ومعلوم أن البشرية مرت بمراحل تدرج تربوي عقائدي لتنتهي إلى الغاية في الكمال التشريعي والمنهجي؛ العقائدي والأخلاقي والعملي، في الشريعة الإسلامية، ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما كانت الشرائع السماوية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم تركز على الجانب العقائدي وتعطيه المجال الأرحب في الأحكام. وعلاقة الشرائع السماوية بالعقل تظهر من خلال كونها مؤكدة لعمله، أو مرشدة ومسددة له، أو مخبرته عما لا طاقة به لإدراكه بنفسه دون خبر سماوي، كما في الأمور الغيبية ومنه أمور البرزخ والآخرة والحساب والنعيم والعذاب...، والعوالم من العرش وعالم الملكوت إلى الذرة وعالم الملك، وأنها عوامل مترابطة يتأثر كل منها بالآخر ويؤثر فيه(1)
وبذلك يكتمل عمل العقل لاكتمال بنائه على مقوماته الذاتية العلوية والسفلية، أو الروحية والمادية. معتمداً في ذلك على ما جاءت به الشرائع السماوية(2). وبذلك وحده يظهر المنهج المتكامل الذي تظهر فيه صور العوامل وآثار ترابطها. فكمال النظام في الواقع وتمامه لازم لكامل العقل الذي يعبر عن نفسه بواسطة الأداء الإيجابي والسلبي. وكمال العقل لازم لاكتمال جميع مقوماته: النظر السليم والوحي ويمكن عرض ذلك بمعادلتين :
الأولى : عقل سليم (أي نظر سليم) + وحي صحيح = منهج تام وصالح .
والثانيه : منهج كامل + أداء صادق موافق = واقع صالح سعيد .

ومما تقدم يعلم أن غياب الشرع السماوي لعدم بلوغ الدعوة، أو تغييبها لعدم الاعتقاد بها أو بالامتناع عن العمل بها كلاً أو جزءاً، تكبراً أو جهلاً، يوجب بقاء العقل غير مكتمل البناء مهما سمت منازل أصحابه (3)، هذا في الحالة الأولى. ويوجب وهن بنائه مع وجوب نقصانه في الحالة الثانية.

وعلى ذلك فموازنة العقل الكامل بالوحي بالعقل الذي ينقصه الوحي وعلومه، موازنة لبيان ما فات الثاني من العلوم والمعارف التي يقتضيها صلاح واقعه وقد يعبر عن الأول بالحق والثاني بالباطل، من حيث مطابقة الأول للواقع دون الثاني(4). وقد يعبر عن الأول بالصواب لإصابته الحق وعن الثاني بالخطأ لعدم

([1]) بيان ذلك في الصفحات الآتية من هذا البحث .

([2]) يقول الإمام الغزالي في ، معارج القدس، ص 57-58: :"أعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل. فالعقل كالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أُس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس وأيضاً فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر. فالشرع إذا فقد العقل لم يظهر به شيء وصار ضائعاً. والعقل إذا فقد الشرع عجز عن أكثر الأمور عجز العين عنه فقد النور. وأعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته. والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته، ويبين ما الذي يجب أن يُعتقد في شيء شيء.... وجاء في درء التعارض للإمام ابن تيمية، ج6/86، إن الشرائع الإلهية جاءت بما يوافق الفطرة (و) أنه قد اتفق على ذلك سلف الأمة (و) إنه دلت على ذلك الدلائل العقلية اليقينية ..". ولابن عربي في فتوحاته 1/403-404، كلام بليغ في بيان مدى السياسة الحكيمة (عمل العقل السليم) وحاجته إلى الرسالات السماوية لاكتمال مقوماته .

([3]) والحق على معناه الثابت في اصطلاح أهل المعاني؛ الحكم الثابت المطابق للواقع. والواقع عند علماء العقائد هو اللوح المحفوظ، الجرجاني، التعريفات، ص 79، 222 .

([4]) سقراط وأفلاطون من أبرز فلاسفة اليونان وقد إتفق على جلالة قدرهما في قضايا العقول، ولننظر إلى طرف مما اعتمده أفلاطون في فلسفته وذكره على لسان أساتذة سقراط في كتابه المشهور جمهورية أفلاطون يقول في ص 157: "أن تكون أولئك النساء بلا استثناء أزواجاً مشاعاً لأولئك الحكام، فلا يخص أحدهم نفسه بإحداهن، وكذلك أولادهن يكونون مشاعاً، فلا يعرف والد ولده ولا ولد والده. وفي ص 163 : فقد اكتشفنا إذن أن شيوعية نساء الحاكم وأولادهم سبب خير الدولة الأعظم. وفي ص 157: فيجب أن تتعرى أزواج حكامنا في تمرينات الجمباز لأنهن يستترن ببرد الفضيلة بدلاً من الثياب. وفي ص 161 : فإذا نسل الرجل قبل هذا السن (أي الثلاثين) أو بعده (أي الخامسة والخمسين حسب ما حدده) حسبنا عمله تعدياً على الدين والعدالة. وفي ص 162: ومتى بلغ الجنسان السن القانوني أبحنا للرجال من شاؤوهن إلا بناتهم وأمهاتهم وجداتهم وحفيداتهم وفي نفس الصفحة إذا حبلت إحداهن عرضاً، في غير الحالة المقررة (سن 20-40)، فلا يرى جنينها النور، وإذا لم تتمكن من ذلك "أي الإجهاض" فيلزم التخلص من الطفل على أساس أن ثمرة اجتماع كهذا لا تجوز تربيتها. وفي ص 232 يوجب فصل من بلغ العاشرة من الأولاد عن آبائهم وأمهاتهم وإرسالهم إلى الأرياف ليتربوا تربية أخرى بعيدة عن حنان رحمة أهليهم ونحو ذلك كثير في كتابه المذكور. فإذا كانت هذه حال جمهورية هذا الفيلسوف الكبير فكيف يكون حال جمهوريات من هودونه منزلة؟ وقد ذكر الدكتور عبد الحليم محمود في فتاواه ص 430 أن أفلاطون فشل في تطبيق جمهوريته بنفسه مرتين. يقول الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات 33، 2: "فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل .