقيّ صيغتها. واختفت - أو كادت - الأغنية التى تخاطب الوجدان والإحساس، وتفسح مساحة للاستقبال الهادئ والتأمل الجميل. وهذا هو السبب فى أن أفراحنا أصبحت ساحة للضجيج والصراخ، وتجاوبًا مطلقًا مع ألوان الغناء التى تستثير الأجساد وتحرّكها، ويشارك فى التراقص معها حتى الجالسون من المدعوين. فعندما يعلو غناء الجسد، ويصخب إيقاعه، فإن الطريق إلى إصابة الآذان المرهفة والحساسة بالصمم أمر وارد ومتوقع. ويذكّرنى غناء هذه الأيام - وبخاصة غناء الأفراح والمناسبات السعيدة - بالشاعر العظيم بيرم التونسى عندما عانى ما نعانيه نحن الآن فقال:

«ياهْل المغني، دماغنا وجعْنا، دقيقة سكوت لله». وكان فى هذه الكلمات القليلة كلّ الصدق وكلُّ الحكمة. فقد أصبحنا نبنى الوطن بالأغاني، ونتوهم أن أحلامنا تحوّلت إلى واقع بعد أن نُحوّلها إلى غناء، وأصبح الغناء بديلاً عن الفعل، وعن تحقيق ما ننشده ونأمله لهذا الوطن. وأصبحنا فى حاجة ماسة إلى إعادة التذكير بقول بيرم: «دقيقة سكوت لله»، والحقيقة أن ما نحتاجه أكثر من دقيقة ويوم وأسبوع وشهر وشهور.

فلنتعلم أن نغنى حينما يكون الغناء مطلوبًا، له دور، وله فاعلية، وله جلاله ووقاره وفنه العالى كلامًا وتلحينًا وأداءً. أما عندما يتحول إلى سطوٍ على ألحان من سبق أن أبدعوا وملأوا حياتنا بالنغم الأصيل، وعندما تصبح الكلمات - بما تحمله من معنى - تكرارًا لما استمعنا إليه من قبل وكان مبدعوه من كبار شعراء الأغنية، وليسوا من أنصافهم أو أرباعهم، عندئذٍ يحق لنا أن نكتفى بالأغانى الحقيقية التى سكنت وجداننا وأصبحنا نستدعيها ونعود إليها فى كل مناسبة جديدة عندما لا يسعفنا الحاضر ولا يضيف جديدًا إلى ما سبق إنجازه.

وأخيرًا، قليلاً من لغة الجسد، حتى نفسح الطريق لمزيد من لغة العقل، فهى أبقى وأنقى وأرقي!

الشاعر / فاروق شوشه

المصدر
الأهرام