الفصل الاول: رابطة الموظف العام بجهة الادارة
والموظف العام هو بأجمال من يشغل وظيفة دائمة مما تسير به المرافق العامة ، بطريق الاستغلال المباشر من الدولة أو وحداتها العامة . وكان الرأي السائد حتى خواتيم القرن الماضي وفواتيح هذا القرن ، أن رابطة الموظف بجهة الإدارة رابطة عقدية . وكان يتردد الوصف القانوني لهذه الرابطة العقدية بين عقد " إجازة الأشخاص " بالنسبة لمن يقوم بعمل مادي ، وقعد الوكالة بالنسبة لمن يقوم بعمل قانوني يمارس به ولاية إنفاذ وإمضاء لشان من الشئون العامة ، وأحيانا ما كانت توصف العلاقة بأنها من العقود غير المسماة.
ولكن جري العدول عن هذا النظر في فرنسا ثم في غيرها ، لما تعرضت له النظرة العقدية لهذه العلاقة من نقد ، وذلك (من جهة أولى) انها نظرة لا تفسر تماماً حقيقة الوضع القانوني. ووجه النقد أن موضوع العقد وشروط التعاقد والحقوق والالتزامات المتبادلة لا يجري الاتفاق عليها بين طرفي العلاقة ، ولا يملك أي من العاقدين تعديل أوضاع هذه العلاقة ، ولا جهة الإدارة رب العمل تملك ذلك. (ومن جهة ثانية) فان التصور الأساسي للعقود أن طرفيها يملكان تعديل أحكامها ، الأمر غير القائم في علاقات التوظف مادامت السلطة إلادارية لا تملك أن تتفق مع العامل علي تعديل أحكام العلاقة القائمة بينهما ، والمنظمة بموجب القوانين واللوائح المعينة للوظيفة العامة. (ومن جهة ثالثة) فانه يمكن تغيير مركز الموظف في أي وقت دون أن يستطيع أن يحتج بالحق المكتسب في أن يعامل بالنظام القديم الذي عين في ظله مادام التعديل يشمل أوضاعه اللاحقة علي هذا التعديل .
ومع العدول عن النظرة العقدية لهذه الأسباب ، تبني الفقه والقضاء فكرة المركز التنظيمي ، وهو مركز ينشا بإرادة طرف واحد هو جهة الإدارة وينتهي بإرادة هذا الطرف وحده. ويخضع للأحكام والشروط واللوائح الصادرة بها القوانين واللوائح دون أن يكون في مكنة أي من طرفي العلاقة تعديل هذه العلاقة علي خلاف الأوضاع الواردة بالقوانين واللوائح ، ويمكن تعديل هذه العلاقة علي خلاف الأوضاع الواردة بالقوانين واللوائح ، ويمكن تعديل مراكز الموظفين ويسري النظام الجديد المعدل عليهم بالنسبة للمستقبل دون أن يملكوا التمسك بالنظام القديم الذي عينوا في ظله .
ومن هذا النظر للمركز التنظيمي للموظف ، نظر إلى طبيعة السلطة التأديبية التي يخضع لها عند اخلاله بما يلتزم به ويأتمر . ونظر إلى المسئولية التأديبية بوصفها نوعا قائما برأسه من نظم المسئوليات ، وهي تتميز بذلك عن كل من المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية .
وفي ظني أن الاعتبار بمفهوم العقد الجعلي المعروف لدي الشافعية في الفقه الإسلامي ، والتوليد علي هذه الفكرة ، إنما يحل كثيرا من اللبس القائم حول العلاقة الوظيفية ، فالعقد تترتب آثاره بجعل من المشرع ، والإرادة هي السبب المحرك لهذه الآثار ، دون أن يكون للإرادة دخل في ترتيب أنواع الآثار المقررة علي الدخول في علاقة ما . والمثل الفذ علي هذا النوع من العقود هو عقد الزواج ، يدخله الداخلون بإرادتهم ، ولكن أحكامه كلها مقررة بجعل من الشارع سبحانه وتعالي . ونحن لا نقول بان العقود كلها عقود جعلية كما يفهم من فقه الشافعية ، ولكننا نقول أن هذا نمط من العقود مقصود بذاته ، يمكن أن يضاف إلى نوع أخر هو العقد الإرادي ، وان ما نسميه اليوم بالعلاقة التنظيمية ، يمكن أن يكون مجالاً لإعمال مفهوم العقد الجعلي ، فنجمع بذلك بين دور الإرادة في اصل إنشاء العلاقة واصل إنهائها وبين الجعل الشرعي الحاكم لأثار هذه العلاقة.
وأياً كان الأمر ، فقد سلفت الإشارة إلى أن لما نسميه بالعلاقة التنظيمية في مجال القانون العام ، وجه شبه بما فصله المشرع بأحكام ملزمة بالنسبة لبعض أنماط العلاقات العقدية التي تدخل المشرع لتعرض فروضه بشأنها حماية لأضعف طرفيها ، مثل إجارة الأراضي الزراعية وإجارة المساكن وعقد العمل.
وما أريد أن اصل إليه مما سبق ، هو أن الوصف الجعلي أو الوصف التنظيمي للعلاقة لا يفيد بذاته استقلال العلاقة القانونية المعنية من إطار القانون الخاص وصيرورتها من شئون القانون العام . ومن ناحية أخرى فليس من فاصل صارم بين نوعي أربطة القانون الخاص والقانون العام ، وأية ذلك أن العقد الإداري هو من مباحث القانون الإداري بوصفه من فروع القانون العام – ومع ذلك فنحت نعتبر العقد الإداري تنظيماً خاصا ، ونلجاً عند النص فيه علي حكم ما ، نلجاً إلى القانون العام له ، وهو القانوني المدني ، وهو عمدة فروع القانون الخاص.
وبالمثل فان نظام العلاقة الوظيفية ، بوصفها من مباحث القانون الإداري أحد فروع القانون العام ، تعتبر أحكامها إحكاماً خاصة ونظامها القانوني العام هو عقد العمل ، وهو من الفروع النوعية للقانون المدني عمدة فروع القانون الخاص.
ومع تبين تلك الوشيجة التي تصل العلاقة الوظيفية في نهاية مالها من حيث الإطار المرجعي الحاكم لها ، تصلها بقانون العمل والقانون المدني ، مع تبين ذلك ، يلزم فحص نظام التأديب في نظم الموظفين ومدي قربه أو بعده من التنظيم المدني لعلاقة العمل.
والحادث أن مطالعة أي ثبت ورد بأي تنظيم قانوني أو لائحي للجزاءات التي توقع علي الموظفين مرتكبي المخالفات الوظيفية يظهر أن هذه الجزاءات تتعلق كلها بالحقوق الوظيفية للموظف ، فهي أما تتعلق بالخصم من الراتب أو بتأجيل استحقاق العلاوات الدورية أو الترقية أو بخفض الدرجة التي يشغلها الموظف أو بالوقف عن العمل ، أو بالفصل وهو أقصى العقوبات . والنظام التأديبي الوظيفي في ذلك يتفق تماماً مع النظام التأديبي في علاقات العمل الخاصة ، ومن ثم جاز اعتبار الأحكام العامة للتأديب في المجالين متصلة بعضها ببعض اتصال خصوص بعموم شانها في ذلك شان صلة علاقة التوظف بعلاقة العمل ، حسبما سلف البيان.
وخلاصة هذا الأمر كله ، انه أيا كان وجه اتصال علاقات التوظف بعلاقات العمل الخاصة ، ووجه اتصال نظام تأديب الموظفين بقواعد تنظيم تأديب العمال بعامة ، وسواء قويت الآصرة أو ضعفت بين هذين المجالين ، وسواء اعتبر اتصال التوظف بالعمل اتصال خصوص بعموم أو اتصال اصلين ندين في مجال قانوني واحد ، أو حتى إذا اعتبر كل منهما قائماً برأسه . فلا يظهر علي أي من الفروض السابقة صلة بين أي من النظامين التأديبيين وبين نظام العقاب الجنائي ، إلا أن يكون استعارة لبعض الأوصاف التي سلفت الإشارة إليها ، ولكنها استعارة أخضعت لنظام قانوني أخر وتحددت طبيعتها لا بتلك الأوصاف (الردع والشخصية واعتبار الخطأ وحده) ولكن بنوع العقاب الذي ينحصر في إطار الحقوق العقدية والوظيفية.
إجراءات التأديب تحقيقا ودعوي


تبقي عندي فقرة واحدة في هذا الموضوع ، وهي فقرة تعيدني من جديد إلى مجال التردد وعدم الحسم. وهي تتعلق بإجراءات التأديب تحقيقا ودعوي ، بالنسبة للموظفين العموميين. وإذا كانت الفقرات السابقة قد أفضت إلى ترجيح وضع النظام التأديبي برمته في النطاق الإداري المدني ، بعيدا عن المجال الجنائي ، فان التعرض لما يتبع وما هو مرسوم من إجراءات للتحقيق والدعوى تعيدنا ثانية علي الحفاف من القانون الجنائي.
ومن المعروف أن قانون الإجراءات الجنائية يفترض وجود قانون العقوبات ، فالجريمة والعقوبة المحددتان في قانون العقوبات هما ما يتعلق بهما نشاط السلطات العامة الذي ينظمه قانون الإجراءات الجنائية ، فقانون الإجراءات هو وسيلة تحريك قانون العقوبات.
وإذا كان الجريمة تمثل عدوانا علي المجتمع وعلي أمنه وسلامته واستقراره ، فان نوع العقاب المحدد لمواجهة الجرائم ، يبلغ من الشدة ما يبرره الحفاظ علي أمن الجماعة وسلامته. وهي شدة تصل كما سبقت الإشارة إلى حد إهدار حياة المجرم أو حريته أو ماله. فالجريمة التي يقررها قانون العقوبات فادحة الأثر علي المجتمع والعقاب الذي يواجهها به القانون عينه فادح الأثر علي مرتكب الجريمة.
وعلي هذا المستوي الخطير من الخلل وردعه ، ترك أحكام قانون الإجراءات الجنائية ، لذلك فهي تفوق أنواعا من التدابير من جنس المخاطر والمعالجات التي يتضمنها القانون العقابي ، أي تعرف الحبس الاحتياطي ، والتفتيش وغير ذلك مما يمس مبادئ حقوق الإنسان والمواطن.