فالتنصت إذن إجراء يتميز بأهمية قصوى وحساسية مثيرة، نظرا لكونه يشكل مسا خطيرا بالحريات العامة، كما يعتبر أخطر من الوسائل الأخرى التي تقررت استثناء على حق الإنسان في الخصوصية كتفتيش المنازل لأنه يتم دون علمه، ويتيح سماع وتسجيل أدق أسرار حياته الخاصة.
فسرية المراسلات صانتها الشريعة الإسلامية بآيات قرآنية وأحاديث نبوية غاية في الوضوح والدلالة، يقول الله تعالى في سورة الحجرات :” يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تتجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم”.
ومن الأحاديث النبوية الشريفة روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال :” لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح” .
واضح من هذه الأحاديث النبوية أنها تضع سياجات قوية وضمانات لحفظ حرمات البيوت، وتوفير الأمن لأصحابها على أنفسهم وأعراضهم وأسرارهم، فهي تحمي كرامتهم وحريتهم، فالناس على ظواهرهم وليس لأحد أن يتعقب باطنهم، فهم آمنين على أنفسهم وعلى بيوتهم، وعلى أسرارهم، وعلى عوراتهم.
وعلى هذا النهج صارت المواثيق الدولية والمعاهدات التي تنص على حماية حق الإنسان في حرمة حياته الخاصة، وهو ما أكدته المادة12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنة1948 حيث تنص على أنه :” لا يكون أحد موضع لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو لهجمات تتناول شرفه وسمعته.
ومما تجب الإشارة إليه كذلك هو أن مجمل الدساتير حرصت على تأكيد حق الإنسان في سرية مراسلاته وعلى ضرورة الحماية القانونية لهذا الحق، فنجد الدستور المغربي قد نص على هذه الحماية من خلال الفصول 9 و10 و11 فالفصل التاسع منه ينص على أن سرية المراسلات لا تنتهك.
لكن، رغم الحماية المنصوص عليها في هذه الفصول نجد المادة108 من ق.م.ج في فقرتها الثانية تجيز الاعتداء على حرية محادثات الإنسان الشخصية :” يمكن لقاضي التحقيق إذا اقتضت ضرورة البحث ذلك أن يأمر كتابة بالتقاط المكالمات الهاتفية وكافة الاتصالات المنجزة بواسطة وسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها أو حجزها”.
ومع أن المشرع لم يحدد ما المقصود بمصطلح الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد، فإن هذا المصطلح يجب أن يأخذ على إطلاقه، وبالمعنى المعهود له، وبذلك فهو يشمل بالإضافة إلى المحادثات والمكالمات الهاتفية جميع أنواع الاتصالات الحديثة، بما فيها التيلكس والتلغرام والمراسلات الإلكترونية والفاكسات وغيرها من الوسائل.
وبعد هذا العرض المقتضب لبعض التشريعات التي تنص على سرية المراسلات والمكالمات يحب أن نتفحص بعض النصوص القانونية المتعلقة بانتهاك هذا الحق وذلك لمعرفة الجهة التي خولها القانون حق إصدار الأمر بالتقاط المكالمات والاتصالات (بند أول) وكذلك الجرائم التي تبرر هذا الإجراء (بند ثاني) ومدة تطبيقه (بند ثالث).
أولا : الجهات القضائية المختصة بإصدار الأمر بالتقاط المكالمات والمراسلات:
خول القانون حق إصدار الأمر بالتقاط المكالمات والاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد، لكل من قاضي التحقيق والوكيل العام للملك، وأعطى لكل واحد منهما اختصاصات معينة، إلا أن اختصاصات الوكيل العام للملك تختلف حسب ما إذا كنا أمام حالة عادية أو حالة استعجالية.
1: قاضي التحقيق:
تبعا لأحكام المادة108 ق.م.ج، فإنه يمكن لقاضي التحقيق إذا اقتضت ضرورة البحث ذلك أن يأمر كتابة بالتقاط المكالمات الهاتفية وكافة الاتصالات المنجزة بواسطة وسائل اتصال عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها أو حجزها.
والملاحظ على هذه المادة، أن المشرع لم يحدد على سبيل الحصر الحالات التي يسمح فيها لقاضي التحقيق القيام فيها بهذا الإجراء، واشترط فقط اللجوء إليه عندما تقتضيه ضرورة البحث، وعبارة ضرورة البحث عبارة واسعة ومطاطية. وأخذها على إطلاقها يقتضي إمكانية القيام بالإجراء المذكور في جميع الجنح والجنايات التي يتم فيها التحقيق، وغير محددة في جرائم معينة. ولعل المشرع المغربي قد اقتبس هذا النهج من المشرع الفرنسي الذي بدوره لم يحدد الحالات التي يتخذ فيها هذا الإجراء، ونص في الفصل100 من قانون المسطرة الجنائية على إمكانية القيام بإجراءات التنصت والتقاط المكالمات في الجنايات والجنح التي لا تقل عقوبتها عن سنتين والتي تحدث خللا خطيرا في الأمن العام .
كما يملك قاضي التحقيق حق إصدار الأمر بمراقبة المحادثات التليفونية إذا كان هو المباشر للتحقيق وسلطته في هذا المجال تعتبر أوسع من السلطة المخولة للقاضي الجزئي، فله أن يأمر بمراقبة المحادثات الهاتفية وينتدب لتنفيذها أحد رجال الضبط القضائي.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا هو أن المشرع المغربي لم يوضح هل مجرد الاشتباه في الشخص يجيز المراقبة أو يجب أن ترتكب الجريمة بالفعل كما هو الحال في القانون المصري الذي اشترط وقوع الجريمة بالفعل لكي تكون مراقبة المحادثات مشروعة.
2: الوكيل العام للملك:
أ‌- الحالة العادية:
نصت الفقرة الثالثة من المادة108 ق.م.ج على أنه يمكن للوكيل العام للملك، إذا اقتضت ضرورة البحث أن يلتمس كتابة من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، إصدار أمر بالتقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها أو حجزها وذلك إذا كانت الجريمة موضوع البحث تمس بأمن الدولة أو جريمة إرهابية أو تتعلق بالعصابات الإجرامية، أو بالقتل أو بالتسمم أو بالاختطاف وأخذ الرهائن، أو بتزييف أو تزوير النقود أو سندات القرض العام أو المخدرات والمؤثرات العقلية، أو بالأسلحة والذخيرة والمتفجرات أو بحماية الصحة.
ب‌- الحالة الاستعجالية:
نصت الفقرة الرابعة من المادة108 ق.م.ج، على انه يجوز للوكيل العام للملك في حالة الاستعجال القصوى بصفة استثنائية أن يأمر كتابة بالتقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها وحجزها، متى كانت ضرورة البحث تقتضي ذلك التعجيل خوفا من اندثار وسائل الإثبات، إذا كانت الجريمة تمس بأمن الدولة أو جريمة إرهابية أو تتعلق بالمخدرات والمؤثرات العقلية أو بالأسلحة أو بالاختطاف أو بأخذ الرهائن ويجب على الوكيل العام للملك أن يشعر فورا الرئيس الأول بالأمر الصادر عنه، ويصدر الرئيس الأول خلال أجل 24 ساعة مقررا بتأييد أو تعديل أو إلغاء قرار الوكيل العام، وفقا للشروط والشكليات والكيفيات المنصوص عليها في هذه المادة وما يليها إلى المادة114 بعده.
وإذا قام الرئيس الأول بإلغاء الأمر الصادر عن الوكيل العام للملك، فإن التقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المشار إليها يتم إيقافه على الفور، وتعتبر الإجراءات المنجزة تنفيذا للأمر الملغى كأن لم تكن، كما لا يقبل المقرر الصادر عن الرئيس الأول بشأن قرار الوكيل العام للملك أي طعن .
ثانيا: الجرائم التي تبرر الأمر بالتقاط المكالمات:
لا يجوز قانونيا اللجوء إلى اتخاذ قرار بالتقاط المكالمات واعتراض المراسلات في كافة الملفات والقضايا المحالة على التحقيق، بل تولى المشرع تقييد حق قاضي التحقيق وكذا الوكيل العام للملك بالتقاط المكالمات وتسجيلها وحجزها بطبيعة الجريمة المرتكبة، وعلى ضوء هذه الأخيرة يمكن معرفة ذلك بناءا على مقتضيات المادة180 م.ج ما إذا كان ممكنا أم لا القيام بأمر التنصت.
وهكذا لا يمكن إصدار أمر بالتقاط المكالمات وتسجيلها أو حجزها إلا إذا تعلق الأمر بهذه الجرائم الواردة على سبيل الحصر، وهذا يفيد طبعا بمفهوم المخالفة أنه خارج هذا التعداد الحصري لا يمكن بالمرة في غيرها من الجرائم إصدار أمر بالتنصت على المكالمات، وهذه الجرائم هي:
-الجرائم الماسة بأمن الدولة، أو جرائم تكوين العصابات الإجرامية أو القتل، والتسميم، الاختطاف، وأخذ الرهائن، تزييف النقود وتزويرها، أو سندات القرض العام أو المخدرات أو المؤثرات العقلية أو بالأسلحة والذخيرة والمتفجرات أو بحماية الصحة.
لكنه بالعودة إلى بعض التشريعات المقارنة ومن بينها التشريع المصري، نجده لم يحدد أنواع الجرائم التي تبرر مراقبة المحادثات المتعلقة بجناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، وهي الجرائم التي يجوز فيها الحبس الاحتياطي.
ثالثا: مدة المراقبة:
تنص الفقرة الثانية من المادة109 من المسطرة الجنائية على أن مدة المراقبة هي أربعة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة.
وعند تجديد مدة المراقبة يجب أن يكون الإذن بالتجديد أو الأمر به مبني على ضرورة استمرار المراقبة للكشف عن الحقيقة على النحو الذي تحدد بناء عليه مدة هذه المراقبة.
لكن يجب التساؤل عن الجهة التي لها الحق في تجديد مدة المراقبة وبما أن القاعدة العامة تقول بأن السلطة التي لها الحق في إصدار الأمر هي التي تملك الحق في التجديد، فيمكن القول بأن قاضي التحقيق هو الذي يملك هذا الحق – تجديد مدة المراقبة- أما بخصوص الوكيل العام للملك فيمكن أن نتساءل عن صلاحيته كذلك في تجديد هذه المدة، وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول بأنه يملك كذلك هذا الحق، لكن في حالة الاستعجال فقط، وهنا أيضا دون أمر كتابي لاحق ما دامت هي الحالة التي يمكن فيها للوكيل العام للملك أن يأمر بالتقاط المكالمات، أما بالنسبة للحالة العادية، فيقتصر دوره في طلب ملتمس كتابي من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، وبما أنه لا يملك حق إصدار أمر في هذه الحالة فإنه لا يملك بالمقابل الحق في التجديد.
وختاما يتعين على قاضي التحقيق أن ينص في المقرر القاضي بالتقاط المكالمات الهاتفية والمراسلات على جميع العناصر التي تعرف بالمراسلة أو المكالمة المراد التقاطها وتسجيلها أو أخذ نسخ منها أو حجزها والجريمة التي تبرر ذلك والمدة التي يتم فيها العملية، وأمر تجديد المدة الزمنية الذي لا ينبغي أن يفهم أنه تلقائي، بل لابد من إصدار أمر معلل لتمديد الإجراء الأول .
الفقرة الخامسة: مراقبة حركية الأموال أو التحويلات المالية:
إن هاجس الدول في مكافحة الإرهاب، دفعها إلى استعمال جميع التدابير والآليات، التي تقي من وقوع عمليات إرهابية سواء على الصعيد البشري المتمثل في التجمعات في ما بين التنظيمات أو على المستوى المادي المتمثل في الأموال المستعملة للأغراض ذات الطابع الإرهابي.
فمكافحة الإرهاب تقتضي بالضرورة تتبع البحث عن المنابع التي يتغذى منها، والعمل على القضاء عليها، ومن أخصب هذه المنابع نجد الجانب المادي المتمثل في التمويل، إن على المستوى الدولي، أو على المستوى الداخلي.
فعلى المستوى الدولي، بذلت مجهودات عدة، ترجمت في توقيع العديد من الاتفاقيات الدولية ومن أحدثها نجد الاتفاقية الدولية لقمع وتمويل الإرهاب الموقعة بنيويورك في 10 يناير2000، والتي صادق عليها المغرب بظهير 13-02-1 صادر في 12دجنبر2002 والمنشور بالجريدة الرسمية في فاتح ماي2003.
أما على المستوى الداخلي، فإن المغرب في القانون03.03 المتعلق بالإرهاب، وضع أحكامها خاصة بتمويل الإرهاب وخصص لها قسما خاصا يتكون من 10مواد: (من 1-595 إلى 10-595). وارتباطا مع ما سبق ونظرا لحساسية ظاهرة التمويل وحداثتها من حيث التنظيم فإن الأمر يتطلب منا تحليل مقتضيات هذا