بسم الله الرحمن الرحيم
قرينة البراءة الجنائية
د/ شهاب سليمان عبد الله
أستاذ القانون العام المساعد – جامعة شنــدي
1/ توطئة :
إذا كان من الثابت أن جميع الأنظمة والمؤسسات السياسية والقانونية في بلد ما وزمان ما ليست إلا التطبيق العملي لمذهب نوعي معين فيما يتعلق بفكرة أو مفهوم الدولة نفسها وطبيعة علاقاتها بالأفراد المكونين لها أو غيرهم (1) . فإن هذا المفهوم أو التصور المذهبي لدور الدولة ولوظائف أجهزتها ومؤسساتها . فإن هذه العقيدة – الأيديولوجية – في القانون الوضعي تنقسم إلي قسمين هما النظرية الاشتراكية ونظرية المذهب الفردي الحر .
فطبقا لأنصار النظرية الاشتراكية .. إن القوانين ليست إلا نتاجا من الدولة أساسا ، وتتطابق مع القوة والتي ليست هذه القوانين إلا مظهرا من مظاهرها ، كما تذهب النظرية إلي أن الأفراد إنما يساهمون في قوتها ، إلا أنه ومع ذلك ليس مسلما لهم بأن يطالبوا بأي حق شخصي في مواجهة السلطة المطلقة للدولة ، وبالتالي تظل الحرية الفردية غير مثارة ، لأن الدولة هي التي تملك كل الحقوق باعتبار أنها الأكثر قوة (2) . ومن نتائج ذلك فإن التسليم بهذه النظرية يؤدي إلي طغيان الدولة حيث أنها تظل هي الممسكة بزمام الأمور في المبتدأ والمنتهى وفي مقابلها إنسان ليس له حقوق ولا حريات إلا بقدر ما تنعطف عليه الدولة بها وهذا ما يهدر حقه كإنسان في وجوده وفي حياته .
أما النظرية الثانية فتميل إلي وضع كل الاعتبار للفرد وحقوقه حيث أنه هو الهدف الوحيد والمنشود للمجتمع المنظم ، أي أن كل سلطة صادرة أو منبثقة عن الجماعة ليس لها هدف غير حماية الكائن الآدمي وحقوقه ، على أن يبقى المجتمع وحقوقه في المقام الثاني . لأن المجتمع ليس إلا وسيلة أقيمت ووضعت لإسعاد الأفراد (3) حيث أن مصالح المجتمع لا تعدو أن تكون مجموع مصالح الأفراد .
وما يقال عن هذه النظرية ، أنها تؤدي إلي الفوضى والرجوع إلي الهمجية فإطلاق العنان للفرد ليفعل ما يشاء به من الأضرار لما لا يكفي سرده في هذا المقال ، يكفي فقط أن الإنسان بطبعه أناني يرغب في الحصول على أكبر قدر من المنفعة بأقل جهد ممكن .
وإذا كان لا بد من قول ، فإنه إذا كان صحيحا أن الفرد يعيش في المجتمع الذي أنشأه ، والذي يحتاج إليه لكي تتطور حياته وشخصيته ، وإشباع حاجاته المادية والمعنوية ، فإن الدولة يقع على عاتقها أن تقوم ببعض الواجبات الضرورية ومن أبرزها إقامة السلام الاجتماعي والنظام العام والعدالة بين الأفراد أنفسهم ، وهو ما يمثل أحد الأسباب التي من أجلها أعطيت الدولة عدة وسائل تساعدها على أن تتولى بطريقة فعالة المهام الملقاة على عاتقها من خلال وضع مجموعة من القواعد العامة التي تنظم العلاقات ، سواء أن كان بينها وبين الأفراد من ناحية أو فيما بين الأفراد أنفسهم .
وبناء على ذلك فقد أعطيت الدولة الحق في اللجوء إلي القوة متى ما استدعت الضرورة ذلك ، من أجل أن تؤيد احترام هذه القواعد العامة طالما أنها سارية وهذا ما سارت عليه الدولة الإسلامية منذ نشأتها حيث حاولت بل ونجحت في التوفيق والموازنة بين مصالح الأفراد من جانب والمصالح العامة من الجانب الآخر ، يقول الله تعالى " ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (4) هذا المبدأ الذي اكتشفه القانون الوضعي في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي .
وعلى أية حال فإنه من المتفق عليه من وجهة النظر العقابية ، أن المجتمع له الحق في أن يضع مجموعة من القواعد العامة التي تحظر على الأفراد ، أو تتطلب منهم إتيان بعض التصرفات ، كما أن له الحق في محاكمة الأفراد الذين لا يطيعون هذه القواعد ، وأن تطبق عليهم الجزاء المقرر قانونا لسلوكهم المعتبر جرما . هذا الحق يتجسد فعليا في القانون الجنائي المكون لحق الدولة في التجريم والعقاب المصنوع من السلطة التشريعية عملا بمبدأ فصل السلطات وتحديد الوظائف . هذا مع ملاحظة أن السلطة التشريعية ليست طليقة من كل قيد أثناء وضعها لتلك القواعد وفقا للنظام الدستوري للدولة المعنية ، ووفقا للفلسفة التي يقوم عليها النظام في الدولة والمبادئ التي يستند عليها ، وأهم هذه المبادئ ، مبدأ شرعية التجريم والعقاب باعتباره الوجه الأول للشرعية ، وقرينة البراءة باعتبارها الوجه الآخر لمبدأ الشرعية .
فالمبدأ الأول ، أي شرعية الجرائم أي شرعية الجرائم والعقوبات ، يكون حجر الأساس القانون الجنائي ، أما المبدأ الثاني قرينة البراءة فإنه يسود ويسيطر على جزء مهم من القانون الجنائي بمعناه الواسع – الذي يعني بالبحث عن الحقيقة القضائية ، أي الإجراءات الجنائية وبعبارة أكثر وضوحا فإنه إذا كان اكتشاف الحقيقة هو هدف الإجراءات الجنائية فإن وسائل هذه الأخيرة للوصول إلي الهدف يجب أن تؤسس على مبدأ قرينة البراءة أو أن الأصل في الإنسان البراءة إلي أن يثبت بصورة قاطعة لا تحتمل أي تأويل عكس ذلك .

2/ مفهوم المبدأ :
مقتضى المبدأ أن كل شخص متهم بارتكاب جريمة – أيا كانت جسامتها – تجب معاملته بوصفه شخصا بريئا حتى تتأكد إدانته بحكم قضائي نهائي محض – أي حائز بحجية الشيء المحكوم به بحيث لا يقبل الطعن فيه (5) .
والثابت أن الدعوى الجنائية تعرض من ترفع ضده – المتهم – إلي خطرين – الأول هو أن يتم اتهامه خطأ ، ولكنه يستفيد في النهاية بقرار الأوجه لإقامة الدعوى أو حكم البراءة . كما تشير بذلك المادة 141/1 من القانون الإجرائي الجنائي السوداني لسنة 1991م ، والخطر الثاني أن تتم إدانته والحكم عليه بعقوبة في حين أنه برئ . وبالرغم من أن الخطر الأول أقل بشاعة من الخطر الثاني إلا أنه على قدر كبير من الخطورة لما يمكن أن يستتبعه من إجراءات ماسة بحريته الشخصية – المتهم – أو حتى مقيدة لها كالقبض والتفتيش – للأشخاص والأماكن – والحبس الاحتياطي الأمر الذي لا يستطيع معه الحكم القاضي بالأوجه لإقامة الدعوى أو البراءة أن يمحو الأضرار التي تحملها بما في ذلك الثقة التي كان يتمتع بها المتهم من قبل والتي سوف تهتز بعد حبسه أو تفتيشه .
أما فيما يتعلق بالخطر الثاني – إدانته وهو برئ – فإنه وإن كان قليل الوقوع عملا ، إلا أنه ليس نادرا أو مستحيلا . ذلك أن الحياة القضائية التي تم فيها الحكم على أبرياء ، وعلى هذا فإن إمكانية حدوث هذه الأخطاء مسلم به من الناحية التشريعية ، والدليل على ذلك هو وجود القواعد الخاصة بإعادة النظر في الأحكام القضائية الابتدائية في جميع قوانين الإجراءات الجنائية الحديثة (6) وفي سبيل تلافي هذا الخطر المزدوج – والذي يمكن أن يكون ضحيته أي مواطن فقد تبنت أنظمة الإجراءات الجنائية الحديثة مبدأ مقتضاه أن كل شخص متهم بارتكاب جريمة يجب أن يعتبر ويعامل كشخص برئ حتى يصبح القرار القضائي المعلن لإدانته نهائيا لا رجعة فيه .
وبهذا الفهم تعتبر قرينة البراءة أساس كل تنظيمات وقواعد الإجراءات الجنائية والذي يقال عادة في تبريره أنه من الأفضل أن يفلت مذنبا من العقاب خيرا من أن يدان برئ . وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه للإمام أن يخطئ في العفو خيرا له من أن يخطئ في العقوبة (7) .
فالمبدأ الذي يمثل حماية للحرية الشخصية للإنسان ، والتي تعتبر أول حق من حقوقه كإنسان بعد حقه في الحياة ، فهو ضمانة أساسية للحرية الفردية ضد تعسف سلطات الدولة المختلفة في ممارستها لحق المجتمع في العقاب . وعليه فإذا كان القسم الموضوعي من القانون الجنائي – أي القسم الخاص بتحريم الأفعال وتحديد عقوباتها – هو قانون المذنبين أو المجرمين ، فإن القسم الإجرائي منه – أي الإجراءات الجنائية – فهو قانون الناس الشرفاء . فالمتهم يحضر أمام مختلف الهيئات القضائية الجنائية . دون أن يكلف بإثبات شيء ، فهو ليس مكلفا بإثبات براءته لأن هذه الأخيرة مفترضة فيه . وعلى هذا فإن تقررت ضرورة القبض عليه ، فإن الحبس الاحتياطي يعد إجراءا استثنائيا بقدر ضرورته للتحفظ على شخصية المتهم من جانب وتجريم كل تعسف في تنفيذ وتطبيق قواعد الإجراءات الجنائية من جانب آخر

3/ طبيعة أصل البراءة :
ذهب بعض علماء الفقه إلي اعتبار أن هذه القاعدة تمثل قرينة قانونية بسيطة – أي تقبل إثبات عكسها – والقرينة هي استنباط واقعة مجهولة من خلال واقعة معلومة فالمتفق عليه أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يتقرر العكس بحكم قضائي وبناء على نص قانوني .
إلا أن بعض أحكام المحاكم انتهت إلي أن افتراض البراءة لا يتمخض عن قرينة قانونية ولا هو من صورها . على أساس أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي – الواقعة المعلومة – أي واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها وهذه الواقعة البديلة هي التي تعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون وليس الأمر كذلك بالنسبة للبراءة التي افترضها القانون والدستور فليس ثمة واقعة أصلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنها ، إنما يؤسس افتراض البراءة علة الفطرة التي يميل الإنسان عليها فقد ولد حرا مبرأ من الخطيئة والمعصية ، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامنا فيه مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال إلي أن تنقضي محكمة الموضوع بقضاء جازم هذا الافتراض على ضوء البينات التي يقدمها الاتهام مثبتة للجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها وبالنسبة إلي كل واقعة ضرورية لقيامها (8)
ويظل هذا الأصل قائما رغم الأدلة المتوفرة والمقدمة حتى يصدر حكم قضائي بات يفيد إدانة المتهم ، وبهذا الحكم ينقضي أصل البراءة وتتوافر بالتالي قرينة قاطعة تصلح أساسا لإهدار الأصل في المتهم
فإدانة المتهم إذا تتوقف على انتهاء الإباحة وعدم توافر موانع المسئولية ، (9) ، ومع ذلك فقد لوحظ أنه إذا أريد احترام أصل البراءة احتراما حرفيا فسوف يضحى اتخاذ الإجراءات الجنائية أمرا مستحيلا (10) ولهذا فإن المضمون الواقعي العملي لهذا الأصل يتوقف على ضمانات الحقوق والحريات التي تحيط بتطبيق هذه القرينة .
فأصل البراءة يعني أن المتهم يجب أن يعامل كالأبرياء ، ومن ثم فإن الأصل هو تمتعه بجميع الحقوق والحريات التي كفلها الدستور ونظمها القانون .
إلا أنه ولما كانت نصوص الدستور متكاملة مترابطة وكان الدستور كما كفل الحرية الشخصية معظم حقوق الإنسان كفل أيضا التجريم والعقاب (11) وكفل المحاكمة عن الجرائم حين نص على أنه لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي (12) فإن الشرعية الدستورية في الإجراءات الجنائية تتطلب الموازنة بين احترام الحقوق والحريات الأساسية وكفالة الإجراءات التي تتخذ تجاه المتهم .
فالقانون ينظم الحرية الشخصية للمتهم داخل الخصومة الجنائية في ضوء أهداف الخصوم الجنائية ويجب ألا يتجاوز هذا التنظيم القانوني القائم على أصل البراءة والذي يتمثل في تقييد الإجراءات التي يسمح بها القانون بضمانات معينة تكفل حماية الحرية الشخصية للمتهم وحقوقه المتعلقة بها (13) .
فالقانون يعد من أهم وأخطر مصادر المشروعية بحكم أنه المصدر المنظم لإجراءات تحصيل الأدلة منذ إلقاء القبض على المتهم مرورا بتفتيشه وتسجيل أقواله وضبط كل متعلقات الجريمة ، وتحديد ضوابط وقيود ذلك ، لذلك حرصت القوانين الإجرائية في السودان 1974 و1983م و1991م على النص على ضرورة وجوب قبول البينة في الإجراءات القضائية طبقا لنصوص القانون ، وبما يتفق مع المنطق والعدالة ودون أي معاملة غير كريمة للمتهم أو الشهود كما حظر القانون تعريض أي شخص لأي معاملة أو عقاب وحشي وغير إنساني (14) .