4/ أساس قرينة البراءة :
4/ 1/ الأساس الشرعي لقرينة البراءة :
إن حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي عبارة عن فروض وواجبات شرعية فرضها الله تعالي . وبالتالي فليس لبشر أيا كان أن يعطلها أو يعتدي عليها ، ولها حصانة ذاتية لا تسقط بإرادة الفرد تنازلا عنها ، ولا بإرادة المجتمع ممثلا فيما يقيمه من مؤسسات أيا كانت طبيعتها أو سلطتها (15) .
فهي ليست منحة من حاكم وهي بهذا الوضع حقوق أبدية لا تقبل حذفا ولا تعديلا ولا نسخا ولا تعطيلا ، باعتبار أنها ضرورات فطرية للإنسان من حيث هو إنسان ، والإسلام دين الفطرة ، فمن الطبيعي أن يكون الكافل لتحقيقها . فقد بلغ الإسلام في الإيمان بالإنسان وفي تقديس حقوقه إلي الحد الذي تجاوز بها مرتبة الحقوق عندما اعتبرها ضرورات ، ومن ثم أدخلها في إطار الواجبات وبالتالي فالحفاظ عليها ليس مجرد حق للإنسان بل واجب عليه يأثم بالتفريط فيه (16) .
ففي الحديث الشريف ( … والله لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة بيته المحرم ) متفق عليه ، وفي حجة الوداع قال عليه أفضل الصلاة والسلام ( أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم (17) .
وفي هذا الإطار جاءت قاعدة البراءة الأصلية والتي تقرر أن الأصل في الإنسان براءة ذمته وعلى القاضي إعمالها فيما يطرح عليه من خصومات ودعاوى ، وذلك لقوله ( البينة على من يدعي )0 ولزوم اشتراط اليقين في الإثبات الجنائي مستمد من القاعدة الفقهية اليقين لا يزول بالشك ، فمن أدلة الفقه أن لا يرفع شك بيقين . ومما ينبني على هذه القاعدة أن المدعى عليه في باب الدعاوى لا يطالب بحجة على براءة ذمته بل القول في الإنكار بيمينه (18) . وفي الحديث الشريف ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ولأن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة (19) . ويقول الماوردي " إن للجرائم عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية لها وعند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجيه الأحكام الشرعية (20) .
فإذا صادق القاضي على التهمة وأكدها بالبينات الشرعية فإن حالة المتهم تنقلب إلي مجرم ، وتكون العدالة قد أخذت مجراها ولا يستطيع أحد أن يدعي ظلما أو قهرا أو اعتداء وقع عليه لأنه قد استوفى حقه الشرعي في الاعتراض على الحكم .

4/1/1 معنى القاعدة :
اليقين في الاصطلاح الأصولي هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثابت وجودا (21) حيث أن البراءة متيقنة وأن الاتهام هو الشك وهو الأمر العارض غير المستقر حيث هو في مقام الظن وغلبته والشك في المصطلح الفقهي هو اعتدال النقضين عند الإنسان وتساويهما (22) . فهو اذا تردد الذهن بين أمرين على حد سواء بحيث لا يميل القلب إلي أحدهما . وعليه يكون القاضي بصدد أمرين أحدهما متأكد من وجوده بحكم الفطرة والجبلة الإنسانية – البراءة – والأمر الآخر متردد فيه وتتساوى فروض وجوده بفروض عدمه – الاتهام بالجرم – لذا فإن الأمر المتيقن ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع ولا يحكم بزواله لمجرد الشك لأن الشك اضعف من اليقين فلا يعارضه ثبوتا وعدما (23)

4/1/2 أهمية القاعدة :
تعد قاعدة اليقين لا يزول بالشك من أصول الشريعة الإسلامية وتكاد المسائل المتفرعة عنها تبلغ ثلاثة أضعاف الفقه ، وفي هذا يقول النووي " وهذه قاعدة مطردة لا يخرج عنها إلا مسائل يسيرة لأدلة خاصة في تحقيقها وبعضها إذا حقق كان داخلا فيها " كما يتمثل فيها اليسر والرأفة ، إذا خرج من تقرير اليقين باعتباره أصلا معتبرا ، وإزالة الشك الذي كثيرا ما ينشأ عن الوسواس ولذا يتجلى فيها الرفق والتخفيف على العباد .

4/1/3 : فروع القاعدة :
للقاعده فروع عديده ابرزها القواعد الاتيه :

4/1/3/1قاعدة " لا ينسب لساكت قول "
ولكن السكوت في معرض الحاجة إلي بيان بيان فإذا وجهت التهمة لشخص وسكت عنها فإن سكوته هذا لا تنبني عليه الأحكام التي تنبني على النطق ، بالرغم من أن السكوت في المواضع التي تمس الحاجة فيها إلي البيان بيان إلا إذا صاحبته قرينة لأن الساكت مع القرينة كالناطق حيث أن القرينة دليل مناهضة مبدأ البراءة .


4/1/3/2 لا عبرة بالتوهم
وتعني القاعدة أنه لا اعتداد ولا اعتبار بالتوهم – وهو الاحتمال البعيد الحصول – في إثبات الأحكام الشرعية ، لأننا إذا لم نبني الأحكام الشرعية على الشك ، فعدم بنائها على الوهم من باب أولى لأن الوهم أدنى درجة من الشك .

4/1/3/3 لا حجة في الاحتمال الناشئ من غير دليل :
ومفهوم القاعدة أن الاحتمال الناشئ من غير برهان مشكوك فيه ، فلا يرفع عدم الاحتمال الذي هو اليقين ، لأن اليقين لا يزول إلا بيقين مثله في درجته أو في درجة أقوى منه.

4/2 الأساس القانوني لأصل البراءة :
تعد قرينة البراءة من الأحكام الأساسية لمبدأ الشرعية وتأتي من بعد شرعية الجرائم والعقوبات وذلك أن تطبيق قاعدة لا جريمة ولا عقاب إلا بنص قانوني – يفترض حتما قاعدة اخرى هي قاعدة البراءة في المتهم حتى يثبت جرمه وفقا للقانون .
وحقيقة الأمر أن حماية الحقوق والحريات التي كفلها الدستور (24) لكل مواطن تفترض براءته إلي أن تثبت إدانته في محاكمة منصفة وإذا كانت شرعية الجرائم والعقوبات ، فإنها استنتاج من إباحة الأشياء ، فيجب النظر إلي الإنسان بوصفه بريئا .
ولا تنتفي هذه البراءة إلا عندما يخرج الإنسان من دائرة البراءة إلي دائرة التجريم وهو ما لا يمكن تقريره إلا بمقتضى حكم قضائي وفقا للدستور (25)
فهذا الحكم هو الذي يقرر إدانة المتهم فيكتشف ارتكابه الجريمة ، وبمعنى آخر الاعتماد على الحكم القضائي وحده يدحض أصل البراءة حيث أن القضاء هو الحارس الطبيعي للحرية فيملك بناء على هذا الأصل تحديد المركز القانوني للمحكوم عليه بالنسبة إلي الحقوق والحريات فيكون الانتقاص من هذه الحقوق والحريات هو الجزاء الجنائي المترتب على إدانته بالجريمة التي ارتكبها .
ولهذا لا بد من القول أن أصل البراءة هو أحد الدعائم الأساسية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها ويعتبر حكما لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة .
وعليه فإنه إن كانت المصلحة العامة في إدانة المجرمين ومعاقبتهم ، فإن هذه المصلحة تتعارض أيضا مع الاعتداء على حريات الأبرياء والدفاع عن هذه الحريات في مجال إثبات الإدانة على وجه قطعي لا يعتبر قيدا على المصلحة العامة ، لأن المصلحة المحمية هنا هي الحرية الشخصية وهي مصلحة تهم المجتمع بأسره ولا تقل أهمية عن المصلحة العامة في معاقبة المجرمين وبالتالي لا بد من تحقيق موازنة بين الاعتبارين بحيث لا يفلت مجرم من العقاب ولا أن يدان برئ في آن واحد .

5/ التطور التاريخي للمبدأ :
5/1 في القانون الوضعي :
كانت المجتمعات البدائية قبل ظهور الدولة في مفهومها السياسي المتواضع عليه حاليا ، تخضع لتأثيرات العقائد الدينية غير السماوية (26) وهي بالتالي لم تكن تعرف المبدأ مبررة ذلك بأن المجرم ما هو إلا إنسان مسكون بالشياطين وبالتالي لا بد من تطهيره منها من خلال التعذيب والإيلام بقصد انتزاع الاعتراف منه .
وفي فترة لاحقة عرف المبدأ بصورته الراهنة ، على أن قوانين الإجراءات الجنائية الوضعية لم تتبع في تطورها خطا واضحا مستمرا . فقد تأثر موقفها إلي حد كبير بطبيعة النظام الإجرائي الذي تعتنقه ما بين النظام الاتهامي والنظام الآخذ بقرينة البراءة . وهو ما يتوقف على نظامها القانوني للحريات العامة .
ففي القرن السابع عشر ظهر هذا المبدأ في كتابات فلاسفة تلك الفترة وبصفة خاصة أفكار مونتسكيو وبيكاريا .
ففي كتابه المشهور روح القوانين استطاع مونتسكيو أن يسجل الملاحظة التالية " إنه عندما تكون براءة المواطنين غير مكفولة فإن حرياتهم أيضا تكون غير مكفولة " . أما بالنسبة لبيكاريا فقد ذكر في كتابه الجرائم والعقوبات والذي تضمن أفكارا بناءة وهامة والتي وجدت تأييدا من بعض الفلاسفة الفرنسيين مثل فولتير ، فقد اقترح " على كل مجتمع متمدين أن يقيم قرينة قانونية للبراءة في صالح كل متهم أيا كانت الأدلة المقدمة ضده ، كما يرى أن هذه القرينة يجب أن يستفيد منها المتهم طيلة كل إجراءات التحقيق والمحاكمة ، بل وحتى صيرورة الحكم الصادر بالإدانة نهائيا مبررا ذلك بقوله بأن كل إنسان لا يمكن اعتباره مذنبا قبل حكم القاضي ، والمجتمع لا يستطيع أن يخلع عنه الحماية العامة إلا بعد أن يتم إثبات مخالفته للشروط التي أعطت له هذه الحماية (27) .
وانتقد بيكاريا بشدة استعمال التعذيب عند التحقيق مع المتهم قائلا أن من نتائجة الشاذة أن يكون المجرم في وضع أحسن حالا من البريء لأن الثاني قد يعترف بالجريمة تحت وطأة التعذيب فتقرر إدانته ، أما الأول فإنه قد يختار بين ألم التعذيب وألم العقوبة التي يستحقها فيختار الألم الأول لأنه أخف لديه من ألم العقاب فيصمم على الإنكار وينجو من العقوبة (28) .

5/2 في الشريعة الإسلامية :
ظهر هذا المبدأ مع ظهور البعثة النبوية في القرن السادس الميلادي حيث قال صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي …(29) . من هنا يتضح أن الشرعية الإسلامية قد تقدمت على الفقه الوضعي في هذا الصدد بما يقارب العشرة قرون وهذا يكفي .

5/3 في المواثيق الدولية :
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 بأن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات للدفاع عنه (30) .
أكد هذا المبدأ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي أقرته الأمم المتحدة سنة 1966م حيث ورد النص حرفيا كما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (31) . كما تبنت الاتفاقية الدولية التي عقدت على مستوى القارات والتي تهدف إلي حماية حقوق الإنسان والتي من أبرزها الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية الموقعة في نوفمبر 1950م بروما (32) مشروع حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي الذي وضعه مؤتمر الخبراء العرب الذي انعقد في المعهد الدولي للدراسات العليا في العلوم الجنائية في إيطاليا 1985م نص على أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته بحكم قضائي صادر من محكمة مختصة .
وتعتبر فرنسا من الدول الرائدة في هذا المجال ، حيث كان هذا المبدأ من نتائج الثورة سنة 1789 حيث عبرت عنه المادة التاسعة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789 والتي تنص على أن " كل إنسان تفترض براءته حتى تثبت إدانته وإذا تقرر أنه لا مفر من القبض عليه فإن كل عنف – تنفيذ هذا القبض – لا تتطلب الضرورة من أجل التأكد من شخصيته يجب أن يعاقبه القانون بقسوة " .


5/4 الدساتير السودانية :
صاغت الدساتير السودانية على تعددها هذا المبدأ ومنها دستور 1973 الملغي في المادة (69) منه على " أي شخص يلقى القبض عليه متهما في جريمة ما يجب أن لا تفترض إدانته ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه بل المتهم برئ حتى تثبت إدانته دونما شك معقول .
وفي نفس المنحى سار دستور السودان لسنة 1986 ودستور 1998 حيث أورد في المادة (33) بعنوان حق البراءة والدفاع على أن " لا يجرم أحد ولا يعاقب على فعل إلا وفق قانون سابق يجرم الفعل ويعاقب عليه . والمتهم برئ حتى تثبت إدانته قضاء وله الحق في محاكمة عادلة وناجزه وفي الدفاع عن نفسه واختيار من يمثله .

5/5 : موقف قانون الإجراءات السوداني من المبدأ :
إذا كان مبدأ البراءة الأصلية يمثل أحد المبادئ العامة التي يجب أن تسيطر وتهيمن على التشريعات الخاصة بالإجراءات الجنائية فيكفي أن تكون هذه المبادئ منصوصا عليها صراحة في القانون . وفي هذا الصدد فقد نصت المادة 4/ج من القانون على المتهم برئ حتى تثبت إدانته وله الحق في أن يكون التحري معه ومحاكمته بوجه عادل وناجز . أما الفقرة (د) من نفس المادة وفي ذات القانون على حظر الاعتداء على نفس المتهم وحاله ولا يجبر على تقديم دليل ضد نفسه ولا توجه إلي اليمين إلا في الجرائم غير الحدية التي يتعلق بها حق خاص .
ونصت الفقرة (د) من المادة على مراعاة الرفق واليسر في إجراءات التحري والاستدعاء ولا يلجأ لممارسة سلطات الضبط إلا إذا كانت لازمة وضرورية .
وعلى ذلك فإن القانون قد تضمن بعض الأحكام الموضوعية والشكلية التي لا يمكن تفسيرها إلا بالتسليم المسبق بالمبدأ بالمشرع .
فبالنسبة للشكل فإن قانون الإجراءات الجنائية يبرز بعض الاحتياطات في اختيار الألفاظ أو المصطلحات التي تعكس بصورة واضحة التبني الضمني من جانب المشرع للمبدأ الذي يتطلب أن كل من اتهم بارتكاب جريمة جنائية أو ساهم في ارتكابها يجب أن ينظر إليه ويعامل كإنسان برئ طالما أن إدانته لم تثبت بعد بحكم قضائي نهائي .
أما بالنسبة للأحكام الموضوعية فهي أكثر دلالة على التكريس والتبني الصريح للمبدأ وتتمثل هذه الأحكام في النص صراحة على غالبية نتائج المبدأ كما سلف القول .
وقد تناول قانون الإثبات بعض القواعد الأصولية المرتبطة بالإثبات في نص المادة (5) من قانون الإثبات لسنة 1993م وهي .. تستصحب المحكمة عند نظر الدعاوى القواعد الأصولية الآتية نأخذ منها أ/ الأصل في المعاملات براءة الذمة والبينة على من يدعي خلاف ذلك
ب/ الأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته دون شك معقول .
ج/ 0000000000000000

6/ مظاهر المبدأ :
يتمثل مبدأ البراءة في عدة مظاهر تمثل الإطار العام الذي يصونه ويؤكده وأبرز هذه المظاهر
6/1 كفالة حق الدفاع :
إن ولاية القاضي مقصدها إيصال الحقوق لأصحابها ، فيتعين عليه أن يفسح صدره للدفاع لكل من الخصوم – حيث أن حق الدفاع حق أصيل ينشأ منذ اللحظة التي يواجه فيها الشخص بالاتهام .
ويعنى به تمكين الشخص من درأ الاتهام عن نفسه ، إما بإثبات فساد دليله أو بإقامة الدليل على نقيضه وهو البراءة . والاتهام بطبيعته يقتضي الدفاع ، فهو ضرورة منطقية إعمالا لمبدأ التسوية بين الخصوم . ويشترط أن يكون المتهم قادرا للدفاع عن نفسه ، فإن كان عاجزا لم تصح إدانته لأن العجز عن الدفاع كالحرمان منه (33) وهنا لا بد من إقامة وكيل للدفاع عنه بأجر تدفعه الدولة إذا كانت التهمة خطيرة والمتهم عاجز عن اتخاذ وكيل للدفاع عنه من غير إلزام .
وقد حكمت المحكمة بأن حق المتهم في الاستعانة بمحام مكفول بالدستور والقانون ولكن ليس هناك ما يعني أن الدولة ملزمة بتعيين محام للمتهم في كل قضية خطيرة إذ أن على المحكمة (34) وقف الإجراءات إلي أجل غير مسمى لمجرد إعلان المتهم رغبته في الاستعانة بمحام . وأضافت المحكمة إنه من حق المتهم أن يحدد اسم المحامي الذي يتولى الدفاع عنه ، وعلى المحكمة قبول ذلك المحامي والسماح له بالمرافعه إذا ثبت أن المتهم معسر وطلب صراحة أن تعين الدولة من يدافع عنه واقتنع النائب العام بطلبه . فإن الدولة تتحمل كل أو جزء من نفقات ذلك المحامي ، حيث أنه يقع على المحاكم السودانية واجب تقليدي راسخ بخلاف الواجب القضائي المعروف يفرض عليها تمثيل الدفاع عن المتهمين والتفتيش عن النقاط ووجهات النظر التي تفيدهم ومباشرة استجواب الشهود عنهم .وقد قررت المحكمة في قضية أخرى أن مسألة تعيين محامي للمتهم بوساطة النائب العام إنما يكون بناء على طلب المتهم ولا تقوم المحكمة بهذه المهمة من تلقاء نفسها (35) .
ولذلك تبطل إجراءات المحاكمة إذا حرم المتهم من حقه في الاستعانة بمحام باعتباره حقا دستوريا (36) بل ويمنح المتهم فرصة لتعيين محام آخر إن تخلى عنه (37)

6/2 اتخاذ مترجم :
مما ييسر الدفاع للإنسان بحق الدفاع ما أجاز الفقه الإسلامي والقانون في أن يتخذ المتهم مترجما إذا كان أحد الخصوم لا يعرف لغة المحكمة . حيث رأى الأحناف والمالكية أن الترجمة خبر لا يتطلب عددا كالشهادة وإن المترجم مخبر فتقبل ترجمة الواحد إذا كان عدلا . لذلك جازت للأعمى وإن لم تقبل شهادته فلا يشترط فيها ما يشترط في الشهادة (38)

: 6/3 كفالة الطعن في الأحكام
سبق وأن ذكرنا بأن المتهم يمكن أن يتعرض لخطر إدانته بينما هو في واقع الحال برئ لاحتمال ارتكاب الجهات القضائية وشبه القضائية بعض الأخطاء وتلافيا لذلك واستصحابا لمبدأ البراءة الأصلية فإن قانون الإجراءات الجنائية قد كفل الحق في الطعن في الأحكام التي قد تصدر من الجهات التي تتحرى في التهمة الموجهة ضد المتهم وما يكمل ضمان حق الدفاع وصحة الأحكام وضمان صحة القضاء أنه يجب الرجوع إلي الحق كلما تبين ، فإن الحق قديم ، وقد أخذ الفقه الإسلامي والقانون بأن الحكم الخطأ يستوجب الإلغاء بما يتفق مع القانون . وهذا الإلغاء يجوز للقاضي نفسه الذي أصدر الحكم عندما يتبين وجه الخطأ – كما في الأخطاء المادية والرقمية والحسابية – كما يجوز لغيره من القضاة الأعلى درجة وهذه الدرجات المحددة للطعن يقصدمنها تقويم الاعوجاج القانوني في الحكم المطعون فيه ، وتوحيد فهم القضاة للقانون وهو طريق له إجراءات معينة ويتقيد بمواعيد محددة ، وهذه الطرق هي :



6/3/1 : الطعن بالاستئناف :
نصت المادة 21/2 من قانون الإجراءات الجنائية على أن يستأنف قرار وكيل النيابة المقرر بالقبض المقيد للحرية لرئيس وكيل النيابة المباشر وفقا لنص المادة 179/ب باعتبار أنها من التدابير القضائية التي يجوز استئنافها طالما أنها مقيدة لحرية المستأنف المتهم في نفسه أو ماله . وبالتالي يكون للمتهم الحق في الطعن ضد الأحكام القاضية بالقبض والوضع في الحراسة القضائية باعتباره من الأمور المقيدة للحرية .
وبذلك يكون قانون الإجراءات الجنائية قد كفل موضوعيا الحق في الطعن سواء كان ذلك في مرحلة التحري والتحقيق الأولي أمام النيابة أو كان في مرحلة المحاكمة (39) .
وقد حكمت المحكمة بأن السلطات الاستئنافية لا تقوم عادة بإصدار أحكام جديدة ولكن تكتفي بتأييد الأحكام الابتدائية أو إلغائها أو تخفيفها أو إعادة الأوراق لمحكمة الموضوع لإصدار الحكم الذي تراه السلطة الاستئنافية مناسبا (40) وبالتالي إذا رأت السلطة الاستئنافية أن تزيد العقوبة على المتهم أو تغيرها بما يعود على المتهم بالضرر فإنه يجب عليها أن تعيد القضية للمحكمة مرة أخرى لإعادة النظر في قرارها (41) .

6/3/2 سلطة الفحص :
كما يجوز للمحكمة العليا أو محكمة الاستئناف من تلقاء نفسها أو بناء على التماس أن تطلب وتفحص محضر أي دعوى جنائية صدر فيها تدبير قضائي أمام أي محكمة في دائرة اختصاصها وذلك بغرض التأكد من سلامة الإجراءات وتحقيق العدالة وأن تأمر بما تراه مناسبا (42) .
وتبدأ سلطة الفحص من تاريخ صدور الحكم المراد فحصه (43) وليس على المحكمة أن تفحص الدعوى بغرض تأكيد مبدأ البراءة الأصلية وبث أسباب التخفيف عن المتهم وللتأكد من سلامة الإجراءات المتبعة بهدف تحقيق العدالة وتطبيقا لذلك فقد قررت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في قضية أسماء محمود وآخر أن إضافة تهمة جديدة تعتبر إضافة جديدة لم يتم توجيهها في مرحلة المحاكمة هو اشتطاط من قبل محكمة الاستئناف لا يكون قد وقف عند إغفال التقاليد القضائية في السودان وإنما يكون قد امتد إلي مخالفة النصوص الصريحة للقانون الإجرائي الجنائي لسنة 1983 .
والجدير بالذكر أن إجراءات الفحص لا تعتمد إطلاق على ما قدمه طالب الفحص من أسباب ، وإنما هي حق مطلق للمحكمة لفحص ما جاء في المحضر فإذا تبين لها أن الإدانة كانت خاطئة وباطلة فلا مجال للاعتماد على طلب الفحص حتى ولو تجاهل ذكر الإدانة بل يستوجب أن يتم التصحيح كحق أصيل للمحكمة المختصة (44) .
إن سلطة المحكمة العليا أو السلطة الاستثنائية في فحص الإجراءات غير قاصرة فقط على حالة الأحكام النهائية بل تشمل الأحكام النهائية والأوامر والقرارات التي تصدرها المحكمة الأدنى في مرحلة ما قبل المحاكمة وتلك التي تصدر قبل صدور الحكم النهائي كالتي تصدر في مرحلة التحري في يومية التحري وكالتي تصدر أثناء المحاكمة في محضر المحاكمة (45) .

6/3/3 النقض :
هو طريق من طرق الطعن في الأحكام النهائية ويستهدف إعادة النظر في الحكم للتحقيق في مطابقته للقانون سواء من حيث القواعد الموضوعية التي طبقتها أو من حيث إجراءات نشوئه أو الإجراءات التي استند عليها . وتتحقق المحكمة العليا في أن الحكم المطعون فيما إذا كان مبنيا على مخالفة للقانون أو الخطأ في تطبيقه أو تفسيره (46) .
ولا يهدف الطعن بالنقض إلي إعادة عرض الدعوى أمام القضاء ، وإنما الهدف هو تقدير مدى اتفاقه مع القانون ، ومناقشة صحة التكييف القانوني ، ولذلك لا تختص المحكمة العليا بالوقائع ولا يقبل جدل موضوعي أمامها (47) .
والعلة من النقض هي أن تمارس المحكمة العليا من الإشراف على تطبيق القانون وتفسيره ليؤدي ذلك إلي توحيد المبادئ القانونية التي تطبقها المحاكم .
6/4 حق نفي التهمة :
مفهوم هذا الحق يعني أن من حق المتهم تقديم ما لديه من أدلة لنفي الواقعة التي يدعيها خصمه ، مع مراعاة الشروط التي يفرضها القانون لذلك . وهذا الحق من الأمور الثابتة بداهة ، إذ كيف تقرر الإدانة على المتهم إذا لم يمنع الحق في نفيها . ففاعلية الإدانة تستند على وجود أدلة وبينات تؤكد الإدانة وتنفي براءة المتهم مع فشله في مناهضتها (48) وبمقتضى هذا الحق يكون للمتهم الحقوق الآتية :
أ/ مناقشة الدليل المقدم من خصمه وتفنيده .
ب/ على القاضي أن لا يأخذ بدليل دون أن يعرضه على من يحتج به عليه وأن يمكنه من أخذ رأيه عليه .
ج/ السماح له بتقديم الأدلة التي تعزز براءته وتعضدها
د/ يعفى من عبء إثبات براءته
كما أوردت أحكام القضاء العديد من الحصانات التي تهدف إلي كفالة حق المتهم في الحصول على محاكمة عادلة أبرزها توافر تهمة مبدئية (49)
وفقا لذلك لا تعتبر أي قضية صالحة للمحاكمة إلا إذا هناك تهمة مبدئية ضد المتهم ، ولكن التهمة المبدئية في ذات الوقت لا تعني إثبات كل أركان الجريمة إذ أن هناك بعض الأركان التي يمكن إثباتها بالبينة الظرفية التي قد تشمل فشل المتهم في تقديم تفسير معقول لتصرفاته .
كما تجب معاملة المقبوض عليه بما يحفظ كرامته ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا . لذلك فقد حكم بأن تقييد المقبوض عليه على سرير لمنعه من الهرب ينطوي على سوء المعاملة ويمتهن كرامته (50) .
ولا بد من إجراء تحقيق قضائي مع المتهم تراعى فيه كل الضمانات المنصوص عليها في القوانين الإجرائية (51) وعليه فإذا ظهر من محضر المحاكمة أنه لم يتم تحقيق قضائي أو تم واختفت أوراق التحقيق ، فإن المحاكمة تصبح باطلة ويتحتم إلغاؤها والأمر بالسير بالقضية من جديد بداية بالتحقيق القضائي (52) .ويجب أن يهدف التحقيق القضائي إلي تحصيل العدالة وبالتالي يفترض على الإتهام أن يعرض كل ما في حوزته من بينات سواء أكانت لصالح الاتهام أو الدفاع (53) ليس هذا فحسب بل يجب على المحكمة أن ترجح رؤية المتهم عندما تكون الرواية الوحيدة ما دامت لم ترد بينات تتعارض مع ما أدلي به من تفاصيل وما دامت تلك الأقوال متناسقة وتتفق مع منطق الأشياء (54) .
فالأمر الأساسي هنا أنه تجب مراعاة أن لا يضار المتهم في دفاعه عن نفسه ، وبمعنى أن لا يكون للأخطاء الإجرائية التي ترتكب في حق المتهم تأثير محسوس ويتأثر بها دفاع المتهم (55) .
من أمثلة تضرر المتهم في دفاعه فقد قررت المحكمة في قضية حكومة السودان ضد آدم إسماعيل أنه وبعد أن تقرر المحكمة إدانة المتهم يسأل عن شهود الأخلاق وتدون إجابته وأقوالهم واعتبرت المحكمة أن إغفال السؤال في هذا الصدد يعتبر عيبا في الإجراءات يضر بدفاع المتهم لأن في إصدار العقوبة ضده دون سماع شهود أخلاق المحكوم وظروفه الخاصة يعد انتهاكا لحقوقه مما يستوجب إعادة الإجراءات (56)
وفي ذات السياق قررت المحكمة في قضية حكومة السودان ضد عوض الله عبد الرحمن وآخر أن عدم تدوين إن كان الإعتراف كان عن طواعية وبمحض إرادة المتهم عيب إجرائي لا يعيب موضوعه (57) .
كذلك من الضمانات الإجرائية التي حرصت أحكام القضاء على التأكيد عليها ضرورة مناقشة الاتهام كما ورد في صحيفة الاتهام حتى تخلص إلي قرار الإدانة الملائم موضحة أسباب عدولها – إن عدلت – عما قام عليه الاتهام وجرت وفقا له المحاكمة (58) .

6/5 عدم توجيه اليمين للمتهم :
استقر العمل في السودان تشريعا وفقها على توجيه اليمين للمتهم فقد نصت على ذلك المادة 218/4 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1925 و1974 وذلك لتأثر السودان حينها بالمشرع الإنجليزي الذي يجيز ذلك استنادا على قانون الإثبات لسنة 1898م .
ولكن وبعد صدور قانون 1983 للإجراءات الجنائية ففي المادة 200 منه فقد نص على أن يمنح المتهم الفرصة الكاملة لتقديم دفاعه ويوجه إلي اليمين ما لم ينكل عنه ، غير أنه لا يجوز للخصم استجوابه فإذا نكل المتهم عن اليمين يجوز الحكم عليه بناء على نكوله .
وقد قررت المحكمة بأنه في حالة انعدام الدليل في جرائم الحدود والقصاص وطلب الاتهام أن يحلف المتهم اليمين فإنه يجوز للمحكمة أن تأمر المتهم بحلف اليمين باعتبار أن اليمين هي البديل عن الدليل ولكن يجب توقيع عقوبة تعزيرية عند تقرير إدانة المتهم (59) .
علي أنه يجب عدم توجيه اليمين إلا إذا كانت هناك بينة مقدمة في الإثبات على صحة الاتهام (60)
وحسنا فعل المشرع عندما حظر توجيه اليمين للمتهم باعتبار أن ذلك يناقض قرينة البراءة حيث أننا نكون بصدد وضع حرج في حالة ما رفض المتهم أداء اليمين . فإذا حكمت المحكمة بناء على نكوله تكون قد أجبرته على أن يدين نفسه وفي هذا خروج على مبدأ الشرعية الجنائية . أكدت المحكمة العليا هذا المذهب في حكومة السودان ضد عبد العزيز إسماعيل والتي قررت أنه لا تجوز الإدانة لمجرد النكول عن الحلف (61) .

6/6 حصر وسائل الإثبات :
من ضمن مظاهر قرينة البراءة أن المشرع قد حدد وسائل الإثبات تحديدا على سبيل الحصر بحيث لا يحق لأي كان أن يستعين بأي وسيلة إثبات طالما أنها غير منصوص عليها في قانون الإثبات وبالتالي لا يحق للخصم أن يصطنع لنفسه دليلا ضد خصمه وإلا تعرض كثيرا من الناس إلي الادعاءات الباطلة طالما أنها تقوم على أدلة اصطنعوها بأنفسهم . وفي الحديث الشريف " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال وأموالهم … " لذا وخروجا من ذلك فقد حدد القانون أدلة الإثبات مما يتحتم على الخصوم وخاصة الاتهام عدم اللجوء إلي خلافها مهما كان الأمر .
وعليه فإن المحكمة لا تأخذ بالأدلة الإثباتية غير المنصوص عليها قانونا وتطبيقا لذلك فقد قضت المحكمة في قضية حكومة السودان ضد بدر الدين عباس أبو نورة (62) على أنه لما كان قانون الإثبات لسنة 1983م قد ورد على سبيل الحصر طرق الإثبات الجائزة قانونا في نص المادة 18 منه وجاء خلوا من النص على القسامة كطريق من طرق الإثبات في المسائل الجنائية في القانون السوداني إذ لا اجتهاد في مورد النص .
قانون الإثبات لسنة 1993م جاء خاليا من نص مقابل لنص المادة 18 من قانون الإثبات لسنة 1983م ولكن ولما كان القانون قد تناول طرق الإثبات وهي الإقرار والمستندات والشهادة والقرائن والأدلة المادية وخلافها فإنه يكون قد حصر وسائل الإثبات بما هو وارد فيه من نصوص مما يعد حفاظا على مبدأ الشرعية .

6/7 :إطلاق سراح المتهم أثناء التحريات :
تصاحب قرينة البراءة المتهم بعد إلقاء القبض عليه وبالتالي يمكن إطلاق سراحه – مؤقتا – طالما أن بقاؤه في الحراسة القضائية لا يفيد قضية الإتهام ، حيث أن البقاء في الحراسة القانونية هو إجراء استثنائي محض هدفه أخذ أقوال المقبوض عليه واستيفاء بعض الإجراءات بغرض إكمال التحريات .
فالإفراج عن المتهم بالضمانة يعني رفع قيد وضع المتهم بالحبس أثناء التحري بناء على تعهد من المتهم تحت كفالة شخص أو شخصين أو بإيداع مبالغ ماليه محدده حسب ظروف كل دعوي بالحضور أمام المحكمة – أو أمام جهة التحري – في زمان ومكان معينين ، ومقتضى التعهد هو الامتناع عن كل عمل يؤدي إلي الإخلال بواجب الحضور أمام المحكمة ، ويدخل في ذلك مغادرة حدود اختصاص المحكمة في ظروف لا تسمح للمتهم بتنفيذ تعهده (63)
فمسألة إطلاق سراح المتهم أثناء التحقيق هي عبارة عن موازنة تجري بين الأدلة المقدمة في مرحلة الاتهام بمعيار يتنبأ بمستقبل الإجراءات عند اكتمالها ولكنه في ذات الوقت يقصر عن أعمال المعايير الدقيقة في موازنة الأدلة بغرض تقرير الإدانة أو البراءة (64).
وتتراوح أنواع الضمان بين التعهد الشخصي الذي يقدم من المقبوض عليه فضلا عن دفع نقدي إن اقتضى الحال أو الإيداع مع التعهد أو الكفالة .
وما تجدر الإشارة إليه أن سلطة إطلاق المتهم بالضمان مقيد بإمكانية حضور أو إحضار المتهم متى ما طلب منه ذلك . فعلى المحكمة – أو السلطة المختصة – أن لا توافق على كفالة الشخص المسافر لخارج القطر – ولو في حالة المرض – إلا في حالات الضرورة القصوى كحالة العلاج العاجل بالخارج والذي يقرر القومسيون الطبي ضرورته (65)
كما أنه لا يجوز الإفراج عن المتهم بالضمان في بعض الجرائم الخطيرة التي عقوبتها الإعدام أو القطع حدا ، ولرئيس الجهاز القضائي بالمنطقة المعنية اتخاذ ما يراه مناسبا إن امتد الحبس لستة أشهر (66).
وقد شرح الفقه عبارة – ما يراه مناسبا – بقوله بأنها سرعة الفصل في الدعوى الجنائية وفقا للبينات المتوفرة أو حسب الإجراءات التي وصلت إليها المحكمة ولكنها لا تشمل الإفراج عن المتهم بالضمان
وفي جرائم القصاص يجوز الإفراج عن المتهم بالضمان في جرائم القصاص بشروط معينة هي تتمثل في أن لا يشكل الإفراج عنه خطرا عليه في حياته وأن لا يخل بالأمن والطمأنينة العامة فضلا عن ضرورة موافقة أولياء المقتول سواء بشروط أو بدون شروط (67)