بينهم من فكر وفلسفة مواليتين أو صراعات خارجية تصرف لها همم الرجال، ونحو ذلك ليكون التسخير بالإرادة لكل المحكومين أو لأكثرهم، فإن عارض الآخرون كانت القوة المفرطة بانتظارهم لتبطش بهم، وما من مغيث .

وانتهى المطاف إلى هذه المرحلة؛ تسخير الأضعف (المحكومين) للأقوى الحاكم أو أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، بالإرادة أو بالقوة. ولنجاح هذا الأسلوب داخلياً عمل به خارجياً أي في الصراعات الدولية التي تهدف إلى سيطرة الدول القوية على الدول الضعيفة ومن ثم على العالم بأسره لتغدو فيه قوة واحدة وفلسفة واحدة وبالتالي حضارة واحدة لا تنافس .

وقد اتخذ التصدير الحضاري هذا صوراً تقلب فيها تدرجاً نحو غايته تلك. فكان أن بدأ بالظهور بتطوره المادي ليبهر أنظار شعوب العالم ويصرفها إليه كمرحلة أولى، لخلق الشك بحضاراتهم لأنها لم تصل إلى ما وصل إليه الأقوياء، ولتهفوا النفوس من ثم إلى تلك الحضارة(1) ومن خلال ذلك، ومن خلال حجة إعمار الخراب في الدول الضعيفة، تغلغلوا فيها وأوقعوا خلالهم. ثم جاءت مرحلة السيطرة العسكرية تحت اسم الانتداب والاستعمار، وفي تلك المرحلة مُزقت الأمم الكبيرة إلى دول ودويلات ضعيفة يسهل السيطرة عليها، وأبعدوا عن حضاراتها مقوماتها، وخاصة الحضارة الإسلامية، بإسقاط الخلافة الإسلامية وإبعاد العمل بالشريعة الإسلامية واستبدال قوانين المعتدي بقوانينها، لكونه الأقوى في طرفي المعادلة والسعي الحثيث في استبدال الأخلاق الغربية المادية بالأخلاق الإسلامية.

وتطور الأمر من ثمّ إلى مرحلة ترسيخ المبادئ والمفاهيم ومناهج التفكير المادية لتقف، عند أعتاب العلوم التجريبية، وما تفرزه من قوانين متنكرة لكل ما سوى ذلك ما جاءت به الشرائع السماوية وخضع له العقل السليم. وعرف هذا الاتجاه بالعلمانية وأريد به معنيان، أحدهما؛ الإشارة إلى الوقوف عند العلوم التجريبية دون تخطيها إلى غيرها لتسهل بذلك سيطرة الأقوياء على شعوب العالم، إذا اشتركت معهم في هذه المنهجية المادية، من حيث أنهم متقدمون كثيراً في هذه العلوم على تلك الشعوب. والثاني؛ العالمية التي حلموا بتحقيقها منذ زمن أرسطو والرواقيين من بعده، الداعين إلى ضم العالم كله تحت حكم جمهورية عالمية واحدة(2)

([1]) يقول بنتام في كتابه أصول الشرائع 273، 1 : "إن في الزينة والتحسين منفعة لأنها تساعد على جلب الغرباء إلى البلد ينفقون فيها أموالهم... وكلما تقدمت الأمة في التحسين.. صار لها على غيرها شبه ضريبة يؤديها الناس بلا شعور.. وربما كان تقدم الأمم في المحسنات وأنواع الزينة والأدب موجباً لميل الأمم إليها".

([2]) سيأتي ذكر ذلك في هذا البحث .