ومن حيث كون النظام فيها متقناً(1) مستمراً فإن ذلك يدل على العليم الحكيم الخبير المدبر(2).فكانت الموجودات بنظامها المتقن سبباً للبحث في خالقها ومدبرها ولحسن الاعتقاد به(3) ومن حيث الأخلاق: إذا كانت هذه صفات الموجد المدبر الذي أعطى كل شيء قدره، وهو العدل، فينبغي للوصول إلى الكمال الإنساني تخلق المكلف بهذه الأخلاق بمعنى محاكاتها والتحلي بها(4)ومن حيث العمل: إن هذا النظام المتقن هو الصورة الواجب محاكاتها من قبل الإنسان المكلف في أدائه لتكاليفه والامتناع عن كل ما يخل بميزانه (5)

وبيان هذه الصورة النظامية المتقنة يعود إلى صفة المفصّل (6)كل ذلك ليرتبط النظام التكليفي بالنظام الوجودي. عقيدة وخلقاً وعملاً. ولذلك جبل العقل على النظر في ملكوت السموات والأرض، والبحث عما وراء ذلك، أي في موجدها ومدبرها، وهذه من الفطرة التي فطر الله الناس عليها(7). واللازم لاكتمال هذا النظر قدرة العقل على الإحاطة أو العلم الكامل بهذا النظام الوجودي وبترابط العوالم فيه، وبوجه ترابطها وميزان ذلك. والعقل يظهر كلاله عند محاولته الخروج عن المحيط المحسوس لقدرته، وهو صور المدركات في عالمه الدنيوي. لأنه جبل عليها، وهي مادته في التفكير (8) فاحتاج العقل لذلك إلى ما يحرر فيه كامل قدراته وطاقته ويسدد نظره.

وتحرر طاقات العقل يكون بجماع أمرين : أولهما قبول الوحي والإيمان بما جاء به والاستعداد للعمل به. وهذا هو الجانب العقائدي، والثاني محاربة شح النفس وفرط الشهوات؛ ليتحرر من أسرها وتسخيرها له لإشباع حاجاتها المتجددة غير المتناهية، وهذا هو الجانب الآخلاقي. والعمل يبنى على الجانبين معاً.

ومن ثم فبعد ورود الشرائع السماوية أصبح للإنسان دعامتان في نظره وتدبيره، النقل والعقل، أي أدلتهما.

([1]) قال تعالى في ذكر حياته وقيمومته على الخلائق: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" ، البقرة : 255.

([2]) قال تعالى : "يدبر الأمر في السماء إلى الأرض"، السجدة : 5.

([3]) ذكر ابن القيم أن من أسباب المعرفة الحقة بالله تعالى : ".. التفكر في آياته المشهورة وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله قيامه بالقسط على خلقه" الفوائد ، ص 188.

([4]) قال عليه الصلاة والسلام: "حسن الخلق خلق الله الأعظم" رواه الطبراني في الأوسط. وعقد الإمام الغزالي فصلاً كاملاً هو الفصل الرابع من كتابه "المقد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى" في بيان أنّ كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق الله تعالى.

([5]) قال تعالى : "ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان" الرحمن : 7-8. ومن الصور الأكثر أهمية في المحاكاة ما ذكره الإمام الغزالي في كتابه معارج القدس، ص 97، بقوله : "والعدل في السياسة أن يرتب أجزاء المدينة الترتيب المشاكل لترتيب أجزاء النفس حتى تكون المدينة في ائتلافها وتناسب أجزائها وتعاون أركانها على الغرض المطلوب من الاجتماع، كالشخص الواحد، فيوضع كل شيء موضعه...."

([6]) قال تعالى : "يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون"، الرعد : 2 .

([7]) قال تعالى : "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، الروم : 30. وقال عليه الصلاة والسلام : ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" رواه البخاري رقم الحديث 1270.

([8]) ذكر الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود في فتاواه ص 431: "يقول سقراط: إن العقل الإنساني بالنسبة للمسائل النظرية كلوح من خشب يريد أن يعبر به الإنسان بحراً هائجاً لجيّ العواصف".