قضايا و قضايا اراء
الأهرام


44649
‏السنة 133-العدد
2009
مارس
5
‏8 من ربيع الاول 1430 هـ
الخميس

الاقتصاد الديني‏..‏ والاجتهادات الأكاديمية
بقلم : أحمد السيد النجار

شهدت الشهور القليلة الماضية منذ انفجار الازمة المالية والاقتصادية العالمية‏,‏ الحاحا ممن يخلطون الدين بالسياسة والاقتصاد علي طرح نموذج الاقتصاد الديني‏,‏ وبالتحديد الاقتصاد الإسلامي كحل لهذه الازمة‏,‏ مع كم اسطوري من المعلومات التي يطلقها اكاديميون دون اي مستند او دليل‏,‏ حول تحول العديد من البنوك في الغرب إلي المعاملات الإسلامية‏.‏

والغريب ان هذا الكلام يقال في وقت لم تتجاوز فيه اصول البنوك الإسلامية في الدول العربية وغير العربية‏,‏ نحو‏4,5‏ مليار دولار‏,‏ اي ما يوازي‏0,006%(‏ نسبة مئوية قدرها ستة في الألف‏)‏ من قيمة اصول أكبر الف بنك في العالم التي بلغت‏74200‏ مليار دولار في نهاية عام‏2007‏ وحتي لو اضفنا كل النوافذ الإسلامية وصناديق الاستثمار والتأمين الإسلامي فان النسبة لن تختلف من اجمالي البنوك وصناديق الاستثمار والتأمين في العالم‏,‏ بل ان اصول بنك‏
ubs‏ السويسري التي بلغت نحو‏2‏ تريليون دولار‏,‏ تعادل‏400‏ مرة قدر اصول البنوك الإسلامية مجتمعة‏,‏ وهذا هو الحجم الحقيقي لهذه البنوك‏,‏ التي ينبغي التعامل معها دون مبالغة غير واقعية‏,‏ كما ان الازمة المالية التي ضربت القطاع المصرفي عالميا قبل ان تنتقل لباقي الاقتصاد‏,‏ شملت كل البنوك بما فيها البنوك الإسلامية المتشابكة في تعاملات ومضاربات بعيدة عن الدين ومبادئه مع كل القطاع المالي العالمي‏.‏

والحقيقة انه ليس هناك شيء يمكن تسميته بالاقتصاد الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو الهندوس او البوذي‏,‏ فكل الديانات السماوية والوضعية ظهرت في مجتمعات بدائية تتسم اقتصاداتها بأنها اقتصادات طبيعية قائمة علي الانشطة الأولية والاكتفاء الذاتي‏,‏ اي اقتصادات ما قبل الصناعة والرأسمالية التي يبدأ اقتصاد التبادل بها‏,‏ وهذه الحقيقة لا ينتقص منها وجود عمليات تبادل هامشية تقوم بها بعض القبائل مثل العبرانيين والعرب‏,‏ لانها بدورها كانت عمليات تبادل لسلع اولية أو منتجات تقليدية‏,‏ ولاعلاقة لها باقتصادات الصناعة والخدمات الحديثة وعمليات التبادل العملاقة والمعقدة التي تحدث بينها‏,‏ ونظام الائتمان المرتبط بها والذي نهض وتطور تاريخيا في مواجهة الربا وفوائده التي كانت تمتص دماء المنتج والتاجر لصالح المرابي‏.‏

وبالتالي فان مشاكل الاقتصاد الراهن بكل تعقيداته وتشابكاته لم تكن موجودة اصلا‏,‏ وبالتالي لم يطرح لها حل أو علاج أو نظريات أو سياسات للتوجيه وإجراءات للتحريك في تلك الديانات‏,‏ وكان من الطبيعي تماما ان تكون الاقتصادات التي تجاوزت مراحل الاقتصاد الطبيعي إلي الاقتصاد الرأسمالي ثم الاشتراكي بعد ذلك‏,‏ هي التي أنتجت النظريات المختلفة حول ادارة اقتصادات الصناعة والتبادل‏,‏ ومن البديهي ان التعامل مع هذه النظريات وماينطلق منها من استراتيجيات وخطط وإجراءات بالقبول أو الرفض أو التطوير هو امر طبيعي تفرضه المصلحة الوطنية وضرورات التطور‏.‏

اما القول بأن المرابحة أو المشاركة هي الحل وهي البديل لسعر الفائدة في النظام المصرفي الذي يرونه ربويا فانه قول مردود عليه من الناحية النظرية ومن واقع الخبرة التاريخية‏,‏ فالفائدة هي محفز الادخار‏,‏ ولن تتحول الاموال المكتنزة عديمة الفاعلية إلي مدخرات يمكن توظيفها في تمويل الاستثمار والنهوض الاقتصادي دون هذه الفائدة‏,‏ أو اي فائدة اخري ايا كان مسماها‏,‏ ومعدل الفائدة يتغير تبعا لحالة الاقتصاد ومعدلات الربح السائدة فيه‏,‏ بما ينفي عنها صفة الثبات القديمة التي يستند إليها البعض في وصفها بالربوية‏,‏ كما ان الجهاز المصرفي المراقب من البنك المركزي ومن الدولة‏,‏ ظهر تاريخيا في مواجهة الربا بما كان ينطوي عليه من أسعار فائدة قاتلة للمنتجين والتجار‏,‏ بصورة كانت تحول فائض القيمة الذي تم تحقيقه في النشاط الاقتصادي إلي المرابي‏,‏ بما يقيد النشاط الاقتصادي ويجعل اقتصاد التبادل يدور في حلقة مفرغة من البطء والركود الطويل الأجل‏,‏ ليبقي الاقتصاد الطبيعي البطيء الحركة والقائم علي الاكتفاء الذاتي هو الحاكم لحركة الاقتصاد لأزمان طويلة‏,‏ اما النظام المصرفي فقد جاء ليحدد اسعار فائدة معتدلة‏,‏ لاتلتهم جهد المنتج أو التاجر‏,‏ واذا كانت هناك مشاكل في البنوك‏,‏ فان هناك دائما امكانية لمعالجتها وتطويرها وتغيير اسس عملها بصورة متوافقة مع احتياجات المجتمع والاقتصاد‏,‏ وما تقتضيه مباديء الحق والعدل‏,‏ علي عكس النماذج الدينية التي تتسم بالجمود والتي يتم اضفاء طابع قدسي عليها وهي ليست كذلك‏.‏

وعلي الصعيد النظري فان كلا من نظامي المرابحة والمشاركة يضع المودع تحت رحمة الشركة أو البنك الديني ومدي امانته في تحديد نتيجة اعماله‏,‏ فيمكن ان يربح كثيرا ويزيف نتائج اعماله ليقول إنه لم يحقق ربحا أو حتي مني بخسائر حتي يدفع ارباحا قليلة للمودعين أو يحملهم بخسائر ولايدفع ضرائب للدولة‏,‏ ويمكن ان يستخدم الاموال في توظيفات عالية الخطورة‏,‏ ويقامر بأموال المودعين في المضاربة علي الذهب والمعادن النفيسة أو في اسواق العملات‏,‏ أو في البورصات أو في اسواق المعادن والسلع والنفط‏,‏ فيقدم لهم ارباحا عالية بعض الوقت لإغراء المزيد من المودعين بالايداع لديه‏,‏ لكنه يمكن ان ينهار ويوقع بالمودعين خسائر هائلة تلتهم اصول ودائعهم كلية‏.‏

كذلك فان الصفة الدينية لشركة توظيف الاموال أو للبنك الديني‏,‏ تشكل ابتزازا مسبقا يضعف اي عملية للمراقبة أو المساءلة‏,‏ حيث تكون المرجعية للبنك أو لشركة توظيف الاموال هي تصوراتها حول الدين وتجلياته الاقتصادية وليس القانون‏,‏ بما يتيح لشركة توظيف الاموال الدينية أو للبنك الديني التورط في بعض النشاطات الطفيلية غير المنتجة‏,‏ أو حتي التورط في تمويل نشاطات غير مشروعة وخارجة علي القانون‏,‏ وعلي الصعيد العملي فان شركات توظيف الاموال والبنوك الدينية في مصر فعلت كل هذه الخطايا‏,‏ وتمكنت من الاستمرار لعدة سنوات في ظل تغاضي الدولة والادارة الاقتصادية والمصرفية عما تفعله‏,‏ لكن عندما حدثت ازمة البورصات العالمية عام‏1987‏ وما تلاها من تداعيات‏,‏ انكشفت تلك الشركات والبنوك الدينية التي كانت تمارس كل اشكال المضاربة الخطيرة في اسواق العملات والأسهم والمعادن النفيسة‏,‏ فضلا عن تورط البعض في نشاطات غير قانونية‏,‏ وانهارت وأضاعت مليارات الجنيهات من اموال المودعين‏,‏ وشكلت تجربة تاريخية مزرية لنموذج الاقتصاد الديني‏.‏ واضافة لكل هذا‏,‏ فان الشركات الإسلامية لتوظيف الاموال والبنوك الإسلامية‏,‏ اخرجت مدخرات الأمن من معادلة تحقيق التنمية الاقتصادية في البلدان التي وجدت فيها‏,‏ حيث وظفت تلك المدخرات في مضاربات خطرة وذات طابع طفيلي غير منتج‏,‏ بل ان الكثير منها تم توظيفه في مضاربات في اسواق العملات‏,‏ وهي اسواق لاعلاقة لها بتوفير الاموال للمعاملات الاقتصادية الدولية الحقيقية‏,‏ وانما تعمل بصورة مستقلة وفقا لقواعد صالات القمار‏.‏

والحقيقة ان اقحام الدين في الاقتصاد‏,‏ ينطوي علي اهانة للدين بربطه بمصالح ورؤي من يقومون بهذا الاقحام والتي تختلف مع رؤي الفرق الدينية المختلفة معهم ومع بعضها البعض‏,‏ ومع الرؤي التحديثية المنطلقة من ضرورات تطوير الاقتصاد والمجتمع والدولة‏,‏ انطلاقا من الواقع ومتطلباته علي أسس ومباديء الحق والعدل والحركة كمباديء إنسانية جامعة توافقت الثقافات والاديان السماوية والوضعية عليها‏.