الجمال فزورة ..

إنه حقيقة بديهية تشرح نفسها للعين بدون منطق و بدون واسطة و بدون أسباب ..
فالمنظر الجميل يخطف عينك بلمحة واحدة .. فتهتف : الله .. بدون تفكير و بدون أسباب ..
والوجه الجميل يخطف قلبك ، قتقف تحملق في بلاهة و فمك مفتوح و تهتف : الله .
و الموسيقى الجميلة تغمرك بالنشوة والطرب و تأسر حواسك من قبل أن يفيق عقلك على الأسباب و يفهم السر ..
و إذا سألت نفسك : ما السبب .. ما السر .. في الحيثيات التي جعلت من الشئ الجميل شيئا جميلا مطربا ، فإنك سوف تتعب .. هل الشئ جميل لأنه نافع .. ؟!
إن الباخرة أنفع من القارب الشراعي و مع هذا ، فالقارب الشراعي أجمل .. و السبورة السوداء التي يتعلم عليها الأطفال أكثر نفعا من اللوحة الجميلة.. و مع ذلك فاللوحة أجمل ..
و حبة القمح أنفع من اللؤلؤة .. و مع ذلك فاللؤلؤة أجمل .. و جناح الفراش ليس في حاجة إلى كل ما عليه وشي و زخرفة و نمنمة .. و الطبيعة لم تكن بحاجة ملحة لتنقش كل هذه النقوش .. و نحن لم نكن بحاجة إلى هذه النقوش .. و لكننا مع هذا نفضل هذه النقوش و نراها أجمل ..
إن السر ليس المنفعة .
أيكون سر الجمال في القيمة الخيرة للأشياء الجميلة .. لا .. إن الأخلاق مهما بلغت من السمو لا تستطيع أن تجعل من المرأة القبيحة ملاكا .. إنها تصبح جميلة في عين العقل وحده .. و قد يتزوجها الرجل من باب النصاحة والتعقل .. و لكن ليس من باب الإعجاب بجمالها ..
وأخلاقية العمل الفني وحدها لا يمكن أن تجعل منه عملا فنيا جميلا .. إنها تجعل منه عظة و خطبة .. و غالبا ما تكون عظة ثقيلة و خطبة سمجة بعيدة كل البعد عن الجمال .. و على العكس من ذلك نقرأ شكسبير فنجد الشرور و الآلام و قد كساها الفن أثوابا باهرة من الجمال أيكون الصدق هو سر الجمال .. ؟
إن الصدق غالبا ما يكون خشنا يصدم الحواس ..
الصدق في حاجة دائما إلى سياق حلو و أسلوب جميل ليشرحه و يرسمه .
إن الجمال شئ آخر غير الصدق ..
إنه قيمة تطلب لذاتها .. و بدون حاجة لقيمة أخرى تبررها .. إنه لذة صافية تبرز نفسها بنفسها .. و شرارة تشعل في نفوسنا النشوة و السعادة بدون وساطة .
و سر الجمال في لحظة الاتصال بين نفس و موضوع .. بين عين و أذن و قاب .. و بين رسم جميل أو لحن عذب أو منظر آخاذ .
و الجمال لا يوجد في الرسم نفسه .. و لا في اللحن بدليل أن الآذان البليدة .. والعيون البدائية قد يفوتها ما في اللحن و ما في الرسم و قد تنظر و تسمع فلا ترى و لا تسمع شيئا .
سر الجمال في النفوس التي ترى و تشاهد و تصغي .. و لحظة بين موضوع النفس و بين موضوع اكتشفت فيه النفس ذاتهاو أسرارها و حقائقها الدفينة ..
إنها حالة من التعارف بين المثل العليا القائمة في النفس و بين الرسوم التي تشرح هذه المثل و تجسدها و ترسمها .. و حالة من النشوة تتحد فيها النفس بموضوعاتها .. و تحصل من هذه الوحدة على الراحة واليقين .
إن الموضوع الجميل هو وثيقة من العالم الخارجي بأن النفس على صواب .. و إن خيالاتها و مثلها و قيمها الباطنية حقيقة .. و لكن ما هي حقيقة هذه المثل ؟
ما حقيقة هذه التركيبات المثالية من الشكل و اللون و الصوت و النغم الباطنة في نفوسنا ؟
إنها تحصيل عملية طويلة من الانتقاد والحذف و الإضافة ..
عملية تركيبية تأخذ محسوسات الواقع و تصنع منها كيانات غامضة مثالية تحتفظ بها في الخيال والذاكرة
فى ذاكره كل منّا صورة مثالية للغروب والشروق .. والطفولة .. والأنوثة .. والرجولة .. هى محصّلة من كل التجارب والواقعية وكل المدركات الحسيّة .. أعملت فيها النفس الحذف والإضافة والتعديل بما يتفق مع آمالها وأحلامها .
فى خيال كل منا نموذج غامض لحصان يتمنى لو اقتنى مثله .. ولامرأه يتمنى لو قابلها .. ولرجل يتمنى لو صادقه ..
والفنان هو الذى يجسّم هذه الأحلام .. ويقدّمها للعين والأذن والقلب .. فتطرب وتنتشى وتشعر بهذه اللذة النادرة .. لذة العثور على أحلامها وأمنياتها .. وصورها الدفينة .
والفنان هو الوحيد الذى يستطيع أن يجسم هذه الأحلام .. لأنه الوحيد الذى يشعر بها واضحة جلّية مكتملة فى وجدانه .. أما الشخص العادى فيشعر بها غامضة مهزوزة يكتنفها الضباب ..
النفس إذن هي المرجع و الأرشيف الذي يحتوي على شفرة العلاقات الجمالية كلها و مشكلة الفنان هي في محاولته الدائبة لاكتشاف هذه الشفرة .. و التعرف على هذه العلاقات .
فالنغمات الموسيقية في تتابعها .. هي مجرد استطراد لعلاقات و أبعاد .. و أطوال مجردة من الذبذبات .
إنها تشبه لوحة هندسية فراغية تتشكل فيها الخطوط و الأبعاد تبعا لعلاقات معينة.. أدرك الفنان بإحساسه أنها علاقات جميلة ..
كيف أدرك الفنان هذا ؟
هنا اللغز ..
إنها الموهبة التي تجعل الفنان على صلة وثيقة بنفسه و بكنوزه أكثر من صلة الرجل العادي .. والمكاشفة الداخلية التي يمتاز بها الفنان عن سائر خلق الله .
إنها نوع من الجلاء البصري الذي يتحدث عنه الروحانيون..
و لكن الفنان لا يحضر بها روح أحد ..و إنما يحضر روحه روحه هو شخصيا .
و جورج سانتايا الفيلسوف الأسباني في كتابه .. " الإحساس بالجمال ".. بعد رحلة طويلة من 300 صفحة يبحث فيها سر الجمال يصل إلى هذه النقطة ثم يتوقف فلا أحد يعرف الحقائق الباقية التي تكتنف السر.. لا أحد سوى الفنان نفسه .. الذي يحل هذا اللغز شيئا فشيئا .. على مدى اللانهاية من عمر الدنيا .. و عمر الفن .
..
-- د. مصطفى محمود || كتاب : تأملات في دنيا الله --