سيادة الدولة في المسائل الجنائية 2

--------------------------------------------------------------------------------

- خروج القوى الحربية الأجنبية من دائرة اختصاص السلطة المحلية

مقارنةً بالامتيازات السياسية:
وهناك استثناء ثانٍ من السيادة الإقليمية أو من اختصاص السلطة المحلية وهو استثناء القوى الحربية لدولة أجنبية كالجيوش والسفن الحربية وليس الغرض من هذا الاستثناء ضمان مركز أشخاص معينين وتمكينهم من تأدية وظائفهم باطمئنان واستقلال كما هو الحال في الامتيازات السياسية، وإنما الغرض منه تمكين الدولة الأجنبية مباشرةً من القيام ببعض وظائفها العامة إذ متى سمحت دولة الجيش أجنبي أو لسفينة حربية تابعة لدولة أجنبية بالدخول في إقليمها فقد قبلت بمقتضى ذلك أن تباشر تلك الدولة الأجنبية على الإقليم المذكور شيئًا من سلطتها العامة بالنسبة للجيش أو السفينة، ولا يجوز للدولة الإقليمية بعد ذلك أن تعطل استعمال هذه السلطة أو تشترك في مباشرتها فخروج القوى الحربية الأجنبية من سلطة الدولة الإقليمية إنما أريد به تمكين الدولة التي تتبعها هذه القوى من الانفراد بالسلطة بشكل فعالٍ على قواتها المسلحة التي تعتمد عليها في الدفاع عن كيانها.
وهذه القوى الحربية لا تدخل في إقليم أجنبي إلا برضاء الدولة صاحبة السيادة على الإقليم وهي إما أن تكون جيوشًا أو سفنًا حربية أو طائرات حربية وقد تحدد حقوقها وواجباتها أثناء إقامتها بذلك الإقليم بمقتضى اتفاقات خاصة على أن قواعد القانون الدولي تقرر لها مركزًا خاصًا ولو لم يوجد اتفاق بشأنها.
الجيوش:
فالجيش الأجنبي الذي يقيم أثناء السلم [(21)] في إقليم دولة أجنبية برضائها يعتبر خارجًا عن اختصاصها الجنائي طالما توفر فيه النظام العسكري وكون أعضاؤه وحدة كاملة مرتبطة بروابط درجات الرئاسة العسكرية فإذا وقع من أحد أفراده جريمة فليس لرجال السلطة المحلية أن يقوموا ضده بإجراءات جنائية وإنما يشترط لذلك أن تكون الجريمة قد وقعت داخل المنطقة التي يوجد بها الجيش وأن لا يكون رجال الجيش قاموا بأعمال عدائية ضد الدولة التي يقيمون بإقليمها، وكذلك لا يمكن إعلان بعض أفراد الجيش الأجنبي وطلبهم أمام السلطة المحلية إلا إذا أذن قائد الجيش بذلك - كما أنه لا يمكن لرجال هذه السلطة أن تدخل ثكنات هذا الجيش أو المكان الذي يقيم فيه بدون إذن قائده - وتبقى لهذا القائد السلطة التي يخولها له قانون بلاده العسكري إذ تستمر أحكام هذا القانون سارية على أفراد الجيش أثناء إقامته بالإقليم الأجنبي تبعًا للقاعدة التي تقضي بأن القانون يتبع العلم La loi suit le drapeau.
على أن أفراد الجيش الأجنبي لا يعفون من الاختصاص المدني إذ لا توجد فيه الإجراءات الكيدية التي يمكن أن توجد في حالة الاختصاص الجنائي.
السفن الحربية الأجنبية:
ويتمتع أيضًا بالإعفاء من القضاء المحلي السفن الحربية التي للدول الأجنبية عند رسوها بموانئ الدولة أو مياهها الإقليمية في حالة السلم وللدولة أن ترفض السماح لهذه السفن بدخول موانئها ولكن متى قبلت دخولها فلا تستطيع أن تخضعها لاختصاصها لأن هذه السفن تمثل دولة أجنبية وتكون جزءًا من قوتها المسلحة ولكن يجب أن تتبع السفينة اللوائح الإدارية للدولة الساحلية كلوائح الجمارك والصحة ولا تقوم بعمل عدائي ضد هذه الدولة.
ويقضي إعفاء هذه السفن من الاختصاص الوطني أن رجال السلطة المحلية لا يستطيعون دخول السفينة بدون إذن قائدها فإذا لجأ مجرم لسفينة حربية فليس لهم أن يتبعوه إلى داخلها وإنما يطلبون من القائد إخراجه وإعطائه لهم ولا يعد ذلك من قبيل تسليم المجرمين الذي تكلمنا عنه آنفًا ولكن جرى العمل على قبول إيواء المجرمين السياسيين في السفن الحربية وعدم تسليمهم إلى السلطة المحلية إذا كانت دواعي الإنسانية تقضي بذلك.
وكذلك تعفى السفينة الحربية من الاختصاص المدني المحلي فلا يمكن توقيع الحجز عليها ولا مقاضاة رجالها أمام المحكمة المدنية عن أمور متعلقة بأعمالهم الرسمية وقد قضت محكمة الاستئناف بسنتياجو في شيلي بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1907 بأن السفينة الحربية الأجنبية لا تخضع للقضاء الوطني وبذلك تكون المحاكم المحلية غير مختصة بنظر الدعاوى التي ترفع من التجار للمطالبة بأثمان أغذية قدموها لرجال السفينة ولم يدفع ثمنها.
وليس لرجال السلطة المحلية أن تتخذ إجراءات جنائية بشأن جريمة وقعت على سطح السفينة الحربية الأجنبية إذ يعتبر ذلك من اختصاص الدولة التي تمتلك السفينة، وكذلك لا يخضع رجالها للقضاء الجنائي إذا كانوا خارج السفينة بشرط أن يكونوا سائرين تحت قيادة رئيس ويؤدون خدمة أمروا بها إذ يعتبرون في هذه الحالة كأفراد الجيوش التي سبق الكلام عليها ولا يخضعون إلا لقضاء دولتهم أما إذا وجد بعض أفراد منفصلين من رجال السفينة أو غير قائمين بخدمة مكلفين بها فإنهم لا يتمتعون بأي امتياز شأنهم في ذلك شأن أفراد الجيش المنفصلين عنه.
السفن التجارية:
أما السفن التجارية الراسية في مياه الدولة فيقضي الرأي الراجح بعدم إعفائها من الاختصاص المحلي إذ تعتبر كالأشياء المنقولة التي تملكها الأجانب في إقليم الدولة وإنما يقول بعض الكتاب بأن مسائل النظام الداخلي البحت للسفينة تخرج من دائرة الاختصاص المحلي وتخضع لسلطة الربان.
الطائرات الحربية:
وتسري القواعد الخاصة بالسفن الحربية على الطائرات الحربية للدولة الأجنبية فإذا سمحت دولة بدخول طائرة حربية لدولة أخرى في إقليمها الجوي فإن ذلك يقتضي عدم خضوع هذه الطائرة للسلطة المحلية إذ هي ممثلة للدولة التي تحمل علمها وإنما يجب عليها أن تتبع القوانين واللوائح الداخلية التي وضعت لضمان أمن الملاحة الجوية أو صيانة المصالح الحربية أو الصحية أو المالية للدولة الإقليمية إذ في ذلك احترام لحقوق الغير، ويجب على كل دولة أن تحترم حقوق غيرها من الدول، وبذلك يجب على الطائرات الأجنبية أن تمتنع عن الاقتراب من الحصون أو الأماكن الخاصة الممنوع المرور فوقها كما يجب أن تمتنع عن كل عمل عدائي ضد الدولة التي تطير فوق إقليمها فإن خالفت ذلك كان للدولة الإقليمية أن تخابر الدولة المالكة للطائرة وتطالبها بتعويضات عما حدث.
ولا تخضع الطائرات الحربية الأجنبية ورجالها للقضاء المحلي فلا يمكن لعمال السلطة المحلية أن يدخلوها بدون إذن أو يجروا فيها عملاً من الأعمال الرسمية كما أن الجرائم التي ترتكب على سطحها لا تدخل في اختصاص السلطة الجنائية المحلية وإنما تختص بنظرها سلطة الدولة المالكة للطائرة وكذلك لا تخضع لطائرات الحربية للقضاء المدني ولا يمكن الحجز عليها.
وقد نصت على هذه الامتيازات المعاهدة الدولية التي عقدت في 13 أكتوبر سنة 1919 بشأن الملاحة الجوية، وإنما لا تتمتع بها إلا الطائرات الحربية المملوكة لدولة أجنبية أما الطائرات الخصوصية أو المملوكة للدولة دون أن تكون حربية فلا تتمتع بهذه الامتيازات.

3 - الأجانب المتمتعون بالامتيازات

بقي هناك استثناء ثالث من اختصاص السلطة الإقليمية وإنما ليس عامًا كالاستثناءات التي سبق ذكرها بل هو استثناء قاصر على بعض البلاد الشرقية بل يكاد الآن يكون قاصرًا على القطر المصري، وهو استثناء الأجانب المتمتعين بالامتيازات من السلطة المحلية وقد كانت هذه الامتيازات قبلاً عبارة عن منح أعطيت في البلاد العثمانية وبعض البلاد الشرقية للأجانب حتى لا تنطبق عليهم قواعد هذه البلاد فالدولة العثمانية عندما منحت هذه الامتيازات لرعايا بعض الدول الأجنبية لم تكن ضعيفة تخشى بأس الأجانب أو دولهم بل كانت قد بلغت ذرا مجدها وكان في هذه الامتيازات فوائد عديدة لرعايا الدول الأجنبية إذ بدونها كان يعامل الأجنبي طبقًا لقواعد الشريعة الإسلامية باعتبار أنه مستأمن والمستأمن لا يكون حرًا في أعماله إلا لمدد معينة ثم تطبق عليه بعد ذلك أحكام الشريعة كما أنه كان يدفع جزية للحكومة وقد يجبر على سلوك مخصوص فألغت الامتيازات هذه القيود وأعطت للأجانب الحق في دخول الأراضي العثمانية والسكني بها ومباشرة التجارة بدون أي قيد والتمتع بحرية الأديان وحرمة المسكن وتطبيق قوانينهم الشخصية في التوارث وإعفائهم من القضاء المحلي وغير ذلك، وكذلك كان الحال في القطر المصري إذ وجد ساكن الجنان محمد علي باشا أن يشجع الأجانب على الحضور لبلاده حتى تستفيد من متاجرهم وعلومهم وفنونهم بعد أن كانوا ولوا وجههم عنها أيام المماليك بسبب ما كانوا يلاقونه من عسف وجور لذلك فتح لهم أبواب البلاد ورفع عنهم القيود التي كانت تفرض عليهم قبل ذلك وكان ينصفهم إذا أصابهم حيف بل كان يعطي أوامر لموظفيه ومرؤوسيه لمساعدتهم وتوفير سبل الراحة لهم وكانت تسلم بعض هذه الأوامر للأجانب أنفسهم ليقدموها لحكام البلاد حتى يعاملوا معاملة خاصة [(22)]، وقد أريد بذلك تمكين الأجانب من الإقامة في البلاد باطمئنان.
وقد توسعت مصر في الحقوق التي منحتها للأجانب أكثر من الدولة العثمانية ففي الوقت الذي كان فيه اختصاص القناصل في تركيا قاصرًا على ما يقع من الجرائم بين الأجانب التابعين لدولة واحدة كان اختصاصهم في مصر واسعًا يشمل كل الجرائم التي يرتكبها الأجانب ولو كانت ضد وطنيين ثم تأيد ذلك بلائحة وضعت في سنة 1857 تقرر فيها إعفاء الأجنبي الذي يرتكب جريمة من القضاء المحلي إلا إذا كان غير تابع لإحدى القنصليات وفي غير هذه الحالة تبلغ الجريمة للقنصل
التابع له المتهم وهو الذي يتولى محاكمته وقد قضى التوسع في تطبيق الامتيازات في مصر بتفسير معنى السكن الذي يتمتع فيه الأجنبي بحرمة خاصة تفسيرًا واسعًا فلم يقتصر على المنزل وملحقاته الملاصقة كما كان الحال في تركيا بل شمل أيضًا كل مكان يستعمله الأجنبي في تجارة أو صناعة أو عمل أو مهنة إذ ما دام المكان يستعمله أجنبي فإن له حرمة خاصة تمنع رجال السلطة المحلية من دخوله بدون مندوب القنصلية التي يتبعها الأجنبي إلا في أحوال استثنائية كحصول استغاثة أو تلبس بالجناية.
وكذلك كان الحال في الدعاوى المدنية أيضًا إذ كانت ترفع في مصر للقنصل الذي كان الخصم تابعًا له مهما كان نوعها بخلاف الحال في الدولة العثمانية إذ كانت الدعاوى العقارية تنظر أمام المحاكم العثمانية وقضت الامتيازات التي منحتها تركية سنة 1675 أن القضايا التي تزيد قيمتها عن 4000 آسير - (والآسير عملة فضية تساوي ثلاثة سنتيمات) تنظر أمام القاضي الوطني بحضور ترجمان القنصلية أما القضايا التي تتجاوز هذه القيمة فتنظر أمام الباب العالي فقط ولما كانت مصر بعيدة عن الباب العالي اعتاد الناس على رفع قضاياهم أمام القنصل في القضايا الكبيرة، وكذلك اعتادوا رفعها أمامه في القضايا الصغيرة لكي يصلوا إلى حقهم بسرعة ويضمنوا مساعدة القنصل في التنفيذ.
وهكذا أخذت حقوق الأجانب تزيد في مصر عما كانت عليه في تركيا فأعطى لهم حق امتلاك العقارات في القطر المصري في الوقت الذي كان محظورًا عليهم امتلاكها في البلاد العثمانية إذ لم ينشأ لهم هذا الحق في تركيا إلا بقانون صدر في يونية سنة 1867 بناءً على الخط الهمايوني الصادر في 18 فبراير سنة 1856 الذي أجاز فيه السلطان تملك الأجانب للعقارات أما في مصر فقد أعطى لهم هذا الحق قبل صدور الخط الهمايوني بمدة فكان المغفور له محمد علي باشا يسمح لهم بامتلاك العقارات بل كان يهبهم بعض الأراضي أسوة بالوطنيين (مثل أراضي الأبعادية وهي أراضٍ غير مزروعة كان يهبها لبعض أشخاص لزراعتها ويعفيهم من الضريبة المقررة عليها ثم أصبحت هذه الأراضي تورث عنهم بمقتضى أمر عالٍ صدر في سنة 1836) - ولما تولى المغفور له عباس الأول أمر القضاة بأن لا يعطوا حجة للأجنبي الذي يشتري أملاكًا عقارية في مصر ولكن لم يستمر هذا لأن المغفور له سعيد باشا أصدر أمرًا في مارس سنة 1858 أعلن فيه بيع الأراضي الخراجية التي تركها واضعوا اليد عليها وأباح للأجانب شراء هذه الأراضي (وكان هذا أيضًا قبل القانون التركي الصادر في يونية سنة 1867) بل هناك ما هو أكثر من ذلك إذ أن الأجانب كانوا يدفعون كل الضرائب العقارية في تركيا ولكنهم كانوا في مصر يمتنعون عن دفعها حتى اضطر نوبار باشا إلى مفاوضة الدول في ذلك ومما يدل على أهمية ما يدفعه الأجانب أنه لما تقرر في مؤتمر لندرة سنة 1885 عدم إعفائهم من دفع ضرائب الأملاك المبنية وصدر أمر عالٍ بذلك في سنة 1887 ارتفع دخل هذه الضريبة في تلك السنة من 45000 جنيه إلى 110000 جنيه ولا تزال توجد للآن ضرائب لا يدفعها الأجانب فكثيرين منهم يمتنعون عن دفع ضريبة الخفر التي يدفعها المصريون، وكذلك لا يمكن للحكومة فرض ضرائب جديدة عليهم إلا بعد مصادقة دولهم [(23)]، وقد حصل ذلك فعلاً عندما أرادت الحكومة المصرية زيادة عوائد الأملاك المبنية في سنة 1909 بمناسبة إنشاء المجاري في القاهرة إذ ورد في ديباجة القانون أنه صدر بعد مصادقة الدول وجاء في المادة الثانية منه أنه يجوز تعميم الزيادة في سائر المدن الأخرى التي تباشر فيها الحكومة إنشاء مجارٍ أو أعمال صحية مماثلة لها ويكون هذا التعميم بمقتضى أوامر مخصوصة تصدر بعد مصادقة الدول.
يتضح لنا من ذلك أن الامتيازات الأجنبية كانت عبارة عن منح للأجانب وكان كرم مصر في إعطائها واسعًا حاتميًا فنشأ من ذلك أن اعتبرتها الدول حقوقًا ثابتة لرعاياها بل هي لا تزال تطمع في ذلك الكرم المصري إذ اتفقت على إلغائها في أكثر البلاد دون القطر المصري فألغيت هذه الامتيازات في أكثر بلاد البلقان بعد سنة 1878 وكان آخر العهد بها في بلغاريا في سنة 1919 حيث قررت الدول في معاهدة الصلح التي عقدت مع بلغاريا (معاهدة نولى Neuilly) في المادة (175) أن تعقد اتفاقات مع بلغاريا لإلغاء الامتيازات نهائيًا وألغيت الامتيازات في الجزائر وتونس وطرابلس ومراكش وألغيت في اليابان بين سنتي 1894 و1900، وفي كوريا في سنة 1910 وألغيت في تركيا بمقتضى معاهدة لوزان التي عقدت في 24 يولية سنة 1923 وبدئ بإلغائها في سيام في سنتي 1925 و1926 مع وجود بعض قيود تقرر إزالتها عندما تضع سيام قوانينها الجنائية والمدنية وها هي الصين تكاد تصل الآن إلى إلغائها وفعلاً قد تنازلت لها بعض الدول عن امتيازاتهم من ذلك ألمانيا التي صرحت بهذا التنازل في 20 مايو سنة 1921 وروسيا التي عقدت اتفاقًا يتضمن ذلك مع الصين في 31 مايو سنة 1925، وكذلك أيدت أغلبية الدول بمناسبة الحركة القائمة في الصين الآن رأيها بأن الامتيازات أصبحت غير لازمة وغير متفقة مع المدنية الحاضرة وصرح بعض كبار الساسة بذلك كالمستر أوستن تشامبرلن والمستر لويد جورج وغيرهما - أما في مصر فلا تزال تلك الامتيازات العتيقة باقية وهي تقف عقبة دون كل إصلاح.
ولقد خف شيء من أثر الامتيازات بإنشاء المحاكم المختلطة بموافقة الدول المتمتعة بالامتيازات [(24)]، وبدأت أعمالها في فبراير سنة 1876 إذ جعلت مختصة بنظر القضايا المدنية التي ترفع بين أجانب مختلفة الجنسية أو بين أجانب ومصريين وتنظر بعض المسائل الجنائية وهي قضايا المخالفات التي تقع من الأجانب وكذلك أنواع معينة من الجنح والجنايات وهي ما يوجه ضد رجال القضاء المختلط أو يقع منهم بسبب تأدية وظائفهم أو أثناء تأديتها والجرائم التي ترتكب ضد تنفيذ أحكام المحاكم المختلطة وأضاف الأمر العالي الصادر في 26 مارس سنة 1900 على اختصاص المحاكم المختلطة جرائم التفاليس ومع ذلك فتقضي لائحة ترتيب المحاكم المختلطة في المادة (13) بضرورة إخبار قنصل الدولة التابع لها المدعى عليه بالدعوى المقامة عليه بالجناية أو الجنحة كما أنها تقضي بأن إجراءات التحقيق مع أحد الأجانب وإدارة المرافعات الشفوية قبيل الحكم تناط بأحد القضاة الأجانب سواء كانت الدعوى متعلقة بمادة من مواد المخالفات أو الجنايات أو الجنح وإذا لم يكن للمتهم بجناية أو جنحة مدافع عنه يعين له مدافع بمعرفة المحكمة عند استجوابه وإلا كان التحقيق لاغيًا وكذلك تنص المادة (16) من هذه اللائحة بأن المتهم المسجون تحت الشبهة يسلم إلى قنصل الدولة التابع لها عقب استجوابه في ظرف أربعة وعشرين ساعة على الأكثر من وقت ضبطه إلى أن يثبت وجود محلات لائقة للسجن بالقطر المصري - ما لم يأذن القنصل بحجزه في سجن الحكومة وتقضي المادة (20) أنه إذا اقتضى الحال في أثناء التحقيق الدخول في محل المتهم فيخبر بذلك قنصل الدولة التابع لها ويحرر محضر بهذا الإخبار تسلم صورته إلى القنصلية، وكذلك لا يسوغ الدخول ليلاً في محل بدون حضور القنصل أو مندوبه أو تصريح منه بالدخول في غيبته إلا في حالة مشاهدة الجاني حين تلبسه بالجناية أو في حالة الاستغاثة من داخل المحل.
هذه هي الجرائم التي تخص المحاكم المختلطة أما فيما عدا ذلك مما ترتكبه رعايا الدول المتمتعة بالامتيازات فخارج عن اختصاص المحاكم المصرية أهلية ومختلطة وعن نطاق القانون المصري - وهناك نص صريح على ذلك في قانون العقوبات الأهلي إذ نصت المادة الأولى منه على أنه يستثنى من أحكامه من كان غير خاضع لقضاء المحاكم الأهلية بناءً على قوانين أو معاهدات أو عادات مرعية.
فهذا الاستثناء يُعد من حقوق السيادة المصرية ويخرج من سلطة القضاء المصري أشخاصًا يرتكبون جرائم على الأراضي المصرية ويخلون بنظام الأمن فيها فتحاكمهم محاكم أجنبية قد تكون قوانينها مخالفة للقوانين المصرية بل قد يحدث أن يرتكب الجريمة شخصان أحدهما خاضع لاختصاص القضاء المصري والآخر غير خاضع له فتنظر القضية أمام محكمتين مختلفتين ويطبق عليهما قانونان مختلفان كما حدث أخيرًا في قضية مقتل المسيو شيكوريل في شهر مارس سنة 1927 إذ كان أحد المتهمين بقتله خاضع للقضاء المصري فتم التحقيق بشأنه بمعرفة رجال البوليس والنيابة المصريين بشكل أعجب به الأجانب ذاتهم ثم قدم لمحكمة الجنايات المصرية فقضت عليه بالإعدام في شهر إبريل أمام المتهمين الآخرين فتركوا لقضائهم الأجنبي وعلى ذلك صدر في القضية أحكام مختلفة.
ومن النتائج المحزنة للامتيازات إفلات بعض طبقات من المجرمين من يد البوليس والقضاء المصري كالأجانب الذين يتجرون بالمواد المخدرة أو بالرقيق الأبيض وغير ذلك ومن المدهش أن أغلب الدول الغربية الممثلة في عصبة الأمم تبذل جهدها لوضع حد في مثل هذه المسائل أما الحكومة المصرية فتقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه الجرائم الخطيرة [(25)] - لهذا بدأت الحكومة المصرية بالسعي لإخضاع الذين يرتكبون جرائم على أرض مصرية للقوانين المصرية وقد قرر مجلس الوزراء فعلاً في 3 مارس سنة 1927 الترخيص لوزير الحقانية بوضع مشروع نصوص تشريعية يكون أساسًا لاقتراح تقدمه الحكومة إلى الدول يقضي بتوسيع سلطة المحاكم المختلطة في المواد الجنائية بحيث تشمل الجنح المنصوص عليها في قانون الاتجار بالمواد المخدرة وبعض الجرائم الأخرى، وذلك حرصًا على الآداب العامة ومحافظة على نظام المحال العمومية، والحكومة المصرية جادة في تنفيذ ذلك وإنا نرجو أن نتمكن من الوصول إلى إخضاع الأجانب المقيمين في القطر المصري إلى القوانين المصرية كما هو الحال في جميع الأمم المتمدينة ومنها ما يقل في المدنية والنظام عن الدولة المصرية - إذ ليست مصر بأقل درجة من سيام مثلاً التي وافقت الدول في سنتي 1925 و1926 أي في هذه السنين الأخيرة على إلغاء الامتيازات فيها والتي كتب عنها أحد أساتذة القانون في فرنسا تعليقًا على المعاهدات التي ألغت هذه الامتيازات أنه تتوفر في سيام الشروط اللازمة لتعامل من الآن كشخص بالغ (أي غير قاصر) في المجتمع الدولي

(Le Ciam remplit largement les conditions nécessaires pour être désormais traité en personne majeure dans la communauté internationale).

(انظر مقالة للمسيو مونكار فيل الأستاذ بكلية الحقوق باستراسيورج في مجلة القانون الدولي العام عن ديسمبر سنة 1926 صفحة 330.
“ M. Moncharville. Revue de Droit Int. Pub. - Sep. et Déc. 1926, P. 330 ”
فإذا قيل أن سيام أصبحت شخصًا دوليًا بالغًا في المجتمع الدولي فإن مصر قد تجاوزت دور البلوغ ووصلت إلى درجة الكمال بين أعضاء هذا المجتمع - ويقيننا أن الدول ستتنبه لهذه الحقيقة وتعترف بها قريبًا فتتنازل عن امتيازاتها العتيقة ويصبح الأجنبي والمصري سواء أمام القانون ما داموا يعيشون فوق أرض واحدة ويستظلون بسماء واحدة.