باسم صاحب السمو أمير الكويت
الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح
المحكمة الدستورية
بالجلسة المنعقدة علناً بالمحكمة بتاريخ 29 من ربيع الأول 1431هـ الموافق 15 من مارس 2010م
الـوقــائع
حيث إن حاصل الوقائع – حسبما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – أن الإدعاء العام نسب إلى المتهم (....) والطاعن (......) أنهما بتاريخ سابق على 29/5/2008 بدائرة مخفر شرطة الشويخ الصناعية، (المتهم الأول): حاز المبالغ النقدية المبينة قدراً بالمحضر (مائة وخمسون ألف دولار أمريكي) والمملوك لشركة الصابرية للتجارية، والمسلمة إليه على سبيل الأمانة بصفته محاسباً بالشركة فاستولي عليها لنفسه على النحو المبين بالتحقيقات، (المتهم الثاني): اشترك مع المتهم الأول في الجريمة سالفة الذكر بعد وقوعها بإخفاء المتهم وحصوله على منفعة لنفسه بوجه غير مشروع وهو عالم بذلك على النحو المبين بالتحقيقات، وطلب الإدعاء العام عقابهما بمقتضي نصوص المواد (49/ أولاً وثالثاً) و (55) و (240/1) من قانون الجزاء.
المـحـكـمة
بعد الإطلاع على الأوراق، وسماع المرافعة، وبعد المداولة حيث إن إجراءات الإحالة قد استوفت أوضاعها المقررة قانوناً.
وحيث أن المادة (49) من قانون الجزاء تنص على أن "يعد شريكاً في الجريمة بعد وقوعها من كان عالماً بتمام ارتكاب الجريمة وصدر منه فعل من الأفعال الآتية .... (ثالثاً) حصول الشريك بوجه غير مشروع، وهو عالم بذلك، على منفعة لنفسه أو لشخص آخر من وراء ارتكاب الجريمة "، كما تنص المادة (55) من قانون الجزاء على أن "يعاقب الشريك في الجريمة بعد وقوعها بالعقوبة المقررة لها إلا إذا كانت الجريمة جناية فلا يجوز أن تزيد العقوبة على الحبس مدة خمس سنوات.
ولا توقع العقوبة المقررة للشريك في الجريمة بعد وقوعها على زوج المتهم أو أصوله أو فروعه إذا آووه أو ساعدوه على الاختفاء ".
وبالبناء على ما تقدم وإلى إهدار ذلك النص في بنديه (أولاً) و (ثانياً) منه لأحكام الدستور بشأن شخصية العقوبة والحرية الشخصية لإلصاق جرم بشخص لم يقترفه وعقابه عن وزر لم يفعله رغم أنه كان بمنأى عن الجريمة ومنقطع الصلة بها حتى تمام وقوعها، ومعاقبته تحت وصف الشريك في الجريمة بعد وقوعها، فقد أصدرت هذه المحكمة حكمين أولهما بجلسة 22/4/2008 في الدعوى رقم (6) لسنة 2007 "دستوري" وثانيهما بجلسة 7/6/2009 في الدعوى رقم (1) لسنة 2009 "دستوري" بعدم دستورية البند (أولاً) ثم البند (ثانياً) من المادة (49) من قانون الجزاء، وبعدم دستورية نص الفقرة الأولي من المادة (55) من ذات القانون فيما تضمنته من معاقبة من صدر منه فعل من أفعال الاشتراك اللاحق المقضي بعدم دستوريتها، ولم يعد باقياً من نص المادة (49) سالفة الذكر إلا البند (ثالثاً) محل الطعن الماثل بعدم الدستورية.
وحيث إن مبنى النعي على نص المادة (49/ثالثاً) – على نحو ما جاء بحكم الإحالة – أن هذا النص قد جاء مخالفاً للمواد (30) و (32) و (33) من الدستور.
إذا اعتبر من قام بالحصول على منفعة لنفسه أو لغيره من وراء ارتكاب جريمة لم يعلم بها إلا بعد ارتكابها، شريكا في هذه الجريمة بعد تمام وقوعها، في حين أن الاشتراك يتطلب قصداً خاصاً وإتيان فعل من الأفعال المكونة للاشتراك والمحددة على سبيل الحصر، مما يعد مخالفاً لمبدأ شخصية العقوبة.
وحيث إن هذا النعي سديد، ذلك أن النص في المادة (30) من الدستور على أن "الحرية الشخصية مكفولة" وفي المادة (32) منه على أن " لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون". وفي المادة (33) منه على أن "العقوبة الشخصية"يدل على "أنه وإن كانت سلطة المشرع في مجال إنشاء الجرائم وتحديد العقوبات التي تناسبها أنها سلطة تقديرية إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ولازم ذلك أنه يتعين على المشرع في هذا الصدد تحقيق التوازن بين كفالة أمن المجتمع من ناحية، وحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم من ناحية أخري، وبالتالي فإنه في مجال تأثيم المشرع لأفعال بذاتها حال وقوعها ينبغي – إعمالاً لمبدأ شرعية الجريمة والعقوبة – تعيين حدود هذه الأفعال.
بما ينفي التجهيل بأبعادها صوناً للحرية الشخصية التي كفلها الدستور وإعلاء لشأنها، باعتبارها حقوقاً طبيعية تكمن في النفس البشرية لا يتصور فصلها عنها، وألا يكون من شأن النصوص الجزائية التي يضعها المشرع أن تعرقل حقوقاً وحريات كفلها الدستور للأفراد، من خلال انفلات عبارتها أو تعدد تأويلاتها أو افتقارها التحديد الجازم لضوابط تطبيقها، وذلك تحقيقاً لهدف المشرع من تأثيم هذه الأفعال وتقرير العقوبة عنها وهو الزجر الخاص للمجرم جزاءً وفاقاً لما اقترفته يداه من جرم، والردع العام لغيره لحمله على الإعراض عن إتيان هذا الجرم، كذلك فإن مراعاة الحرية الشخصية يقتضي عدم إعمال نصوص عقابية يساء تطبيقها إلى المراكز القانونية القائمة للمخاطبين بها.
كما أن شرعية العقوبة بينها وبين شخصية العقوبة صلة لا تنفصم، فهما ترتبطان بمن كان مسئولا عن ارتكاب الجريمة فالأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحملها.
إلا المسئول عنها قانونا، ذلك بأن الشخص لا يحمل إلا وزر نفسه، ولا يدعي إلى حمل وزر غيره، فعاقبة الجريمة لا يؤخذ بها إلا من جناها ولا يعاقب عنها إلا شخص من قارفها، سواء كان فاعلاً أصلياً لها أو كان شريكا فيها، وهذه الأمور إن كانت تنسق مع قواعد العدالة – من منظور اجتماعي – فإنها تجد أصلها الثابت في مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، وآية ذلك قول الله تعالي في محكمة التنزيل { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الإسراء: الآية 15، وقوله عز وجل {قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} سورة سبأ : الآية 25.
وحيث إن الاشتراك في الجريمة – بحسب الأصل – لا يعتبر قائما إلا إذا توافر في حق الشريك إتيانه بفعل من الأفعال التي تدل عليه من تحريض أو اتفاق أو مساعدة للفاعل الأصلي للجريمة قبل وقوعها أو في وقت معاصر لها، وثبوت اتجاه إرادته وانصرف قصده من وراء هذا السلوك إلى وقوعها، إذ أن المدار في الاشتراك في الجريمة هو علاقة الشريك بذات الفعل المؤثم المكون للجريمة، وليس بأشخاص من ساهموا معه فيها، فالشريك يستمد صفته من فعل الاشتراك الذي ارتكبه وقصده منه ومن الجريمة التي وقعت بناء عليه، فهو بالقطع شريك في الجريمة ذاتها وليس مجرد شريك مع شخص فاعلها، ولما كانت المادة (49/ثالثاً) محل الطعن الماثل بعدم الدستورية قد جاءت صياغتها بعبارات عامة، مطلقة، مرنة بالغة السعة، يكتنفها الغموض والإيهام على نحو يفسح المجال إلى تأويل معناها مفتقدة التحديد الجازم لماهية الأفعال على نحو واضح ودقيق، وتفتح المجال إلى إدخال العديد من الأفعال في مدلولها والتي قد تمتد إلى أفعال لا تنطوي على خطورة إجرامية، ولا تخطر للمشرع على بال، وكانت المادتان (49/ثالثا)، (55) المشار إليهما قد اعتبرتا من حصل على منفعة، سواء لنفسه أو لشخص أخر من وراء الجريمة وبعد تمام ارتكابها شريكاً فيها وعليه عقوبتها، دون أن يصدر منه قبل وقوعها أي فعل من أفعال الاشتراك ينبئ بانعقاد نيته واتجاه إرادته وانصراف قصده على ارتكاب الجريمة ذاتها، فإن تجريم فعل الحصول على منفعة من وراء ارتكاب الجريمة وإنزال العقوبة المقررة للجريمة الأصلية بالمنتفع – باعتباره قد حصل على هذه المنفعة لنفسه أو حتى لغيره – على الرغم من أنه كان بمنأى عنها ومنقطع الصلة بها حتى تمام وقوعها تحت وصف الشركي في الجريمة بعد وقوعها، مؤداه حتما إلصاق جرم شخص لم يقترفه وعقابه عن وزر لم يفعله، مما ينطوي بعينه على إهدار لأحكام الدستور بشأن شخصية العقوبة والحرية الشخصية والتي تقتضي أن تكون سلطة المشرع التقديرية في إنشاء الجرائم وفرض العقوبات التي تناسبها بما يكفل صون هذه الحرية وحمايتها، ودون خروج على أحكام الدستور، وبالإضافة إلى ذلك فإن العدالة تأبي المساواة في العقاب بين شخص اشتراك مع الجاني في ارتكاب الجريمة بكل تفاصليها قبل وقوعها وبين شخص لم يقم بأي دور فيها، وكل ما فعله هو الحصول على منفعة بعد تمام وقوعها.
والحاصل أنه لا يمكن تبرير اعتبار الشخص شريكا في جريمة لم تتجه إرادته إلى الاشتراك فيها ولم يدر بخلده أنه يمكن أن يساهم فيها، فإن افتراض هذا الاشتراك دون أن تتوافر صلة السببية بين فعل الجاني والجريمة مؤداه أن هذا الفعل لا يصلح أصلاً أن يكون محلاً للتجريم بهذه الكيفية، فمن المقرر أن الركن المادي للجرائم لا يفترض، كما أن تقرير مسئولية الشريك عن الجريمة الأصلية دون أن يتوافر لديه قصد الاشتراك في الجريمة يدخل في باب المسئولية عن فعل الغير، وهذه المسئولية لا تتفق مع نصوص الدستور الكويتي التي تجعل المسئولية الجنائية " شخصية" كما أن اعتبار أفعال إخفاء الجاني في الجريمة الأصلية أو إخفاء أدلتها وعقاب مرتكبيها هو أمر لا صلة له بالجريمة الأصلية، ولا يمكن تقرير مسئولية الشخص في هذه الحالة بناء على افتراض من المشرع، وأنه وإن كانت هذه الأفعال من الأفعال الماسة العدالة فإنه يمكن العقاب عليها كأفعال مستقلة، غير أنه لا يمكن اعتبار مرتكبيها شركاء في الجرم الأصلي ، إذ لا يتسبب إليهم دور فيه، ونشاط الجاني فيها مثبت الصلة بالجريمة الأصلية.
وتجدر الإشارة إلى أن استفادة الطاعن من نص الفقرة الأخيرة من المادة (55) بوصفه أحد أصول المتهم الأول لا تحول بين هذه المحكمة وبين التعرض للنص المذكور باعتبار أن الضرر قد وقع عليه من تطبيق النص محل الطعن الماثل.
وحيث إنه لما كان المبين مما تقدم أن النصين المشار إليهما قد خالفا حكم المادتين (30) و (33) من الدستور، فإنه يتعين القضاء بعدم دستوريتها.
هذا وتبقي الإشارة إلى أن إبطال النصين وإقصاءهما عن مجال إعمالهما نزولا على حكم الدستور – لما سلف بيانه – لا يخل بحق المشرع بموجب سلطته التقديرية في إنشاء الجرائم وفرض العقوبات المناسبة لها – في إطار الدستور – إذا ما ارتأى أن هناك صوراً للحصول على منفعة من وراء ارتكاب الجريمة لا تعالجها النصوص القانونية القائمة، أن يجرم هذا الفعل بنصوص منضبطة تتضمن تحديداً للأفعال المؤثمة بهذه الجريمة بصورة قاطعة وتقرير العقوبة المناسبة عنها، دون أن يعتبرها اشتراكاً في الجريمة بعد ارتكابها.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة :
(أولاً) : بعدم دستورية المادة (49) من قانون الجزاء فيما نصت عليه من أنه " يعد شريكا في الجريمة بعد وقوعها من كان عالماً بتمام ارتكاب الجريمة وصدر منه فعل من الأفعال الآتية .... (ثالثاً) حصول الشريك، بوجه غير مشروع، وهو عالم بذلك،على منفعة لنفسه أو لشخص آخر من وراء ارتكاب الجريمة.
(ثانياً) : بعدم دستورية المادة (55) من قانون الجزاء فيما نصت عليه من أن "يعاقب الشريك في الجريمة بعد وقوعها بالعقوبة المقررة لها، إلا إذا كانت الجريمة جنائية فلا يجوز أن تزيد العقوبة على الحبس مدة خمس سنوات.
(ثالثاً) : بسقوط الفقرة الأخيرة من المادة (55) التي تنص على أن ولا توقع العقوبة المقررة للشريك في الجريمة بعد وقوعها على زوج المتهم أو أصوله أو فروعه إذ آووه أو ساعدوه على الاختفاء" لارتباط هذه الفقرة ارتباطاً لا يقبل التجزئة بنص المادتين المقضي بعدم دستوريتهما.
أمين سر الجلسة رئيس المحكمة