دكتور غنام
قناة دكتور أكرم على يوتيوب

آخـــر الــمــواضــيــع

النتائج 1 إلى 10 من 42

الموضوع: حكايات زورك نيميسيس ..وقصص عن الجن والعفاريت ...يمنع الدخول للأطفال

العرض المتطور

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي


    حكاية رجل الظلام

    هل تجرؤ يا سيدي على الاتصال ب 777 بعد منتصف الليل ؟ .. إذا كنت تجرؤ فأنت يا سيدي رجل شجاع جدا .. وإني لأحسدك على موهبتك هذه

    جريدة آي جازيت التركية ... 12 مايو ... 1995
    تم في مساء الأمس الثلاثاء اكتشاف جثة الطفل إرهان سلمان في جانب الطريق السريع إسطنبول – إيسينكوي .. كان أهل الطفل قد أعلنوا عن اختفائه منذ خمسة أيام كاملة ... وقد أسفرت تقارير الطب الشرعي عن رأي يقول أن القاتل قد خنق الطفل بوضع رأسه في كيس من البلاستيك السميك ... وقد أكد الطبيب أيضا أن الطفل إرهان قد تم اغتصابه بعنف شديد .. وتشير تقارير وتحريات قسم شرطة أوسكودار أن هذه هي الجثة الثالثة لطفل في نفس العمر .. فقد سبقه الطفل جلال كورت بعدة أسابيع .. وقبله دورسان حبيب ... وكلهم بنفس الأعمار وقتلوا بنفس الطريقة السادية .. مما يشير إلى وجود قاتل طليق في إسطنبول منذ أكثر من شهر ... وأكد رئيس الشرطة السيد عيسى كادري أن القسم يبذل قصارى ..................

    جريدة إستانبولوم .... 20 مايو ... 1995

    تواصلت أعمال سفاح الأطفال الذي اصطلح الأهالي على تسميته ب ( أكشام باي ) – ترجمتها هي رجل الظلام بالعربية - .... وفي هذه المرة فقدت الطفلة إسراء كوتشا منذ يومين .. وتعقد الشرطة حملات مكثفة للبحث عن الطفلة التي بدت والدتها في أسوأ حالاتها أمس ... وأكد جهاز الأمن أن ...........

    إعلان في مدرسة أوزيل إيريشيم الابتدائية ...

    على جميع طلاب المدرسة مراعاة مايلي :

    1 – لن يسمح بانصراف أي طالب إلا مع ولي أمره مهما كانت الظروف وتدعو المدرسة الطلاب للاشتراك في باص المدرسة الذي تم تخفيض تكاليفه كثيرا بأمر من الإدارة ..
    2- يمنع منعا باتا الخروج من المدرسة لأي سبب كان .. وكل من يفعل ذلك خفية تعتبر المدرسة غير مسؤولة عنه أمام ولي أمره ..
    3 – يمنع منعا باتا التأخر عن طابور المدرسة دقيقة واحدة .. وكل من يفعل ذلك سيضرب أمام جميع الطلاب عشر ضربات على يده .... ولا تقبل أي أعذار ..

    كنا نحن كما رأيتنا من قبل في حكاية تحضير الأرواح .. أنا وهشام .. سارة ونورهان .. بتول وشقيقها علي .. و ولد أصلع ذو عيون خضراء يدعى مظفر .... وكلنا في مدرسة أوزيل الابتدائية التي تقع في نهاية شارعنا .. إنها تحتاج لخمس دقائق بالضبط من المشي العادي حتى نصل إليها من بيوتنا المتجاورة .. إسراء كوتشا .. طفلة في التاسعة من عمرها كانت تسكن في الشقة التي تعلونا مباشرة .. ولاريب أنك قد قرأت خبر اختفائها مثلنا في جريدة إستانبولوم .. والدتها في حالة مزرية وهي تشتري كل الجرائد حتى المغمورة منها وتقرؤها كلها حرفا حرفا متوجسة شرا ... الشرطة بدأت تفقد ثقة الناس فيها .. فليس أغلى على الإنسان من ذريته .. وكنا نحن نعيش وسط كل هذا الخضم .

    لم نكن نحب إسراء .. بل إذا شئت الدقة كنا أعداءها الأزليين .. لكننا لم نكن نحب أبدا أن نقرأ خبر العثور على جثتها الذي يبدو أنه سيظهر بين ليلة وضحاها .. إن الرعب اجتاح اسطنبول بشكل لم يسبق له مثيل قبل الزلزال الشهير .. كانت إسراء معنا في نفس المدرسة .. بل إنها معي في نفس الفصل .. و آخر مرة شوهدت فيها هي خارج المدرسة تتسكع مع بعض الشبان الذين تهوى التسكع معهم دائما .. ثم لم يرها أحد بعد ذلك .. التحقيق مع الشبان لم يسفر عن شيء .. فقد قالوا أنها غادرتهم بعد أن زاروا محل أوتومان للآيس كريم .. كانوا معتوهين كلهم .. لذا يسهل تصديقهم .. لم نكن نحب إسراء .. لكننا كنا نفتقدها ... نفتقد ضحكتها السمجة وهي تخبيء كتابي في درجها وأنا أكاد أجن باحثا عنه في كل مكان خوفا من الاستاذ الشرير .. ثم وعندما أصل للنهاية تظهر هي مبتسمة متظاهرة بالبراءة ( هل هذا كتابك ؟ ) ..


    دعني أعرفك بفصلنا السخيف لأدخلك في جو مدرستنا الكئيبة ذات المباني الحمراء .. والتي صارت أكثر كآبة بعد تلك الأحداث .. أنا أجلس عادة في المقدمة في الجهة اليمنى ... في الصف الثاني من الجهة الوسطى تجلس نورهان و بتول متجاورتين .. ذلك الأصلع الذي بجانبي هو مظفر .. وأنا لم أر أصلعا بهذه الوسامة من قبل .. في الصف الأخير من الفصل تجلس – كالعادة في أي مدرسة تحترم نفسها – شلة السوء الأبدية .. أوندير .. وهو فتى يملك جسدا كالصخر ويبدو شريرا .. ولا يخلو من مثله أي فصل في العالم حتى في الصومال حيث تنعدم الأوزان الثقيلة .. بجانبه فتى خبيث يدعى جيهان – وجيهان اسم رجل في تركيا - .. وهناك مقعد خال في الصف الأخير .. خال منذ ثلاثة أيام بالتحديد .. مقعد إسراء .. إسراء الشريرة .


    فجأة وجدوا إسراء ... الحمقاء تاهت في اسطنبول بعد أن ركبت ( أوتوبيس ) يذهب إلى تلة تشاملجا الساحرة وهي تظن ان بإمكانها العودة بنفس الوسيلة .. كنت دائما أفتح نافذتي لأصغي لصرخاتها ووالدتها تضربها ضربا مبرحا لم تكن لتتلقاه من مختطفها لو أنها اختطفت .. لم أعرفك بنفسي بعد .. فأنا أرى وجوها جديدة هاهنا لم تقرأ حلقة الرعب منذ بدايتها ... أنا هنا أدعى أهميت .. وهو النطق التركي لكلمة أحمد .. لكنهم يعجزون عن الحاء ويتجاهلون الدال .. في التاسعة من عمري الآن .. وكما ترى فهذا فصل كل من فيه هو في التاسعة من عمره .. وفي هذا الفصل ظهر رعب من نوع جديد .. ظهر رجل الظلام .... أكشام باي ..


    مر شهر كامل على أحداث الاختطاف ... ولم يسمع عن ضحية أخرى .. مع ان رجل الظلام لايزال حرا طليقا .. وهنا وفي مدرسة كمدرستنا ... مليئة بالمعتوهين والمفكرين والفلاسفة و والمدعين .. مزيج نادر لن تجده إلا لدينا .. في مدرسة كمدرسة أوزيل هذه كانت لابد أن تظهر إشاعة .. بل إشاعات تخص رجل الظلام .. يقول أوندير الضخم أنه صديق شخصي له رغم أنه كان يبكي كالبرغوث خوفا عند اختفاء إسراء ... يقولون أيضا أن رجل الظلام هو نفسه مدرس الرياضيات المرعب الذي يذكرك بفرانكشتاين ...


    لكن هناك إشاعة أخرى أشد وطأة بدأت من مكان ما وانتشرت في اسطنبول كلها .. وأتت إلى مدرستنا مؤخرا ... هذه الإشاعة تقول باختصار أن رجل الظلام لا يعمل على هواه .. إنه يأتي بالطلب .. أي أن الضحية هي التي تطلبه ليأتي ويقتلها ... و أن الرقم الذي طلبه جميع ضحاياه قبل موتهم هو 777 ... وهو لا يعمل إلا بعد منتصف الليل .. إشاعة غريبة ... صدقها جميع أطفال تركيا .. وأصبحوا يهابون هذا الرقم بشدة .. وبعض المعتوهين الكبار - بسبب ضخامة الإشاعة - منعوا أطفالهم من استخدام التليفون نهائيا برفعه عن الخدمة ... إن رجل الظلام أرعب اسطنبول .. علمهم أن يفعلوا أي شيء مهما بدا مبالغا فيه لحماية أطفالهم ... فالحذر أفضل من وقوع المصيبة ... وبعض الحذر لن يضر أحدا ..


    لم أكن أصدق هذه التفاهات أبدا .. رغم أنني في التاسعة من عمري إلا أنني كنت أعرف ان هذا كله سخف .. هل يسهر أكشام باي بجانب هاتفه بعد منتصف الليل كل يوم منتظرا أن يعطف عليه أحد ويتصل به من الأطفال ؟ .. ياله من عمل شاق ذلك الذي يعمله أكشام باي ... ذات يوم فتحنا الدليل وبحثنا فيه عن رقم 777 علنا نجده .. فهو قد يكون رقم المطافيء أو الإسعاف ... أو مؤسسة التعاونيات الإصلاحية أو الإصلاحات التعاونية أو أي اسم من هذه الأسماء التي لا نهاية لها أبدا ...لكنه لم يكن موجودا ... إن مطلق الإشاعة ليس أحمقا ... لابد أنه بحث في الدليل جيدا هو الآخر ... وهنا جاء سؤال بتول الشريرة لنا كالصاعقة .. من منكم يجرؤ على الاتصال بهذا الرقم بعد منتصف الليل ؟ ..


    وهنا أود لفت انتباهكم إلى نقطة هامة .. إن بتول هي أميرة الفصل كله بلا أي منازع .. جذابة لدرجة أن أوندير وجيهان الشريران قد فعلا المستحيل لنيل رضاها دائما ... لكنني كنت أعلم أنها لي أنا .. لي وحدي .. أذكر تلك المرة في عيد ميلادي عندما كنت أنظر من النافذة إلى الثلوج التي غطت كل شيء .. أذكر أنها انسلت بخفة من ورائي و همست في أذني I Love You ثم هربت كالثعبان فلم أرها إلا غدا .. وقد تركت لي هدية متواضعة .. كنت أعرف أنها لي أنا وإن كنا لم نتحدث في الأمر أبدا ... إن حياة الأطفال من التاسعة وحتى الثالثة عشر هي أروع حياة ستكون قد عشتها في عمرك كله .. لكن بتول تجاوزت الحد هذه المرة ... تريدنا أن نتصل ب 777 .. إنها تحكم على من يفعل ذلك بالإعدام .. وبخبر صغير في جريدة آي جازيت ..


    هل أجرؤ على الاتصال رغم علمي التام بأنها إشاعة ؟ ... ماذا إن كانت حقيقة ؟ ... أنا سمعت أن الإشاعات لابد لها من فتيل لتشتعل وتنتشر ... إنها لا تأتي من الفراغ ... ماذا لو كان هناك احتمال نصف بالمئة بصحة الإشاعة .... أين أذهب أنا بعدها ؟ ... كنت أتخيل رجل الظلام هو كالتالي ... رجل بملامح قاسية يرتدي عباءة سوداء طويلة ... وقبعة سوداء تشبه قبعة زورو تخفي نصف وجهه العلوي في الظلال ... إن أوندير جبن عن الاتصال رغم أنه فتوة الفصل كله ... وجيهان لازال يفكر في الأمر و يحسبها من جميع الزوايا .. هل يضحي بحياته من أجل بتول الشريرة ؟ .... أم أنه لازال لديه بعض المشاريع لينجزها ..... آه .. لقد تذكر ... لازال لم يصلح دراجته بعد ... إنه يريد تجربتها على منحدر تشاملجا الكبير .... لاريب أن النزول بها من على المنحدر المسفلت سيكون ممتعا جدا .... ينظر إلى بتول فيجدها جميلة .... تلك اللعينة .... ثم حسم أمره في النهاية ... إنه ليس بهذا الغباء .. لن يتصل ... إن أمامه حياة حافلة يريد أن يعيشها ... وسيجد ألف فتاة مثل بتول في هذا العالم .. إن مارلين مونرو تبدو رائعة ومناسبة جدا ... ماذا ؟ ... ماتت ؟ .... لا بأس ... لابد من واحدة أخرى في مكان ما ..


    أما أنا فقد حسمت أمري .... إن رجل الظلام هذا بشر مثلنا وليس كائنا أسطوريا خلق ليغتال الأطفال أمثالنا ... سأتصل به .. وسأمكث في البيت بعدها وسأغلق كل النوافذ ... وإذا كان رجلا فليصل إلي بالداخل .. لماذا اتخذت هذا القرار ؟ .... لأنه من الممتع أن تفعل شيئا لم يسبقك أحد إلى فعله من قبل .. ثم إن هذا سيضمن لي بتول إلى الأبد .. إنها تجارة رابحة إذن ... لكنني أقسم أنني خائف ... لكن ليس للحد الذي أجبن فيه على الاتصال ... إنني قلق ... ولكنني سأتخذ كل الاحتياطات ... جميع الضحايا السابقين كانوا أغبياء ولم يعلموا أن هذا الرقم يودي إلى هلاكهم ... أما أنا فأعلم ... أنا الوحيد بينهم الذي أعلم ... فأنا الوحيد الذي أستحق النجاة ... هذا إذا كان الأمر صحيحا من أساسه .

    نعم سأفعلها في هذه الليلة .... إن الجميع جالسين معي الآن بالغرفة ... التليفون أمامي ينظر لي بسخرية .. نعم ينظر لي بسخرية ويوشك أن يخرج لي لسانه قائلا بأنني لن أتمكن من رفع سماعته اليوم ... بتول تنظر لي بترقب ... سارة شقيقتي تشعر أنها ستراني آخر مرة ... هشام يبدو متحمسا .. مظفر الأصلع يجلس بجانبي .. وهو الذي سيطلب لي الرقم ليتأكد أنني لن أتلاعب بهم ... نورهان تنظر إلى الساعة لتحدد لنا ساعة الصفر ... إن حياة الطفولة كانت حافلة حقا ... وإن الذي حرم منها لسبب ما بائس حقا .. ولن يعيش مثلها في حياته كلها مهما حاول ..

    . وهنا قالت نورهان أن الوقت قد حان .... إن الساعة تجاوزت الثانية عشرة بعد منتصف الليل بثلاث دقائق .. وهنا رفعت سماعة التليفون متظاهرا باللامبالاة ... وأنا أرتجف من داخلي كضفدع خرج من بياته في ليلة ممطرة ... ترى ماذا سأسمع عندما أتصل بالرقم ... هل سأسمعه يقول ( آلو ) الشهيرة .... أم سيقول مثل الأتراك ( أفندم ) عندما يفتحون التليفون .... أم أنه لن يتكلم ... أم أنني سأجده مشغولا .... إن مظفر يبدو متشفيا ومتحمسا جدا لخراب بيتي ... إن يده تتجه إلى لوحة الأرقام وعيناه الخضراوتين تنظران إلي مباشرة ... تيت ... تيت ... تيت ... 7 ... 7 .... 7 .

    تييييت ...... تيييييت ....... تييييت ......جرس كئيب ....... تيييييييييت ...... تييييييييت ...... تشكلككل ( صوت شيء ما ) ..... وهنا سمعت صوتا غريبا مخيفا ..... صوتا لا أدري ماهو .... صوت كالفحيح ثابت لا ينقطع ..... اتسعت عيناي في رعب .... الكل ينظر إلي وقد انتقل الرعب إليهم ..... يظنون أنني أسمع رجل الظلام يهددني .... بعضهم يفكر في الفرار ......... تشكلللكمك ......... شششششششششششششششششششش ....... ماهذا الصوت ؟...... شششششششش .... هل هي رسالة ما ؟ ..... ربما هي لغة خاصة ...... وهنا سمعت صوتا عاليا جدا ...... (تيييييييييييييييت ) عالية جدا صمت أذني فرميت السماعة صارخا من الألم ...... لن أحكي لك عن حالة الحمقى الذين معي في الغرفة لأنهم كانوا في أشد حالات رعبهم ...... ماهذا الذي سمعته ؟ ..... تبدو رسالة تقول إن خراب بيتي وشيك جدا .... يالتعاستي .... لماذا تحصل لي هذه الأشياء دائما ..

    زاد هشام الأمر سوءا علي .... لن ينام اليوم معي في الغرفة كما يفعل دائما ... سيهرب إلى الصالة خوفا من أكشام باي ... سأنام اليوم وحيدا ... إنني أشم رائحة نهايتي بالفعل ... هكذا تتأتي جميع الظروف لموتي .... في البداية يتخلى عني هشام .... ثم حتما سينقطع النور في هذه الليلة المشؤومة بالذات ... ثم وبالتأكيد سيأتي إلي ويأخذني لعالم آخر ... عالم الآخرة .... نمت اليوم ليلة عصيبة جدا ..... كنت أرتجف مع أقل صوت يحدثه الأثاث حين يصدر تلك الأصوات التي لانفهم لها سببا .... الثلاجة تنطفيء وتنفتح بعد قليل لتبدأ دورتها التبريدية .... وهذا يحدث أصواتا مخيفة مفاجئة ... ماهذه الأصوات في الخارج ؟ .... لا أنفك أنظر إلى النافذة الوحيدة في غرفتي ..... إنه سيأتي منها حتما .... سأرى ظلا ما وراء هذا الستار الأبيض .... ثم سأسمع من يحاول فتح النافذة ... ثم ستمتد يد ما ....... يا إلهي ... إنني أكثر من مشاهدة أفلام الرعب حقا ....

    في الصباح التالي كانت حالتي مزرية ..... شكلي يبدو كالزومبيات تماما ... كان اليوم هو الجمعة ولا توجد مدرسة ... كم أحب هذا اليوم ... انتهينا من صلاة الجمعة ... وعدت مع ذلك الجبان هشام نتمشى إلى المنزل ... كان معنا مظفر يتحدث عن كرة القدم كدأبه دائما .... وكيف أن المدرب غبي حيث سمح للاعب مثل هون بالنزول رغم أنه لا يفقه شيئا في كرة القدم ... وأنه – مظفر – يستطيع اللعب أفضل منه .... دنونا من البيت ... وهنا رأيت شيئا مرعبا .... أو إذا شئنا الدقة رجلا مرعبا .... كانت سيارة القمامة تمر وخلفها يتعلق رجلان .... أحدهما كان مخيفا جدا .... لديه عين بيضاء تماما وعين أخرى سليمة .... ووجهه دميم جدا .... يا إلهي .... إن الرجل ينظر ناحيتي مباشرة .... هل هذه ابتسامة على شفتيه أم أنني أتخيل ؟ .... إنه هو .... أكشام .... أكشام باي .. إنه رآني ... لقد أتى من أجلي .

    في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة .... كنت قد أصبحت مشهورا بعد أن انتشر خبر اتصالي ب 777 ... كل الشبان الذين يمرون أمامي يخبطونني في كتفي بقبضاتهم بمزاح قائلين شيئا ما عن ذلك الفتى الذي كانوا يظنونه عاديا .... بالفعل أنا لست عاديا .... أنا سأصير الضحية الرابعة لأكشام الرهيب .... لقد رأيته ... تبا لك يا بتول ... لماذا تكون الجميلات شريرات دائما ...... أصبحت بتول تعطيني اهتماما خاصا مما أثار غضب وحفيظة جيهان و أوندير الخبيثين .... ليس من مصلحتي أن يزداد أعدائي بهذا الشكل .... عموما هم لن يجدوا من ينتقموا منه ...
    سيكون رجل الظلام قد سبقهم ...... ومظفر السمج .... لن يجد من يتحمل ثرثرته خيرا مني ....

    عدت إلى البيت شاعرا بتعاسة لم يفهمها من حولي .... أبي عرف بأمر أنني اتصلت بالرقم الأسطوري ... فضحك كثيرا وقال لي أن علي أن أنتظر نهايتي من الآن فصاعدا .... مشكلة الكبار أنهم يظنوننا أطفالا .... نحن لسنا أطفالا .... نحن صغار فقط ... دوى جرس الباب وسمعت صوتا ما يناديني أن أفتح لأنه مشغول .... لا بأس .... فتحت الباب فوجدت رجلا طويلا ... يرتدي ملابس جامعي القمامة .... لديه عين بيضاء تماما وأخرى سليمة .... شكله أشبه بضفدع لم يغتسل منذ تسع شهور .......

    هاهو قد أتى إلي في عقر داري إذن ..... لكن من قال أنني سأعطيه الفرصة ..... صرخت صرخة مدوية ..... ثم أغلقت الباب في وجهه وجريت بأقصى سرعتي إلى الحمام ... أغلقته علي ومكثت بداخله بعض الوقت ... المكان الوحيد الآمن الخالي من النوافذ هنا .... إنه الجرس يرن مرة أخرى.... لم أرى قاتلا بمثل هذا الإصرار من قبل .... قاتل يدق باب ضحيته ليقتلها ..... لن يخدعني بزبه المزيف هذا .... لكن ماذا إذا فتحت له شقيقتي ... أو أمي .... سيجدهم في طريقه للوصول إلي فيقتلهم ليزيحهم نهائيا من الدنيا..... من قال أن هذا سيحصل .... سأخرج و أقتله قبل أن يقتلني ....

    رن الجرس مرة أخرى .... يالإصرارك .... ها أنا قادم إليك يا وجه الضفدع ..... أخذت سكين من المطبخ وسط نظرات أمي الذاهلة إلى الشر الذي بدا في عيني ..... أحمد ... ماذا تفعل يا أحمق ؟. .....ليس هذا وقت إجابة الأسئلة السخيفة .... إن عائلتي في خطر داهم .... فتحت الباب فوجدته أمامي ..... كان يهم بالتحدث لكنني بادرته قائلا .... ابتعد من هنا يا وجه الضفدع .... يا رجل الظلام السخيف ... ابتعد الآن وإلا قتلتك بهذه السكين ... نظر لي بعينه السليمة بدهشة للحظة .... ثم نظر في الأرض بحزن .... ثم استدار وانصرف ....

    لماذا لم يختطفني ؟ ... لماذا لم يفعل شيئا مما يفعله رجال الظلام في جميع أنحاء الأرض ؟. ... مهلا .... ماذا إذا كنت مخطئا ؟. .... لكنني لم أر جامع القمامة هذا من قبل في حينا ..... هل هو وافد جديد ؟ ..... إذا كان هذا حقا فقد آذيت الرجل وطعنته بهذا السكين في مشاعره عندما وصفته بوجه الضفدع ..... يالقسوتي ... بل يالغبائي وتهوري .... إننا كما يقول عنا الكبار .... أطفال صغار ... نستحق أن نضرب وتشد آذاننا ونمنع من المصروف ..... إننا حقا أطفال صغار .

    وهكذا مر شهر كامل على هذه الأحداث .... لم يسمع أحد عن رجل الظلام فيه .... لابد أنه آثر الاختفاء ... أو أنه مل من الأمر برمته ... أو أنه تزوج و اهتدى أمره ... أو أنه مات .... أو أنه لازال يخطط لأمر آخر لا ندري عنه شيئا .... وإلى الآن لم تعلن الصحف التركية عن قبضها على أكشام باي الرهيب أبدا .... انشغلوا بسفاحين آخرين أشد تدميرا ..... ونسوه تماما .... رأيت رجل القمامة بعدها يتحاشى المرور على شقتنا ... فذهبت مع هشام واعتذرت له عن سخافتي .... قلت له انني كنت أمزح معه ..... نظر لي بعينه الواحدة في سرور وقال ... تشكرا ديريم ..... وتعني شكرا لك جدا .....

    ودعوني أسألكم نفس السؤال الذي سألته لنا بتول ذات مرة ...... هل يجرؤ أحدكم الذهاب إلى تليفونه بعد منتصف الليل والناس نيام ..... ويطلب هذا الرقم ..... 777 ... ؟؟؟

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية الزلزال

    " عندما ترى سبعين طابقا ينهارون أمام عينيك.... عندما ترى موجا تحتاج لرفع رأسك حتى ترى نهايته .... عندئذ تعرف أنك الله غاضب ... وأنك إذا مت في كل هذا فأنت في مأزق كبر"

    " سيداتي وسادتي نأسف لقطع برامجنا لإذاعة هذا الخبر العاجل ... ضرب زلزال قوي بلغت درجته 7.4 Mw منطقة وسط تركيا، و أدى إلى وفاة 17.118 شخص على الأقل و إصابة 50.000 آخرين و آلاف المفقودين و 600.000 مشرد، و أضرار شديدة في مقاطعات اسطنبول و كوكايلي و ساكاريا، و نفيد بأنه .........."

    كلنا سمعنا هذا الخبر على شاشاتنا في عام 1999 .. لم نهتم كثيرا كعادتنا .. بل إن من كان منا يتابع برنامجا ما أخذ يلعن في سره تلك الأخبار السوداء التي لاتنتهي والتي تؤدي لانقطاع البرامج دائما ... سمعناه في لحظة ونسيناه في التالية .... لكن تلك الكلمات المقتضبة التي حملها الخبر كانت تعني شيئا آخر في تركيا .... شيئا رهييبا ... عائلات كاملة أبيدت ... نساء ترملن فجأة .... أطفال ماتوا ولا يدرون لذلك سببا ....... وقد كنت – لسوء حظي – أعيش في كل هذا ... أعيش في اسطنبول ....

    في اسطنبول في البداية سمعنا أن هناك زلزالا قد ضرب مدينة إزميت ودمرها شر تدمير ... سمعنا هذا ولم نهتم كثيرا .... فرغم أن إزميت ليست بعيدة جدا .... إلا أن هذه الأشياء تحدث للآخرين فقط .. لا نتخيل أن نصبح نحن ذات يوم خبرا في التلفزيون يعرضنا نولول على حالنا ويرانا كل العالم ... هذا يبدو مستحيلا ... و كما تعلمون لقد كنا مخطئين ... وسذج ... لقد أصبحنا بعدها بيومين أهم خبر تتناقله جميع القنوات والصحف العالمية حقا .. خبر تدمير اسطنبول ..

    المكان : مدرسة أوزيل المتوسطة في اسطنبول
    المشهد : معلمة تكره اليوم الذي أتت فيه لهذا المكان
    السبب : مجموعة من الطلاب والطالبات الأغبياء – نحن –

    كانت المعلمة – التي تدعى صحاري – تشرح درس اللغة الإنجليزية في فتور .... تسأل أسئلة لا تنتظر إجابتها لأنها تجيب عنها بنفسها بعد ثانية واحدة ... الطلاب لا يبدو أنهم يعرفون معنى لغة إنجليزية بعد ... فالأتراك ضعاف في هذه اللغة بطبعهم ... وكل من يزورهم سيعاني الأمرين في توصيل شيء ما لهم ... أنا أؤمن أن اللغة الإنجليزية – وأي لغة أخرى – لا تأتي بالتعلم ... بل تأتي بالاكتساب ... كأن تعيش في أمريكا أو لندن ... أو تتحول لعاشق للأفلام والأغاني الأجنبية فجأة ... أو أي شيء آخر ... كنا ننظر إلى ساعة الفصل متسائلين عن هذا العقرب السخيف الذي لا يتحرك أبدا ... بقى نصف ساعة كاملة .... وأخذنا ندعو على المدرسة بالخراب وعلى وزارة التعليم بأكملها .... ولقد استجاب الله دعواتنا هذه في اللحظة التالية مباشرة ...

    إن الفصل فيه مجموعة من الخزانات المثبتة على الحائط ... وكل خزانة فيها مفتاح يتدلى من قفلها ... كل خزانة تخص أحد الطلاب في هذا الفصل ..... رأيت هذه المفاتيح تتحرك يمينا وشمالا بعصبية غريبة .... هل هذه المفاتيح قد جنت ؟ ..... فجأة سمعنا صرخة من مكان ما وصوت جلبة طلاب .... توقفت المعلمة عن الشرح لتصغي إلى ما هنالك ... لكن القدر لم يمهلها لحظة أخرى ..... اهتزت الأرض من تحتنا فجأة بعنف .... لم نكن نعرف كيف يمكن أن تهتز هذه الأرض الوديعة التي نمشي علها ..... ولم يكن هناك وقت لنتساءل عن كيف اهتزت .... رأينا طاولاتنا تقع علينا في لحظة ... ثم نرتد نحن ونقع عليها في اللحظة التالية .... المعلمة تتعثر على الأرض ولا تستطيع الهرب ..... وهنا حدثت المهزلة ...

    إنه زلزال .... ضربنا زلزال ..... الطلاب أصبحوا يجرون خارج الفصل بلا هدف ... وقد كنت من أول الطلاب الذين جروا .... مدرستنا فيها أكثر من ألفي طالب .... كلهم وجدتهم بالخارج يجرون في كل الاتجاهات .... ذلك المرمى الخاص بكرة القدم وقع وأحدث دويا هائلا ... الفتيات – كعادتهن الأزلية – يصرخن في هيستيريا ..... إن الفتيات يصرخن إذا رأين فأرا مسكينا ... فما بالك بالزلزال ...... لقد صمت آذاننا بصراخهن .... الأولاد فقط يجرون كالبلهاء في رعب .... أرى واحدا يمسك بحقيبته ويجري بها .... ياله من مهذب .... لم يكن هناك مهرب .....
    الزلزال في المدرسة وخارج المدرسة ... إلى أين ستهرب إذن ؟.... لكننا هربنا إلى الشارع الذي كان حاله أسوأ بكثير ... الناس خرجت من سياراتها ومن بيوتها هاربة إلى مكان ما ..... لقد كان يوما رهيبا ..

    أرى الآن ذلك الإعلان الكبير الذي طالما كرهته يسقط من حالق ..... ولحسن الحظ لم يجد من يقع عليه كما نرى في الأفلام دائما ..... ترى أين نهرب ... أنت تجري خطوتين وتقع في الثالثة ... إن الأرض تهتز ياصديقي ... تهتز ... أين شقيقتي ؟ .... إنها معي في نفس المدرسة .... لابد أنها أكثر واحدة صرخت ... فأنا أحفظها وأحفظ صراخها الدائم ..... ولدهشتي وجدتها تأتي إلي ولا تصرخ .... لم تقل شيئا... فقط تبادلنا النظرات... وجدت نورهان ابنة خالتي وراءها تبدو في أسوأ حالاتها .... ثم لمحت بتول – تلك الساحرة – تبكي ... يالمنظرها وهي تبكي ... قررنا الذهاب جريا إلى البيت فهو في نهاية هذا الشارع .... لكنه بدا لنا وكأنه في أقصى الأرض .... عليك أن تدور حول ألف سيارة وتتجاوز عشرة آلاف جسد قد احتشدوا في الشارع ... لا بأس من المحاولة .... وجرينا كلنا باتجاه البيت .... ظنا منا أننا سنجده أكثر أمنا ....

    فجأة هدأت الأرض .... لم تعد تهتز .... توقف المشهد كله كأنك ضغطت على زر Pause في الريموت كنترول ..... لم تعد تسمع صوتا .... فقط أصوات نظرات الدهشة – لو كانت لها أصوات - .... ترى أين نذهب الآن ؟ ... هل هي النهاية ؟ .... أم أن هناك هزة أخرى قريبا ؟ .... هل نصعد لبيوتنا ؟ ماذا إذا صعدنا إلى وأتت تلك الهزة ؟ ... عندها سيكون النزول صعبا ... الحل أن نبقى هنا إذن .... ولكن هل نبقى هنا طوال حياتنا ؟ .... هذا هو الحل الوحيد إذا أردت أن تبقى حيا ...... إن
    الزلزال الذي مر بنا – حسبما درسنا – هو خفيف .... لا يتعدى كونه هزة خجول .... ماذا إذا تبعه ما هو أعظم منه ؟ ..... إن الموت مرعب جدا عندما يأتي على غفلة .... عندما تشعر أنك ستموت قريبا .... ربما لو مرضت مرضا شديدا لكان الأمر أهون ... أما أن تموت هكذا فجأة .... فهو شيء رهيب حقا ..

    الناس كلهم قد احتشدوا في الشارع أمام بيوتهم .... ولحسن الحظ فإن هناك ساحة ترابية واسعة جدا أمام بيتنا .... جلس في هذه الساحة كل من يسكن في مبنانا والمباني المجاورة له .... الكل فقط يجلس ... ولا أحد يجرؤ على دخول بيته .... أتى والدي ووالدتي وخالتي وجميع جيراننا .... إنه مشهد مخيف .... كل هؤلاء قد جمعهم الخوف .... وجلسنا معهم أنا وشلتي التي تعرفونها من قراءتكم للقصص السابقة في حلقة الرعب ... لن تصدقوا إذا قلت لكم أننا جلسنا في هذه الساحة حتى منتصف الليل .... تسع ساعات كاملة لا يأمن أحدنا الذهاب إلى بيته .... يا لضعف وهوان الناس وسخافتهم .... إنهم حقا لا يحتاجون لأكثر من هزة عنيفة مدتها أقل من ربع دقيقية .. بعدها ينتهي كل شيء ... تتحطم مبانيهم وأحلامهم ويموتون بحسرتهم أو تدق عنوقهم ... يالغرورهم .... أسمع منهم من كان حلمه أن يصير أغنى الناس وأكثرهم أناقة .... وهاهو الآن يجلس امامي ينظر بين لحظة وأخرى في أسى إلى بيته الذي لا يجرؤ على دخوله ..... الأطفال يتسلون بالبكاء ..... من لديه وقت ليهتم بهؤلاء الأغبياء .... أحدهم جائع ... وإحداهن لا تحب الجلوس على التراب ..... وأحدهم يريد النوم .... إن الأمهات يتعبن حقا .... وهاهو منتصف الليل قد أتى وأخذ الناس ينظرون بعضهم إلى بعض .... ترى هل يجرؤون ؟

    إن الليل بدأ يزحف ... الجلوس على هذا لتراب متعب نوعا ما ... لقد كنت في ذلك الوقت في السادسة عشر من عمري .... إني أرى الآن أكثر من مائة إنسان احتشدوا في هذه الساحة الترابية التعيسة .... بعض الشباب العابث كان لايزال يجد في نفسه القدرة على الضحك وقول النكات البذيئة ... بعض الأطفال أخذو يجرون وراء بعضهم وهم يظنون أننا في نزهة جماعية لزيارة الساحة التي أمام بيتنا .... النساء كففن – أخيرا – عن الثرثرة وأصبحن ينظرن إلى أطفالهن في صمت ... مجموعة من الرجال وجدوها فرصة مناسبة للحديث عن الحكومة التركية وكيف أنها لا تعطي المواطن حقوقه الكاملة إلى آخر هذا السخف .... أما نحن فكنا نتحدث - ياله من شيء جديد - ... ما كان يعجبنا حقا أننا سنأخذ إجازة من المدرسة لمدة طويلة .... هذا ممتع ... ربما لن نعود لها أبدا .... لأن هذا
    الزلزال سيكون قد قضى علينا ...

    كنا نشتري الأكلات الجاهزة من المطعم القريب المتحمس .... ونشرب عصائر حتى امتلأت بطوننا منها وأوشكت أن تفور منا – العصائر وليست بطوننا طبعا - ... ماهذا الذي أراه ؟ ... إنهم يجتمعون للصلاة ... شر البلية مايضحك .... إن أغلبهم لم يكن يحضر أساسا لصلاة الجمعة .... مهلا .... هذا الرجل السكير الأصلع الذي يسكن في الشقة التي تحتنا .... إنه سيصلي ..... لقد ظننته مسيحيا ..... لم يكن يجيد سوى شرب الخمر ليل نهار ...... إن هزة صغيرة قد فعلت بالناس كل هذا ..... فهل ستكون الأخيرة .......

    أتت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل .... إن البعض يسقط نائما ولا يقدر على المواصلة ..... وهنا ارتفع صوت الجدال في شيء ما ..... فريق يرى أن يقضي ليليته هنا .... والفريق الآخر يرى أن يذهب للبيت .... وكنا نحن مع الفريق الثاني ..... كان بعض الناس مذبذبين .... لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .... لكن النوم سلطان كما يقولون .... إذا متنا سنموت ونحن نيام ....ولن نستيقظ لنرى يوما جديدا أبدا .... هذا أفضل من إذا متنا هنا كالفئران ..... ثم إن البرد قد بدأ يزحف إلى عظامنا .... لا شيء أفضل من سرير دافيء بعد قدح من الشاي الساخن الآن ..... وهكذا حسم الكثير أمرهم وتوجهوا لبيوتهم أخيرا .... كانت ليلة رهيبة ....

    إن الهزة التي وقعت كانت قوتها 4 على مقياس ريختر .... للأسف لم نكن نعلم أننا لازلنا في البداية ..... وما أتى بعد ذلك لهو مما يشيب له الولدان حقا ....

    مالذي ستشعر به عندما تضم إليك لحافك في ذات فراشك الدافيء وتحاول أن تنام .... شاعرا أن هذه الليلة قد لاتصحو منها أبدا ؟..... قد تكون الأخيرة .... إن مبدأ – يحدث لللآخرين فقط – قد اختفى تماما ... وأصبحنا نتوقع الأسوأ دائما ..... لكننا كما قلت لم نزل في البداية ..... إن أرض اسطنبول كانت تدخر لنا العديد من المفاجآت ....

    مرت هذه الليلة بهدوء شديد .... لم يحدث فيها شيء .... لم نسمع صوت حيوان أو إنسان حتى .... الحيوانات غادرت منذ مدة طويلة ... فهي تشعر بالزلازل بفطرتها قبل حدوثها .... الناس صامتون في رعب لا يدرون أينامون أم يقاومون ..... هناك مجموعة منهم في الأسفل في تلك الساحة الترابية فضلوا الجانب الآمن .... لكن حالهم كان مزريا .... يكادون يقعون من فرط السهر .... بعضهم ارتمى على التراب وقد غلبه النوم تماما و لم يستطع التحمل ... فليحدث ما يحدث .... لكنه شعر أنه سيموت حقا إن لم ينم الآن ..... حال تعيسة .... إن من استمعوا لأخبار زلزال اسطنبول قالوا .. أن زلزالا شديدا أصاب اسطنبول كاد يفتك بها .... ثم تلته خمس زلازل متتالية مفاجأة ...... قلت لكم أن أياما حافلة كانت تنتظرنا ....

    ما أرعبنا أكثر هو الأخبار ... التي أخذت تتناقل في حرارة أن هناك مصيبة قادمة علينا وأننا يجب أن نحتاط لكل شيء .... كيف نحتاط ؟ .... أخذوا يعرضون برامجا كثيرة عن كيف يكون التصرف إذا واجهك زلزال ...... حاول تقضية أغلب الوقت خارج بيتكم .... تخل عن بخلك - ولو للحظة - ولا تفكر في إنقاذ أي شيء ثمين ... إلى آخر هذه الدروس الي أصابتنا بالغثيان .... أصبح التلفزيون التركي يعرض فقط قرآن ..... ألغيت قناة Cine 5 الإباحية تماما بعد أن كانت في كل تلفزيون تقريبا .... ثم بعد كل هذا .... أتتنا الضربة الأولى فجأة ...

    كان الوقت ليلا .... كنت أشتري بعض الشطائر من ذلك المطعم الذي يشكر
    الزلزال ألف مرة .... ويتمنى حدوثه مرة كل شهر .... فالزبائن أصبحوا بالمئات ..... أنتظر بملل أن يتم إعداد تلك الشطائر اللعينة .... ألقي بنظرة على تلك الساحة الترابية .... الناس أصبحت أكثر تحررا ...... يتحدثون بصخب ... بعضهم يضحك .... بعضهم أتي ( بمرتبة ) ولحاف وتدثر بهما ونام ..... ثم خيل إلي أنني أسمع صوتا ما .... صوت لا تدري كنهه ولكنك تعلم أنه صوت كارثة ..... وفجأة مالت الأرض التي كنت أقف عليها بعنف .... ثم مالت للناحية الأخرى في أقل من ثانية .... ثم أصبحت تهتز ..... لم أعرف ماذا أفعل .... صوت صرخات رهيبة يصم أذني .... هرج ومرج وركض وقفز ....... حاولت الخروج خارج المحل لكن العاملين كانوا قد داسوا علي في طريق خروجهم .... زجاجات (الكاتشاب) و (المايونيز) تتطاير كأنها قذائف .... كانت هذا زلزالا حقيقيا ... كان ما حصل في السابق لعبة بالنسبة لهذا الذي أراه الآن ..... جريت بأقصى سرعتي نحو الساحة ... انضممت لعائلتي .... الكل يحاول التوازن وينظر بحذر إلى المباني متوقعا سقوطها على رأسه ..... لكننا نسينا شيئا مهما جدا .... عمود الإنارة الذي قد وجدها فرصة لإثبات وجوده ...... عمود الإنارة قد سقط .... سقط في منتصف الساحة ... ورغم أنه سقط ببطء نوعا ما وابتعد الكثيرين عن طريقه ... إلا أنه قابل رأسا واحدة أعجبته فهشمها عن آخرها ...

    - أحمد انظر لعبتي ... إنها جديدة وليست كلعبة إرهان المغرور .... ماما أحضرتها لي في العيد ...
    - هذه جميلة .... هل هي من متجر (جوزيل أويونلار) ؟
    - لا ... إنها من كابيتول
    - حسنا أرني إياها يا شايدا ...

    لعبة فيها خمس أزرار .... كل زر يسمعك أغنية جميلة .... مثل أغنية Happy Birthday To You وأغاني أخرى رقيقة ..... تصنعت الاهتمام حتى لا أغضب شايدا .....
    - بكم هي هذه التحفة يا عزيزتي ؟ ...
    - هيء .... لن أقول لك ؟ ....
    وجرت رافعة باللعبة إلى الأعلى وكأنها تحمل كأس العالم وهي تغني أحد الأغاني التي في اللعبة .... نظرت لها .... ياإلهي ... لقد كنا هكذا قبل سبع سنين .... إن الإنسان يتغير حقا ..... لكن القدر لم يمهل شايدا حتى تتغير مثلنا ..... كانت هي الأولى ..... أول ضحية رأيناها لزلزال اسطنبول المرعب ...

    شايدا لم تجد الوقت لتهرب .... لم تكن تملك حذرنا وسرعة استجابتنا ..... لم تكن تملك أي شيء ... ووالديها كانا بعيدين نوع ما عنها ..... من الخطأ أن تترك فتاة تلهو هكذا وأنت تعرف أن زلزالا سيضربك في أي لحظة .... لكن
    الزلزال لم يمنح والديها حتى حق البكاء عليها .... لقد اشتد علينا فجأة وبدأت أشياء أخرى تقع .....

    أرى الآن بعض ( الشماسات ) التي نضعها فوق المدخل لاتقاء الشمس قد تهشمت على الأرض ... علما بأنها مبنية من الطوب ..... أرى كذلك بعض الحمقى الذين كانوا بداخل بيوتهم يخرجون منها وكأن شياطين العالم كلها تطاردهم .... .لسنا وحدنا الذين نصرخ .... هناك صرخات في كل مكان تقريبا ..... وفجأة هدأت الأرض ...

    لازلت أشعر يرجة ما تحت قدمي ... لكنها خفيفة نوعا ما .... وهنا بدأت المناحة ..... ورغما عني بكيت كمن فقد كل شيء .... إن شايدا كانت تلعب أمام عيني منذ دقائق محاولة لفت الأنظار كعادة الأطفال دائما .....كيف ماتت هكذا فجأة ..... إنها لم تمت .... إنها تهشمت .... المسكينة .... لم أجرؤ على النظر إلى ما حل بها ....... وسمعت عبارات كفر كثيرة مثل ( يا رب ألم تجد سوى هذه الطفلة لتقتلها ) ... .. كانت هذه من أمها التي لن أصف لك حالها لأنه لا يخفى عليك .... ( يا رب ماذا فعلنا لك حتى تقتل شايدا ) .... إنها تصرخ وكأنها تؤنب شخصا ما .... هذه المجنونة .... ( يارب مالذي ...... ) وهنا حدثت الهزة الثانية لتريحنا من كل هذا الصراخ ....

    ذات مرة قرأت لنا لنا شايدا سورة الفاتحة – غيبا - بفخر وهي تتمايل يمينا وشمالا في خجل .... إن دموعي عليها لم تجف بعد ... ولم أجد الوقت لأجففها ..... ها أنا أنظر لكارثة أخرى ........ في الأفق تقريبا رأينا ذلك المبنى العالي ..... كنت دائما أنظر إلى ذلك المبنى وأنا صغير وأحاول عد طوابقه ..... كل مرة أصل للخمسين وأتعثر ثم أعيد العد منذ البداية ..... عرفت بعدها أن المبنى كان سبعين طابقا .... أراه الآن يتمايل ..... ثم حولت نظري ناحية صوت آخر قادم من مكان ما .... وعندما نظرت إلى المبنى الطويل ثانية لم أجده ...... نزلت بنظري لأسفل قليلا فوجدته ينهار ...... ياللهول ..... إن المشهد لو رآه أعظم أديب لحار في كيفية وصفه ...... المبنى يقصر شيئا فشيئا ويتكسر ...... ثم تهوي القطعة العلوية كالكارثة وتقرر القطعة السفلية أن هذا يكفي قتبقى في مكانها ...... لم يعره أحد اهتماما كبيرا .... كل أصبح له ما يشغله .... كلفني أبي بحماية شقيقتي التي كنت لأموت دونها ..... لقد كان الله غاضبا ...... نعم شعرت بهذا .... ويالتعاستنا نحن البشر الذين جلبنا كل هذا لأنفسنا .....

    في نفس الأسبوع الذي توفي فيه الشيخ العلامة عثمان بكتاش الفقيه التركي الشهير .... مر رجل تظهر عليه إمارات الوقار والتدين أمام أحد كافيهات اسطنبول ... وجد الشباب يضحكون ... الفتيات يتمايلن في ميوعة و لا تدري هل هذا الجينز هو ملابس أم تراه لون بشرتهن الأصلي .... (الدي جي ) يصرخ بأعلى صوته ولا أيبدو أن هناك من يعرف أن هناك رمزا دينيا من العلماء قد اختفى ورحل اليوم..... نظر الرجل لكل هذا ثم أغمض عينيه في غيظ قائلا .... إن الله لابد سيغضب في هذه الليلة ...... وقد كان كما قال ...

    أعود بكم إلى المشهد الممل الذي عشناه و ظللنا نعيشه فترات طويلة .... مشهد الساحة الترابية التي أصبحنا نحفظ كل شبر فيها ..... لقد هدأ كل شيء بعد
    الزلزال الأخير .... لم يذهب أحد ضحية أي شيء .... لا أحد سوى طفلة صغيرة تدعى شايدا ..... شايدا الجميلة .... إن الليل في اسطنبول الآن وجميع الجيران محتشدين في الساحة .... ينتظرون هزة أخرى قد تحدث في أية لحظة .... الهزة الأخيرة مر عليها أكثر من ثلاث ساعات الآن .... نحن جاوزنا منتصف الليل بكثير .... لكن في هذه المرة لم يجرؤ أحد على النوم فعلا .....

    ثلاث ساعات أخرى مرت كدهور .... إنه الفجر يتنفس ..... الناس تحسبهم سكارى ..... لكن الكل يعلم أن النوم هو المنتصر دائما .... في هذه المرة لم يذهب أحد إلى بيته لينام .... الكل سينام هنا اليوم .... كلنا سننام في الساحة اليوم .... تبرع بعض الشباب الشجعان بإحضار بعض الفرش من المنازل ..... فرشنا على الأرض كلنا .... وجلسنا .... بعضنا نام ...... لو رأيتنا لوقعت على الأرض من الضحك .... تخيل يا عزيزي .... أكثر من سبعين شخصا بين رجل وامرأة وطفل وعجوز ينامون معا على التراب ..... ليس من فقر أو مجاعة ... ليست نزهة جماعية .... إنه الخوف .... الخوف من الموت .... الخوف من الموت مهشما إذا انهار سقفك فوقك فجأة .... ورغم أننا – أنا وشلتي الصغيرة - ... معدومي الإحساس .... إلا أننا صدقا كنا نشعر بالرعب .... مالذي كان سيحدث لو لم تكن هذه الساحة موجودة .... إن الله رحيم بنا ... رحيم بنا في غضبه علينا ..

    رقدت على ظهري .... وجهي إلى السماء التي كانت – وياللعجب – جميلة جدا في تلك اللحظة .... هل سأعد النجوم حتى أنام ..... هل جرب أحدكم أن يعد النجوم حتى ينام ؟ .... إنه عمل مسل جدا .... ليس أمتع من أن تنظر للنجوم في ليلة صافية ... في مكان مظلم كالذي نحن فيه الآن ... مظلم بعد سقوط أعمدة الإنارة كلها .... بعض النجوم يتلألأ .... بعضها يتحرك .... شيء ما يلمع في الأفق ثم يختفي قبل أن تدري كنهه .... كيف تكون السماء سعيدة هكذا والأرض غاضبة .... إن النعاس بدأ يتسرب إلي كالأفعي تلتف حول قدميك .... ثم لا تلبث أن تحيط بجسدك كله ...... من ذكر سيرة الأفاعي الآن ؟ ... تذكرت الآن أنه ربما توجد عقارب في هذه الأرض الي ننام عليها .... لكن لا أظن .... إن العقارب أخافها
    الزلزال منذ مدة ..... شيئا فشيئا أخذت أغفو ثم أصحو لأجد النجوم بنفس ترتيبها .... أسمع بعض الناس يتكلمون في شيء ما بالجوار .... ثم أخيرا استسلمت ونمت ....

    - أحمد هلا ضربت لي هذا العمود هناك ؟
    - لماذا يا شايدا ؟ ... إن العمود واقف في حاله يا حبيبتي ..
    - لا ... لقد قتلني ... سقط على رأسي وقتلني ...
    - وهل تأذيت ؟
    - نعم قليلا .... انظر ...
    نظرت إلى مكان الجرح في رأسها ..... فوجدت مالا يمكن وصفه مراعاة لشعور البعض... رأس مهشم كأن مطرقة أسطورية قد هوت عليه .... بعض أحشاء الدماغ تبرز للخارج ..
    - أحمد اضرب لي العمود ...
    - اضرب لي العمود
    - العمود يا أحمد
    - سقط على رأسي وقتلني ..
    - انظر ..
    وهنا استيقظت في فزع ...... كنت نادرا ما أعرق .... لكني فعلتها الآن ... وفي هذا البرد .... منظر أشد غرابة واجهني .... أكثر من سبعين جسدا نائما على الأرض .... كأنها جثث في مذبحة جماعية ....أين والدة شايدا ؟ ... هاهي هناك ..... إنها لازالت ساهمة تنظر إلى الأرض كأنها ستخترقها ببصرها .... يالهول مارأيت في حلمي ... لكني برغم كل شيء ... كنت سعيدا .... سعيدا لأنني رأيت وكلمت شايدا الجميلة مرة أخرى ...
    الصباح بكل نوره وصخبه قد وصل .... بدأنا نقوم واحدا تلو الآخر كالسكارى .... الكل عيونهم منتفخة من آثار الليلة الرهيبة .... هنا لن تغسل وجهك ولن تمشط شعرك .... هنا أنت على حقيقتك المريعة ... منظر البعض كان مرعبا أكثر من
    الزلزال نفسه .... أصبحت أعرف الآن من أين يقتبسون مسوخ أفلام الرعب ... ثم من هذه هناك ؟ يا إلهي ... إنها مدام هيلال ... إنها تبدو مخلوقا فضائيا بدون مكياجها ..... دائما ما كانت تعذب نفسها وتعذبنا معها بلبس الكعب العالي .....يبدو أن هذا الزلزال مفيد نوعا ما ...

    خمسة أيام كاملة مرت علينا في هذا العذاب المقيم .... الكثير من الجماعات والأحزاب تكونت فيما بيننا .... الكثير من الأصدقاء صاروا أعداء والعديد من الأعداء صاروا أصدقاء فجأة ..... هل هي النهاية ؟ ... أم أن هناك هزة أخرى وأخرى قريبا .... إن التليفزيون لا يقدم شيئا مفيدا عن الأمر .... إن الدراسات تعجز تماما عن التنبؤ بأي شيء .... لكنها لم تكن عاجزة عن معرفة إذا ماكان زلزال ما قد انتهى أم أنه سيكون له توابع ... وهذا كان أملنا .... كل يوم نتابع التلفزيون وجميع الأخبار العاجلة التي يقدمها .... يا إلهي إننا أقل منطقة حدث فيها الخراب ... إن المنطقة الأوروبية من اسطنبول كادت أن تدمر ...... ياللهول ما كل هؤلاء الموتى ... ونحن الذين ظننا أننا نتعذب .... ماذا حصل لقصر توبكابي ... لم يمس .... لا أستغرب هذا وفيه آثار من آثار حبيبنا وسيدنا محمد عليه أفضل صلاة وأتم سلام ....

    كانت ليلة مملة أخرى .... الناس أصبحت الآن مستعدة للنوم بسهولة أكثر عن ذي قبل .... وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل .... فزع الجميع مرة أخرى .... سمعنا صوت هدير مفاجيء اخترق الصمت مقتربا في قسوة ..... أصغينا السمع .... هذا صوت مألوف ..... إنه ليس زلزال .... هو صوت هليكوبتر .... رأيناها تحلق فوقنا كأنها تستطلع المكان بكشافاتها التي أعمت عيوننا تماما ..... وفجأة دوى صوت آخر .... صوت مايكروفون ....

    "إلى جميع سكان منطقة أوسكودار الأعزاء .... نعلن أن هيئة الأرصاد قد درست الأمر جيدا ونفيدكم بأنه يمكنكم العودة إلى بيوتكم آمنين .... فأقوى مرحلة من
    الزلزال قد مرت عليكم بخير .... وجميع توابع الزلزال – لو حدثت – ستكون أضعف من أن تؤثر فيكم تأثيرا مؤذيا ..... أكرر ..... "

    همهمات عمت في أرجاء الساحة ... من كان نائما جلس ... ومن كان جالسا وقف ... الناس يتحدثون في حماس عن هذا الخبر الجديد ..... مادامت هيئة الأرصاد قد أذاعت هذا فقد درست الأمر جيدا من جميع الزوايا ..... إذن فقد انتهى الكابوس بالنسبة لنا ..... إننا بعيدون عن مركز
    الزلزال إذن لحسن الحظ ..... ورأيت بعيني الناس تلملم فرشها في حماس وتنظفها من الغبار ... رأيتهم يتجهون إلى بيوتهم في سعادة وقلق .... هذان لا يجتمعان إلا في حالتنا هذه .... أنا أساعد عائلتي في جمع فرشنا بدورنا ..... اتجهت إلى المنزل ...... وألقيت نظرة أخيرة على الساحة ..... ساحة الرعب ...

    لحسن حظنا لم يؤذنا زلزال اسطنبول الرهيب ... لكنه ذكرنا أن الأمور لا تبقى على حالها دائما ... وأن ربنا إذا أمهل وأمهل .... فإنه لايهمل أبدا .... عشت أياما رهيبة في تلك الساحة الترابية المخيفة ...... إنني أنظر الآن إليها وأتذكر .... ليست ترابية الآن ... إنها ثلجية ... فالثلوج تتساقط عليها الآن من السماء في مشهد جميل يستحق النظر إليه عبر نافذتك ..... نظرت إلى العمود إياه فوجدته قد أعيد تثبيته ...... شايدا ماتت هنا ذات يوم ..... ورغما عني .... انحدرت دمعة ساخنة أدفأت وجهي المرتعش من البرد ...... نعم ... ماتت شايدا هنا ذات يوم أمام عيني ..... ولم تجد أحدا لينقذها ....


    يقول المغني بحزن ...

    أحدهم قتل شايدا الصغيرة
    الفتاة ذات اللحن العذب
    والتي كانت تغني دائما بالجوار
    لقد كانت هناك تصرخ
    تقرع بصوتها أبواب نهايتها
    لكن أحدا لم ينجدها مبكرا
    ويالمنظر الدماء على شعرها

    الكل أتى ليري
    الفتاة التي قد ماتت الآن
    ويالها من نظرة تلك التي في عينيها
    يالرقتها وهي راقدة هناك
    ويالرشاقتها و أناقتها
    اللهم ارتق بروحها بعنايتك
    و يالمنظر الدماء التي على شعرها

    لقد كان هناك تحاول
    أن تغني ذلك اللحن
    لشخص ما ربما شعر بيأسها
    وقد صرخت بقوة
    وما من أحد هناك

    شايدا الصغيرة حاربت بصعوبة حتى تعيش
    يالرقتها وهي راقدة هناك
    ويالرشاقتها و أناقتها
    اللهم ارتق بروحها بعنايتك
    كم هي صغيرة و كم هي جميلة

    مع الاعتذار لصاحب الأغنية العبقري مايكل جاكسون حيث كان يغني عن ( سوزي الصغيرة ) .. بينما أحب أنا أن أغنيها دائما عن عزيزتي شايدا ... شايدا الصغيرة ..

    النهاية

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية ذات العنق الطويل


    "أن تطيل امرأة من قبائل الزامبيزي عنقها فهو أمر عادي .. أما أن تفعل ذلك فتاة مصرية في العاشرة من عمرها فهو أمر مخيف "


    إن المصايف المصرية لها مزية هامة جدا .. أنك لا يمكن أن تشعر فيها بالسأم أبدا.. الشوارع صاخبة من الفجر إلى الفجر .. باعة الترمس والفيشار في كل مكان يذكرونك دائما أنك حتما جائع .. صوت الأمواج الرتيب يصلح أن يكون خلفية موسيقية لو كان هذا مشهد ما في أحد الأفلام .. طفل يمشي بالآيس كريم على الكورنيش وكأنه لايعبأ لأي شيء في هذا العالم .. وكنت أنا هذا الطفل - في الثانية عشر من عمري - أمشي في شوارع ( رأس البر ).. مدينة ساحلية تستخدم كمصيف في مصر.. كنت سعيدا جدا اليوم .. فبعد قليل سيأخذنا أبي إلى الملاهي .. هذا رائع .. سيكون هناك بيت الرعب و السيارات التي ماصنعت إلا لتتصادم والكثير من الآيس الكريم المنعش .. يالي من شخص محظوظ حقا .

    إن أبي شخصية أكاديمية جدا فيما يتعلق بالملاهي ... ( هيا .. إن لكل واحد منكم أن يركب ثلاثة ألعاب فقط .. هيا انطلقوا الآن ) ... كل الآباء لا يسمحون سوى بثلاثة ألعاب فقط .. هل هو قانون ما ؟ .. لقد كنا ونحن أطفال نلتزم حرفيا به ونشعر أنه ليس من حقنا أبدا لعبة رابعة .. لكن والد مراد يسمح لهم بخمسة ألعاب .. لابد أن مراد شخص سعيد جدا.. يالي من شخص تعيس في هذه الحياة .

    لم تكن الملاهي التي ذهبنا إليها كالملاهي الحديثة التي نراها الآن .. كانت أشبه ببعض الخردوات التي جاؤوا بها من مكان ما وصنعوا بها ألعابا .. هناك ضوء يتسلل من مكان ما في بيت الرعب يسمح لك برؤية كل التماثيل السخيفة قبل أن تصل إليها .. المفترض أن يكون مظلما .. سيارتي المتصادمة هي الوحيدة التي لا تتجه نحو اليسار أبدا .... فأنا مجبر دائما على الانعطاف يمينا في دائرة مملة .. من سمى هذا المكان ملاهي ؟ .. ظللت أمشي في هذا المكان باحثا عن شيء ما لا أعرفه حتى وجدت استوقفني شخص غريب .

    رجل يرتدي ثياب المهرجين ويضع طربوشا على رأسه وهو يشعر أنه ظريف جدا.. طوال حياتي وأنا لا أحب المهرجين .. ولا أجد فيهم ما يستدعي الضحك .. بل إنني أشعر بالرعب في بعض الأحيان إذا تخيلت أن أحدهم ظهر لي في ليلة مظلمة .. كان الرجل يبتسم بلزوجة ناظرا إلي وهو يقول بلهجته المصرية :
    - إيه يا حبيبي .. زعلان ليه ؟ .. خد دي .

    وأعطاني بعض الحلوى .. نظرت إليها فعرفتها فورا – فقد كنا نحفظ جميع أنواع الحلوى ونحن صغار - .. كانت من النوع الذي لا أفضله .. شكرته واستدرت متأهبا للانصراف .. وهنا دوى صوت ما من مايكروفون ما في مكان ما يقول بلهجة تقريرية :
    - السادة الزوار .. إن عرض (حنكوشة ) سيبدأ بعد دقائق قيلة .. نرجو منكم التوجه إلى مسرح الملاهي الآن .. الدخول مجاني .. وستشاهدون فقرة الساحر مختار المثيرة من ضمن البرنامج .. نرجو منكم الإسراع لأن العرض على وشك أن يبدأ .. وشكرا لكم .

    رأيت المهرج يستدير متعجلا إلى مكان ما .. لقد كنت قد أنهيت ألعابي الثلاثة .. لكني أريد بقاء أطول وقت ممكن في هذه الملاهي الخربة لأنني لا أريد الذهاب إلى الشاليه – الفندق – الضيق الآن .. فلأحاول إقناع أبي بحضور هذا العرض .. بحثت عن أبي هنا وهناك .. وأخيرا وجدته يوبخ أخي الصغير على فعل ما من أفعاله الشقية التي يمارسها كهواية .. ذهبت له ... تحدث معي كثيرا على أنه مرهق ويريد النوم .. لكنني كنت مصرا كمستعمرة من الذباب .. لم يجد أمامه مع كل هذا الإلحاح إلا ان يوافق .. يوافق على دخولنا عرض حنكوشة ... ولا أدري كيف يخترعون هذه الأسماء ...

    المهرج يحاول قفز الحبل ويتعثر ويقع مرات عديدة متظاهرا بالبلاهة .. ثم يقرر أن يجد شيئا جديدا يفعله بالحبل فيفرده على الأرض ويمشي عليه فاردا ذراعيه متظاهرا بأنه يحاول التوازن ... إنه يظن أنه طريف .. الناس السخفاء يضحكون بشدة وكلهم من ذوي الشوارب .. كيف يضحكون على هذا السخيف ولايضحكون على توم وجيري ؟ .. لن نفهم الكبار أبدا .. جاء بعد المهرج عرض القرد – الذي دائما مايكون اسمه ميمون - .. كان هذا لطيفا نوعا ما .. ثم جاء نافخ النار .. وبعده المهرج السخيف مرة أخرى .. ثم دوى الميكروفون مرة أخرى ليذكرنا أن أهم عرض سنراه في حياتنا سيبدأ بعد لحظات .. عرض الساحر مختار ..

    وهنا دخل الساحر مختار .. شاب مصري أسمر كالذي تراه في كل مكان هنا في مصر .. يلبس بنطلونا و قميصا و لاشيء فيه يختلف عن ذلك الرجل الذي يجلس بجانبي .. كنت أعلم أن هذه الملاهي مملة .. هنا وقف مختار هذا في وسط المسرح تماما و تكلم .. وهنا بدأت أشعر أنه مختلف .. كان يتكلم بثقة وبطء ورزانة .. قال أن لديه عرضا لنا لن نصدقه أبدا .. لا هو من ألاعيب الحواة .. ولا هو خدعة .. ولا هو أي شيء آخر يخطر على بالنا .. صمت الجميع في ترقب بانتظار ما سيقدمه .. جاء بعض الرجال بطاولة قصيرة وضعوها في منتصف المسرح تماما .. ثم أتوا بشيء غريب جدا جدا .. سأحاول أن أصفه لكم الآن .. تبا كيف يوصف هذا الشيء ؟

    كان أشبه بقمع .. نعم قمع ذا عنق طويل ... وقاعدة عادية ... كان طول عنق القمع مثل طول ذراعك .. وقاعدته عادية كأي قمع آخر ... وضعوا هذا القمع على الطاولة ... وضعوه مقلوبا على قاعدته ... أي أن عنقه هو الذي بالأعلى .. وأحضر الرجال ستارا داكنا ليحجب الطاولة والقمع .. ثم دخل الساحر مختار وراء الستار ببطء.. كنت أفكر فيما قد يفعله هذا الساحر بذلك القمع الطويل .. أخذت أحاول أن أستنتج شيئا ما مرارا لكني فشلت .. ثم قررت الاستسلام والانتظار لأرى بنفسي .. وهنا أزاحوا الستار فجأة ورأينا كل شيء .. رباه .. لقد كانت لحظات مروعة ..

    كل شيء كان كما هو .. الطاولة وعليها القمع .. لكن كان هناك شيء آخر .. رأس ... رأس فتاة صغيرة تبرز من فتحة عنق القمع ..... حاولت الاقتراب بعنقي لأتأكد أنني لست واهما ولا معتوها .... يا إلهي .. إنها رأس فتاة .. الفتاة تنظر إلينا وتحرك رأسها .. رأسها الذي يبرز من فتحة القمع ... أين عنق هذه الفتاة بالضبط ؟ .. هل هو بداخل عنق القمع الرفيع الذي لايزيد قطره عن قطر قلمك الجاف ... ثم أين جسدها ؟.. .إن الطاولة أسفلها خالية تماما ولا يوجد شيء ما محجوب منها .... وهنا دعانا الساحر مختار لأغرب شيء يمكنك أن تسمعه من ساحر ... دعانا للاقتراب من رأس الفتاة والدوران حولها وتفحص الطاولة وماتحتها وحولها جيدا للتأكد أنه لا يخدعنا ...

    هنا ترددت قليلا .. هل أذهب لهذا الشيء ؟ .. رأيت العديد من الرجال والنساء يقومون من مقاعدهم متجهين لهذا الشيء ... رأيت أبي لازال جالسا بهدوء يحاول اختراق أجسادهم بعينيه ليرى رأس الفتاة ... وهنا قمت من مقعدي ... يجب أن أرى هذا الأمر عن قرب ... لقد ظننت أن هذه الملاهي مملة ... لكنني كنت مخطئا تماما ..

    كنت قصيرا في ذلك الوقت لذا اخترقت أجساد الرجال أمامي بسهولة محاولا الوصول إلى الطاولة ... لقد كانوا متزاحمين تصدر منهم همهمات الاستنكار والاستغراب والتساؤل والغضب والقسوة و الرعب ..... نعم همهمات فيها كل هذه المعاني ... لكنني لم أهتم .... ظللت أخترق الصفوف حتى وجدت نفسي امامها فجأة ..... أمام رأس الفتاة .

    كانت رأسا كالتي تراها تزين عنق أي فتاة في العاشرة من عمرها .. لكن هذه كان شعرها بني قصير وبشرتها قمحية فاتحة ... ملامحها جميلة وعينيها لم تكن تنظر إلى أحد من الجموع المحتشدة حولها ... لقد كانت عيناها تنظران إلى اللامكان ..... سارحة في دنيا أخرى ... أحيانا تحرك رأسها .... وأحيانا تغمض عينيها في تعاسة .. وعندما برزت امامها فجأة كالقدر أدارت رأسها .... ونظرت إلي ..

    إن كل الفتيات اللواتي يستخدمهن السحرة في ألعابهم السحرية على المسارح يكن واثقات جدا ومبتسمات جدا ... إلا هذه الفتاة ... نظرت إلي في تعاسة .. نظرت إلي في ألم ... كنت أعرف أن بالموضوع شيء غير طبيعي .. فلم أكلف نفسي باكتشاف أسفل المائدة أو القمع لأنني لن أجد شيئا ... إن ما أراه أمامي الآن هو نوع من السحر ... السحر الأسود ..

    أغمضت عيناها مرة أخرى ثم ازدردت لعابها ... ثم فتحت عيناها ونظرت إلي ثانية .... كنت أنا مندهشا جدا فلم أبد أي حركة إيجابية .... ظللت أنظر إليها كالغبي ... ثم شعرت بحركة ما خلفي ... عرفت أن الرجال بدؤوا ينصرفون مبسملين ومحوقلين ولاعنين هذه الألاعيب الشيطانية ... وهنا ألقيت نظرة متوترة أخرى إلى الفتاة التي كانت تنظر إلى اللامكان من جديد ثم استدرت عائدا ... رأيت أمي تمسك بالكاميرا وتصور ... رائع ... إن هذا المشهد يستحق التصوير وإبقائه عندي إلى الأبد ... عدت إلى مكاني ورأيتهم يحركون الستار مرة أخرى ليحجب الطاولة ..

    وعندما فتحوا الستار مرة أخرى لم يكن هناك أثر لرأس الفتاة ... كانت الطاولة .. وعليها القمع .. نظرت هنا وهناك فقد أجد رأس الفتاة يتجول بالجوار لكني لم أجده ... سمعت أبي يقول في ثقة أن مختار هذا ساحر .. وأنه استعان بالجن فيما فعل ... وأخذ يستعيذ بالله من السحرة وشرورهم ... لكنني لن أنسى تلك النظرة التي نظرت إلى الفتاة بها ما حييت .... نظرة استنجاد ... نظرة ألم لم تحاول إخفاءه .. لقد كانت مسكينة ... ولست ادري مالذي فعله بها ذلك الساحر اللعين وهي بعد في العاشرة من عمرها .

    غادرنا الملاهي وأنا شارد في كل ما حدث ..... كنت أريد أن أرى تلك الصورة التي صورتها أمي للمشهد ... لم أحتمل الانتظار ... أخذت الكاميرا وصورت باقي الصور حتى أنهيت الفيلم ..... ثم أخذت الكاميرا في اليوم التالي إلى الاستوديو .... قالوا لي أن علي استلامها غدا في نفس الموعد ... يالهم من كسالى .

    شعرت بالتعاسة الشديدة بعد ذلك .... فعندما استلمت الصور وجدت صورا عديدة لأخي يبتسم في بلاهة أو لنا مجموعين في صور عائلية .... بحثت عن تلك الصورة فلم أجدها مطلقا .... عرفت من عاملة الاستوديو أن هناك صورة واحدة احترقت للأسف خلال التحميض ...

    هل هو حظ سيء؟ ... هل هو سحر أسود ؟ ... هل هو جان ؟ ... لن أعرف أبدا .... لكنني موقن تماما أنني في يوم ما كنت على بعد سنتيمترات قليلة من فتاة مسحورة ... يالها من تجربة .. حقا يالها من تجربة ...

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكايتي مع الجن


    " لم أرهم بعيني . لكني لمستهم ، وشعرت بهم يلمسون جسدي . وأستطيع أن أقسم بالله على ذلك "



    بدأ كل شيء في عام 2000 . كنت أنا مراهقا ساذجا في ذلك الوقت . وذلك الشارب الأخضر السخيف فوق شفتي يثبت لي أنني لم أعد طفلا كالسابق . كنت في الصف الثاني الثانوي في مدرسة ما في المدينة المنورة . كان كل واحد من الشباب له هواية ما يحب ممارستها ، فالبعض كان يهوى كتابة رقم جواله في ورقة ويرميها عند قدمي أول فتاة منقبة – ككل الفتيات – في المدينة في ذلك الوقت . آخرون كانوا يجدون متعتهم في القفز من فوق سور المدرسة ليس للهروب بل لمجرد القفز ، فأراهم يفعلون ذلك خمس مرات في اليوم الدراسي .

    أما أنا فكانت لي هواية كريهة تختلف عن كل الشباب ، كنت أهوى كل ما يتعلق بالجان . قرأت كل كتاب رخيص نزل في الأسواق عنهم من طراز – الجن بين الحقيقة والخيال – أو – حوار مع جني مسلم – أو أي شيء من هذا القبيل . وقد اقتنيت سلسلة شرائط تسجيل مرعبة تدعى ( الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار ) . هذه الشرائط كانت مرعبة بحق . بعضها كان يتحدث عن السحر، وما هي الخطوات التي تتبعها لتصير ساحرا – كانت حجتهم الغريبة في هذا أن يتفادى المرء فعل هذه الأشياء – وبعض الشرائط كانت عن الجن ، تصف حياتهم وأشكالهم وقصصهم وأنهم موجودين في كل مكان . بعض الشرائط الأخرى كانت تتحدث عن العين والحسد وكيف أن العين الواحدة لها القدرة على هدم عمارة كاملة بما فيها ومن فيها .



    لقد قال أحد أطباء النفس ذات مرة أن المستغرق في مثل هذه الأمور معرض في النهاية للجنون أو الخبال العقلي وأنها خطرة جدا لأنها تشكل عنصر جذب للعديد من الحمقى أمثالي .

    ظللت أقرأ وأقرأ حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم ، عندما أغلقت على نفسي الغرفة وأصبحت أكلم نفسي - كعادتي – بصوت عال . تكلمت مع شخصي المتواضع في كل شيء وناقشنا أمورا خطيرة ، وبينما أنا أحدثني إذ أتيت على ذكر موضوع الجان هذا . وهنا أصبحت أتكلم موجها الكلام لهم – للجان – قلت لهم أنهم أضعف من أن يؤذوني لأنني أعرف كل الأذكار التي تمنعهم من حتى التفكير في مجرد فعل هذا . قلت لهم أن يظهروا لي الآن إذا كانوا حقا موجودين في هذه الدنيا . وظللت أنظر حولي كالأبله منتظرا أن يتفضل علي واحد منهم ويظهر لي نفسه . لكن شيئا من هذا لم يحصل طبعا . ظللت أواصل الحديث معهم ، ثم أخذت أضحك كالمعتوه ... وأضحك وأضحك .... هل جننت ؟ أنا أعرف نفسي جيدا . أنا لست من الطراز الذي يجن مهما قال أطباء النفس المتحذلقين . لكنني كنت مغرورا ... وكاد غروري هذا أن يقتلني رعبا في يوم ما .

    لم يحصل شيء في الأيام التالية . ولكني كنت أضبط نفسي خائفا عند دخولي الحمام بالذات . لأنني كنت أعرف أنه غرفة نومهم . ظللت على هذا الحال حتى جاء ذلك اليوم الذي خرج فيه كل أهلي لمكان ما وظللت وحدي في شقتنا الواسعة . لم يكن الوقت ليلا . فلسنا في فيلم رعب هنا . لقد كنا في وضح النهار كما يقولون . دخلت غرفتي وأغلقت الباب علي . تمددت على السرير وسرحت بعيدا في نقطة اللاشيء . لم أكن من الطراز الذي يستطيع النوم في النهار مهما بذلت في ذلك من جهد . لكنني في ذلك اليوم شعرت بوعيي ينسل مني داخلا بي إلى عالم الأحلام . جفناي يتثاقلان وينغلقان تدريجيا حتى يطبقان على بعضهما . لقد نمت ، لم أكن مرهقا ، بل لقد كنت نائما كفاية بالليلة الماضية . لكنني نمت لسبب غير مفهوم ...... إلا أنني عندما استيقظت فهمت كل شيء .

    لقد كانوا يقودونني إلى عالمهم ... عالم الأحلام حيث تفقد السيطرة على روحك .... إلى العالم الذي أصير فيه لعبة بين أيديهم يلهون بها كما يشاؤون ... إنها فرصتهم للانتقام مني – بسبب الحماقات التي كنت أثرثر بها بصوت عال - وهم لن يتركوها تفر منهم أبدا – الفرصة وليس الحماقات طبعا - لطالما كنت أحرص على قول الأذكار اليومية صباحا ومساء وقبل دخول أي مكان مريب كغرفتي أو كالحمام . أما هذه المرة فقد نسيت ، والأهم أنني نسيت أذكار النوم ..... أصبحت ملكهم تماما ... لم يكن أحد يمكن أن يوقظني حيث أنه لا أحد في الشقة . كان هذا يعني أنهم سينهون الاحتفال بي في الوقت الذي يحددونه بأنفسهم .

    فجأة استيقظت . لم أفتح عيني .... لكنني كنت قد استيقظت . لا أذكر شيئا مما حلمت به . بل إنني لم أحلم على الإطلاق . لكن مهلا .. أنا لا أتحرك ... أقسم أنني لا أتحرك . يداي وقدماي مثبتتان إلى السرير وكأن جبلا كبيرا يرقد على كل يد وكل قدم . لم أجرؤ على أن أفتح عيني .... كدت أموت رعبا . حاولت رفع يدي اليمنى بكل قوتي لكن عبثا ... وكذا اليسرى . حاولت تحريك قدمي أو أصابعي فلم أنجح . الجزء الوحيد الذي كنت أستطيع تحريكه هو رأسي .. لكنني كما قلت لم أجرؤ على فتح عيني . كنت أعرف أنني لابد سأرى وجوها مشوهة ذات عيون حمراء وقرون وابتسامات ساخرة تنظر إلي بتشف ... كنت خائفا جدا .

    ظللت خمس دقائق على هذا الحال ... فكرت أن أصرخ .. لكنني كنت أعرف أنه لا أحد في البيت ... لا صوت أواني في المطبخ يدل على أن أمي تطبخ شيئا ما ... أو حتى صوت Space Toon بأغانيها المملة والتي تدل أن أخي يشاهدها الآن .... كان واضحا أني لازلت وحدي في الشقة . ثم اهتديت أخيرا إلى الحل ...الأذكار .... فلأستخدم الجزء الوحيد الصالح للتحريك هنا وهو لساني .


    قرأت المعوذتين والإخلاص كل واحدة ثلاث مرات ... وبعد انتهائي من آخر كلمة (من الجنة والناس ) تحررت قيودي الأربع .... أخيرا . ولكن هل أفتح عيني الآن . أظن هذا .... فتحت عيني فلم أجد أي مسوخ ولا عيون حمراء ... فقط غرفتي المملة كما هي و صورة ( Jill Valantine ) على الجدار ترمقني باستفزاز . ما هذا الذي حصل لي ؟ لا بد أنني مقبل على مصيبة ... نعم لابد أنها مصيبة فعلا .


    هناك من الناس من يخاف من الرسوب . أو من يخاف من الفئران . وهناك من يخاف من عيون الناس .. وهناك من يخاف من الزومبي أو من دراكيولا .... لكنني أصبحت أخاف شيئا آخر .... أصبحت أخاف من النوم . لقد فهمت خطتهم ... ينسونني أذكاري وينوموني حتى ينفردون بي . لقد كانوا رحيمين بي في المرة الأولى فاكتفوا بتقييدي في فراشي ... لكن من يعرف ماالذي قد يفكر فيه هؤلاء .... إنك حتما يمكنك أن تتوقع تصرفات أستاذك أو أبوك أو صديقك أو ربما عدوك ... لكنك حتما لا تستطيع التنبؤ بما يفكر فيه جني .... خاصة إذا استفززته بغباء كما فعلت أنا .

    مرت الأيام التالية وأنا شديد الحذر ... أقول الأذكار كلها عشر مرات قبل النوم . ظللت هكذا حتى أتى اليوم الكريه الثاني . لابد من يوم ما ينسل إلي النوم بدون استئذان ... يوم أكون فيه مرهقا ، أو حزينا ، أو ربما أشاهد مباراة كرة قدم مملة ... وقد أتى اليوم الموعود . كنت أذاكر استعدادا للإختبارات النهائية . كنت غارقا حتى أذني في قوانين الطفو وأن مجموع القوى المحركة للمادة التي تغرق هي لابد مساوية لكتلة المادة المحترقة بفعل الكيروسين . ولكن ماذا تفعله هذه السمكة هنا ... ثم أن نيوتن يسبح بجانبها .... نعم إني أراه بوضوح و ......... هاااااااوم ....... لقد نمت .... ولعمري لقد كانت غلطة قاتلة .

    فجأة استيقظت .. كنت ممدا على الأريكة .... كالعادة لم تكن هناك أحلام .... لكنني مشلول .... مشلول كما حدث معي في السابق . هل أفتح عيني هذه المرة ؟ لا أحد يدري مالذي يمكن أن أراه إذا فعلت ... ربما أرى الشيطان ذاته ... لا أدري .. وهنا سمعت صوتا غريبا ... لا أدري كيف أصف هذا الصوت بالكلمات ... لم يكن يشبه أي صوت معروف آخر لكنه شيء ما يشبه ( فوووووووووووووووم ) ... نعم شيء كهذا .... هو يبدو بعيدا قليلا .... قلت لنفسي أنه لابد أن هناك أعمال حفر قد حدثت فجأة في الشارع وأن هذا صوت ماكينة ما من تلك الماكينات التي لاتنتهي ..... ولكن لا ... المشكلة أنني أسمع الشارع من مكاني ... ثمة شباب حمقى يتحدثون في أمر ما ... ويضحك أحدهم بصوت عال ..... لا ريب أن تلك الفتاة قد أخذت ورقته أخيرا ... ياله من محظوظ .

    مالذي يعرفه هذا الأحمق عن هذه الصوت المريع الذي أسمعه الآن .... لابد أنه سعيد الآن ..... لكنني كنت أعرف الحل ..... المعوذتين والإخلاص ..... قلتهم بسرعة ..... لم يحدث شيء ... لازلت مشلولا . كررتهم أربع مرات إضافية حتى شعرت بأنني تحررت ..... هنا فتحت عيني . التفت إلى النافذة ثم قمت وفتحتها ... لا أحد بالخارج ... لا ماكينات . ولا شباب حمقى ... يا إلهي هل كان هذا كله وهما . .... تبا لي ولما فعلته بنفسي .

    تكرر معي الموضوع في الشهور التالية كثيرا .... حتى نشأت بيننا نوع من الألفة .... فعندما أستيقظ وأجد نفسي مشلولا . أتأفف لاعنا في سري هؤلاء الجن الأشقياء .... لا وقت عندي لهذا الهراء .... أقول المعوذتين والإخلاص ثم يفك قيدي .... يالها من تجربة ممتعة .... أصبحت لا أخاف منها أبدا ..... حتى أتى ذلك اليوم الذي فتحت عيني فيه .... ويالهول مارأيت .

    استيقظت مرة في منتصف الليل شاعرا بالظمأ ... لا شيء أفضل من كوب من الماء البارد في هذا الوقت .... ولكن تبا إنني مشلول ... ياللسخافة سيكون علي الانتظار قليلا .... أخذت أقرأ المعوذتين وأقرأ ثم فتحت عيني فجأة ... كنت أريد أن أرى مالذي سيحصل لو فتحتهما ........ وهنا وأقسم بالله على هذا رأيت شيئا ما جاثما علي ، صدره على صدري ووجهه أمام وجهي مباشرة ... لن أصفه لك . .... لأنني لم أره جيدا لم أره سوى لثانية واحدة أو ثانيتين ... .....فقط كان كيانا له وجه وجسد وعينين بلون الدم .


    أغمضت عيني وصرخت بكل قوتي . تحررت قيودي مباشرة .... وهنا جريت كالمعتوه من الغرفة إلى الإفريز إلى الحمام الثاني بقرب غرفة والدي ، شعرت بواحد معتوه آخر يجري ورائي . كان هذا هو أخي الصغير ... لاريب أنني أفزعته بصرختي .... وجدت أبي مستيقظا يتوضأ في الحمام .... سألني أسئلة كثيرة لم أفهم منها شيئا .... أجبت عنها كلها بـ ( نعم نعم ) ( حسنا أنا آسف ) ( ربما ) ....لابد أنه ظن أنني مجنون .

    بعد هذا لم أستطع أن أنام في جميع الليالي التالية إلا والنور مضاء ... وكنت أتحمل نظرة أختي الساخرة لي وأنا أطلب منها أن تبقي النور مضاء ..... يالهذا الشارب الأخضر الذي يجعل الناس تنسى أنني لازلت ذلك الطفل السخيف ...... لكن هؤلاء الجان لم يكونوا قد انتهوا مني بعد .... كانوا يدخرون لي ما هو أفضل .

    فجأة استيقظت في أحد الأيام في منتصف الليل والنور مضاء ..... كنت مشلولا كالعادة .... إن هذا مرعب ... أغمضت عيني بكل قوتي وأخذت أقرأ المعوذتين بسرعة .... عشر مرات أو أكثر ولم يفك قيدي .... لابد أنها نهايتي الآن ... لقد نسيت أن أصلي العشاء قبل أن أنام .... فلأتلق عقابي إذن .... وهو عقاب مريع ..... أخذت أقرأ وأقرأ بلا جدوى . وفجأة انفجر المصباح بفرقعة سمعتها في أذني عالية جدا ...... كان مصباحا رخيصا ولا ريب أن تاريخ صلاحيته ينتهي الآن ..... ياله من مصباح يفتقر إلى التهذيب .... ألم يجد وقتا أفضل من هذا ( يفرقع ) فيه ؟


    فتحت عيني فور أن سمعت فرقعته كرد فعل بشري طبيعي ..... لم أر شيئا .... فك قيدي .... لكني عندما نظرت إلى الباب رأيت شيئا غريبا ..... رأيت أمي ..... كانت تلبس ثوبا أبيضا واسعا طويلا جدا ... رأيتها من ظهرها ..... أمعنت النظر ..... هذا الثوب ليس عند أمي أبدا ..... ياللهول .... ما هذا الذي أراه .... إن أمي تتلاشى .... كأنها الدخان . نعم .... تتلاشى ..... ظلت تتلاشى حتى امتزجت مع الهواء واختفت تماما . قمت من على سريري بحذر ومشيت إلى الحمام المجاور .... فتحت نور الحمام فسمعت فرقعة أقوى بكثير من الأولى ..... يالهذه المصابيح الرخيصة التي نشتريها دوما.. إنها ( تفرقع ) في أوقات غريبة ..... شعرت بالذعر .... بكيت ..... وهنا سمعت أذان الفجر .... فبكيت أكثر .... عرفت كم أنا مقصر ... وهؤلاء الجان يجيدون التسلية بأمثالي .... لابد أن أنزل الآن إلى المسجد وأصلي الفجر فيه وأدعو الله .... وأسأله أن يغفر لي ماكان مني من سهوات .... فهو الوحيد الذي يمكنه أن يطمئن قلبي ... ويحميني من هذه الكائنات التي تتسلى بي ..... توضأت .... ونزلت في الظلام إلى المسجد .

    وها أنا الآن قد كبرت ومرت حوالي عشرسنين على هذه الحوادث ولم تحدث لي حادثة ( الشلل ) هذه إلا بعض المرات التي تعد على إصبع اليد الواحدة ..... وأصبحت الآن زاهدا في كل ما يتعلق بالجن ..... وزاهدا في كل الكتب الرخيصة التي تتحدث عنهم .... فماذا يعرف هذا المؤلف أو ذاك عن الجن حتى يكتبوا عنهم .... أنا تعاملت معهم بنفسي .... والحقيقة أنهم أسوأ طبقة يمكنك التعامل معها ...... كانوا قساة جدا .... ولا يحتاجون سوى لقلب مؤمن مطمئن بالإيمان لمواجهتهم وإيقافهم عند حدهم .

    عرفت أن هذا الصديق الذي كان يشل حركتي إنما هو جني .. جني مشهور سماه العرب ( الجاثوم ) لأنه يجثم على صدر ضحيته من الإنس فيشلها شللا كاملا .. وسمته الحضارات القديمة Incubus .. بعض تلك الحضارات كانت تعتقد أنه لا يزور سوى النساء ولما كانوا يرسمونه عادة كنت ترى مخلوقا بشعا قصيرا جدا يجلس فوق صدر امرأة يبدو من ملامحها أنها تتعذب .. يمكنني فهم الرسمة و الشعور بعذابها لأنني شعرت به كثيرا .. و أوقن أن معظمكم شعر به هو الآخر .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية تحضير الأرواح



    " كثيرون حاولوا تحضيرها ونجحوا...... فلماذا سأفشل أنا ؟ "



    الاسم : كيكو جابات
    السن : 33 عاما
    الحالة الاجتماعية : ميت
    المكان : اسطنبول
    المهنة : جني
    الديانة : كافر
    ماعلاقتنا نحن بكل هذا : مجرد مقدمة سخيفة لابد منها



    كنا أربعة أطفال .... أنا ( 12 سنة ومخبول تماما وأدعى أحمد ) .. أختي ( 10 سنوات بريئة جدا وتدعى سارة ) .... ابن خالتي ( هشام 11 سنة ويبدو متحمسا ) ... ابنة خالتي ( تدعى نورهان 12 سنة ولا يمكن للكلمات أن تصف جمالها ) ... كنا في تركيا ... المكان الذي عشت فيه طفولتي الغريبة ، في اسطنبول تحديدا حيث تلتقي أوروبا وآسيا معا لقاء عاشقين متيمين .

    كنا شلة لا هم لها سوى اللعب من بداية اليوم وحتى نهايته . وعندما يأتي المساء ننام كأفراس النهر منتظرين يوما جديدا نلعب فيه ..... كل يوم هو مغامرة جديدة .... مرة نتسلل لحديقة تلك الفيلا لنسرق ثمار التوت اللذيذة .... ومرة نحاول الإمساك بهذا القط التعس الذي ألقاه حظه في طريقنا ..... مرة ننظم المقالب لسارة لنضحك قليلا ..... لكن اليوم كان أمامنا مغامرة أخرى ..... مغامرة مع كيكو .



    في ذات ليلة من ليالي اسطنبول الساحرة جلسنا نتحدث .... أحاديث مملة من أحاديث الأطفال التي لايمكن أبدا أن تنتهي حين قالت نورهان :
    - أنا سأذهب غدا للعب مع بتول ... هل ستأتي معي ياسارة ؟
    - طبعا سآتي
    قلت أنا :
    - ومن بتول هذه ؟
    - إنها صديقتي الجديدة .
    قال هشام مشمئزا :
    - لا أحب هذه الفتاة ..... إنها سمجة ولا تحب تاركان – وتاركان هذا هو مغني تركي شهير جدا –
    قالت نورهان :
    - بتول قالت أنها سترينا شيئا مرعبا جدا في بيتها .... قالت أننا سنحضر كيكو معا .
    - كيكو ؟؟؟
    - إنه قاتل مأجور كان يعيش في اسطنبول قديما .... يقولون أنه انتحر حزنا على أمه التي قتلها أحدهم .
    - ومامعنى أنكم ستحضرون كيكو ؟
    - سنحضر روحه ..... سنكلمه ونحاول أن نصادقه .
    قلت لها بسرعة :
    - أريد أن آتي معكما أنا وهشام .
    قال هشام مشمئزا ثانية :
    - لا أحب هذه الفتاة يا أحمد .... إنها كاذبة كبيرة ولاتحب تاركان .
    - أنا لا أهتم .... يجب أن أذهب معكما .... إذا أردت البقاء هنا فابق ... لكني سأذهب .

    وافقت نورهان ..... ووافق هشام أن يأتي معنا بعد أن خشي أن يبدو بمظهر الجبان الوحيد ..... وافق التعس أن يزور بتول .



    في الصباح التالي كنا نقف أمام فيلا بتول – التي كانت تعيش في فيلا فخمة جدا في منطقتنا - .... وقفنا نضغط الجرس عدة مرات حتى خرج لنا أخوها – كان اسمه علي – وكنت أعرفه ، لأنه هو فتوة المنطقة بأكملها بسبب عصبيته وضخامة جسده وقوته .... لم يبد سعيدا برويتنا إطلاقا – وعلي هذا لم أره في حياتي مبتسما أبدا –

    قال لنا بعنف :
    - ماذا تريدون ؟
    - بتول
    - ليست هنا
    قالت نورهان بتحدي :
    - أنت كاذب كبير
    - هل تجرؤين على إهانتي أيتها الضعيفة .... لن أحتاج لأكثر من ضربة واحدة حتى أزيلك تماما من تركيا بأكملها .
    قال هشام :
    - علي ... دعك من نورهان .... نعرف أن بتول هنا لأنها دعتنا بنفسها في التليفون الآن ..... فهلا ناديتها ؟

    عندئذ سمعنا صوتا أنثويا باردا كصخور الجرانيت ينبعث من سماعة ( الإنتركم ) قائلا :
    - نورهان .... هل أتيت ؟ ماذا يؤخرك ؟
    قالت نورهان :
    - إن علي يضايقني .
    تحول علي لفأر مذعور وقال :
    - لا تصدقيها يا بتول أنا لم أقترب منها .... إنها تكذب ....
    هنا تعجبت .... لماذا يخاف هذا المأفون من أخته هكذا ؟ المفترض أنه فتوة ..... هل هي أضخم منه ؟ ربما .... سنرى كل شيء بعد لحظات .....



    دخلنا إلى الفيلا الأنيقة ... لم نستطع منع أنفسنا من النظر والانبهار بحجم هذه الفيلا وفخامتها من الداخل .... كانت قصرا حقيقيا .... أخذنا نتطلع في كل ركن كالبلهاء حتى أتت لنا بتول ..... وهنا رأيتها لأول مرة ... لم أر في حياتي فتاة بمثل هذا الجمال ..... شعر ذهبي ناعم قصير نوعا ..... شفتان رفيعتان توحيان بالقسوة .... عينان خضراوتان لا تستطيع النظر فيهما مباشرة مهما حاولت ....... كنت مفتونا بها إلى حد لم أسمعها وهي تحييني وتسألني من أنا ..... لكنني أفقت فجأة قائلا :
    - آآآ أنا أخو ..... أقصد ابن خالة نورهان ....

    نظرت في عيني مباشرة وقالت :
    - هل أتيت لترى كيكو ؟ .....
    هنا حاولت التظاهر بالشجاعة وخرج صوتي ضعيفا مثيرا للشفقة :
    - لا أنا لا أخاف من أي شيء أبدا ..
    ضحكت كالأفعي ثم دعتنا لنصعد إلى الدور الثاني .......
    همس لي هشام :
    - مابك ؟ ..... إنها المرة الأولى التي أراك فيها مرتبكا هكذا ....
    - لست أدري .... هذه الفتاة ...
    - ماذا بها ..... أنا أراها عادية جدا
    - لا .... إنها أجمل من نورهان ..... هل رأيت في حياتك فتاة أجمل من نورهان .
    - أحمد .... اخرس إنها تنظر إلينا

    كانت بتول تنظر لنا بثبات ..... ونظرت في عيني طويلا ثم دعتنا للجلوس على مائدة سفرة جميلة .... واعتذرت أنها ستذهب لتحضر ( الأدوات ) اللازمة ..... ولم تنس أن تنظر إلي نظرة عجيبة قبل أن تستدير وتذهب لحالها .



    قالت سارة :
    - أين ذهبت ؟
    قالت نورهان :
    - لقد ذهبت لتحضر الشموع والسكاكين والتفاحة .... كل هذا ضروري في التجربة .
    سكاكين ؟ تفاحة ؟ ما هذا الغباء ؟ هل هذه هي الأدوات ؟ وإذا لم تكن هي الأدوات .... فهل سنأكل جميعا تفاحة واحدة ؟ بدأت أشعر بسخف الأمر كله .... لكن لم يكن بيدي سوى الانتظار ..

    جاءت بتول أخيرا وهي تحمل طبقا فاخرا عليه خمس سكاكين من نوع سكاكين الفنادق التي لاتصلح لتقطيع أي شيء ..... وكانت هناك تفاحة حمراء جميلة المنظر ..... كانت بتول تبتسم قائلة :
    - هل تأخرت عليكم ..... هل افتتقدتموني ؟ ....
    كانت ساحرة ..... كأنها التعريف المختصر لكلمة ( جمال ) – بفتح الجيم وليس بكسرها طبعا - ... جلست بتول بأناقة كما تفعل الأميرات ..... وبدأت تتكلم بصوتها البارد :
    - إذا كان أحدكم خائفا من الآن ... فيستحسن أن يذهب .... الفرصة أمامكم لأنه لن يستطيع أحدكم الهرب عندما يأتي كيكو .

    بدأ الأمر يتخذ نغمة مخيفة ...... كنت أعرف أن الأمر كله مجرد هراء ..... فأنا لا أصدق قصص الأشباح ولا كل هذه الحماقات ..... لكن بتول أكملت :
    - سنشعل هذه الشموع السبعة ونطفيء النور ونغلق الستائر السميكة والنوافذ حتى نمنع أي نسمة هواء .... سنضع التفاحة في منتصف الشموع .... وكل واحد منا سيضع سكينا من هذه السكاكين أمامه ..... ثم سأبدأ أنا بالتحضير في هذا الظلام على ضوء الشموع السبعة ...... غير مسموح لأي واحد بالنظر حوله أبدا .... سنركز أنظارنا على الشموع ..... إذا قبل كيكو حضوركم وارتاح لكم سيحضر فورا ... وستكون علامة هذا أن تنطفيء الشموع السبعة دفعة واحدة ....... ثم سيختار كيكو واحدا منا أو أكثر ليخرج خارج الغرفة ... لن يبقى هنا إلا من يعجب كيكو فقط ...... وسنعرف من هو المختار ليخرج بأن تتحرك السكينة التي أمامه وتذهب لتأخذ مكانها بجوار التفاحة هناك .... هل فهمتم ؟ ..... ممنوع الكلام نهائيا والالتفات كذلك .... وكل من يخالف هذا سيموت ميتة شنيعة ...... هل نبدأ ؟

    كانت بتول مخيفة ..... مرعبة .... لها صوت مخدر يجعلك لاتسأم من كلامها أبدا .... قامت بتول وأغلقت نوافذ الحجرة جيدا .... وأغلقت الستائر الحمراء السميكة جدا ...... ثم اتجهت إلى زر النور وأغلقته ..... هنا أصبحت الغرفة مظلمة كقلب كافر ..... رأيتها في الظلام تتحرك وتشعل عود ثقاب وتضيء أول شمعة ..... ثم استمرت في إضاءة الشموع حتى وصلت للشمعة الأخيرة ..... كانت تبتسم بتلذذ غريب ..... نظرت إلى سارة أختي على ضوء الشموع فرأيتها خائفة .... يالهذه المسكينة ... مالذي جاء بها معنا ؟ نورهان كذلك كانت قلقة .... نظرت لهشام فرأيته ينظر لي ..... ترى هل يفكر في مغادرة المكان ؟ ..... جلست بتول كأميرة من أميرات العصر السيليولوزي – هل هناك عصر ما بهذا الاسم ؟ – ورأيتها على ضوء الشموع ..... كانت قاسية .... شعرت بهذا .... لكني كنت أعرف أن كل هذا هراء في هراء ...... فلم أخف إلى هذا الحد .



    هنا أغمضت بتول عينيها الجميلتين وأخذت تتكلم بصوت هو للهمس أقرب .... كانت تكلم هذا الكيكو ... قالت له أشياء عديدة عن مجموعة الأطفال اللطفاء الذين أتوا إلى هنا بكامل إرادتهم ... وعن روحه الملولة المعذبة التي أتى لها من سيسليها أخيرا ... إذن فنحن هنا من أجل تسلية ذلك المغرور كيكو ..... نحن مضحكي الملك إذن ...... ثم بدأ كلام بتول يتحول إلى الألغاز .... قالت كلاما كثيرة بلغة غير مفهومة ....... ثم سكتت أخيرا وانتظرت ..... دقيقة كاملة من الصمت المطبق تلتها دقيقة أخرى من الصمت المرعب .... لا أستطيع الالتفات خوفا من غضب بتول – وليس كيكو - ..... لم يحدث شيء ..... ظهرت على شفتي ابتسامة انتصار متشف .... يبدو أن الأمر كله مزيف .... كنت أعلم أن الأمر كله سخافة فتاة قررت تمضية وقت فراغها بالتسلية على هؤلاء الحمقي الذين هبطوا عليها من السماء ..... ثم تكلمت بتول مرة أخرى ..... كان صوتها هذه المرة مختلفا ..... لم يكن همسا .... لقد اتخذ طابع الحدة ..... قالت أشياء كثيرة عن أننا مستعدون للحديث معه في أي شيء يريده ومستعدون لتنفيذ جميع طلباته إذا أتى ..... ثم بدأ صوتها يعلو احتجاجا عليه أنه لا يعيرها أدنى اهتمام .... ثم يعلو أكثر حتى تحول إلى صراخ هيستيري ..... قالت له عدة مرات :
    - كيكو ..... ألم تفهم بعد ..... إن هؤلاء الأطفال الذين أتيت لك بهم هم أنفسهم الذين قتلوا أمك ..... وهنا انطفأت الشموع السبعة دفعة واحدة وسمعنا صرخة .



    كانت صرخة نورهان ..... التي ما إن رأت الشموع تنطفيء حتى انفجر فتيل صبرها ...... وهنا قامت نورهان وسارة من مكانيهما .... وهربتا ... ورأيت هشام يقوم بسرعة .... فقمت أنا الآخر .... وولينا جميعا هاربين ........ تاركين بتول وحدها ...... جرينا وجرينا ...... نزلنا السلم إلى الدور الأول .... واتجهنا إلى الباب .... فتحناه .... وهربنا إلى الشارع ..... كنا نجري بأقصى سرعة .... كنت مرعوبا في الحقيقة ..... لست أدري كيف انطفأت تلك الشموع دفعة واحدة هكذا ..... لابد أن تلك الفتاة شيطانة ...... وأخيرا وصلنا إلى باب شقتنا .... ووقفنا أمامها نلهث ونسترد أنفاسنا.
    وقفنا أمام بابنا ننظر إلى بعضنا في صمت ..... وهنا تكلم هشام :
    - لماذا صرخت يا نورهان ؟
    - ألم تر مارأيت أيها الأحمق .... لقد انطفأت الشموع ...
    - إن كيكو يمكن أن يقتلنا الآن
    قلت مؤيدا كلامه :
    - لقد قالت له أننا نحن الذين قتلنا أمه ..... ثم هربنا نحن .... إذا كان حقا كيكو هذا حقيقي .... فسيعني هذا أننا نعيش اليوم آخر أيامنا ....

    صمت الجميع ولم يعلقوا على كلامي ..... لكني كنت خائفا جدا ...... مضى اليوم كله بدون مشاكل .... لكننا مضينا ليلة أسوأ من حظ بطوط .....

    وحين جاء اليوم التالي قالت لنا نورهان :
    - يجب أن نذهب لبتول مرة أخرى ونعتذر لها عما فعلناه .... لاريب أنها غاضبة جدا الآن ....
    وافقتها .... لكن هشام وسارة أبيا أن يأتيا معنا ..... وهكذا ذهبت أنا ونورهان ووقفنا أمام الفيلا الفخمة .... وضغطنا زر الجرس ..... في هذه المرة فتحت لنا بتول بنفسها ..... نظرت لنا بقسوة وقالت :
    - أين ذهبتم أمس ؟ .... لقد أغضبتم كيكو أيها الأغبياء عديمي النفع .
    قالت نورهان بغضب :
    - أنت هي الغبية يا بتول .... كيف تقولين له ماقلتيه وأنت تعلمين أننا ليس لنا دخل بأمه أو بسواها .....
    - كان يجب أن أجعله يحضربأي طريقة .....
    قلت لها :
    - وهل حضر أمس ؟......
    قالت بتول :
    - نعم .... ولم أستطع أن أفسر موقفي أمامه بعد هروبكم كالجبناء .....ظننت أنك رجل .... لكنك أنت وابن خالتك أثبتتم لي عكس ذلك ...ليس هناك فرق كبير بينكم وبين الفتيات .

    ياللإهانة .... هذه الفتاة تهينني ..... أنا لست رجلا ؟ غضبت واتجهت نحوها وضربتها على وجهها أعنف ضربة استطعت أن أخرجها ...... نظرت لي بغل ...... إنها تكرهني ..... عندها استدرت ومشيت خارج فناء الفيلا .... نادت علي نورهان ولحقتني .... ومشت معي خارجا ..... قالت لي بغضب :
    - هل أنت غبي ؟.... كيف تضرب صديقتي أيها الأحمق ....
    وأمسكت بملابسي وقالت :
    - من تظن نفسك ؟ أنت كما قالت هي عنك تماما .

    نظرت لها نظرة مخيفة ..... لا أستطيع ضرب نورهان ..... ولي أسبابي الخاصة ...... اعطيتها ظهري وانصرفت في صمت .

    عندما جلست مع هشام بعدها في نفس الليلة قال لي كلاما كثيرا عن علي – شقيق بتول – وكيف أنه قوي جدا .... وأنني حكمت على نفسي بالإعدام حينما ضربت أخته التي لم يجرؤ أحد قبلي على الاقتراب منها ..... إذن فقد أغضبت كيكو ..... وأغضبت علي .... وأغضبت بتول ..... يالي من تعس .

    الاسم : على أروتشي
    السن : 13 سنة
    الحالة الاجتماعية : طفل
    المكان : اسطنبول
    المهنة : فتوة
    الديانة : مسلم
    ماعلاقتنا نحن بكل هذا : أنني سيتحطم عنقي بعد قليل .

    في اليوم التالي كنت أركب دراجة هشام وألهو بها قليلا في سباق مع ولد لم أعرف اسمه إلى الآن ..... كان هناك فتيات كثيرات يلعبن بجانبنا .... وأولاد يجلسون في مكان قريب يتحدثون في أمر ما بحماسة ..... ثم رأيت بتول تأتي من بعيد ..... وخلفها علي ..... كانت تشير إلي قائلة له شيئا ما لابد أنه – حطم وجه هذا الفتى لأنه تجرأ وضربني .. إنه يتحداك ... فلتره من هو علي - ...... توقفت عن اللعب بالدراجة السخيفة التي أنفلت جنزيرها .... وأخذت أنظر لعلي وهو قادم إلي وعلى وجهه أعتى علامات الغضب والثورة ..... شيء ما جعلني أبقى في مكاني ولا أهرب ..... شيء ما لست أعرفه ..... وقفت كالأحمق حتى وصل إلي ......

    أمسكني من ملابسي ناظرا إلى عيني مباشرة وصرخ في وجهي :
    - كيف جرؤت على ضرب بتول أمس أيها الغبي ... ألم تعرف أنني أنا أخوها .؟
    هنا سكت جميع من في المكان .... الأولاد ينظرون لما يحدث وقد وجدوا ما يسليهم أخيرا .... الفتيات ينظرن لي في حسرة وهن يتوقعن ماذا سيحدث بعد لحظات لأنهن يعرفن من هو علي جيدا ..... وهنا انهالت على وجهي ضربة بكف علي القاسية ...... تبعتها واحدة أخرى ..... ثم أخرى وأخرى وأخرى ...... وقعت على الأرض وأنا أشفق على كرامتي أكثر مما أشفق على فكي الذي تحطم .... تركني علي وانصرف بدون كلمة أخرى ... نظرت حولي .. كلما تلتقي عيني بعين ولد أو فتاة يحول وجهه بعيدا عني ...... رأيت يدا ممدودة إلي ..... كان هذا هو الولد الذي كنت أسابقه بالدراجة – ماذا كان اسمه ؟ - .... أمسكت بيده وقمت .... وانصرفت من المكان بدون تعليق آخر.

    ونحن ياسادة في قصة رعب هنا ..... لذا اسمحوا لي أن أتجاوز هذا الموقف ..... وألا أحكي لكم كيف استرددت كرامتي ..... ولا كيف عادت صداقتنا مع بتول أقوى من السابق .... ولا كيف أصبح علي صديقي الشخصي حتى الآن .... لن أحكي لكم كل هذا لأنه لا يخدم قصتنا هنا ..... سأقفز لكم بالأحداث مباشرة إلى مابعد هذا بثلاث سنوات أخرى...... إلى كيكو .... كيكو الذي قتلنا أمه .... والذي قد تذكرنا أخيرا بعد مضي هذه السنين .

    كانت بتول الآن مختلفة عن السابق كثيرا ...... أصبحت تلعب معنا أكثر ..... ونسينا كل شيء عن أمر كيكو القاتل .... حتى ذكرتنا هي به ذات مرة قائلة :
    - هل تذكرون كيكو ؟
    قالت سارة :
    - كيكو من ؟
    قالت نورهان :
    - مالذي ذكرك به يا بتول ؟....
    قالت بتول :
    - لقد زارني أمس .... وهو يريد أن يراكم .... لقد أفهمته أنه لا علاقة لكم بالأمر أبدا ..

    أخذنا نتناقش بحرارة بين معارض وموافق ... وكنت أنا أول الموافقين لأني كنت فضوليا ..... كنت أريد أن أرى جنيا ..... ولو لمرة واحدة في حياتي ..... لقد بدأ عندي الإدمان على الجن وحكاياتهم – الذي قرأتم أنني أعاني منه في قصتي الأولى - لذا وافقت على الفور .... وجعلت الجميع يوافق معي على إعادة التجربة الرهيبة .

    والآن وفي الليلة التالية هانحن جلوس على نفس المائدة الجميلة في فيلا بتول .... نطالع نفس الشموع ..... ونضع أمامنا نفس السكاكين ..... نظرت إلى وجه بتول الذي صار أجمل بكثير من السابق ..... فوجدتها قد أغمضت عينيها وأخذت تثرثر كثيرا عن هؤلاء الأطفال الذين جاؤوا ليعتذروا لكيكو العظيم عما فعلوه من قبل .... وعن أنها لا تدري من قتل أمه ... لكنه ليس من هؤلاء الحمقى بالتأكيد ....... و ....... سمعنا فرقعة من مكان ما ...... وانطفأت الشموع السبعة مرة واحدة .

    ارتجفت ...... أمسك هشام بملابسي مرتجفا ..... نورهان كانت تكتم صرخة... وأختي أغمضت عينيها حتى لاترى شيئا ...... نظرت نحو بتول فوجدتها تردد كلاما لا نهاية له بلغة غريبة ...... ثم تحركت إحدى السكاكين التي على المائدة فجأة ..... نعم أقولها بكل قواي العقلية .... تحركت سكينة من مكانها .... وارتفعت في الهواء ببطء مستفز ثم استقرت بجوار التفاحة .... كانت هذه هي سكينة بتول ...... وكان هذا يعني أن بتول هي المختارة لتغادر الغرفة ....... نظرت لها فوجدتها تتهيأ للانصراف ..... قالت لها نورهان برعب :
    - أين تذهبين ؟ لن تتركينا هنا أرجوك .

    سمعت صوت بكاء ..... كانت هي أختي التي لم تحتمل كل هذا ...... قالت لنا بتول ألا نخاف لأن كيكو لن يؤذينا وأن علينا أن نكون شجعانا .... لأننا إذا هربنا هذه المرة ... فإنه سيقتلنا واحدا واحدا بلا رحمة ..... قالت هذا واستدارت مغادرة الغرفة ..... فتحت الباب وأغلقته بقوة .... تاركة إيانا مرتعبين نمسك ببعضنا من الخوف ..... ترى ماذا يمكن أن يحدث الآن ؟ ..... فجأة سمعنا صوتا من مكان ما على المائدة .... مثل الصوت الذي تسمعه عند الضغط على عبوة مبيد الحشرات ...... ورأينا دخانا أبيض يخرج بقوة من كوب موضوع على المائدة ...... لم نحتمل أكثر من هذا ..... جرينا بأقصى سرعتنا نحو الباب.... حاولنا فتحه .... لكنه كان مغلقا بالمفتاح من الخارج...... صرخت نورهان برعب مما زاد الأمر سوءا ثم بكت هي وسارة .... أما هشام فلم يتكلم مطلقا .... انعقد لسانه بداخل حلقه تماما ...... وكنت أنا أرتجف كورقة ..... لقد حبسنا هاهنا .... وهي نهايتنا بالتأكيد ...... إن كيكو أخرج بتول من الغرفة ليستفرد بنا وينتقم لأمه .

    فجأة انفتحت الأنوار بقوة أغشت أعيننا وسمعنا ضحكة أنثوية ..... وضحكة أخرى كضحكة خنزير بري ..... تأتيان من مكان ما بالغرفة .. نظرنا فرأينا بتول وأخوها علي يضحكان علينا بقسوة وقد دخلا من باب خلفي في نفس الغرفة.

    إذن فالأمر كله مجرد خدعة سخيفة منها .....
    غضبت نورهان وقالت :
    - أيتها الحمقاء .... هل تجدين في هذا نوعا من التسلية ..... لقد كدت أن تقتلينا رعبا ..
    قالت بتول متشفية :
    - هذا هو الهدف .... أن تموتوا رعبا .... وأنتم لستم أول من أفعل به هذا يا أعزائي .
    قلت لها :
    - وهل هذا المعتوه الذي بجانبك مشترك معك أيضا ؟
    قال علي :
    - بالطبع ..... أنا أساسي في الأمر منذ البداية أيها الأحمق .
    قال هشام :
    - لكن الشموع والدخان ...... والسكينة ..... كيف ....
    قاطعته بتول قائلة :
    - هل تعرف متجر ( روزا بازاري ) في نهاية هذا الشارع ؟ ..... إنه يبيع العديد من المقالب التي اشتريتها كلها ..... هذه الشموع هي أحد هذه المقالب ..... وهي تنطفئ كلها معا في فرقعة كالتي سمعتموها ...... وهذا الدخان هو من كرة بسيطة مختبئة بداخل ذلك الكوب هناك ...... أما السكينة .... فقد ربطتها بخيط يمسك علي بنهايته ويختبيء في الغرفة منتظرا اللحظة المناسبة التي يحركه فيها ..... ولم تروا هذا الخيط في الظلام طبعا لأنه خيط أسود ..... ثم أخذت تضحك هي وعلي .... يضحكان باستمتاع حقيقي علينا نحن البلهاء الذين صدقنا كل هذا .

    لئيمة هي بتول ..... وقاسية ..... تعشق الرعب والمقالب ..... و نحن كلما نتذكر هذه القصة الآن نضحك على أنفسنا كثيرا ...... وهذه هي النهاية أخيرا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية الباليرنا

    "من ذا الذي قال أن البحر جميل ... إن البحر كالسفر قطعة أخرى من العذاب "

    قال لي هشام بنظرة خائفة :
    - هل تظن أننا سنموت هاهنا ؟
    قلت له وقد بدأت أكره هذا الذعر :
    - لا أدري .. فقط تمسك جيدا لأنك إذا وقعت فلا تظن أنني سوبر مان الذي سيقفز وسط كل هذا لينقذك ..
    قال بغيظ من وراء أسنانه :
    - وأنت تأكد أنك إذا وقعت فسأقطع يدك إذا مددتها لتتعلق..
    قلت له بنفاذ صبر :
    - اسمع .. ليس من مصلحتنا أن نتشاجر الآن .. لا بد أن نفكر في شيء ما للخلاص من هذا الموقف ..
    - أحمد ...
    - ماذا تريد ؟
    - أحمد
    - ماذا تريد أيها الغبي ؟
    - أحمد انظر وراءك أيها المعتوه
    لكن القدر لم يمهلني لحظة أخرى لأفعل .... لقد انتهى كل شيء فجأة ..

    مهلا .. إن البداية صادمة تماما .... من هذين الإثنين ؟ ... وماذا يفعلون هنا ؟ ... ثم ماهذا الظلام الحالك الذي يحيط بهما حتى نكاد نراهما بصعوبة ؟ ... وحتى نعرف إجابة على أسئلتنا هذه علينا أن نعود بالزمن يوما واحدا ... نعود إلى الإسكندرية ...


    نحن في عام 1998 ... في مدينة الإسكندرية المصرية .... أجمل مدن مصر على الإطلاق بإجماع المصريين أنفسهم ..دعكم من الأهرامات وشمسها الحارقة ... القاهرة وزحامها الخانق ... نحن نتحدث هنا عن الإسكندرية ... ونحن أيضا في عام كأس العالم الذي أقيم في فرنسا .... إنها المباراة النهائية ستقام اليوم ... احتشد الناس في ( القهاوي ) المنتشرة في كل شارع ... والتي يبدو أنها ستكسب اليوم أكثر مما كان يحلم أصحابها طوال حياتهم ...إن البرازيل صعدت بقوة كعادتها ... وفرنسا كذلك ... البرازيل لها جمهور عريض ... وفرنسا لها أيضا معجبيها .... هناك رونالدو ... وهناك زيدان .... ونحن كنا وسط كل هذا ...


    لن أعرفك بنا لأن هذا صار مملا .... أنت تعرفني وتعرف ابن خالتي هشام من قراءتك للقصص السابقة – إذا كنت قرأتها - ... وإذا لم تكن قرأتها فيكفيك أن تعرف أنني أدعى أحمد وهذا الشاب بجواري هو ابن خالتي هشام ... كنت في ذلك الوقت في الرابعة عشر من عمري وهو في الثالثة عشر .... صديقان عزيزان أكثر منا أقرباء ... كنا نحتشد مع الجموع لمشاهدة المباراة النهائية المنتظرة .... الشوط الأول ينتهي لصالح فرنسا بمفاجأة ... الصيحات تهز الشوارع وأظن أنها كانت تصل لفرنسا نفسها .... لامجال اليوم للسيارات أن تذهب لأي مكان ... الناس أصبحوا في كل مكان .... في الواقع لم أجد شيئا في العالم يمكنه أن يفعل هذا بالناس سوى كرة القدم ... أنت ترى العجوز الذي سيموت بعد قليل يشجع بحماس بابتسامة خالية من الأسنان .... وترى الصبية الصغار يلعنون ذلك القانون الذي حكم بأن يكون الكبار طوالا هكذا كالعواميد ... فهم لايرون أي شيء تقريبا .... كان يوما حافلا بالهتافات .... وكما تعلمون جميعا .... فازت فرنسا بجدارة بثلاثة مقابل صفر ...


    في اليوم التالي ذهبنا للشاطيء وحدنا .... كنا قد هربنا من أبي بصعوبة ... فلو رآنا أبي لأخذ يذكرنا أننا نحن الكبار الذين يجب أن نأخذ الصغار معنا إلى البحر ... هذا ممل جدا كما تعلمون .... إن الصغار في البحر يقتلونك مللا ... يجبرونك ألا تذهب وحدك لتتمتع بالجزء العميق من البحر خوفا عليهم أن تبتلعهم موجة ما وهم على الشاطيء ... يجبرونك في إصرار أن تشاهد كل تلك القلاع السخيفة التي يصنعونها بالرمال ..... لذا فقد هربنا هذا اليوم لنتمتع بالبحر وحدنا تماما ....


    دعوني أنقل لكم الكاميرا إلى هذا المنظر لأدخلكم في جو المصايف المصرية قليلا ... رمال واسعة .... تنتهي ببحر يبدو هادئا نوعا ما هذا اليوم ... الشمسيات اصطفت في ثلاث صفوف لاترى أبدا أين تبدأ وأين تنتهي ... هناك العديد من الباعة المتجولين الذين يمشون على الشاطيء لعرض بضاعتهم مصدرين تلك الأصوات الغريبة التي لاتدري كيف تدربوا عليها .... لكنها تقوم بالمطلوب منها تماما ... وهو لفت الأنظار .... أصوات الموج مختلطة بأصوات صرخات الصبية الذين يقفون في مواجهة الموج شاعرين بأنهم أبطال يتصدون لأعتى قوى الطبيعة .... إنه البحر ....هل اتضحت الصورة الآن ..... بإمكاننا الآن إذن أن نبدأ قصتنا ....


    ابحث معي عن شاب أسمر يشمر بنطاله ويضع قلما وراء أذنه كالنجارين ... فسيكون هو مؤجر الشمسيات الذي نحتاجه .... هاهو هناك ..... كان الكرسي الواحد بجنيهان ... والشمسية بخمسة جنيهات .... كان هذا كفيلا بتحطيم مدخراتنا لهذا اليوم لكننا كنا قد حسبنا حساب كل شيء .....


    كانت في ذهننا خطة جميلة هربنا من أجلها اليوم من الصغار ... كنا نريد أن نؤجر ( باليرينا ) وهذه الكلمة تركية وترجمتها في مصر ( بدال ) ... اعذرونا فنحن قضينا طفولتنا كلها في تركيا .... هذا البدال هو قارب يحوي أربعة كراسي .. اثنين أماميين يلتصقان ظهرا لظهر باثنين خلفيين ... وهناك بدال في مواجهة كل كرسي من الكرسيين الأماميين .... بتحريك هذا البدال – الذي يشبه بدال الدراجة قليلا – يتحرك القارب في البحر ... وهناك عصا توجيه في منتصف القارب بين الكرسيين الأماميين لتوجيه القارب يمينا وشمالا .... سنسمي هذا القارب من الآن فصاعدا باسمه الذي يعرف به في مصر .... البدال ..


    ها نحن نمشي على الشاطيء ... وليس هناك أمتع من المشي على الشاطيء ... المياه الباردة تداعب قدميك الحافيتين ... تأتي وتروح عليها في كل موجة ... ملمس الرمال المبللة رائع جدا ... قال لي هشام في شرود :

    - هل رأيت كيف كانت تنظر لي إيمان أمس ؟ ...
    قلت له في شرود أنا الآخر :
    - هه ؟
    قال بغيظ :
    - أقول لك هل رأيت كيف كانت نظرات إيمان لي أمس ؟ .. أراهن أن هذه الفتاة تحبني ...
    قلت له :
    - ألازلت مهتما بهذه الفتاة ... اصرف نظرك عنها تماما يا عزيزي فهي أكبر منك بسنتين ...
    - لكن السيدة عائشة ...
    - أعرف أعرف ... أكبر من النبي هذه معلومة قديمة ولاتظن أنني لا أعرفها حتى الآن .... لكنك شيء والنبي شيء آخر تماما كما لابد أنك تعلم ...
    - أنت مغرور يا أحمد ... بل أنت تغار ... نعم تغار لأنك لم تحب حتى الآن ... ولو استمررت على هذا المنوال فلن تحب أبدا في حياتك ...
    قلت له منهييا هذه المناقشة التي أصبحت تتكرر كل يوم :
    - هاهو هدفنا ..... انظر ..

    رأينا شابا أسمر البشرة – وكل الناس هنا سمر البشرة بفعل الشمس – يتكيء على بدال أحمر يتصدر مجموعة من البدالات الأخرى المختلفة الألوان..... إنه الرجل الذي نحتاجه ... إنه مؤجر البدالات ... ترى ماذا نختار ... الأحمر ينذر بالخطر .. إنني أرى الأزرق أفضل وأهدأ بكثير ... الأصفر يشعرك بالمرض ...

    قال هشام :
    - أظن أننا سنختار الأسود
    - نعم فهو أجملهم .... يبدو أنيقا كالأشباح ..
    - وهل الأشباح أنيقة ؟
    - ليست أنيقة لكن لونها هو الأنيق ..
    - فليكن .. إننا نادرا مانتفق على شيء ... سنختار الأسود ...
    الساعة بعشرة جنيهات .... ياللسفاحين .... إذن سنؤجر ساعتين ... نريد أن نتجول في البحر بحرية ولا تجبرنا صافرة ما على الرجوع ... لا يجبرنا على الرجوع شيء سوى أن نمل كل هذا ... أو ألا نجد موضوعا آخر نثرثر فيه ....

    هاهوالرجل يدفع بالبدال الأسود في البحر ... وهانحن قد جلسنا على الكرسيين الأماميين ... إنه يبعد الناس عن طريقنا بصافرته .... الكثير من نظرات الناس التي لاتدري هل هي حاقدة أم حانقة على ذلك الشيء الأسود الذي يضطرهم للابتعاد عنه ... والآن فلأبدل بكل قوتي ..... إن هشام يبدل بكل قوته هو الآخر .... لن يهزمني .... لن أكون أول من يتعب هنا .... أبدل بقوة أكبر وأكبر ... إنه يزيد من سرعته ... إنه عنيد إذن .. لكن ليس معي .... البدال تحت قدمي يدور بسرعة هائلة ... لو انحشرت قدمي فيه لتهشمت عظامها تماما ... لكنني لست مبتدئا .... وهشام كذلك ... إن لنا باعا طويلا في تأجير ( الباليرينا ) في تركيا ... وهي هناك أفضل بكثير مما لديهم هنا ....


    إن الشاطيء أصبح بعيدا نوعا ما ..... ها أنا أبدل أكثر ...... وأكثر وأكثر ..... تبا لقد بدأت أتعب نوعا ما .... لكنني لن أهدأ .... لكن الإنسان له حدود ...
    - هشام ... هذا يكفي الآن ... إنني أرى الشاطيء بصعوبة ..
    - هل تعبت ؟
    - نعم تعبت وأنت كذلك فلا تكابر ولنتوقف هنا قليلا ...
    وهكذا توقفنا ........ البدال يدور كالمجنون تحت قدمي ... وقفت على الكرسي ونظرت إلى الشاطيء ... لقد ابتعدنا كثيرا حقا .... كانت انطلاقة موفقة جدا .... هذا أفضل ... جلست مرة أخرى وأخذت أبدل بهدوء مع هشام .....

    - أحمد ..
    - همممم
    - هل كلمتك إيمان عني يوما ؟
    - لا لم تفعل ...
    - لا تكن سخيفا ... لابد أنها قالت لك شيئا ما ... أي عبارة ما وسط الكلام ....
    - إنها ثرثارة بشكل مرعب لذا أسرح في وسط كلامها في ألف شيء ... ولا أدري في نهايته فيم كانت تتحدث ..
    - كيف لك أن تتجاهل هذا الملاك وهو يتحدث ؟
    - إن تركيا مليئة بالجميلات ... وهن أجمل من إيمان هذه بكثير ..
    - أنت أحمق كعامة الناس ... هل تظن أن الرجل لا يحب المرأة لايحبها إلا لجمالها ...إذن لكان كل الناس أحبوا مارلين مونرو أو جينيفر أنيستون ..
    - إذن لماذا يحب الناس ناسا آخرين مثلهم ؟
    - أنت لن تفهم .... أنت تحب شخصا ما لأنه هو هو ... وليس شخصا آخر ..
    - هه ؟
    - أعني أنك تحب الشخص بعيوبه كلها ومزاياه .. فإذا اختفى عيب من عيوبه فسيضايقك هذا ... لأنك أحببته لأنه هو ..
    - هشام ... يبدو أن الحديث سيتخذ مسارا مملا .... فلتحب إيمان أو تحب غيرها و أتمنى لك التوفيق ..

    أحاديث طويلة ومجادلات عقيمة بيننا في كل شيء ... أتينا على سيرة كل شيء .... حتى موزنبيق أظن أننا ذكرناها .... إن مزية البحر الوحيدة هو أنه يعطبك إحساسا بأنه يجب أن تثرثر في شيء ما مع الشخص الذي يمشي بجوارك ... فإن كنت تمشي وحدك فلتثرثر مع نفسك ..... لكن مهلا .... هناك شيء ما ...
    - هشام ... ألم تلاحظ أن الشاطيء قد اختفى تماما ؟
    وقف هشام وتطاول بأقصى مايمكنه محاولا أن يرى شيئا ما يصلح أن يكون الشاطيء .... لكنه فشل ....
    - نحن قد توغلنا كثيرا يا عزيزي .... إني لا أستطيع أن أحدد اتجاه الشاطيء أساسا فضلا عن رؤيته ....

    هذا مقلب ساخن ..... أرى جبلا ما يبدو من بعيد ..... لكن هل هو الشاطيء ؟ ... هل كان المكان الذي نقطن فيه يحوي جبلا كهذا ؟ ..... لا أرى أي أرض .... ترى هل نتجه إلى الخلف ؟ ... أم أننا أساسا الآن متجهين إلى الخلف .... أين اتجاه الأمام ؟ .... هل هذا اليمين ؟ ... وقفنا كالمعتوهين نحاول تحديد مكان شيء ما لكننا فشلنا .... كان هناك جزيرة ما صغيرة جدا لايتعدى حجمها حجم غرفة نومك ... إنها تبدو قريبة نوعا ما ....

    - أحمد .. هل نتجه لهذه الجزيرة ؟ ....
    - لا أدري .... فعلا لا أدري أين ذلك الشاطيء اللعين .
    - لا بأس سنتجه للجزيرة ... ربما رأينا شيئا ما من فوق هذه الصخور ....
    - فليكن
    اتجهنا إلى الجزيرة .... وبعد عشر دقائق كاملة وصلنا إليها .... على أحدنا أن يظل هنا في القارب بينما يصعد الآخر على هذه الصخور محاولا أن يرى شيئا قد يدلنا على الشاطيء ....
    بقيت أنا في القارب وذهب هشام إلى الجزيرة ... هاهو يصعد الصخور .... لقد اختار صخرة مناسبة ووقف عليها وضيق عينيه محاولا أن يزيد من حدة الرؤية .... نظرت إلى تعابير وجهه محاولا استخلاص أي شيء يراه .... ولما فشلت سألته ..
    - هل وجدت شيئا ما ؟ ...
    - لا أرى أي شيء من هنا ....
    أخذ ينظر حوله في كل الاتجاهات .....
    - كم نظرك ياهشام ؟
    - سته على سته ... وأشك أنه سبعة أحيانا ...
    - ياللغرور ... حاول أن ترى قاعدة ذلك الجبل هناك إذن .....
    - ليست ظاهرة من هنا ...
    - إذن تعال إلى البدال قبل أن أمل من هذا كله وأتركك هنا ...

    نظرت إلى السماء .... إن الشمس ليست موجودة أيضا ..... أنت لا تجد شيئا تحتاجه أبدا ... حتى الشمس .... كيف أحدد الاتجاه إذن ؟ .... إن هذا مستحيل حقا .... هل ننتظر الليل لنحاول تحديد الاتجاه بمساعدة النجوم ... أنا أعرف كيف يتم هذا .... لكن لا ... لن ننتظر هنا إلى الليل .... مهلا .... أين يتجه الموج ؟ ... إنه معدوم هنا تقريبا .... شيء محبط ... إن أمامنا حل واحد .... أن نختار اتجاها ما ونمضي فيه على أمل أن يكون هو اتجاه الشاطيء ....

    - ترى أي اتجاه نختار يا أحمد ؟ ...
    - هذا سؤال سخيف .... كل الاتجاهات تبدو متماثلة ....
    - هل نعود إلى الوراء إذن ؟
    - ربما .... لكن ما أدراك أننا لسنا الآن متجهين إلى الشاطيء حقا ....
    - ما احتمالات أن يصيب الاتجاه الذي سنختاره ..
    - خمسة وعشرين في المئة ..... وخمسة وسبعين في المئة سيخطيء ...
    - أظن أننا لن نبقى هنا طوال حياتنا ..... سنعود إلى الوراء ....
    - حسنا .... كم الساعة الآن ؟ ....
    - الخامسة والنصف بعد العصر ...
    - ماذا إذا حل علينا الليل هاهنا يا هشام ؟
    - لا ترعبني أرجوك .... فلنحاول ما بوسعنا ...

    وهكذا أدرنا دفة القارب الأسود لنتجه إلى الوراء ...... وأخذنا نبدل في شرود .... وفي كل دقيقة ننظر حولنا ... علنا نرى شيئا ما يدل على الطريق ...... إنه موقف لن تشعروا بخطورته إلا لو كنتم مكاننا .... تبا للثرثرة وما تؤدي إليه .... تبا لإيمان وسيرتها ....

    - أحمد لن تصدق ما سأقوله لك الآن .... هل تعرف فيم أفكر الآن ؟
    - فيم تفكر ؟
    - في إيمان ...
    شعرت بأنني مقبل على ارتكاب جريمة ما وأنا أقول له :
    - لو أتيت على ذكرها ثانية لن ترى هذا القارب الأنيق ثانية ...
    - إيمان ...
    - اخرس
    - إيمان .... إيمان .... إيمان .... إيمان .....
    - أيها السخيف اصمت ...
    - إيمان
    وهنا قمت من مكاني ودفعته دفعة خفيفة لكنه تمسك بالكرسي ضاحكا .... قلت له ...
    - لو رميتك الآن فسأرتاح كثيرا ..... ولن يشعر أحد بجريمتي ... ستكون جريمة كاملة ...
    - حسنا حسنا .... اهدأ ..

    أنظر إلى الساعة ... السادسة والنصف .... إن المغرب قد حل وقد اقترب المساء كثيرا ..... ترى كيف سيبدو البحر في الليل ..... يالحماقة التي وضعنا أنفسنا فيها ..... لابد أن كل شياطين العالم تمرح هنا عندما يحل الليل .... هل هناك أسماك قرش ؟ .... يبدو أنني أفرط في مشاهدة الأفلام الأجنبية هذه الأيام .... أنا متأكد أن الليل سيحل علينا هنا ..... لكن هل سنقضي ليلتنا على القارب ؟ ....

    إن النور بدأ يخفت .... المساء بدأ يتكلم .... أين تلك الشمس ؟ .... ظللنا صامتين كالقبور لا نتحدث لمدة نصف ساعة أخرى ..... سرحت في شيء ما لا أذكره ...... وأنا أنظر إبى مياه البحر الرتيبة ..... وفجأة عندما أفقت وجدت المياه أصبحت سوداء مظلمة ..... إن الظلام قد حل أخيرا ..... كففت عن التبديل .... لابد أننا قد اخترنا الاتجاه الخطأ إذن ...... كنت أعرف هذا .... إن حظي لم يخدمني مرة في شيء أحتاجه منه .... كانت أمامنا ليلة طويلة .... لكنها كانت ليلة رهيبة ..... حقا كانت ليلة سوداء رهيبة .....

    الظلام الشديد السواد ... لا نسمع حتى صوت ذبابة .... أكاد أرى هشام بصعوبة ..... هل هذا الكيان الأسود المذعور هو هشام أم تراني قد أصبحت وحدي تماما ؟ ... لكن هناك شيء مسل في هذا كله .... الأمواج ..... أصبحت تقذفنا هنا وهناك بهدوء وكأننا فوق أرجوحة عملاقة ....

    - أحمد .. أمازلت هنا ؟
    - وأين يمكنني أن أذهب أيها الذكي ؟
    - هل تسمع هذه الأصوات ؟
    - هل تقصد الأمواج ؟
    - لا ... أصغ السمع .... هناك صوت آخر .

    إن هذا الأبله يخيفني .... أعرف هذا .... لكنه يبدو مذعورا حقا ..... فلأصغ السمع ... ربما سمعت شيئا ما .... مهلا ... هناك صوت ما .... ترى كيف يمكن أن توصف الأصوات بالكلمات ..... إنني أعجز عن وصفه ... لكنه صوت غير طبيعي وسط كل هذا السواد .... لن أحاول التظاهر بالشجاعة .... أنا خائف جدا هذه المرة ..... خائف لأنني وحيد .... وإذا مت هنا لأي سبب فلن يشعر بي أحد .... يقولون أن من يموت غرقا يكون شهيدا ... هل هذا صحيح ؟ .. لا أذكر أين سمعت هذه المقولة .... لكن هذا الصوت ..... إن اثنين يسمعان نفس الصوت يعني أنه ليس خيالا ....

    والآن فلأمارس هواياتي ..... إنها النجوم ..... هذا هو النجم القطبي .... أراه من هنا بوضوح شديد .... القمر عبارة عن خيط ملتو كان هلالا منذ أيام ..... هذا يزيد من الظلام .... حسنا ... عرفت الآن اتجاه الشمال ..... كيف أحدد اتجاه الشاطيء إذن ؟ .... شمال الإسكندرية يعني تركيا .... هذا لا يفيد بشيء ..... لكن مهلا .... أين اتجاه القبلة .... المفترض أن تكون في الجنوب الشرقي لنا ..... وقفت واتجهت ناحية الجنوب الشرقي ..... إذن فهذا هو اتجاه القبلة ..... نحن كنا نصلي على الشاطيء في هذا الاتجاه .... في الواقع لو مشينا ناحية الجنوب أو الجنوب الشرقي سيعني هذا أننا نتجه إلى شاطيء الأسكندرية حتما .... فليكن ..... لن نظل هنا طوال حياتنا .... فلننطلق ...

    ترى أين هذا البدال اللعين ... لا أراه حقا مع أنه تحت قدمي .... إنني ألمسه الآن ..... حسنا فلنبدل الآن ..... لا أدري كم من الوقت قد مر علينا ونحن نبدل ..... ربما ساعة .. ربما ساعتين .... كنت سرحا في كل شيء .... كل شيء حصل لي في حياتي تذكرته الآن ..... بين لحظة وأخرى أنظر إلى النجم القطبي لأتأكد أننا نسير في الاتجاه الصحيح .... لكننا كنا سيئي الحظ جدا في هذه الليلة المشئومة ....

    التبديل صار أصعب نوعا ما .... أصوات الموج أصبحت أعلى ..... القارب أصبحت أبذل جهدا كبيرا لتعديل مساره ... ياللهول ... إن الأمواج بدأت حقا في التكلم .... مضت عشر دقائق أخرى ..... الوضع أصبح أسوأ بكثير ... الموج يصطدم بالقارب فيتناثر الماء البارد على أجسادنا .... مهلا ..... إني أسمع نفس الصوت الغريب ... لكنه يبدو أقرب هذه المرة ..... إنه يبدو مثل ..... لا أدري .... كففنا عن التبديل لأننا أيقنا أن هذا مستحيل .... نأمل فقط أن يهدأ الموج نوعا ما ...... لكن البحر الذي صرت أكرهه بعد ذلك كان يكرهنا ..... لذا فقد كان قاسيا علينا في تلك الليلة ...

    أصبح القارب يعلو ويعلو ثم يهبط مع كل موجة ..... فجأة تصطدم موجة بنا من أحد الجوانب فيهتز القارب لأعلى وأسفل ..... بعض الماء قد دخل إلى القارب .... لكنه مصمم بطريقة يستحيل أن يغرق معها حتى وإن امتلأ بالماء ... هذا مطمئن نوعا ما ..... مرت الدقائق أو الساعات لا أذكر بالتحديد وانتقلنا من وضع التبديل إلى وضع التمسك بجدران القارب خوفا من الوقوع ..... ماهذا الصوت اللعين ؟ .....

    - هشام ... . ماهذا الصوت برأيك ؟
    - أعتقد أنه كيكو وجدها فرصة جيدة للانتقام منا .
    - الأمر لا يحتمل المزاح أيها السخيف ..
    - وماذا يحتمل الأمر إذن .... إنه صوت شيطان .... شيطان يعيش في هذه الأجواء وهو غاضب لأننا اقتحمنا عالمه بدون استئذان .
    - هل لازلت تفكر في تلك اللعينة إيمان ؟
    - ليس هذا من شأنك ...
    - لولا أحاديثك الطويلة عنها ماكنا انجرفنا إلى داخل هذا البحر اللعين .
    - لا تشتم البحر .... سمعت مرة أن له آذانا يمكنه أن يسمع بها ..... ووسيلة انتقامه هي الأمواج .....

    موجة أخرى صعدنا معها ثم هبطنا .... المياه تزداد داخل القارب ..... هشام يثرثر في شيء ما لكنه يتوقف بين حين وآخر ليسمع ذلك الصوت الغريب الذي لا أدري كيف أصفه .... أصبحنا نضطر إلى رفع أصواتنا حتى يسمع بعضنا بعضا ......

    هشام بدأ يفقد أعصابه ..... أصبح عصبيا ويتحدث في شيء ما بعصبية ويضرب بيده واجهة القارب التي أمامه من لحظة إلى أخرى .... إن الناس يفقدون أعصابهم بسرعة ولا أدري ما السبب .....هل أنا بارد أم أن أعصابي حديدية .... كل ما أشعر به الآن هو الرعب من ذلك الصوت الذي لا أتوقع أنه سيكون خيرا بأي حال من الأحوال ....

    قال لي هشام بنظرة خائفة :
    - هل تظن أننا سنموت هاهنا ؟
    قلت له وقد بدأت أكره هذا الذعر :
    - لا أدري .. فقط تمسك جيدا لأنك إذا وقعت فلا تظن أنني سوبر مان الذي سيقفز وسط كل هذا لينقذك ..
    قال بغيظ من وراء أسنانه :
    - وأنت تأكد أنك إذا وقعت فسأقطع يدك إذا مددتها لتتعلق..
    قلت له بنفاذ صبر :
    - اسمع .. ليس من مصلحتنا أن نتشاجر الآن .. لا بد أن نفكر في شيء ما للخلاص من هذا الموقف ..
    - أحمد ...
    - ماذا تريد ؟
    - أحمد
    - ماذا تريد أيها الغبي ؟
    - أحمد انظر وراءك أيها المعتوه
    لكن القدر لم يمهلني لحظة أخرى لأفعل .... لقد انتهى كل شيء فجأة ..

    إن البحر المتوسط يكرهنا .... وهو يجند كل قواه ليجعلنا نعيش أسوأ لحظات حياتنا .... الآن عرفت ما هو ذلك الصوت اللعين .... لم يكن شيطانا غاضبا كما توقع هشام .... كان أسوأ بكثير ..... كان سفينة ........ سفينة نقل بضائع لا تدري أين اولها وأين آخرها ..... في موقف آخر كان هذا سيكون مشهد نجاتنا .... لكن لحظنا الأسود في هذه الليلة الجهماء ... كانت تلك السفينة متجهة نحونا .... نحونا مباشرة .......

    هنا بدأت أفقد أعصابي بدوري أنا الآخر .... إن هذه السفينة لن ترانا .. ستصدمنا وتسحقنا بقسوة حتما ......... إنها كبيرة حتى أنني أحتاج لرفع رأسي حتى أراها كاملة ..... إنها تبدو بعيدة نوعا ما ... أمامها ما يقرب من عشر دقائق لتصل إلى هنا .... لا زال هنا ك أمل إذن ..... اعتدلت على الكرسي .... نظرت إلى هشام الذي لن أصف لك حالته تاركها لخيالك الخصب ..... اعتدل هشام بدوره على الكرسي ..... وبدأنا التبديل ..... وجهت الذراع بحيث يتجه القارب بعيدا عن هذا الشيء الضخم ... بدلت بكل قوتي ..... هذا مستحيل طبعا في وجود كل هذه الأمواج .... لكننا لو لم نفعل لمتنا هنا كالجرذان ... كم أكره البحر والسفن والقوارب وكل هذه المصطلحات البحرية الكريهة ......

    إن المياه التي بداخل القارب تجعله أكثر ثقلا ..... لا وقت لإخراجها بالطبع .... القارب نفسه أسود .... وكأنه قارب تجسس .... لن يرانا أحد ولو استخدم منظارا مقربا ..... تسارعت دقات قلبي الذي لم يبلغ الخامسة عشر بعد ...... لكنني أبدل بكل ما تبقى لي من قوة ..... هشام يبكي .... لا ألومه .... فقط نظرت إلى السفينة وأخذت أبدل بقوة أكبر كالمجنون ..... إن هرمون الأدريناين الذي يفرزه الجسم في ساعات كهذه يجعلك تشعر بقوة غريبة .... كل ما أريد أن أقوله أن الوضع لم يكن مطمئنا أبدا ...... هذه السفينة ستصطدم بنا حتما ...... بدأت أحسب في عقلي ماذا يمكن أن يحصل لنا نتيجة هذا الاصطدام ..... هل ستصطدم برؤوسنا فتهشمها .... أم أنها ستصطدم بالقارب فتكسره وتقلبه وتجرفنا إلى أسفلها ... لا ... هذا لن يحصل ..... إن الحل الوحيد هو التبديل ..... التبديل بكل ما أتاك جسدك من قوة .... صرخت في هشام :
    - اسمع .... كف عن البكاء الآن .... بدل بكل قوتك يا هشام وإلا سنموت حقا في هذا اليوم ...
    - آآآآآآآآآآ إهيء إهيء إهيء .....
    - هشام هيا بدل ولا تضع الوقت في بكاء سخيف .....

    نظر لي بوجهه الوسيم خائفا .... أنا أشفق عليه حقا ..... هل سأراه اليوم آخر مرة ..... فليكن ... سأقوم بدوري حتى النهاية ...... أستمر في التبديل .... والسفينة تقترب بسرعة ..... هناك فكرة ما في ذهني .... إنها لا زالت تختمر .... لكنها الحل الوحيد لإنهاء هذه المهزلة ..... علينا استثمار طاقتنا في شيء ما ...... قمت من مكاني .... مستعدا لتنفيذ الفكرة ...

    - هشام ... قم من مكانك الآن وتعال معي ....
    - سنيف ... سنيف سنيف ....... ماذا ... إهيء تريد ؟....
    نظرت لعينيه مباشرة ... ثم إلى السفينة ...... جففت له دموعه قائلا :
    - اسمع ... لن ننجح أبدا في موضوع التبديل السخيف هذا ..... سنقفز من البدال ونسبح بكل قوتنا مبتعدين ..
    - لكن ... السفينة ستسحبنا إليها ....
    - هي لازالت بعيدة نوعا ما ..... يمكننا أن نستثمر كل قوتنا في السباحة بعيدا .. ما رأيك ؟
    - لا أدري حقا ..... سنيف ..... سنبف .....
    - لا بد أن نفعل هذا ... لن نظل في هذا القارب ننتظر الحادث المروع .
    - وكيف سنعود للقارب مرة أخرى ..... ربما تصطدم به السفينة وتكسره تماما وتقذفه بعيدا .... عندها سنموت غرقا ...
    - فلندع الله ألا يحدث هذا ..... وإذا حدث سنكون قد نلنا شرف محاولة النجاة .... ولا تقلق أنا سأعلمك طريقة الطفو على الماء ..... هيا بنا ...
    - فليكن ...
    - هشام ...
    - همم ؟
    - لا تبتعد عني في السباحة .... فلنبق متجاورين .... هيا الان ....

    قفزنا معا من على سطح البدال الأسود الأنيق ....... يالبرودة الماء ...... غصت لمسافة طويلة ...... أخذت أسبح تحت الماء بكل قوتي محاولا أن أكسب مسافة طويلة حتى ينتهي نفسي ..... إن نفسي طويل يصل لدقيقية في بعض الأحيان .... وكذلك هشام ..... لقد تدربنا على هذا طويلا في المسابقات التي كنا نعقدها بيننا مرارا ..... هانحن نسبح تحت الماء ..... أسمع صوت السفينة من تحت الماء أعلى بكثير من فوقه .... فالأصوات تنتقل أسرع تحت الماء .... درست هذه المعلومة ذات مرة ..... لم أتخيل أنها حقيقية جدا هكذا ..... لازلت أسبح بقوة .... ثم أخيرا صعدت إلى السطح ......
    - هاااااااااااااااه ..... هه .... هه .... هه ..... هه ..... هشام ....
    - هه ... هه .... هه ... هه .... ماذا تريد ؟
    - إن الأمل كبير .... فلنسبح الآن مبتعدين ......

    وسبحنا كالأسماك بعيدا عن السفينة ..... أنا لا أرى القارب الأسود حقا ..... لقد اختفى في الظلام ...... هذا يجعل وضعنا سيئا جدا ...... لقد ابتعدنا عن السفينة كثيرا .... والآن وقفنا لنراها وهي تمر ....... هاهي .... أراها الآن عن قرب ...... ماهذا الاسم الذي عليها ... اسم معقد لا أذكره ..... إنها تحجب الرؤية تماما .... إنها لا تزال تمر من أمامنا ..... كم هي طويلة ....... ألا تنتهي أبدا ؟ ..... أنظر محاولا تحديد نهايتها فلم أستطع ..... كيف بنى الإنسان هذا الوحش الطويل ...... إنها تجذبنا نوعا ما إليها لكننا نبتعد سباحة في كل مرة لأننا كنا بعيدين عنها مسافة كبيرة ......هاهو ذيلها ..... أقصد نهايتها ....... أخيرا ...... لو كان هذا الشيء اصطدم بنا لكنا الآن في عداد الأموات ..... الأموات المفقودين ...... الذبن اختفوا في ظروف غامضة .....

    تذكرت شيئا طريفا ..... كم ساعة ونحن في هذا القارب .... إن صاحب القارب لو كان شريرا ..... لحاسبنا – إذا عدنا – على كل ساعة ...... ووالدي سيقتلني حتما ..... إن البر يدخر لنا مشاكل من نوع آخر ..... لكنه أفضل من الموت غرقا على أي حال ....

    - أحمد ....... هل اصطمت السفينة بالقارب ؟
    - لا أدري ..... لم أسمع شيئا كصوت اصطدام ... إن السفينة صوتها عال جدا يغطي على كل شيء ....
    - دعنا نبحث عنه إذن .... أنا تعبت من السباحة .....
    - فليكن ....

    ربع ساعة أو أكثر ونحن نسبح وننظر في كل الاتجاهات ..... أين هذا القارب الأسود ؟...... فكرة من كانت أن نختار الأسود ؟..... لا أذكر ..... ماعيب الأبيض ؟..... أو الأصفر ؟..... كان كلاهما سيكون مفيدا جدا الآن .... لن نتحسر على الماضي ..... سنبحث عن هذا الشيء الآن .....

    - أحمد ..... أيها الأحمق ..... لقد رأيته .....
    - ..........
    - هناك ... هناك .... هيا تعال ....

    هل يمكن أن يكون البحر قد نسانا بعض الوقت ....... إن القارب هناك ..... إنه أجمل شيء أراه في هذه اللحظة ...... تدفق الأدرينالين في عروقي من فرط الحماس و سبحت بكل قوتي ......

    - أحمد .... سنرى من منا سيصل للقارب أولا ...
    - أيها المغرور ..... كان يجب أن تقول هذا وأنت بجانبي ..
    - هاهاهاهاها .
    - لن تهزمني ....

    لكنه وصل أولا ..... أراه يصعد على القارب ويقفز فرحا كالمجانين ....... وصلت بدوري إلى القارب ..... يا إلهي .... لقد كان هذا موقفا عصيبا حقا ..... كم أكره البحر ...... فلنرتح قليلا هاهنا ....

    - أحمد وهشام ..... اختارا شيئا ما أعاقبكما به على ما فعلتما ....
    - .............
    وهنا ارتفعت حدة صوته :
    - كل العائلة كانت تبحث عنكما في كل مكان ... حتى الجيران .....
    - قلت لك يا أبي أن .....
    - اخرس ...... أنت المخطيء أولا وأخيرا .... لولا أن ذلك القارب قد انطلق للبحث عنكما لكنتما ذهبتما إلى الأبد ...
    - لا أدري حقا ماذا أقول لك .... فلتعاقبنا بأي شيء .....
    - لقد حولتما هذا المصيف إلى جحيم .... لم يعد أحد له رغبة في البقاء يوما آخر ...
    - لقد تسببتما في .......................... إلخ ....

    أخذ أبي يتحدث ويتحدث ..... والكل يؤيده .... أمي في حال صعبة وخالتي كذلك ..... لكن هذا كله محتمل ..... محتل جدا ..... أخي الصغير يشمت فينا بضحكته الشريرة .... تبا لك ... فقط عندما يذهب أبي .... سأقتلك .....

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية الفتى الأشقر .. الملقب بالزومبي


    " عندما يكره شخص شخصا آخر ، فإن العينين التي يستخدمها للنظر إليه تبدو مخيفة "


    - السادة ركاب الطائرة الكرام نرجوا منكم ربط أحزمة المقاعد والامتناع عن التدخين استعدادا للإقلاع سنصل إلى المدينة المنورة في تمام الساعة السابعة بإذن الله.... التوقيت المحلي في اسطنبول هو ........
    قلت لأمي في ضجر :
    - ألن نعود أبدا ؟
    - لا
    قلت محاولا الهروب من نظرات المضيفة الإندنوسية لحزامي الذي لم أربطه بعد :
    - لكننا سنعود من حين لآخر في الإجازات ... أليس كذلك ؟
    - لا
    تبا ... لا أحب هذا الأسلوب المقتضب الذي يشعرك أنك تتكلم مع موظف شباك التذاكر ...
    - بليس هيزام هيزام ....
    كانت هذه هي المضيفة تحاول تذكيري بأنني نسيت ربط الحزام ..... إنهم يشعروننا أننا سنركب قطار الرعب في الملاهي ..... ربطت الحزام مضطرا وسرحت قليلا بالنظر إلى النافذة ..... فلأملأ عيني من اسطنبول الآن .... لأنه قد يمضي وقت طويل قبل زيارتها ثانية ..... ذكريات هشام ونورهان .... وتلك الساحرة بتول .... فطائر ( اللهميجون ) الرائعة التي كانت تستنزف كل مصروفنا اليومي .... وذلك المعتوه مظفر .... ترى مالذي سيحصل له بعد أن أتركه ؟ ........ لقد ولت أيام تركيا إلى الأبد .... وأنا الآن في الطريق إلى حياة جديدة ..... إلى المدينة المنورة .

    مر الآن أسبوع كامل على ذهابنا للمدينة .... إن للمدينة خاصية فريدة .... من يدخلها ولو يوما واحدا فقط لابد أن يعود إليها ..... وإلا مات حزينا شاعرا أنه محروم ...... إن تركيا بكل سحرها لا تساوي حفنة من تراب هذا المكان الطاهر .... كنا نعيش فيها في مكان يدعى ( الحماد ) .... أربعة مباني بنية عالية بينها فناء رخامي واسع .... وفي كل مبنى ما يقرب من 24 شقة ..... والحماد مشهور بكثرة الأطفال فيه إلى حد يشعرك أنك في حضانة وأن جرس نهاية الفسحة سوف يدق في أية لحظة ..... أولاد وبنات صغار في الفناء يجرون هنا وهناك ... لماذا يجرون ؟ لن تعرف أبدا ... ولا هم يعرفون .... كنت جالسا في هذا الفناء أتحدث مع شخص ما لا يهمكم معرفة من هو ..... ومن حين لآخر أنظر لهذه المهزلة في فتور .... وهنا سمعت شيئا غريبا جدا ....

    - زومبي ..... زومبي ..... زومبي ..... زومبي .... زومبي .....
    كان هذا صوت هتاف الأطفال الذين رأيتهم قد تجمعوا حول شخص ما وهم يصفقون وينظرون له في شماتة ..... ترى من هو ذلك التعس ؟ .... أراه من ظهره .... فتى عادي ... لكنه هزيل جدا ..... وشعره أصفر خفيف جدا يكاد يكون غير ظاهر .... استطعت أن أتبين أخي وسط الأطفال وهو يصفق سعيدا كأنه وجد ضفدعا برأسين.
    قلت لمن كان بجانبي :
    - من هذا الفتى ؟ ..
    قال ضاحكا :
    - هذا هو الزومبي .....
    وأخذ يضحك كأنه سمع دعابة طريفة لأول مرة ..... حاولت أن أشرئب بعنقي لأرى الفتى أفضل لكنني لم أستطع .... كان الفتى يحاول الدخول إلى مبنى من المباني – واضح أنه يسكن هنا إذن – لكن الأطفال الأشرار كانوا له بالمرصاد يحاولون إخباره بأنه زومبي .... لم يصرخ فيهم ولم ينهرهم .... فقط كان ينظر إلى الأرض في ذل ويحاول التملص من اليمين تارة ومن اليسار تارة .... ثم قرر العودة إلى الخلف .... إلى ناحيتي .... هنا استدار الفتى .... وهنا فهمت كل شيء .

    اتسعت عيناي في خوف ...... فما رأيته غريب جدا جدا ...... دعوني أحاول أن أصف لكم الفتى بالكلمات رغم ثقتي التامة بأن هذا مستحيل ..... هزيل جدا .... أحمر البشرة والجسم يشوبه البياض .... وليس أبيضا يشوبه الحمرة .... هناك شبح شعر أصفر خفيف جدا على رأسه ... كل هذا جميل .... لكن وجهه كان هو المشكلة ... هل منكم من لعب ريزدنت إيفل الجزء الأول ؟ ..... هل تذكرون أول زومبي في اللعبة ؟ ... ذلك الذي نراه يأكل جثة ما ثم يستدير لنا برأسه فنرى وجهه المقيت ..... كان وجه الفتى مشابها تماما لوجه ذلك الزومبي .... فقط ضع للزومبي شعرا أصفر خفيفا جدا ..... و حول لونه إلى الأحمر المبيض .... ثم صغر جسده ليناسب جسد صبي في الخامسة عشر من عمره ...... عندئذ ستحصل على الفتى تماما ..... تماما بدون أي اختلاف يذكر .

    ماذا نقول عندما نرى شخصا قد ابتلاه الله بالتشوه الخلقي لحكمة يعلمها وحده ؟. ... الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من الناس .... أو اللهم عافه ولا تبتلينا ..... رددت هذه الكلمات بسرعة وأنا أنظر لهذا الفتى لأول مرة .... كان الأطفال يلاحقونه في غل وكأنه هو نفسه جعفر الشرير .

    إنني الوحيد في ذلك ( الحماد) الذي يمكنه فهم نفسية الأطفال وتحملهم .... لذا كانوا يحبونني .... بل يعشقونني .... إن الطفل يعتبر أن الإنسان الوسيم هو دائما شخص طيب تابع لفريق الخير ..... أما الشخص البشع الخلقة فهو دائما شرير .... ولا يمكنك أن تغير هذا الرأي أبدا .... وهذا طبعا بتأثير أفلام الأنمي التي يدمنون مشاهدتها .... دائما علاء الدين وهرقل و ميكي ماوس و زورو و سنووايت.... كل هؤلاء شديدي الوسامة ..... بينما جعفر ودنقل و زورج – في حكاية لعبة وليس أنا بالطبع – و الساحرة الشريرة في فيلم سنووايت .... كلهم بشعين جدا لاتطيق النظر في وجوههم ..... هاهو الفتى المسكين يحاول التملص ...... لكنه لا يستطيع ..... فجأة يقفز عليه واحد من الأطفال ويمسك بملابسه ... ثم يتبعه أخي المعتوه ويشده من فانلته ..... وهنا انفجر الفتى ..... ليتك تشاهد وجهه الغاضب حينذاك .... لقد تراجعت أنا إلى الوراء متفاديا عدوا وهميا من الخوف ..... طار أخي المسكين ووقع على الأرض ..... اتجه إليه الفتى وضربه على وجهه ..... وهنا كان يجب أن أتدخل ...... كان يجب أواجهه .... فليرحمني الله ...

    قمت غاضبا – أو أمثل أنني غاضب – لأواجه هذا الفتى وأعلمه درسا في التعامل مع الصغار ...... قلت له بصوت عال وأنا آت ناحيته :
    - ألا تفهم يا هذا ....هؤلاء أطفال لا يحاسبون على أفعالهم .... وهذا الذي ضربته هو أخي .....
    نظر لي الفتى نظرة خاوية .... عيناه غائرتين تماما حتى أنك تشك أنهما هناك فعلا .... لم أكن أحب أن أؤذيه .... كنت أشعر به وبألمه الداخلي تجاه هذا الذي ابتلي به دونا عن جميع الناس .... كنت أعرف أن أخي شرير ... لذا اكتفيت بهذه الكلمات .... التقت عينانا للمرة الأخيرة ..... فنظر الفتى للأرض واستدار عائدا إلى بيته .... ولم ينس أن ينحني ليلتقط ذلك الكيس الذي كان يمسك به عندما جاء ، والذي تبعثرت محتوياته على الأرض .. أخذ يلملم بقايا كرامته قبل أن يلملم محتويات الكيس ..... ثم مشى وغاب عن عيوننا .... هذا الفتى يتألم .... يتألم بعنف .

    الآن أنا أمشي مع صديقي مأمون في الفسحة في المدرسة الجديدة تماما علي والتي كانت تختلف تماما عن مدارس تركيا طبعا ...... كنا نتكلم في أمر ما لا أدري ما هو ..... مأمون هو مصري مثلي – فأنا مصري بالمناسبة – لكن مأمون كان من الطراز الذي تشعر أنه صديق لكل الناس .... لا نمر بشلة ما إلا ووقف يتحدث معهم عن أي شيء ..... ومع الأساتذة كذلك .... كان اجتماعيا بعنف .... كنت أنا شاردا أنظر إلى بقالة المدرسة والتي يسمونها هنا ( المقصف ) وهناك رأيتت أحد الطلاب قد شمر ثوبه وربطه في خصره ... ثم قفز فوق مجموعة من الطلاب التلاحمين على هذا المقصف .... كل يريد أن يشتري شيئا ما قبل أن يرن الجرس ولا ينوبه من الفسحة إلا الشعر الشبيه بشعر ميدوسا والوجه المكفهر والثوب الذي امتلأ من بقع الشاي الذي يسقط دائما من خمسة يصطدمون بك على الأقل خلال هذه الرحلة الشاقة .. كنت سارحا في كل هذا حين سمعت مأمون يهزني قائلا :
    - أحمد .... فيم سرحت .... دعني أعرفك على مصطفى ... من الصف الثالث المتوسط ...
    نظرت لمن سأعرف بعد قليل أنه يدعى – مصطفى - ..... وهنا رجعت إلى الوراء ... وسقط منى العصير على الأرض ..... لقد كان هو نفسه ...... لقد كان هو الفتى الأشقرالمخيف نفسه .

    كان الفتى يبتسم .... وانحنى ليلتقط علبة العصير من على الأرض .... وقدمها لي .... بالتأكيد يذكرني .... أخذت منه العلبة وسلمت عليه .....شعرت بيده الهزيلة الباردة ..... شعرت أنني لو ضغطت أكثر كانت يده ستتحطم .... لم أعرف ماذا أقول ... هل أعتذر عن هذا الذي حصل لي عندما رأيته ؟ .... أم أن هذا سيزيد الأمر سوءا ؟ .... لكن يبدو أن الفتى كان معتادا على هذا فلم يعط للموضوع أهمية ما ..... وهنا رن الجرس .... جرس الخلاص .... الخلاص من الفتى ... والذي سنسميه منذ الآن باسمه الكريم .... مصطفى .

    عرفت بعدها أن الفتى مصري هو الآخر ... وبالمناسبة ... من يقرأ هذه القصة من المدينة المنورة سيعرف مصطقى جيدا ..... لأنه اشتهر بعدها بسبب ..... دعونا لا نسبق الأحداث .... لم أكن أستطيع النظر في وجهه أبدا .... فالله تعالى قد ابتلاه بوجه مخيف جدا ..... وأنا لا أحب أن أظهر هذا أمامه ..... كان صوته غريبا جدا أيضا صوت غريب ممزوج بالألم الخفي الذي تشعر به في كل كلمة يقولها ..... لكن مصطفى كان عندما يبتسم ... أستطيع أن أقسم أن المكان كله يبتسم معه ..... كان التفسير الطبي لحالته – كما عرفت بعدها – أنه نتاج خطأ وراثي ما بسبب زواج الأقارب أو شيء ما من هذا القبيل ..... كان مصطفى يمضي كل الوقت وحيدا في المدرسة وفي الحماد ..... لم أره مرة يتكلم مع أحدهم في أي شيء ...... دائما أراه يمشي وحيدا في الفسحة المدرسية ينظر إلى الأرض ويتناول إفطاره المكون من ساندوتش ما ... و علبة بيبسي ... دائما عندما تنظر حوله تجد اثنين يهمسان لبعضهما ويشيران إليه ويضحكان ..... هذا المشهد لو لم تره مرة لظننت أن هناك شيء ما خطأ .... لا يخلوا الأمر في بعض الأحيان من واحد يرمي كلمة من هنا أو من هنا عن – وجه السحلية – أو – ريزدنت إيقل – متعمدا أن يسمعها مصطفى .... لكن دائما ترى مصطفى يعطيهم ظهره ويمضي كأن لم يسمع شيئا .

    إن مصطفى كان ذكيا جدا ومتفوقا في المدرسة أيضا وبارعا في الكمبيوتر والانترنت..... وكان هذا يزيد من ألمه بالتأكيد ..... فلو كان معتوها منذ البداية لما شعر بأي ألم ..... لكنه ذكي و نبيه جدا .... لذلك كان الابتلاء قاسيا عليه جدا .... ظلت الأمور على ما هي عليه حتى ذلك اليوم .....

    مصطفى كان وحيد أبويه ... فلم يكن له أخ ولا أخت ..... في يوم من الأيام كنت أمشي متجها إلى الحماد .... وقبل الحماد كان هناك بقعة مظلمة في الطريق الذي أمشي فيه ... كان لابد أن أجتازها قبل الوصول إلى الحماد ...... ليست مظلمة جدا .... لكنها مظلمة ...... هنا رأيت ثلالة شباب يلتفون حول صبي ويتبادلون المزاح عليه ... واحد يضربه على مؤخرة رأسه ثم يبتعد ويضحك .... آخر يأتي من وراءه ويرفسه في مؤخرته ويضحك الجميع ..... كانوا ثلاثة فتيان كل أصغرهم في السابعة عشرة من عمره ..... حاولت الإسراع لأتبين من هذا ..... وفجأة رأيته ..... رأيت نحوله المميز في الظلام .... كان هو بنفسه .... كان مصطفى .

    هنا شعرت بالغضب الشديد .... فاتجهت مسرعا لهم عازما على التدخل ولو بالدم لإنقاذ هذا الفتى الذي أحببته من كل قلبي ..... لكن غضبي هذا قد تحول في الدقيقة التالية إلى الدهشة ..... الدهشة التي جعلتني أتسمر في مكاني غير مصدق لما رأيت ..... ففي طريقي إليهم سمعت أحدهم يقول شيئا بذيئا ما عن والدة مصطفى الكريمة .... والآخر يرد عليه بعبارات أكثر بذاءة ..... وهنا انفجر مصطفى ..... كنت قد اقتربت منه ورأيته .... كان غاضبا ... .. وبعد ثلاث دقائق بالضبط كان الفتيان الثلاثة يجرون هاربين من هول ما قابلوه ..... لقد انهال مصطفى عليهم ضربا .... ليس ضربا همجيا من النوع الذي تغلق فيه عيناك وتضرب أي شيء ..... بل هو ضرب كالذي تراه في أفلام التاكواندو والكونغ فو ..... كان مصطفى رشيقا جدا .... وضربهم في كل مكان بقوة وغضب شديد .... وأستطيع أن أقول أنني رأيت كافة حركات الدفاع عن النفس التي نراها غالبا في الأفلام ...... فر الثلاثة هاربين .... وبقي مصطفى وحيدا ...... اقتربت منه .... نظر إلي .... لم يكن يدري أنني موجود .... ضبطته .... ضبطته وهو يبكي .

    عندئذ ضممته إلى صدري و هو يبكي في صمت ..... ياله من شعور لن أسطيع وصفه ماحييت .... كنت أشعر به تماما .... أشعر به و كأنني أنا هو ..... بعض الأحيان كنت أدمع عندما أراه يمشي وحيدا في مكان ما .... ثم أمسكت بالكيس الذي معه .... وأخذته إلى الحماد بدون كلمة مني ولا منه .

    عرفت بعدها أن مصطفى قد قضى فترة طفولته في مصر قبل أن يأتي إلى هنا .... وتعلم هناك رياضة الكونغ فو وبرع فيها .... بل ووصل إلى مستوى متقدم جدا جدا فيها أيضا ...... إن هذا الفتى مليء بالأسرار حقا ..... أصبح مصطفى صديقي ..... أو أصبحت أنا صديقه لافرق هناك .... كنت الوحيد في الحماد الذي يجلس معه ويكلمه .... اقتربت من شخصيته أكثر .... كانت شخصية مليئة بالحيوية ... لكنه مليء بالحيوية بداخل نفسه فقط ..... لا يسمح للآخرين أن يروا سوى الاكتئاب الخارجي الذي يغلف شخصيته .... كان لديه حس دعابة جميل ..... وخبرة مروعة في الكمبيوتر ...... أصبحنا نجلس كثيرا مع بعضنا ......... كنت أحب رؤيته يضحك .... لذا كنت أكثر من سخريتي المريرة من كل شيء وهو معي .... كان دائما يتوقع الأسوأ في الحياة في كل شيء .... مما جعل حياته حشدا من المفاجآت السارة .... مضى الأمر عاديا .... حتى وصلنا لليلة لن أنساها أبدا أبدا ماحييت.

    كان مصطفى يحب الأنمي كثيرا .... ويحب رسم الأنمي جدا .... وقد كان يعلم نفسه بنفسه حتى وصل لدرجة متقدمة في الرسم ...... في ذلك اليوم أراد أن يريني رسمة رسمها قد بذل فيها – كما قال – كل جهده ... وتلافى فيها جميع الأخطاء التي في رسماته السابقة ........ وافقت على الفور ..... وعندما رأيت رسمته دهشت .... كانت جميلة جدا بلا أي مبالغة سخيفة في التعبير ..... كانت لفتاة ... وجهها ورقبتها .... عينان زرقاوان وشعر أسود طويل منسدل ...... وياقة فستان ناصع البياض ...... كانت وكأن محترفا هو الذي رسمها ...... أخذت أتأملها باحثا عن تلك المشاعر الذي يصر الرسامون أنها دائما تكون مختبئة في الرسومات .... فذلك الخط المعوج يعبر عن الاضطهاد النفسي ... واللون الأحمر مع الأصفر هنا يعطي إنطباعا أن الشخص فكر في الانتحار وهو يرسم هذه المنطقة .... إلى آخر هذا الهراء .... حاولت أن أري شيئا من هذا في رسمته لكنني فشلت .... كانت رسمة دقيقة حقا ..... استأذنت منه أن آخذها منه لأنقلها في البيت .... فأنا أتعلم رسم الأنمي أنا الآخر ...... وافق .... ووعدته أن أعيدها له في مساء اليوم التالي مباشرة .

    أخذت الصورة وأخذت أدرسها وأتعلم منها طريقة رسم العينين والشعر ... وغيرهما ... رسمت واحدة شبيهة برسمته .... لم أكن أملك نفس موهبته .... لكني كنت أطمح أن أتعلمها منه في يوم من الأيام ..... وضعت الرسمتين في حقيبة المدرسة الخاصة بي على أن أريه إياهما في المدرسة غدا .... وأن أستمع إلى رأيه فيما رسمت ..... في اليوم التالي بحثت عن مصطفى في كل مكان في المدرسة ولم أجده .... ذهبت لفصله فقال لي أحد الحمقى وهو يمضغ العلك أنه لم يأت اليوم ..... ربما مرض .... سأرى ذلك عندما أعود للحماد .

    هاهو الحماد يقترب مني وأنا أسرع في الخطى قليلا محاولا الهروب من أشعة الشمس الحارقة .. لكن عبثا ... روضة الأطفال في أوج صخبها اليوم .... اصطدم بي أحدهم وأنا أمشي ، فأوقع الحقيبة أرضا فانفتحت وتبعثرت الكتب التي فيها على الأرض ..... في اللحظة التالية هرب الشقي من أمامي كأنه لم يكن موجودا أبدا ...... أخذت أجمع الكتب من هنا وهناك كالأبله .... رأيت أحد أصدقائي في الحماد قد أتى لمساعدتي ...... قال لي : - متى سيكون العزاء بالضبط يا أحمد .... أنا سأحضر .
    نظرت له في غباء وقلت :
    - لا أدري
    قال لي بإصرارالبراغيث :
    - كيف لا تعرف أيها الأحمق ؟.... من سيعرف إذن ؟...
    إن الشمس ومجهود اليوم المضني يكفيني وليس بوسعي احتمال هذا السخيف ... كنت قد انتهيت من غلق الحقيبة لذا قلت له سريعا متهيأ للانصراف :
    - اسمع .... أنا لا أعرف مالذي تتحدث عنه ولا أريد أن أعرف .. اتركني في حالي واذهب إلى الجحيم .
    قال لي :
    - هل ستحضر أنت إذن ؟
    لم يكن ينوي أن يتركني بسلام ..... تنهدت بعمق ودعوت عليه عدة دعوات بالويل والثبور ثم قلت :
    - حسنا .... عن أي عزاء تتحدث يا هيثم؟ ... عن أي عزاء سخيف تتحدث ؟ .
    قال لي باستغراب :
    - ظننتك علمت ... ألم تعلم ؟ ..... إن الزومبي قد توفى ليلة أمس .... مصطفى صديقك ...... لقد مات .
    وهنا وقعت مني الحقيبة وانفرطت الكتب مرة أخرى .

    نظر لي وتأفف قائلا :
    - أنت معتوه يا أحمد .... معتوه كبير .... فلتجمعها بنفسك هذه المرة .... وداعا ......
    وأخذ ( يبرطم ) بكلام عن ذلك الصديق الذي لا يعرف شيئا عن صديقه العزيز الذي قد مات وعن أن الناس لم يعد فيها خير ..... لم أشعر بشيء في الوهلة الأولى .... أخذت أجمع الكتب شاردا متوقعا من نفسي أن أنفجر بالبكاء في أي لحظة كالأطفال ..... لكن التفاتة قد هربت مني على رسمته التي كانت لاتزال في حقيبتي ..... وهنا دمعت .... واستمريت في جمع الكتب وأنا أدمع ..... ثم تحولت الدمعات إلى دموع ... والدموع إلى أنهار .... بكيته .... بكيت صديقي الذي استوعبت أخيرا أنه مات الآن فقط ..... بكيت مصطفى .


    كيف مات .... ولماذا مات .... وأين مات .... ثم هل مات فعلا ؟ ..... كلها أسئلة سألتها وعرفت إجابتها لاحقا .... وجد مصطفى ميتا أمس أمام شاشة الكمبيوتر ...... كان يلعب لعبة ما .... ثم وضع رأسه على ساعده ال***** على المائدة .... ومات ..... رحل إلى دنيا أخرى ... رحل من عالم الشياطين الذين كانوا ينغصون حياته إلى عالم أفضل .... عالم ينصفه فيه ربه .... ويعطيه حقه في السعادة ..... بعد أن سلبها منه منذ بداية حياته القصيرة إلى نهايتها ..... حضرت عزاء مصطفى في بيته ..... دخلت غرفته .... رأيت صورته الوحيدة عليها ..... كان ينظر ذات النظرة المميزة ..... تلك النظرة التي تشعر فيها بالشرود والألم والأمل والخوف من المستقبل ... تشعر فيها بكل هذا دفعة واحدة ...... خيل لي أن صورته تلك تبتسم ....... تبتسم في سعادة لي أنا بالذات ..... إنني أفخر بأنني الوحيد الذي احتوى مصطفى في حياته .... الوحيد الذي لم يسخر منه ولا من شكله .... الوحيد الذي صادقه حق الصداقة ..... إنه الآن سعيد وأنا أعلم هذا ...... لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يعيش هذا الفتى بيننا في هذه الدنيا بضع سنين ثم يغادرنا في صمت ...... نحن الذين عذبناه في حياته هذه أيما عذاب .... وحاولنا إقناعه أنه مجرد زومبي ..... يالمسمياتنا القاسية ....... ولدهشتي رأيت الأطفال الأشقباء يبكون مصطفى بحرقة وبراءة الأطفال ...... صورته التي رسمهالازالت معي حتى الآن لا تفارقني .... لكم أتمنى أن أرى وجهك الذي أعتبره أجمل وجه رأيته في حياتي ولو لمرة واحدة فقط يا مصطفى ..... مرة واحدة ثم عد إلى حيث أنت ....... وابتسامته الرائعة التي كانت تشرق كل شيء ...... لقد رحل .... مات .... ذهب ولن أراه مرة أخرى ...
    تقول الأغنية :
    مثل مذنب
    يتألق عبر سماء الليل
    مات مبكرا جدا
    مثل قوس مطر
    يتلاشى في غمضة عين
    مات مبكرا جدا
    مشرقا متلألئا
    وساطعا قد أضاء هنا في يوم ما
    مات ذات ليلة ما
    مثل زوال ضوء الشمس
    في ظهر ملبد بالغيوم
    مات مبكرا جدا
    مثل قلعة
    بنيت على شاطيء رملي
    مات مبكرا جدا
    مثل زهرة رائعة الجمال
    تكون بعيدة عن المنال
    مات مبكرا جدا
    ولد ليعلمنا ، ليلهمنا ، ليبهجنا هنا في يوم ما
    مات ذات ليلة ما
    مثل غروب الشمس
    الذي يموت مع بزوغ القمر
    مات مبكرا جدا
    مات مبكرا جدا

    غناها ولحنها وألفها المبدع مايكل جاكسون باسم Gone Too Soon..... لازلت أغني هذه الأغنية له كلما تذكرته ..... ولازلت أبكي كلما سمعتها رغما عني ...... ترى هل رأى مايكل مصطفى ؟ .... قطعا رآه ... وإلا فكيف كتبها ؟ ... وأترككم الآن لأني لم أعد أتحمل أكثر .... لقد ذكرتموني به ..... ذكرتموني بصديقي مصطفى

المواضيع المتشابهه

  1. الاتجار في البشر والاستغلال الجنسي للأطفال
    بواسطة ياسمين في المنتدى بحوث ومقالات في القانون الجنائي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-18-2010, 07:36 PM
  2. الاتجار في البشر والاستغلال ****** للأطفال "الظاهرة ودور الانترنت فيها"
    بواسطة هيثم الفقى في المنتدى مكتب أستاذ هيثم الفقي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-25-2010, 12:57 AM
  3. الانفصال يمنع الزوجة من السفرِ
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-04-2010, 03:00 PM
  4. ما الحكم في زوج يمنع زوجته من حضور المؤتمرات العلمية
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-22-2009, 07:30 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •