المقدمة
وردت فكرة العقد الاجتماعي في كتابات كثير من المفكرين السوفسطائيين وأيبقورس ولوكر وعلماء القانون الروماني وكثير من فلاسفة القرن السادس عشر أمثال هاتمن ولاتي وتوكس وبوكتان – والعقد الاجتماعي تتجلي فكرته في أن الناس كانوا يعيشون في البداية على الطبيعة القائمة على النزاعات والحروب مما دعا الناس إلى التفكير في إنشاء تنظيمات اجتماعية تنظم علاقاتهم الاجتماعية من أجل الدفاع عن أنفسهم من الأخطار الخارجية كالطبيعة أو الأقوام الأخرى, هذا يتم من خلال تنازل كل فرد عن قسم من أنانيته الفردية لكي يلتزم أمام الآخرين ببعض الواجبات من أجل تكوين تنظيم يساعدهم على البقاء ولكي يستمر تنظيم الأفراد الاجتماعي يجب أن يخضعوا إلى قادة أكفاء قادرين على توجيه حياتهم الاجتماعية توجيهاً يخدم حاجاتهم وحمايتهم، كل هذه الظروف عملت على ظهور فكرة العقد الاجتماعي بشكل طوعي دون إلزام أو إكراه من قبل أفراد المجتمع. إن النقطة المركزية – التي ظلت تدور حولها نشاطات الإنسان لفترة طويلة هي العلاقة بين أفراد المجتمع بعضهم البعض من جهة وبين عناصر البيئة المتنوعة التي تحيط بهم من جهة أخرى, هذه تمثل مرحلة تاريخية تلتها مرحلة أخرى جاءت نتيجة تطور المجتمعات إلا وهي علاقة الحاكم بالمحكوم.

لكن لم يكن من السهل تحقيق هذه العلاقة, فالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يفرض قوته لذا كانت نزاعات الفلاسفة والمفكرين لا ينتهي إلا بنهايتين أما رضوخ المفكر لفعاليات السلطة وأما الوقوف بوجهها وتحمل عواقب موقفه منها. كانت آراء المفكرين والرواد الأوائل لفكرة العقد الاجتماعي تهدف إلى إيجاد معادلة موضوعية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم لكن اختلاف التوجهات في الأهداف والنتائج فضلاً عن الاختلاف في الرؤية السياسية والاجتماعية للمفكرين أنفسهم حالت دون بلوغ هذا الهدف.

يتضمن هذا البحث أربعة فصول يتناول الفصل الأول التطور التاريخي لمفهوم الحق الطبيعي ,هذا السياق التاريخي أعتمده الباحث لتبيان بعض المفردات التي من خلالها يمكن أن يتم التعامل في الفصول التي تتضمن آراء المفكرين والعلماء في هذه الدراسة التي تتضمن جانب مهم لا يقتصر على زمن محدد بل يستوعب كل الأزمان ما دام هناك مجتمع حي تسودهُ علاقات وما دام هناك حاكم ومحكوم وهذا ما جاء في كتابات المفكرين الذي خصص البحث لكل منهم فصلاً يتناول فيه حياة وجوانب متعددة من آراء المفكر في هذا الصدد, فخصص الفصل الثاني للعالم (هوبز), في حين تناول الفصل الثالث العالم (لوك) سيرتاً وأعمالاً وآراءً أما الفصل الرابع فكان للعالم (روسو) من ثم خاتمة البحث التي تتضمن خلاصة مختصرة لما جاء في ثنايا البحث.

الفصل الأول
مفهوم الحق الطبيعي باعتباره أساساً للعقد الاجتماعي:-
إنَّ فكرة الحق الطبيعي أو القانون الطبيعي شغلت اهتمام المفكرين والفلاسفة منذ زمن طويل لازمت هذه الفكرة كفاح الإنسان من اجل التوصل إلى المجتمع القائم على الفضيلة والعدل. ظل الوصول إلى هذا المجتمع الحلم الذي لم ينفك المفكرون والمصلحون يحلمون به إلى يومنا هذا ولقد أسهمت هذه الفكرة في دفع المجتمع البشري إلى الإمام والنهوض بالإنسانية وصولا إلى المجتمع المنظم وفق القواعد الثابتة التي يمليها العقل السليم ويستقر عليها الضمير البشري والكيان الاجتماعي.

إن مفهوم الحق الطبيعي المتميز عن الحق الوضعي هو قديم قدم الفلسفة حيث برز في العصور الإغريقية القديمة حتى أخذت المسيحية هذا المفهوم الذي يظهر القانون الطبيعي وكأنة التعبير عن الإرادة الإلهية

أن هذه الفكرة قد لازمت المسيرة البشرية وطموح الإنسان نحو تحقيق المجتمع القائم على العدل والإنصاف وعكست تاريخا طويلاً لصراع عنيف بين الحاكمة المستغلة وبين المحكومين وإذا كان الإنسان قد خاض صراعاً عنيفاً مع الطبيعة في بدء الخليقة وفجر الإنسانية فأنه خاض صراع أعنف مع الحكام والملوك في ظل نشوء الدولة عبر العصور وقد تجلت وحشية الحكام الأقدمين في الأنظمة الجائرة التي كانت تصنف الناس إلى طبقات عليا وسفلى أحراراً وعبيداً مالكين ومملوكين كما تجلت فيما قرَّروة من عقوبات صارمة تصل إلى الإعدام بابشع الوسائل ولأتفه الأسباب فضلاً عن معانات الإنسان لمختلف وسائل التعذيب النفسي والغريب ان الحكام كانوا في الغالب يدعون إلى سلطتهم وسيادتهم غير المحدودة إنما هي مستمدة من الإرادة الإلهية.

ان المؤرخ أو الباحث في الجوانب الاجتماعية يقف حائراً حيال هذه الأجواء اللاانسانية التي عاشها الإنسان ردحاً من الزمن تمثل بالصحراء الجرداء المشمسة إلاَ انه لم يعدم فيها وجود واحات خضراء تمثل أمل البشرية في الإرتقاء والخلاص من الماسي والمظالم وما هذه الواحات الا نفحة العدالة التي ظهرت باسم القانون الطبيعي. لقد ذهب المفكر الهولندي (غروسيوم 1583 / 1645) إلى القول: بأن القانون الطبيعي هو قرار عقل سليم ينير في أمر من الأمور فيحكم عليه بحسب مناسبته او مخالفته للطبيعة العاقلة / هل هو فاسد أخلاقياً أم غير فاسد، وبالتالي هل هذا العمل هو واجب أم مخلوق من قبل الله خالق هذه الطبيعة؟

ولكن هناك من يرى إنّ هذا المفهوم لم يظهر لأول مرة في القرن السابع عشر ولا على يد غروسيوم. أنما يعود ظهوره لعدة أسباب هي تقدم العلوم واكتشاف أراضي جديدة فالمعرفة الجديدة للطبيعة يجب أن تعترف ببعد جديد للحقوق الطبيعية. فضلاً عن ذلك أن هذا التصور الجديد للطبيعة هو في جوهره علماني.2 هنا تكون الحقوق منفصلة عن الدين والسياسة ومن ثم دور العامل الأساسي لتطور الحقوق على هذا الشكل إلا وهو العامل الاقتصادي.

كانت الحقوق في تلك الحقبة غير متلائمة مع الرأسمالية التجارية كونها إقطاعية. وعليه فانه انطلاقة الرأسمالية قد ساعدت مدرسة الحق الطبيعي الذي قدم لها بالمقابل التبرير العقائدي حيث بدت قوانين التجارة وكأنها قوانين الطبيعة.3 كانت للمنظرين الجدد وجهة نظر حول الحق الطبيعي كونه يمثل المنفعة العامة وحقوق الأفراد والحالة الطبيعية وهكذا برروا الطموحات القومية وقدموا للملوك الحجة في صراعهم ضد النبالة التي كانت تتمتع بامتيازاتها.

أما بوفندورف (1632 – 1694) مؤرخ الملكية السويدية فقد رأى الحق الطبيعي شرع ضروري لا يتغير، استمده العقل من طبيعة الأشياء. وأن دور السلطة هو وضع القوانين التي تهدف إلى التقييد بالحق فضلاً عن ذلك اهتم بوفندورف بتحرير فلسفة القانون من الثيلوجية وقال أن قوانين الطبيعة هي ذات صلاحية مطلقة لإجبار الناس حتى صادره فضلاً عن ذلك كلمة الله الموحاة.

ان المتطلع في هذا الجانب من المعرفة العملية يلاحظ ويوضح أن الأرض الخصبة لنظرية القانون الطبيعي كانت إنكلترا لاعتبارات كثيرة اقتصادية واجتماعية سياسية. ولكن الواقعتين اللتين مهدتا الأرضية لهذا المفهوم لكي يبرز قبل سنة 1649 هما الروابط بين الدين والسياسة أو بين الطهرية والنفعية ومن ثم غياب العقيدة الثورية. أي ظهور خليط في المجتمع من الإنتهازيين المحافظين يهاجم ريتشارد هوكر في كتابه (السياسة الاكليركية) الصادر سنة 1594 الطهريين بوصفهم يرفضون الخضوع للكنيسة القائمة وبذلك يحطمون كل التزام سياسي كان هذا في زمن تصدت فيه المناقشات حول توضيح دور الكنيسة في الدولة الإنكليزية بعد قطع العلاقات مع أوربا.

ظهر إلى الوجود نوع من الطهرية الرأسمالية التي تربط ربطاً محكماً بين واجب الثراء وواجب العمل من أجل خلاص الذات تزامن هذا مع ذروة الازدهار الاقتصادي لإنكلترا. في حين وقفت موقف الحذر من الثروة فإن الطهرية الإنكليزية استطاعت أن توقف وتقرن روح العمل والحياة الأخلاقية بين الكسب والفضل، بين الاستثمار والتقشف. وقالت إن الربح التجاري هو هبة من الله وإن الكسب هو الدلالة الزمنية على الفضل. والطهري (البيوريتاني) هو المتقشف عملياً الذي يحرز انتصاراته في ساحة الحرب وفي المكتب وفي السوق وليس في الدير.1

إن الثورة الطهرية (البيورتانية) هي نتيجة التقاء مؤقت بين نزاعات مختلفة ومجموعة ذات أهواء متعارضة أحياناً، الحقوقيون المدافعون عن الحريات التقليدية أو المتذرعون بذكرى العهد الأكبر.

شهدت الفترة الواقعة ما بعد النصف الأول ممن هذا العصر الكثير من المجالات والمجاملات والمناظرات حول موضوع الملكية المطلقة التي أرادها الملك (جاك الأول) ورفضها خصومة. إلا إن التصورات الدستورية المبكرة تجلت في مؤلف (سيرتوماس سمث) (_الجمهورية الإنكليزية) الذي صدر عام 1583 حيث يشير فيه إلى دور البرلمان، الذي يلعب دور المحكمة العليا، مع بقاء الملك رأس النظام السياسي.

وكان (فرنسيس باكون) bacon من أنصار الإمتياز الملكي دون أن يكون من أنصار الحكم المطلق. بينما كان (السير أدوارد كوك) coke (1549 – 1634) هو الخصم الرئيسي لسياسة جاك الأول.

من العرف والعادة الشائعة common law والتي تبدو له وكأنها القانون الأساسي للمملكة وتجسيدهُ للعقل. فالعرف يتضمن البنية الأساسية للحكومة وللحقوق الأساسية للمواطنين – إن سلطات الملك تنطلق من العرف السائد وكذلك مهمة البرلمان وحقوق وامتيازات الأنكليز. وقال إن البرلمان بالذات لا يستطيع تغيير المبادئ المحددة في العرف السائد – وفي عشية سقوط شارل الأول لم يكن في إنكلترا يومئذ أية نظرية ثورية بالمعنى الصحيح. وفي هذه الفترة ظهر (هوبز) Hobbes والذي خصص لهُ فصل كامل من هذا البحث.

كانت تلك هي الملامح الأولى لظهور ونضوج نظرية الحق والطبيعي. فلقد حاول بعض المفكرين استناداً إلى فكرة القانون الطبيعي إيجاد قانون دولي أو قانون شعوب لإدخال الأمن والنظام على الحكومات المحلية ذات السيادة، إلا كانت قد أخذت في النمو والتقدم في أوربا منذ القرن السابع عشر. وهذا ما حاولهُ أشرنا غروسيوس وبوفندروف حيث يقرر كلاهما إن الحكومات ذات السيادة وإن لم تكن خاضعة لأي قانون وضعي أو أي سلطة عليا، يجب أن تعمل وفقاً لمصلحة المجموع. وإنهُ في حالة إنعدام السلطة الدولية العليا فإن الحكومات تبقى مع ذلك خاضعة للعقل الطبيعي والعدل ودل على ذلك ببعض المبادئ الثابتة كحرية البحار وحصانة السفراء.

رغم كل الإيضاحات التي وردت فإن القانون الطبيعي من المفاهيم التي يتعذر تحديدها منطقياً أو رسم معالمها بوضوح ودقة. وليس من السهل أن نقول ممن تتألف فلسفة القانون الطبيعي بصورة أساسية فهي تقرر أن هناك بصورة من الصور في تركيبة هذا العالم، قانوناً يميز الخير من الشر أو الصواب من الخطأ – وتقرر إن الحق والصواب أمر طبيعي وليس من اختراع الإنسان وابتداعه. وإن هذا الحق والصواب لا يتحدد في أي قطر من صفة الإلزام في المحاكم إذ إن كل هذه قد تكون جائرة وغير عادلة.

ونحن إنما نكشف تنافرها مع العدالة بمقارنتها بالقانون الطبيعي كما نفهمه.

وهكذا نستطيع القول إن سلطة أي فرد أو شعب لا تستطيع أن تجعل من القانون الذي تقرضه أو تشرعه قانوناً طبيعياً أو موافقاً لعين الحق والصواب.

فلا يستطيع أي ملك أن يجعل من الخطأ صواباً ولا يقدر أي شعب بإرادتهِ كشعب، أن يجعل الظلم عدلاً فالحق والقانون بمعناهما النهائي كائنان خارج جميع الشعوب وفوقهما فهما عالميان ومتساويان بالنسبة للجميع ولا يستطيع أي شخص أن يكيفهما وفق هواه. مع ذلك، فإن من الممكن نتلمس في القانون الطبيعي بعض المفاهيم الثابتة.

1. يعتبر القانون الطبيعي ذريعة يلجأ إليها الجانب الضعيف من أطراف العلاقة الاجتماعية والسياسية لتبرير الثورة على واقعه المختلف ثقافياً أو حضارياً أو اقتصادياً أو سياسياً كما يعتبر ذريعة قانونية طالما لجأ إليها فقهاء الغرب قديماً وحديثاً عند التحسس بقصور تشريعهم الوضعي عن الوفاء بمتطلبات إصدار القرارات العادلة في القضايا التي طرحت أمامهم.

2. يعتبر القانون الطبيعي المثل الأعلى للقانون الذي يسمو على القانون الوضعي المنطبق فعلاً والذي كثيراً ماذاقت منهُ البشرية الأمرين.

3. تهدف فكرتهُ إلى رسم النظام العالمي الذي يحكم الإنسان أولاً، وإلى تمجيد الحقوق الثابتة للأفراد والتي تدعى بالحقوق الطبيعية للإنسان والتي لا تقبل التجزئة أولاً والاغتصاب ثانياً.

إن فكرة القانون الطبيعي تعني وجود قواعد قانونية أسبق وأعلى من القانون الوضعي خالدة ثابتة تصح في الزمان والمكان وإن ما يميز القانون الطبيعي هو الموضوعية والثانية، فهو لا يدين بوجوده لإرادة المشرع، كما إنه قانون مستقل عن القانون الوضعي وهو أعلا منه.

ومهما يكن، فإنه إلى جانب الحكومات المستبدة المطلقة، كان يقف مذهب الحق المقدس للملوك وفي جانب الحكومات الدستورية كانت تقف الحجج التي تستند إلى الوراثة أو العرف والتي تؤكد في عهد ومراسم الأزمان السابقة ومواثيقها وعلى القوى التاريخية للبرلمانات وللمجالس المحلية. ولم تكن الحجة الخارقة للطبيعة في تبرير الحق المقدس ولا الحجة التاريخية التي تعتمد على حريات القرون الوسطى، لم تكن كل منها مقبولة تماماً في الجو العلمي الذي شاع في القرن السابع عشر فقد قام توماس هوبز بتبرير فلسفة الحكم المطلق. وقام جون لووك بتبرير نظام الحكم الدستوري. وقام روسو بتبرير نظام حكم الشعب

الفصل الثاني
توماس هوبز والعقد الإجتماعي
أولاً: - حياته/
ولد توماس هوبز في إنكلترا عام 1588 ودخل أكسفورد وهو في الخامسة عشرة، ومكث بها خمس سنوات يتلقى المنطق المدرسي والطبيعيات دون كبير اهتمام. ثم أخذ يطالع الآداب القديمة وبخاصة المؤرخين والشعراء.

وعمل في خدمة (بيكون) كاتماً لسره ومعاوناً له في نقل مؤلفاته إلى اللاتينية وفي سنة 1629 نشر ترجمة لتاريخ (توكيديد) حيث تبدو الديمقراطية سخيفة أشد السخف على حد قوله.

ولم يكتب شيئاً في الفلسفة حتى بلغ سن الأربعين.

سافر إلى فرنسا وأقام بها سنتين (1629- 1631) فعرف فيها مبادئ أقليدس. ولم يكن درس الرياضات من قبل. وأعجب بالمنهج القياسي وعول على إصطناعه. ثم عاد مرة أخرى إلى باريس فقوبل بالأوساط العملية الباريسية باعتباره فيلسوفاً مذكوراً.

اتضحت معالم فلسفة هوبز عام 1640 خلال نشره كتاب (مبادئ القانون الطبيعي السياسي)، بعدها بعشر سنوات نشر هوبز كتاب (لاوثيان) أو المجتمع الكنيسي والموثي مادته وصورهُ وسلطهُ. ولأوثيان هوالتنين الهائل المذكور في سِفر أيوب ويقصد به هوبز الحكم المطلق.

تأثرت فلسفة هوبز بالثورة البرجوازية في القرن السابع عشر، فمن خلالها يرى البعض إن هوبز فيلسوفاً مادياً إنكليزياً. فضلاً عن ذلك كان هوبز معلماً للملك شارل الأول، وقد دافع في كتابه المشار اليه (لاوثيان) عن الحكم المطلق وكان يؤيد بذلك حكم آل ستيوارت في إنكلترا.

ثانياً: - أراءه في العقد الاجتماعي/
يرى هوبز في كتابه (لاوثيان – التنين) إن الناس بطبعهم أنانيون تماما يلتمسون بقائهم وسلطاتهم والحصول على القوة. ولقد قال هوبز بحياة فطرية سابقة عن نشأة الجماعة، ولكنها حياة فوضى وصراع أضطر الأفراد معها على التعاقد لإنشاء الجماعة السياسية وهذا التعاقد تم فيما بينهم واختاروا بمقتضاه حاكما لم يكن طرفاً في العقد ولم يرتبط لذلك تجاههم بشئ، وخصوصاً إن الأفراد تنازلوا بالعقد عن جميع حقوقهم الطبيعية. وترتب على ذلك أن السلطان الحاكم غير مقيد بشيء وهو الذي يضع القوانين ويعدلها حسب مشيئته وانتهى إلى تفضيل النظام الملكي على النظامين الأرستقراطي والشعبي.

يرى هوبز إن مسيرة الإنسان كلها قائمة على غريزة حب البقاء ويعتقد إن من الخطأ الاعتقاد بغريزة إجتماعية تحمل الإنسان على الإجماع والتعاون. وإنما الأصل أو (الحالة الطبيعية) إن الإنسان ذئب للإنسان وإن الكل في حرب ضد الكل.

فضلاً على ذلك, ويذهب إلى القول بأن الحاجة استشعار القوة يحملان الفرد على الاستئثار بأكثر ما يستطيع الظفر به من خيرات الأرض وإن أعوزتهُ القوة لجأ إلى الحيلة، يشهد بذلك ما تعملهُ عن أجدادنا البرابرة وعن المتوحشين وماتتخذه جميعاً من تدابير الحيطة وأساليب العدوان، وما نراه في علاقات الدول بعضها ببعض، ما تصنعه الحضارة تحجب العدوان بشعار (الأدب) وأن تستبدل العنف المادي بالنميمة والإفتراء، والانتقام والقانون.

كانت تجربة الحرب الأهلية الإنكليزية عام (1640) قد جعلت هوبز يستنتج إن الناس لا يملكون القدرة على حكم أنفسهم أو الحكم الذاتي، وكان يرى أن الناس في حالتهم الطبيعية، أو كما تخيل وجودهم من غير حكومة، كانوا في حالة خصام وفوضى وهياج على الدوام في حروبهم بعضهم مع البعض الآخر ولقد عبر عن ذلك بقوله (إن الحياة في حالة الفطرة والطبيعة كانت مقفرة، كريهة، قصيرة).

لقد توصل الناس، تخلصا من الخوف المستحوذ عليهم من بعضهم البعض، ورغبة منهم في الحصول على النظام والأمن والتمتع بمزايا القانون والحق، إن نوع من الإتفاق أو العقد تنازلوا بمقتضاه عن حريتهم في العمل وأوكلوها إلى يد الحاكم. وكان من الضروري أن يملك هذا الحاكم سلطة مطلقة غير مقيدة إذ وحده يستطيع حفظ النظام.

وهكذا كان هوبز يدافع عن الحكم المطلق، ولكن ليس باسم الحق الإلهي للملوك، بل باسم مصلحة الأفراد وبقاء السلم. انه يجعل الحكم دنيويا ويدل على منفعته.

اعتبر هوبز من خلال مؤلفة (لوثيان – التنين) داعية الحكم العلماني المطلق وأحد أعلام أصحاب نظريات السلطة المطلقة للدولة. وكان أثره عظيماً على المفكرين اللاحقين إذ صار جميع المشتغلين بالنظريات السياسية وبعده يعدّون الحكومة نظاما خلفتة أغراض الإنسان ومصالحة.

ولم تعد الحكومة جزءاً من نفحة إلهية مقدسة إذا استثنينا عامة الناس المحترفين من علماء اللاهوت. وقد أثر هوبز تأثيراً سلبياً على من أعقبة من رجال الفكر بما ساقة من حجج تبرر السيادة المطلقة حيث أجبرهم على تنفيذ رأية في السلطة المطلقة غير المحدودة.

في هذه الفترة لابد من التمييز بين عدة مراتب في تاريخ الحكم.

أولاً: - الحالة الطبيعية، وهي بالنسبة لهوبز حالة حرب وفوضى إن الناس هنا متساوون بالطبيعة. وعن المساواة ينبثق الحذر، وعن الحذر تنشأ الحرب بين الناس. الحياة عزلة فقيرة، حيوانية وقصيرة ومفهوم العادل الجائر لا وجود له. وكذلك الملكية أيضاً. إن هوبز يقع في تناقض هنا إذ يعارض الحق الطبيعي.

ثانياً: - ومع كل هذا، يوجد حق طبيعي وقوانين طبيعية، ولكن هذه المفاهيم ليس لها عنده نفس المدلول الموجود عند منظري الحق الطبيعي يرى هوبز انه في حالة (الطبيعة) حيث يكون كل إنسان عدواً لكل إنسان، ليس هناك مكان للعمل الكادح،

لأن ثمرة ذلك غير محققة.

ونتيجة لهذا لن يكون هناك فلاحة للتربة ولا ملاحة ولا بناء مريح ولا معرفة ولا فنون ولا آداب.

ولكن الناس أحرزوا، بعد ذلك، ما في أيديهم من الخيرات بقبولهم فكرة هيمنة الحكومة بحيث أصبحوا يتقبلون تلك الحكومة ويواصلون العمل بها كأنما هناك عقد اجتماعي فيما بينهم، دون أن يكون موجودا في الواقع.

أما حق الطبيعة فانه يمت بصلة إلى غريزة البقاء.. حرية الفرد في استعمال قدرته الذاتية كما يشاء من أجل حفظ طبيعته الذاتية أي حفظ حياته الخاصة.

أما القانون الطبيعي فهو حكمة أو قاعدة عامة مكتشفة من قبل العقل. ومن أجل تأمين السلم والأمن، ليس في يد الناس وسيلة أفضل من إقامة عقد فيما بينهم ثم تسليم الدولة بالاتفاق المتبادل الحقوق التي إذا احتفظ الأفراد بها أعاقه سلم البشرية.

على كل حال، كانت حجج هوبز، من بعض الوجوه غير كافية لدعم الملوك المستبدين، لقد كره هوبز الخصام وأعمال العنف وكان دفاعه عن الحكم المطلق قائماً على الحاجة إلى هذا النظام لتوفير السلام الداخلي وطمأنينة الأفراد وسيادة القانون. قرر كذلك أن السلطة المطلقة اعتمدت على اتفاق اختياري عقلي قبلها الشعب بمقتضاه وان الحكومة المطلقة التي تخرج عن شروط هذا الاتفاق خروجاً صريحاً واضحاً يصعب تبريرها حتى وفقا لتعاليم ومبادئ هوبز. ومن هنا يختلف هوبز عن أنصار الحكم المطلق في أيامنا هذه.

يرى هوبز أن المجتمع السياسي ليس واقعة طبيعية، انه بالنسبة إليه الثمرة الاصطناعية لميثاق إرادي ولحساب مصلحي. كما ويرى أن السيادة تقوم على عقد. ومع ذلك فليس أمر عقد بين الملك ورعيته، بل بين الأفراد الذين قرروا أن يكون لهم ملك. وهو بدلاً من أن يحد السيادة يؤسسها على عقد. ثم ان العقد، في الأصل يخلق الرغبة في السلم وهذا بمثابة هم أساسي عند هوبز، في النهاية إن الواقع والهدف عند الذي يتخلى عن حقه أو يحوله ليس أمنه الشخصي في حياته وفي وسائل حفظ هذا الأمن.

هكذا تبدو الدولة كشخص (تعديدية) تكون شخصاً واحداً عندما تتمثل بإنسان واحد أو بشخص واحد.

شرط أن يتم ذلك برضى كل فرد وبصورة خاصة يرضي كل الذين يتكون منهم هذا الشخص ويرى هوبز ان الدولة مجموعة المصالح الخاصة. وعليها أن تدافع عن المواطن وهذا المواطن لا يتخلى عن حقوقه للدولة إلا من أجل حمايته والدولة تفقد مبرر وجودها إذا لم تأمن الأمن وإذا لم تحترم الطاعة. إن أي سلطة روحية لا تستطيع أن تعارض الدولة وليس بمقدور أحد أن يخدم سيدين. والملك ليس فقط أداة الدولة بكل كنيته، انه أيضاً يمسك باليد اليمنى (السيف) وباليد اليسرى عصا الأسقفية وهكذا تتثبت قدرة الدولة وأيضاً وحدتها ولا مكان للأجسام الوسيطة أو الأحزاب أو التكتلات. وحول هذه النقطة يسبق هوبز الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.

ولا ينفك هوبز ينتقد فعل السلطات. وهو يدعم بقوة أطروحة السيادة المطلقة. ليس للملك أي قيد خارجي يحد من سلطته.

ان أخلاقية هوبز تقوم على اعتبارات منفعية. وهذه الأخلاقية ثابتة – وهي لا تدين بشيء للايمان المسيحي، ولا للولاء للملك، ولا بشيء للرغبة في حفظ المؤسسات أو المحافظة على المصالح المرتبطة بالملكية. يعتقد هوبز أنه في الدولة الأكثر تسلطاً يعرف الفرد أكمل تطوره. أنه يجد فيها مصلحته وسعادته ولذته ورفاهيته.

كانت سياسة هوبز في أعماقها عقلانية. وكانت مرتكزة على ثقافة علمية وكانت تعتبر السياسة علماً يجب تركيزه على المفاهيم العادلة وعلى التعاريف الدقيقة. وكانت فلسفته وسياسته مناوئة للأرسطية وهو يرفض الإيمان بالفكرات الفطرية الطبيعية وكان يؤكد على أهمية التعاريف والحدود والاشارات واللغة ((لو لا اللغة لما كان بين الناس دولة ومجتمع وعقد وسلم)).

كان هوبز يرفض اللجوء إلى ماهو فوق الطبيعي. وكل مؤلفاته هي محاربة ضد الأشباح وجهد للقضاء على القوى الخفية. ونهاية ((التنين)) هي في هذا الشأن ملفتة إلى أقصى حد. وربا يكمن هنا مفتاح العمل كله.

ينتقد هوبز في الفصل الأخير من كتابه هذا (لوثيان – التنين) والذي يقع تحت عنوان (مملكة الظلمات) علم الشياطين، والعزائم والرقيات والخوف من الشيطان، والأرباح التي يجنيها الكهنوت (رجال الدين) عن ذلك.

إن القلق البشري هو في أساس الدين ((إن الخشية من قوى خفية، سواء كانت وهما من الفكر أو تصوراً مأخوذاً عن العادات المقبولة عموماً)) هو الدين.

ولكن الطبيعة الإنسانية تشتمل على العقل إلى جانب الهوى. والعقل المستقيم يحمل الناس على التماس وسائل لحفظ بقائهم أفضل من التي يتوسل إليها الفرد ويجاهد وحده. والناس يستكشفون أن البلية عامة وأنه يمكن تلافيها بوسائل عامة فتبنت أول وأهم قاعدة خلقية وهي طلب السلم، فإن لم نفلح في تحقيقه وجب التوسل للحرب. وشرط السلم أن يتنازل كل فرد عن حقه المطلق في حال الطبيعة فيتنازل الأفراد عنه صراحة أو ضمناً إلى سلطة مركزية. وقد تكون فرداً أو هيئة تجمع بين يديها جميع الحقوق وتعمل الخير للشعب وتحمل الحياة السياسية محل حال الطبيعة.

هذا التعاقد يلزم وجوب الصدق والأمانة وعرفان الجميل والتسامح والإنصاف والشراكة فيما يتعذر اقتسامه، وفض الخلافات بالتحكيم. وبالجملة تلزم قواعد تلخص في العبارة المأثورة ((لا تصنع بالغير مالا تريد أن يصنع الغير بك)).

لذا كان القانون الخلقي الطبيعي إرادة الله الذي وهبنا العقل السليم وليس يكفي طاعة القواعد ظاهراً بل يجب طاعتها لذاتها والتشبع بها فإن القانون الخلقي يقيد الإنسان أمام ضميره وكل هذا معقول.

ولكن هوبز لا يصل إليه بالعدول عن الطبيعة الحسية إلى العقل السليم وليس العقل السليم مما يعترف به المذهب المادي كقوة خاصة لها قيمة خاصة.

ويجب أن تكون السلطة العامة مطلقة قوية إلى أبعد حد بحيث لا يعود الفرد بازائها شيئاً مذكوراً، ويكون واجب الخضوع المطلق، والا عدنا إلى الخصام والتنابذ.

في الواقع يمتنع حد السلطة السياسية. وهذا الحد يعني الاعتراف بالسلطة المطلقة للفرد أو الأفراد المخول إليهم حق مؤاخذة الحكومة أو خلعها. والملكية هي خير أشكال الحكومة. ومن مزاياها أن واحداً فقط قد يجاوز العدل ويسيء الحكم. وأنها تغني عن المنازعات الحزبية وتصون أسرار الدولة. أما الديمقراطية فما هي إلا أرستقراطية خطباء.

بعدها يرى هوبز دين الدولة واجب محتوم على كل مواطن. والدين بالإجمال ظاهرة طبيعية وهو ليس فلسفة ولكن شريعة لا تتحمل المناقشة بل تقضي الطاعة. وإلى هذا الحد من الإستبداد يذهب هوبز وكأنه أراد أن يدعم الحكم المطلق بأن يجعل منه حكم القانون الطبيعي.

لقد أحال ماكان واقعاً في بلاده إلى نظرية فلسفية.