والدوؤب من جهة الممارسة للإرهاب، والخضوع لها، و القبول بتنفيذ برامجها حتى و إن كانت تلك البرامج ضد الغالبية العظمى من الكادحين و المقهورين الذين لا يملكون من أمورهم شيئا.

أما على مستوى النتائج فإن حالات الاستشهاد التي تحصل يترتب عنها تغذية إرادة الشعوب في النضال من اجل الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية .و هذه الارادة التي تتقوى بالاستشهاد تقف وراء قيام حركة حزبية، و نقابية، و ثقافية، و تربوية رائدة تتغذى من قيمة الاستشهاد و تسعى سعيا حثيثا إلى القضاء على أسباب التخلف و التردي التي يعرفها الواقع في مستوياته المختلفة و من ضمنها القضاء على الأسباب المنتجة للإرهاب المادي و المعنوي، أما ظواهر الاسترهاب التي يعرفها الواقع فإنها لا تنتج الا القبول بالتخلف الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، على انه قضاء و قدر، و الخضوع للجهة التي تقف وراء ظاهرة الإرهاب المادي و المعنوي، و وراء سيادة التخلف بكل أشكاله المادية و الفكرية و الأيديولوجية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.

فهل يقف مفهوم الاستشهاد وراء الرغبة في التمتع بالشهادة ؟

إن حركة التاريخ، و حركة الواقع اللتين تجسدهما صيرورة حركة الشعوب تثبت أن الاستشهاد يقف وراء إشاعة الرغبة في التمتع بالشهادة و على مدى عقود بأكملها، بل على مدى عصور. و لذلك قالوا : "الشهداء لا يموتون"، و افضل ما ورد في هذا الإطار قوله تعالى : " يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الإنجيل و القرآن". و الاستشهاد باعتباره نتيجة لممارسة النضال من اجل الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية يذكي الحياة النضالية، و يساهم في نمو و تطور و تقوية حركة التحرر الوطني و القومي و العالمي كما قال أحد الشعراء المغاربة :

" إن النضال على قساوة ناره روح الحياة و مشعل التحرير"

و لذلك فالرغبة في التمتع بالشهادة في كل حركة نضالية مخلصة في نضالها من اجل تحقيق طموحات الشعب الذي تنتمي إليه تلك الحركة، تعتبر رغبة موضوعية و ذاتية في نفس الوقت، لأجل الاستمرار في رفض الواقع المتردي، و السعي إلى تغييره نحو الأحسن مهما كانت النتائج التي يؤدي إليها ذلك النضال.

و هل يعني الاسترهاب الخوف من الوقوع تحت طائلة الإرهاب ؟

إن الواقع يفرض أن يكون الأمر كذلك، و هو كذلك فعلا، لأن الإرهاب لا يمكن أن يولد إلا الخوف من الوقوع تحت طائلة الإرهاب، و هو ما يفيد معنى الاسترهاب الذي يدفع إلى الانسحاب إلى الخلف و إلى الانزياح عن الطريق حتى يخلو الجو، و تبقى الساحة الجماهيرية فارغة للإرهابيين يفعلون فيها ما يشاءون دون حسيب أو رقيب : يوجهون ممارسة الجماهير نحو تحقيق أهدافهم المنشودة، و يكفرون باسم الدين الإسلامي كل من خالفهم الرأي، و يتخلصون من كل كافر حسب ما يقررونه، من اجل إزالة العوائق التي تقف دون وصولهم إلى المؤسسات، أو دون تمكنهم من ناصية السلطة، فيفرضون استبدادهم على المجتمع، و يدخلونه في متاهات التخلف التي لا حدود لها على جميع المستويات. و الاسترهاب هو المدخل لكل ذلك، لأن أفراد المجتمع عندما يصابون به يجعلون المجتمع مستباحا للإرهابيين. و لذلك نرى ضرورة الاهتمام بتوعية الجماهير بخطورة سيادة الاسترهاب في المجتمع، أي مجتمع، لأن تلك السيادة لا تعني الانسحاب إلى الخلف أو الانزياح من الطريق كما رأينا. و التوعية لا تعني إلا جعل تلك الجماهير تدرك الأسس العلمية للإرهاب حتى تدرك في نفس الوقت ماذا يجب عمله على جميع المستويات النفسية و الأيديولوجية و الفكرية و التنظيمية و السياسية لمواجهة حالة الاسترهاب التي تشيع الخنوع و الاستسلام في صفوف أفراد الشعب أي شعب.

و ما هو القاسم المشترك بين الاستشهاد و الاسترهاب ؟ و هل يجمع بينهما شيء ما ؟ و ماذا يفرق بينهما ؟

إننا نجد أن مفهوم الاستشهاد و الاسترهاب يتناقضان تناقضا مطلقا، إلا انه بالنسبة لعلاقة كل منهما بالإرهاب نجد أن الاستشهاد يأتي نتيجة مقاومة الإرهاب. كما نجد أن الاسترهاب يحصل بسبب سيادة الإرهاب. فالإرهاب هو المحرك الرئيسي لعملية الاستشهاد و الاسترهاب في نفس الوقت. و إذا كان الاستشهاد تعبيرا عن القوة و التحدي، فإن الاسترهاب تعبير عن الضعف و الخضوع و الاستسلام لمنطق الإرهاب . و لذلك نجد القاسم المشترك بين المفهومين يتجسد في الإرهاب و نتائجه التي تتجسد في الاستشهاد الذي يقود إلى الاسترهاب.

فما مظاهر التناقض بين الاستشهاد و الاسترهاب ؟

و إذا كان ما يجمع بين الاستشهاد و الاسترهاب هو الإرهاب و نتائجه، فإن ما يفرق بينهما يتجسد في :

• كون الاستشهاد قيمة إيجابية نتيجة للإقدام على مقاومة مظاهر التخلف التي تفرض على الناس بوسيلة أو بأخرى.

• كون الاستشهاد نتيجة للاعتزاز بالانتماء القومي و الوطني و الطبقي و الإنساني و العقائدي. مما يعتبر باعثا على التمسك و الاستماتة و الصمود من اجل تجسيد القيم القومية و الوطنية و الطبقية و الإنسانية و العقائدية الدافعة للاستشهاد.

• كون الاسترهاب قيمة سلبية نتيجة لممارسة الإرهاب على المجتمع ككل مما يساعد على قبول تكريس قيم التخلف الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي.

• كون الاسترهاب نتيجة لقبول الإهانة و الذل و الهوان وصولا إلى اليأس من الاطمئنان على مصير حياة الأفراد و المجتمعات، و الذي يترتب عنه الانخراط في تكريس مظاهر التخلف الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و القبول بأدلجة الدين الإسلامي بالخصوص على أنها هي الدين الحقيقي.

و انطلاقا من عوامل التفرقة بين الاستشهاد و الاسترهاب، فإن التناقض القائم بينهما سيبقى قائما إلى ما لا نهاية إلى أن يتم القضاء على الإرهاب الذي يبقى قائما بوجود حالات الاستشهاد و الاسترهاب، و يزول بتوقف تلك الحالات ليسود الحق في الأمان الشخصي والاجتماعي. و يشعر كل إنسان بإنسانيته، و يدرك أن السبيل إلى ذلك هو العمل على استئصال أسباب الإرهاب التي لا تتم إلا بالحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية، لأن غياب ممارسة الحرية، و تكريس الديمقراطية بمعناها الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي و تحقيق العدالة الاجتماعية لا يمكن أن يؤدي إلى ظهور الإرهاب بمختلف أشكاله بما في ذلك إرهاب الدولة، و إرهاب المنظمات الإرهابية، و إرهاب الأفراد...الخ.

و تبقى الشهادة و الشهداء قيمة مثالية حاضرة في ذاكرة الشعوب يتم استحضارها من اجل الاستقواء بها، من اجل تأملها، والاستفادة من مثلها لصالح الأجيال الحاضرة و القائمة، من اجل تحقيق كرامة الإنسان، أنى كان هذا الإنسان، و في أي نقطة من العالم، و على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و من اجل أن يتحلى هذا الإنسان بالشجاعة و القوة لحفظ كرامته حتى لا تتعرض للإهدار ، و حتى و لا تستباح من قبل أعداء الإنسانية الذين يقوم وجودهم و تتحقق مصلحتهم في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة في حق الإنسانية. فالشهادة وحدها تبقى باعثة على الأمل، و الشهداء وحدهم يبقون أحياء فينا،و ذاكرة الشعوب تبقى حية و قوية بقيمة الشهادة و بتضحيات الشهداء الذين قدموا حياتهم لتبقى الإنسانية ماثلة في ذاكرة و فعل و ممارسة الانسان .

أما الإرهاب و الاسترهاب فيبقى قيمة تهدد أمن الشعوب و تقف وراء إهدار كرامة الإنسان الذي يصير ضعيفا لا يقوى على مواجهة التحديات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و يتحول إلى ضحية لممارسة الانتهاكات الجسيمة التي تجد في الإرهاب و الاسترهاب مجالا للشيوع بين إفراد المجتمعات البشرية، ليبقى الملاذ هو الرجوع إلى الماضي الذي يصير مثالا للحاضر، و مبررا لشرعية ممارسة الانتهاكات الجسيمة التي تصير لها مسحة "دينية إسلامية" تجعلها مثالا للاقتداء و التصور في كل مكان من العالم من اجل إنسان بلا كرامة، و واقع بلا روح إنسانية.

خاتمة :

و الخلاصة التي نصل إليها بعد هذه المعالجة المتأنية و الهادئة أن منطق الشهادة و الاستشهاد يتلاءم مع منطق حركة التاريخ و حركة الواقع في نفس الوقت لأنه التعبير الأسمى عن التطور السليم للواقع و للتاريخ في تجلياته المختلفة كما انه هو التعبير الأسمى عن سلامة النظام التربوي الإنساني. و في نفس الوقت نجد أن منطق الإرهاب و الاسترهاب لا يتلاءم أبدا مع حركة التاريخ، كما لا يتلاءم مع حركة الواقع، لأنه لا يتجاوز أن يكون رغبة ذاتية للأفراد الممارسين للإرهاب و للحركات الإرهابية من اجل عرقلة حركة التاريخ و حركة الواقع في نفس الوقت حتى لا يحصل أي تطور في الاتجاه الصحيح على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و للوصول إلى هذه الخلاصة المركزة بسطنا مفهوم الشهادة، و مفهوم الإرهاب، و هل الشهادة ضرورة تاريخية أم اختيار ذاتي، و الشهادة و تحولات الواقع الموضوعي، و وقفنا على أن الشهادة تركيب يجمع بين تحولات الواقع الموضوعي، و الاختيار الذاتي، و الضرورة التاريخية، وحاولنا مقاربة الجواب على السؤال : هل الإرهاب ضرورة تاريخية أم اختيار ذاتي ؟ و بينا أن الإرهاب لا يتلاءم مع الواقع الموضوعي، و انه انفراد ذاتي لا علاقة له بالواقع الموضوعي، و لا بالضرورة التاريخية، و وضحنا أن قيمة الشهادة تكمن في الإقدام على الاستشهاد، و أن هذه القيمة ضرورة تاريخية تنتج الرغبة الذاتية في التمتع بقيمة الشهادة استجابة لمقاومة الإرهاب و أنها أيضا ضرورة موضوعية. كما بينا أن قيمة الإرهاب تكمن في الدفع إلى سيادة الاسترهاب، و انه ليس ضرورة تاريخية بقدر ما هو رغبة ذاتية كما انه ليس ضرورة موضوعية. و وضحنا علاقة