مــات و هـو يضحـــك . . .
اليوم عيد ميلاده .. و حينما تدق الساعة العاشرة صباحاً .. يصبح عمره 56 سنة ..
لا زوجة و لا أولاد .. صيدلي في الأرياف .. مكسبه على قدر نفقته .. يتحرك ببطء من أثر روماتِزم مزمن ، و سكر ، و ضغط دم مرتفع ، و تصلب شرايين ، و نزيف متكرر بالعين اليسرى ..
آخر مرة ذهب إلى الطبيب لفحص قاع العين كان يشكو من صداع حاد .. و قال له الطبيب .. لابد من عمل أشعة مقطعية للمخ .
و سافر إلى القاهرة لعمل الأشعة .. و عاد يمشي ببطء أكثر و في يده حكم بالإعدام .
لقد كشفت الأشعة عن وجود ورم بالمخ .. و الجراحة مستحيلة .. و أيامه الباقية معدودة .. كانت الورقة التي يحملها أشبه بترخيص الدفن ..
و طوال الطريق و هو يطل من نافذة القطار عائداً إلى قريته .. و أعمدة التلغراف تجري بسرعة أمام بصره الكليل .. كان يستعرض عمره الخاوي الذي لم يصنع فيه شيئاً ..
أيام الطفولة و هو جالس في حجر أبيه على شاطئ الترعة .. و أبوه يدلي بالسنارة في الماء و ينتظر الساعات في صبر عجيب حتى يظفر ببلطية أو كركور .. و حينئذ تكون الفرحة ، و يعودان بالصيد الثمين إلى البيت ، و تجتمع الأسرة حول الكركور لتشويه على الفحم و تتقاسمه و تأكله بلذّة و هي تعصر عليه الليمون .
و أيام الصبا و البسكليتة التي اشتراها له أبوه لنجاحه في الإبتدائية .. كانت البسكليتة الوحيدة في القرية .. و كان الكل يحسده عليها و هو يجري بها إلى البندر كل يوم .. و يجلجل بأجراسها المعدنية ..
ثم يعود آخر النهار يحمل عليها حقيبة كتبه و مشتروات البندر .. و أعزها علب الشيكولاتة النستلة .
و أيام الثانوية .. و لعب الكورة .. و السَبَق .. و أفلام طرزان .. و روبن صن كروزو ..
ذلك الفتى العجيب الذي تحطمت به السفينة و ألقته على شاطئ مهجور لجزيرة مهجورة و بدأ يصنع لنفسه عشاً من الجريد و فروع الشجر ، و كانت أسرته الوحيدة هي العصافير و الغزلان و كلبه الوحيد الذي لم يفارقه .. و مغامراته اليومية مع وحوش الغاب ..
و ظلت هذه الجزيرة المهجورة .. و الوِحدة بين وحوش الغاب .. هي الصورة التي تُلِح عليه و تطارده .. و الإحساس الدائم الذي يسيطر عليه .. كلما تلفت حوله في العالم الذي يشبه الغابة .
و انفجر الدم فجأة ليغطي على السيناريو و يصبغ الذكريات بلون أحمر مشتعل .
الأب القتيل .. برصاصة غادرة من الخلف ..
و الأعمام المُتَهمون لخلاف على الأرض .. و الإرث الملعون .. و مستندات مزيفة .. و تحقيق و بوليس و نيابة و محامون .. ثم براءة و إفراج لعدم كفاية الأدلّة ..
و يخرج القتَلة أحراراً ليعاوِدوا الإجرام .
لقد نهبوا الأرض .. و ازدادوا ثروة .. و ازدادوا قوة .. و أصبحت لهم مخالب .
و هم اليوم سادة البلد .. ينحني أمامهم الكل ، و يخطب ودهم الكل
و هم نوّاب في برلمان فاروق
و هم في الإتحاد الإشتراكي أيام عبد الناصر
و هم في مجلس الشعب ..
ثم في مجلس الشورى ..
ثم نجوم و سادة في الحياة العامة و أصحاب ملاين ..
الكل يعلم أنها من المخدرات و لكن لا أحد يستطيع أن يفتح فمه .. و لا يملك أحد أي دليل .. لأنهم لا يلمسون البضاعة ..
هم بارونات .. لهم وكلاء يقومون بالعملية القذرة .. أما هم فيغسلون أيديهم من كل شيء .. و يديرون عملياتهم من وراء واجهة من الشركات و التوكيلات التجارية ..
و هم وُجهَاء لا يظهرون في القرية إلا نادراً .
و أغلب الوقت هم في جنيف و باريس و لندن و روما .. لا تعرف أخبارهم إلا من الصحف ..
و أسند رأسه إلى نافذة القطار و عادت مطارق الصداع تدق رأسه ..
و كانت أعمدة التلغراف ماتزال تجري بسرعة ، و تتراقص أمام عينيه كسراب في بحيرة الصداع .. و في الخلفية يبدو العالم كله أشبه بغابة تعوي فيها الوحوش .. و هو وحيد .. وحيد ..
و تطفو وجوههم واحداً واحداً في ذاكرته ..
الآن قتلاهم بلا عدد .. و كلهم شباب تتصيدهم شبكة الإدمان .. فلا يخرجون منها إلا في توابيت .. أو إلى مصحات عقلية .
و راح يمسح على رأسه المصدوع ..
لقد نسي تماماً سنوات الجامعة في القاهرة في كلية الصيدلة .. و نسي تفاصيلها .
صورة أبيه القتيل لطَّخة هذه السنوات و أغرقتها في وَهَج دموي ، و لوَّنَت شبابه بلون الدم ..
لم يستطع نسيان هذا الأب الطيب الحنون أبداً ، و ظل يشعر دائماً أنه مازال جالساً على حِجرِه على شاطئ الترعة ينتظر غمزة السنارة و ارتعاشة الكركور و رائحته على الشواية .. و طعمه بالليمون .. و فرحة السرة .. و ابتسامة الأب التي تشبه حضن حنان يضم كل شيء .. ثم الرصاصات الغادرة و نافورة الدم .
..
توقفت حياته عند هذه الصورة لم تبرحها ..
لم يستطع أن يتزوج .. لم يستطع أن يحب ..
لم يستطع أن يمتزج بالناس و يبادلهم الحياة ..
تجمد شيء في داخله .. ثم وقع فريسة الأمراض .. و داهمته شيخوخة قبل أوانها .. و ابيض شعره و هو مازال في الأربعين .. و لم يفكر أن يبرح القرية ، و اكتفى بأن يكون صيدلي أرياف .. و تقلصت أحلامه إلى حلول بسيطة متواضعة .. و كان يشعر بالفزع في الأيام القليلة التي ينزل فيها القاهرة لقضاء المشاوير الضرورية .
كان الزحام و الضوضاء و تدافع الأكتاف و الهَرَج يصيبه بالفزع .. و يُشعِره بالغربة و الإنفصال و كأنه مخلوق آخر غريب .. أجنبي على هذا العالم ، سقط عليه من كوكب آخر ..
كانت المدينة تبدو له قاسية ، فظَّة تنتهك عليه وحدته و خصوصيته .
و كان يسعى في طرُقاتها و قد أحاط نفسه بهذه القوقعة من الخوف و العُزلة ..
لا ترتد إليه نفسه إلا حينما يعود إلى القرية ، و يسمع أنين السواقي و زقزقة العصافير على شجرة التوت الحانية التي تنام فروعها على نافذته .
و في آخر النهار حينما يريح رأسه على الوسادة .. كان يؤلمه أن عمره الطويل .. و سنواته الثماني و الستين لم تُثمِر شيئاً ..
الشجرة العجوز عند نافذته تثمر التوت كل ربيع ، و لوزات القطن الأبيض تغطي الحقل ، و زهر البرتقال يتوج الشجر ..
و هو لم يُثمر شيئاً بطول ثمان و ستين سنة .
أيامه عقيمة .. و سنواته عقيمة .. لم يصنع بها شيئاً ..
لقد قُتِلَ هو الآخر يوم قُتِل أبوه .
قتلته نفس الرصاصة الغادرة من الخلف .. قتلت فيه الأمل و الطموح و المستقبل .. و لم تُبقِ منه إلا شبحاً .
و كانت تراوده الرغبة في أن يصحو يوماً من هذا الموات .. و أن يفعل شيئاً .. أي شيء يدل على أنه حيّ .
و الآن لم تبق له إلا أيام معدودة .. و ربما ساعات معدودة .. و ربما دقائق معدودة .. لا أحد يدري .. فماذا تبَقى له أن يفعل .. ؟؟
و كان القطار يُبطئ في سيره و يدخل المحطة .
و قام يتحامل على نفسه و يجر ساقَيهِ .
و نزل إلى المحطة فوجد أعلاماً و زينات و لافتات ، و تذكر أنه يوم مشهود و أن رئيس الوزراء على وشك الوصول ، و أن رجال التليفزيون و الإذاعة يملأون القرية التي تحتفل اليوم بافتتاح مشروعات وهدان .. مائة فدان فواكه ، و مزرعة دواجن ، و مركز تربية عجول ، و ثلاجات للعصائر ، و وابور طحين ، و صناعات جبن و ألبان ..
و صور الحاج وهدان تغطي جدران المحطة و قد كُتب عليها بالخط العريض .. المحسن الكبير .. و الرجل المؤمن .. و المُصلِح العظيم .. و الرائد الإجتماعي .. نائب القرية و راعيها .. الحاج وهدان ..
و ما كان الحاج وهدان سوى البارون الكبير الذي ترك قصره في باريس ، و عاد إلى قريته ليكون نجم هذا الحفل الإعلامي .. و عريس هذه الزفة ، حيث يقف إلى يمين رئيس الوزراء يتلقى التهاني و الدعوات .
و ما كان المشروع كله في لغة أهل الحرفة .. إلا محاولة لغسل أموال المخدرات .. و تنظيف للواجهة التي تتجمع عليها أتربة الإشاعات من وقت لآخر .. و لزوم الوجاهةه ..
إنه إذن العم العزيز .. و لقاء على غير ميعاد .. بعد أكثر من أربعين سنة من الحادث .
و مسح الرجل على رأسه المصدوع و هو يحاول أن يتذكر ملامح العم العزيز .. إنه في الصور يبدو شباباً .. فهل هو كذلك .. ؟
و ذهب إلى صيدليته و تكَوَّم على الكرسي ، و غرق في الذكريات .
لم يصحو منها إلا على أصوات الموكب .. و رتل العربات الفاخرة .. ثم عربة تقف أمامه و ينزل منها السائق مسرعاً ليُقبِل عليه طالباً نوعاً من الإسبرين للحاج .
و قال الصيدلي في حماس .. أنا أعرف الإسبرين الذي يستعمله .. و سآخذه له بنفسي .. و اختطف العلبة و أسرع بها إلى العربة .. و وقف يناولها إلى الحاج وهدان .
- مين ؟
- انت مش فاكرني يا حاج وهدان .. انت نسيت صبحي .. ؟!
- مش معقول تكون صبحي .. ده انت عجِّزت أوي .. و راسك بقت كِتَّانة بيضة .
- من الأيام يا حاج .
- انت مش حاتيجي تحتفل معانا والا إيه .. ؟
- حاجي طبعاً .. و معقول يفوتني اليوم السعيد ده .. !
و انفلت إلى اجزخانته .. ليحضر شيئاً من درج مقفل يضعه في جيبه ثم يعود مسرعاً لينضم إلى رتل العربات .
و وصل الموكب إلى العزبة ، و كانت قلاشات الكاميرات تومض كالبرق الخاطف في عتمة الغروب ، و كان الحاج يتأبط ذراع رئيس الوزراء و يتنقَل به في أرجاء مشروعه .. و من لحظة لأخرى يتوقف ليشرح .. و تقدم أحد الصحفيين من رئيس الوزراء يسأله .. و رئيس الوزراء يبارك و يهنئ و يُثني على العمل الجاد .
- الحاج مثال عظيم للمواطن .. و لو كل واحد عمل زي الحاج كانت اتحلت كل المشاكل في بلدنا ..
و الحاج يشاور على الماكينات ..
- المصنع ده أنا جبته كله من ألمانيا الغربية .. و الثلاجات كلها صناعة فرنسية .. و وابور الطحين إنجليزي .. و مصنع الأجبان هولندي .
و أصوات من كل مكان حوله :
- عظيم .
- عظيم .
- عظيم .
- هايل .
- همة مفيش زيها .
- و كل ده تم في 18 شهر .
- إزاي ؟!
- دي معجزة .
- ده سد عالي تاني .
- دي بلدنا حاتبقى أوروبا .
- ده احنا حظنا من السما .
- كل ده بنَفَس الحاج الكبير .
- ادعو للحاج الكبير يا رجاله .
- ربنا يخلي لنا الحاج يا رب و يطَوِّل في عمره كمان و كمان .
- و مين حايدرب الأهالي على الشغل هنا .
- فيه مهندسين و خُبَرا .
- ده انت مانستشي حاجة يا وهدان بيه .
- كل شيء حايشتغل بلمسة واحدة للزرار ده .. كده هوه .. كله دلوقت داير .. أوتوماتيكي .
- مش معقول .
- هايل .
- عظيم .
- معجزة .
- بسم الله ما شاء الله .
- مبروك علينا يا رجاله .
و كان صبحي الصيدلي أقرب ما يكون غلى الحاج حينما استدار الحاج نحوه ليسأله :
- إيه رايك يا صبحي ؟
و في لحظة خاطفة أخرج صبحي الطبنجه من جيبه ليقول له رأيه الذي احتفظ به من أربعين سنة .. و أفرغ في قلبه رصاصة واحدة غادرة ..
هذه المرة من الأمام و على شاشات التليفزيون .. و على مرأى من عشرة ملايين مُشاهِد .. رداً على رصاصة غادرة من الخلف قتلت أباه في الظلام دون أن تراها عين . و سقط المجرم العُتُل يتخبط في دمه .. بينما انطلقت عشر رصاصات من الحرس لتصل إلى صدر صبحي .. و لكن بعد فوات الأوان ..
فقد كان قد بدأ يموت ميتة طبيعية بسبب نزيف الورم المخي .. و كان يضحك .
و مات صبحي قبل أن تصل إلى قلبه الرصاصات العشر .
مــات و هو يضحـــك ..
كان يضحك على جريمة أخرى إرتكبها الحرس بلا جدوى .. فقد قتلوا هذه المرة رجلاً ميتاً و حملوا إثماً دونما داعٍ .. فقد سبقهم السرطان و أعفاهم ، و لكنهم أصروا على الإثم .. و مثَّلوا بجثة رجل ميت ..
و لهذا كان يضحـــك ..
و كان الميت الوحيد الذي ذهب إلى قبره و هو يضحــك .
و قد استراح ضميره .. فقد صنع شيئــاً .. في اللحظة الأخيرة .. قبل أن يُسدَل الستـــار .
~~
-- د. مصطفى محمود || كتاب : الذين ضحكوا حتى البكاء --
من كتـــاب / الذين ضـحكوا حتى البكـــاء