دكتور/ صخر عبد الله الجنيدي
دكتوراه في القانون الجنائي
عمل محامياً أستاذاً
يشغل وظيفة مدعي عام دائرة الجمارك
تمهيد
نظراً لازدياد النشاط المالي والتجاري في البلاد في السنوات الأخيرة الناجم عن الانفتاح الاقتصادي وما ترتب على ذلك من تشعب القوانين والأنظمة التي تنظم عملية مكافحة التهريب بكافة أنواعه وتعقدها وما يهيئه ذلك لمن لا يراعي حرمة القانون من فرص للعبث بالأمن والاقتصاد الوطني وما تقتضيه مكافحة هذا الوباء من تهيئة كوادر مسلحة بالفكر القانوني لتقف وترابط على خط الدفاع الأول ودفاعاً عن تراب الوطن وأمنه واقتصاده فقد اجتهدنا أن نرسي أسس نظرية التهريب الجمركي في ضوء الفقه والقضاء وخروجها عن قواعد الاختصاص الجنائي.
وعلى الرغم من الأهمية البالغة (لنظرية التهريب الجمركي في ضوء الفقه والقضاء) وغيرها من الجرائم المستمرة، فإن نصيبها من البحث العلمي والمؤلفات الفقهية محدود جداً، وقد حرصنا في مؤلفنا هذا أن نمزج بين المعلومات القانونية والمنطق وبين الخبرة العملية التي استمديناها عبر سنوات في أعمال المحاماة والجمارك الأردنية، فكان هذا المؤلف جامعاً بين الجانبين النظري والعملي بالاضافة إلى ما تمثله هذه الدراسة العملية المقارنة من قيمة علمية في حد ذاتها باعتبارها تتيح السبيل إلى تقييم التشريع الوطني وتكشف النقص فيه وتنبه المشرع إلى سدها.
وإني إذ أقدم هذا المؤلف العلمي المتواضع إلى جميع كوادر دائرة الجمارك والأجهزة الوطنية الأخرى التي تسهر وترابط على طول الحدود الأردنية دفاعاً عن مقدرات هذا الوطن وإلى القراء من فقهاء وقضاة وكلي أمل أن يكون باكورة لأعمال قانونية وفقهية متخصصة في جريمة التهريب والفقه الجنائي.
القسم الأول
مفهوم وأنواع جريمة التهريب الجمركي
المبحث الأول:
مفهوم جرائم التهريب الجمركي
جرياً على سنة العديد من التشريعات الأجنبية فإن قانون العقوبات الأردني لم يعرف الجريمة، ولكنه نصّ في المادة (55) على أن الجرائم تنقسم إلى 1- جنايات، 2- جنح، 3- مخالفات، كذلك لم يرد بقانون الجمارك الأردني رقم 20 لسنة 1998 تعريفاً للجريمة الجمركية والتي يعرّفها الأستاذ مصطفي رضوان على أنها "كل إخلال بالقانون أو النظم الجمركية"، على أننا نؤثر تحديدها بأنها: "كل عمل إيجابي أو سلبي يتضمن خرقاً للتشريعات واللوائح الجمركية ويلحق ضرراً في مصالح الدولة، ويقدر الشارع من أجلها عقوبة"، ولكن المشرع الجمركي الأردني سلك مسلكاً مغايراً بتعريفه للتهريب الجمركي، وأنه بذلك قد خرج على السياسة الجنائية العامة، حيث نصّت المادة (203) من قانون الجمارك الأردني على أن التهريب هو: "إدخال البضائع إلى البلاد أو إخراجها منها بصورة مخالفة للتشريعات المعمول بها دون أداء الرسوم الجمركية والرسوم والضرائب الأخرى كليّاً أو جزئياً أو خلافاً لإحكام المنع والتقييد الواردة في هذا القانون أو في القوانين والأنظمة الأخرى" ...
ونلاحظ هنا أن التشريع الجمركي الأردني يرتب المسؤولية على إدخال البضائع إلى المملكة أو إخراجها منها خلافاً لأحكام التشريع الجمركي الأردني أو أي تشريع آخر بما في ذلك البضائع الممنوعة، حيث ينقسم التهريب الجمركي من حيث المصلحة المعتدى عليها إلى تهريب ضريبي وغير ضريبي ..
1) التهريب الضريبي: ويتحقق بإدخال البضائع أو إخراجها بطريق غير مشرع دون أداء الضريبة الجمركية المستحقة، وهو يقع إضراراً بمصلحة ضريبية للدولة، ويتحقق هذا الإضرار بحرمانها من تلك الضريبة ..
2) التهريب غير الضريبي: تقع الجريمة في هذه الصورة من حيث صور التهريب إضراراً بمصلحة أساسية للدولة غير مصلحتها الضريبية، فهي ترد على منع بعض السلع التي لا يجوز استيرادها أو تصديرها بقصد خرق الحظر المفروض بشأنها مخالفاً للقوانين والتعليمات المعمول بها في شأن البضائع الممنوعة.
ويطلق الدكتور أحمد فتحي سرور على التهريب غير الضريبي اصطلاح (التهريب الاقتصادي) تمييزاً له عن التهريب الضريبي. وذلك على أساس الهدف الذي يتوخاه المشرّع من العقاب عليه؛ وهو حماية المصلحة الاقتصادية للدولة كما أنه كثيراً ما ينطوي التهريب الاقتصادي على تهريب ضريبي، لأن المال موضوع التهريب الاقتصادي غالباً ما يكون وعاءاً للضريبة الجمركية ..
ونحن وإن كنا لا ننكر وجاهة هذا الرأي إلا أنه من العسير قبوله على إطلاقه، ذلك لأن التهريب الاقتصادي لا يمثل سوى أحد صور التهريب غير الضريبي، كما أنه مما يُؤخذ عليه أنه عمّم الصفة الاقتصادية للتهريب غير الضريبي حيث يراد به حماية مصالح أخرى غير اقتصادية، لذا فإننا نتفق مع رأي الدكتور عوض محمد الذي انتقد هذه التسمية، ورأى فيها قصوراً عن الإحاطة بحقيقة هذا النوع من أنواع التهريب، لأنه لا تلازُم بين التهريب غير الضريبي والمصالح الاقتصادية للدولة، فالقيود التي تفرضها الدولة لمنع الاستيراد أو التصدير لا تهدف إلى رعاية مصالحها الاقتصادية فحسب، وإنما قد تريد بها حماية مصالح أخرى، فقد تكون الاعتبارات السياسية أو العسكرية السبب في الرقابة الجمركية كما هو الحال عندما تحظر الدولة استيراد البضائع من بلاد معينه، بقصد الضغط على هذه البلاد، وقد تكون الغاية اجتماعية عندما تفرض الدولة ضرائب جمركية باهظة على استيراد الخمور أو ورق اللعب، تنفيراً للناس من الإقبال عليها.
وقد تكون الغاية خلقية أو تربوية عندما تمنع الدولة استيراد المطبوعات والصور المخلّة بالآداب. وقد تكون الغاية صحية، كما هو الحال في حظر استيراد المواد المخدرة والسموم والسلع الفاسدة. وقد تفرض الرقابة لاعتبارات تتعلق بأمن الدولة، مثال ذلك: حظر استيراد المفرقعات والأسلحة النارية.
وقد تبغي الدولة من فرض هذه الرقابة حماية الثقة العامة وصيانة سمعتها في الخارج، كما هو متحقق بالنسبة لحظر استيراد وتصدير العملات المزورة ..
إن الرقابة الجمركية لا تحقق غرضاً في ذاته بل أنها تخدم في ذات الوقت أكثر من غرض وتحقق عدّة غايات، وهذا هو الواقع المألوف نظراً لتشابك مصالح الدولة وارتباط كل منها بالآخر، وقد تتغير أهداف الدولة والأسباب التي تدعو إلى الرقابة الجمركية في الدولة الواحدة من وقت لآخر.
ونظراً لتغيير الظروف الداخلية والظروف الخارجية، وعلاقاتها مع الدول الأخرى؛ فعدو الأمس يكون صديق الغد، فالعلاقات الدولية ليس لها ثوابت، والظروف الدولية قد تفرض معطيات تتغير بظهور معطيات أخرى على السطح، لذلك فإن باستخدام الرقابة الجمركية قد تتعدد أسبابه، وبالتالي صور الرقابة الجمركية من وقت لآخر، فلكل دولة ظروفها، فهذه دولة ترغب في حماية صناعتها الناشئة، وتلك دولة ترغب في غزو أسواق العالم فمن الطبيعي أن يكون لكل دولة على حده حسب أهدافها؛ أساليب الرقابة الجمركية التي تختلف عن أساليب الرقابة الجمركية في الدولة الأخرى..
يتضح مما تقدم أن الإخلال بالقواعد الجمركية، هو عامل من العوامل الهدّامة للاقتصاد القومي، لما ينتج عنه من ضياع لحقوق الخزانة العامة، وقضاء على الصناعات الوطنية، الأمر الذي يؤدي إلى خسارة فادحة في الدخل القومي، وفي العمالة، ويسبب انتهاكاً للنظام العام، فتعم الفوضى وتفسد الأخلاق وتنتشر البطالة، ويهاجر المواطنون الشرفاء سعياً وراء لقمة العيش.
وفي هذا الصدد فإننا نؤيد رأي البروفيسور الروسي (جالينسكي) الذي يؤكد أن الخطر الاجتماعي للجريمة الجمركية يتمثل في هدم نظام المدفوعات الجمركي خلافاً لمصالح الدولة الاقتصادية والدليل على ذلك أن مجموع الرسوم والضرائب الجمركية التي تعرّضت للضياع في عام 1991 بلغت (343.2) مليون دينار أردني، أما في عام 1995 فقد بلغت (642.1) مليون دينار أردني؛ وبهذا نرى وبشكل واضح الازدياد المستمر للجرائم الجمركية، ونتيجة لذلك تزداد حجم الموارد المالية التي تعرّضت للضياع، لكل هذا نرى أن الحرص على مصلحة الوطن يُبرر، إلى حد بعيد، ما ذهب إليه الشارع من خروج على القواعد العامة في قانون العقوبات من أجل ردع الجرائم الجمركية ..
وهنا يثور الخلط أحياناً بين التهريب الجمركي وبعض صور التهريب الأخرى، كتهريب الذهب والنقد والمصوغات، وتهريب المخدرات، وتهريب الأسلحة والذخائر.
مبعث الخلط بينهم أن محل التهريب هو البضائع، وقد استخدمت المادة (203) من قانون الجمارك الأردني لفظ البضائع وهي عبارة مطلقة – والمطلق يجري إطلاقه – وهي تشمل كل مادة طبيعية أو منتج حيواني أو زراعي أو صناعي، بما في ذلك الطاقة الكهربائية.
إن لفظ البضائع من العموم والشمول حيث ينصرف إلى كل شيء مادي يمكن تداوله وحيازته وتملكه من جانب الأفراد سواء كان ذا صفة تجارية أو غير تجارية، أي للاستعمال الشخصي.
ويتفرّع عن ذلك أن كلاً من الذهب والنقد والمصوغات والمخدرات والأسلحة والذخائر والتبغ: هي أشياء مادية قابلة للتملك والحوالة والنقل والحيازة، ومن ثم تُعدّ من قبيل البضائع، الأمر الذي قد يوحي بأن صور التهريب المشار إليها تخضع لأحكام قانون الجمارك ..
إن قانون الجمارك يُعدّ – في مجال التهريب – بمثابة القانون العام، إذ يشمل كافة صور التهريب، ومن ثم نكون أمام قانونين؛ أحدهما عام، والآخر خاص.
وعملاً بالقاعدة العامة من قواعد التفسير، والتي تقضي بأن الخاص يخصص العام، فإن حالات التهريب المشار إليها تفلت من نطاق أحكام قانون الجمارك وتطبّق بشأنها الأحكام الخاصة التي قررها المشرّع في القوانين الخاصة التي تحكمها.
ويبقى اصطلاح التهريب الجمركي مقصوداً به عند إطلاقه تهريب البضائع من الضرائب الجمركية أو بالمخالفة لنظم المنع، والذي يخضع لأحكام قانون الجمارك، وذلك إذا لم يكن تهريب البضائع الممنوعة مُعاقب عليه بمقتضى قانون آخر.
وقد استقر الاجتهاد على أنه مع قيام قانون خاص، فإنه لا يرجع إلى أحكام القانون العام إلا بما لم ينظمه القانون الخاص.
وأن أساس المفاضلة بينهما إنما تكون عند وحدة الفعل المنصوص عليه في كل منهما، وحدة تشمل كل عناصر هذا الفعل وأركانه ..

المبحث الثاني

أنواع التهريب الجمركي

ينقسم التهريب الجمركي إلى عدة أنواع بحسب وجهة النظر التي يبنى عليها التقسيم، غير أن أهم ما يلاحظ على تلك التقسيمات أنها متشابكة ومتداخلة بحيث يتعذر الفصل بينها في الكثير من الأحوال، كما أنها تتفاوت في أهميتها وفائدتها، وأهمها ما يلي:
أولاً: من حيث الركن المادي للجريمة: ينقسم التهريب الجمركي إلى حقيقي وحكمي.
1-التهريب الحقيقي: هو الصورة الغالبة في التهريب، سواء وقع الاعتداء على مصلحة الدولة الضريبية أو غير الضريبية، ويتحقق هذا النوع من التهريب بإدخال بضاعة تستحق عليها ضريبة جمركية إلى البلاد، أو بإخراجها منها بطريقة غير مشروعة دون أداء هذه الضريبة، أو باستيراد أو تصدير بضاعة يحظر القانون استيرادها أو تصديرها.
وتكتمل عناصر الركن المادي في هذه الجريمة بأن يقوم الجاني بالأفعال الآتية:
أولاً : إدخال البضائع إلى إقليم الدولة أو إخراجها منه.
ثانياً : أن يتم ذلك بطريقة غير مشروعة.
ثالثاً : عدم أدار الضرائب الجمركية والضرائب الأخرى.
وعادة ما يقترن إدخال البضائع أو المواد الأخرى أو إخراجها بطرق احتيالية وإن كان ذلك ليس شرطاً لازماً لوقوع التهريب ولكن الاطلاع على قضايا التهريب ليكشف عن أمثلة كثيرة للطرق الاحتيالية التي يتفنن المهربون في الالتجاء إليها – نذكر منها على سبيل المثال:
1.أن يفرغ المهرب عصاه ويضع فيها الشيء المراد تهريبه.
2.أن يخفي المهرب الماس في غليونه.
3.إخفاء الأشياء المراد تهريبها في أماكن مستورة من جسم الإنسان.
4.إخفاء الأشياء المراد تهريبها في أماكن سرية في حقائب المسافرين كأن يضعها في قاع الحقيبة ثم يغطيها بطبقة من الجلد وفوقها قطعة من القماش.
5.إخفاء الأشياء المراد تهريبها في جزء من باب العربة ثم خياطته.
6.تهريب الذهب بأن توضع محل النمرة النحاسية المعلقة خلف السيارة قطعة من الذهب تصب بشكل خاص لتتخذ شكل هذه النمرة تماماً ثم تطلى بالطلاء الخاص بها.
7.إخفاء المجوهرات في تجويفات داخل ألواح خشب أرضية السفينة.