دكتور غنام
قناة دكتور أكرم على يوتيوب

آخـــر الــمــواضــيــع

النتائج 1 إلى 10 من 42

الموضوع: حكايات زورك نيميسيس ..وقصص عن الجن والعفاريت ...يمنع الدخول للأطفال

العرض المتطور

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي حسناوات بعد منتصف الليل

    " هل تظن حقا أن الجني أكثر إرعابا من الجنية ؟ .. حسنا ، إن هذا لأنك لم تر جنية في حياتك يا عزيزي "

    " اليوم 11 – 7 – 1994 .... مذكرتي العزيزة .. أنا هنا وحيدة ... كنت سأسعد أكثر لو كنت صبيا .. إن الأولاد يخرجون وقتما يحلو لهم أينما يحلو لهم .. أما أنا فأضطر دائما للجلوس في بين هذه الجدران أمام التلفاز أو أمام أي شيء ممل آخر .. كل الأفلام مكررة و متخلفة .. التمثيليات أعرف نهايتها منذ بدايتها .. عندما أسمع صوت الفتيان يلعبون في الشارع أتمنى لو كنت ديناصورا لأبتلعهم كلهم لأريح ضميري للأبد .. وعندما يقررون العودة إلى البيت أخيرا ، لا يكون لهم دور سوى افتعال المشاكل معنا نحن أخواتهم المسكينات .. و هم ينتصرون دائما .. سحقا لهم جميعا .. وسحقا لنا أيضا .

    إن الأولاد الكبار أفضل بكثير .. هم لا يضايقوننا .. بالعكس إن كلامهم معنا يكون لطيفا دائما... أما هؤلاء الذين في مثل سننا فهم شياطين .. أتمنى لو كنت ولدا كبيرا .. سأكون سعيدة جدا حينها.. أقود سيارة والدي وقتما يحلو لي .. أذهب للسينما وحدي مع أصدقائي ليلة السبت .. حتى مصروف يدي سيتضاعف عشرين مرة عما هو الآن ..

    إن اسمي نورهان .. سني هو 10 سنين .. و أقول لكم أن أفضل ما يمكن أن تفعله الفتاة في سننا هي أن تكتب مذكراتها ... إنها فكرة رائعة .. كل فتيات فصلنا يكتبن حكم و أمثال بلهاء في آخر ورقة من كل كراسة يملكنها .. وهي دائما حكم عن الحب .. الشمس خيوط ذهبية والقمر خيوط ذهبية و الحب خيوط .... إلى آخر هذا الهراء .. إنها طاقة مدفونة لدى كل الفتيات .. ولقد تعلمت أن أخرج هذه الطاقة في مذكراتي بدلا من تشويه الكراسات طيلة الوقت .

    نحن اليوم قد ذهبنا لمصيف جديد لم نذهب له من قبل .. ذهبنا إلى ( أرموتلو ) في الشمال الغربي من تركيا .. معي أخي هشام و بنت خالتي و حبيبتي سارة و أخوها أحمد .. و ... "

    - أحمد أيها الأحمق اترك مذكرات نورهان فورا .. أسمع أحدهم قادم
    - هل أنت متأكد ؟
    - يا إلهي .. هيا أيها الأحمق اترك كل شيء وتعال فورا

    كانت هوايتي دائما هو قراءة مذكرات هذه الفتاة ... ربما أكون معجبا ... لكن الفضول يقتلني دائما .. الفتيات يكرهننا جدا كما هو واضح .. هذا المصيف أصابني بالملل منذ أن دخلته أول مرة .. لا يوجد بحر .. بل هي قرية صغيرة عبارة عن عدة بيوت متجاورة ... وهناك مسبح كبير في منتصف القرية .. المسبح نفسه مقسم لجزئين .. واحد للصغار و آخر للكبار ... و القسمين يمكن العبور بينهما بكل بساطة.. أما البحر فهو خارج القرية ويبعد عنها قليلا .. لقد كنا في ( أرموتلو ) .. أخطر مصيف زرته في حياتي كلها .

    كنا نحب الجلوس أمام المسبح في الظلام .. أن تجلس على تلك الكراسي البيضاء الطويلة المخصصة لمن يحبون أخذ حمام شمس في وقت الظهيرة ... يشغلون ليلا هنا الأضواء الخافتة من أعمدة الإنارة المتناثرة هنا وهناك لتعكس ضوءها الأبيض على صفحة الماء ... كنا بعد منتصف الليل.... و يبدو أنه لا أحد يحب الجلوس هنا سواي أنا وهشام وأخي الصغير مصطفى الذي يصر على مرافقتي كالطحلب في كل مكان.... الجو رائع بشكل لن أصفه لك حتى لا تصاب بعقدة نفسية ... ما يفسد السكون هو أنغام تصل إلينا من ديسكو قريب خارج القرية لكنه في نفس الشارع ... أنغام خافتة لكنها محمومة ... تمددت على الكرسي وسط كل هذا و أعطيت وجهي للنجوم .

    في الصباح يمتليء هذا المكان بالناس ... و في الليل يغادر الجميع إلى مكان ما ... ربما إلى الديسكو القريب ... فالأتراك يحبون العيش على الطريقة الأوروبية ... ينسون دائما أنهم مسلمون و يفعلون مايحلو لهم ... يصل الأمر إلى أنك لو نزلت في الشارع في نهار رمضان في اسطنبول سيخيل إليك أننا في عيد الفطر ... الكل يأكل في الشارع بلا حساب وبلا خجل .... نعم .. اسطنبول مدينة رائعة ... لكنك ستشعر فيها بالغربة ... غربة من نوع آخر ... أناس تربيت معهم وتشعر أنهم غريبون عنك ... إنها غربة لا يمكن للكلمات أن تصفها .. دعني لا أصدع رأسك بالمزيد ... أين كنا ؟ ... نعم ... عند ذلك المسبح هناك .... في تلك اللحظة حدث شيء مخيف ... شيء اقشعرت له أبداننا .

    صاح أخي الصغير فجأة :
    - أحمد ، انظر هناك ... انظر يا هشام

    كان يشير بيده لبعيد ... ناحية الجبال ... نظرنا بسرعة إلى هناك ... هناك على الجبل .. وجدنا... والله شاهد على ما أقول ... وجدنا ثلاثة فتيات ..... طويلات القامة..... ترتدين ثيابا بيضاء .... ذوات شعر طويل بني يصل لأسفل ظهورهن ... كن يمشين بتؤدة على الجبل .... يمشين بهدوء ثقيل وكل واحدة منهن تنظر أمامها وكأنها ترى في الظلام كالخفافيش ...

    كنت مندهشا جدا ... فجأة سمعت حركة سريعة بجانبي ... كان هذا أخي مصطفى يجري كالأحمق ..وفجأة تبعه هشام وهو يضحك على بلاهته ... نظرت نظرة أخيرة على الفتيات لأتأكد من أنني لا أهذي ... ثم جريت وراءهما مندهشا ... يبدو أن أرموتلو كانت تدخر لنا الكثير .

    في اليوم التالي عرفنا أن هناك اجتماع في مكان في نهاية القرية .. اجتماع الكل مدعوون إليه ... فيما بعد عرفنا أنه حفل ختان أحد الأولاد من أهل هذه القرية ... في هذه القرى التركية لديهم هذه العادة ... يختنون الفتى عند سن الخامسة أو السادسة في حفل يحضره كثير من الناس ... وتوزع فيه الكثير من المأكولات التركية والعصائر .. كان يوما حافلا ... لم يكن هذا أول حفل ختان أحضره بالطبع ... لكنني في كل مرة أحب رؤية وجه الفتى المسكين الذي لا يدري شيئا عما سيحل به بعد دقائق .... لكن ما رأيته على الجبل أمس كان يحضرني إذا خلوت إلى نفسي طرفة عين .

    حمدا لله أنني من أم مصرية وإلا لكنت واجهت هذا الويل ولنصبوا لي حفل ختان كهذا ولشعرت بطعم الدماء في حلقي .. بصراحة كنت أبحث بعيني في الحشد عن ثلاثة فتيات طويلات القامة ذوات شعر بني طويل ... هناك الكثير من السيدات الكبيرات هنا ... والسيدات التركيات سمينات عادة ... هو شيء في جيناتهن لا يمكن تغييره ... ليس هذه .. هذه قصيرة نوعا ... لكن مهلا من هؤلاء ؟ .... إن هناك ثلاثة فتيات طويلات يقفن في هذه اللحظة ويتحدثن ويضحكن مع أمي ...

    لكن لقد كن محجبات ... ذلك الحجاب التركي الأنيق الذي لا يمكنك أن ترى فيه شعرة ... الميزة في تركيا أن المحجبات هن محجبات فعلا ... أي أن المتدينين هم متدينون فعلا ... والفاسقين هم فاسقون فعلا ... لقد عشت في مصر أيضا ورأيت كيف أن الوسط ممكن جدا ...تعلمت كيف يمكن أن يكون الحجاب هو للشعر فقط دون غيره ... لكن مهلا ... إن واحدة من هؤلاء الفتيات تنظر إلي في اهتمام ؟ ... نظرت لها بخوف ثم أدرت وجهي ومشيت بعيدا ...

    " اليوم 14 – 7 – 1994 ..... مذكرتي العزيزة .. أصارحك بأنني خائفة جدا ... إن لدي خوف هائل من الجن ... لا تمر لحظة بدون أن أفكر أنهم يراقبونني ... أصعب لحظات حياتي هي عندما أصاب بالعطش في منتصف الليل .. عندها أعرف أنه علي أن أمشي في البيت المظلم كله حتى أصل إلى المطبخ .. فأنت تعرفين يا مذكرتي أن غرفتي هي الأخيرة .. في أغلب الأحيان أحاول أن أكمل نومي وأتحمل .. لكنني لا أستطيع .. عندها أقوم من السرير وأخطو بضع خطوات في غرفتي في حذر ... أكره الذين يصرون على إغلاق الأنوار كلها نهائيا بحجة أن هذا يساعدهم على النوم .. هذا سخف .. لابد من نور ما حتى يرى المرء طريقه على الأٌقل .

    لا تتصوري ذعري وأنا أخرج رأسي من مدخل غرفتي وأتطلع يمنة ويسرة في الرواق لأتأكد أن كل شيء بخير ... كم أتمنى لو فتحت هذا النور الآن .. لكنني أعرف أن انتقام أبي سيكون أبشع من انتقام الجن لو استيقظ في هذه الساعة .. عندما أفتح الثلاجة و يغمرني ضوءها أشعر بنوع من الاطمئنان فأشرب جرعات سريعة جدا من الماء حتى لا أغفل عن مراقبة ما حولي ... نعم يا مذكرتي .. أصارحك إن حالتي أسوأ من هذا .

    عندما أدخل إلى الحمام لأغسل وجهي لا أنظر إلى المرآة .... أبدا ... يخيل إلي أنني سأرى شيئا آخر فيها غير انعكاس صورتي ... أعرف أن الجن يسكنون الحمامات و أعرف أن السبيل الوحيد لرؤيتهم هو مرآة الحمام ... إنني حتى ..... "

    - أختك غريبة جدا يا هشام ... هل يخاف المرء من مرآة بهذا الشكل ؟
    - أنا أيضا أخاف من الحمام جدا ... سأخبرك بسر
    - حسنا
    - أنا لا أجرؤ أن أغمض عيني وأنا أستحم
    - ماذا ؟
    - نعم صدقني ... يخيل لي أنني لو أغمضت عيني لحظة في الحمام فستكون فرصتهم للظهور أو شيء كهذا ...
    - فرصة من ؟
    - الجن ... الجن يا عزيزي


    حقا لقد كنا صغارا جدا في ذلك الوقت ... كنت سني 10 سنوات تقريبا في تلك الأيام ... بعض من مخاوف الأطفال هذه قد يتبقى منها الشيء اليسير عندما يكبرون ... تجد البعض له طقوس غريبة عند النوم تأثرا بتلك المخاوف ... أعرف من كان يخبرني أنه يجب أن ينام وظهره باتجاه الحائط ... لا يمكن أن ينام ووجهه باتجاه الحائط وظهره للغرفة ... إنه لا يأمن .... البعض لازال يفتح نورا قريبا ليبعث له بعض الاطمئنان قبل النوم وهو يخترع لفتحه ألف حجة مقنعة ...

    هناك نوع من البرد يدخل إلى نخاع العظم ...وهو ما أشعر به الآن .. نحن في منتصف الصيف و أشعر بالبرد .. هذا ليس طبيعيا أبدا .. أضم علي غطائي وأحاول أن أتدثر به حتى آخر عظمة ... النافذة مغلقة ... وهشام ينام في السرير الذي بجانبي ويلبس أخف أنواع المنامات ... لكنني أشعر بالبرد ...ثمة رائحة غريبة في الجو لا أدري من أين تأتي ... رائحة لم أجرب مثلها من قبل .... هذا لا يحتمل .... هل أنا مريض ؟ لم أكن أبدا بصحة أفضل من هذه ..... ثم إن هناك تيار بارد خفيف يلفح وجهي بإصرار ... من أين يأتي ؟ دفنت وجهي في الغطاء حتى أصبح كالكفن ...إنني أبدو كميت يشعر بالبرد في مشرحة ... ياللسخرية .

    " اليوم 15 – 7 – 1994 ........ مذكرتي العزيزة .....أشعر بالبرد .... أنا مدمنة أفلام رعب كما تعلمين .. تعلمت أشياء كثيرة من هذه الأفلام ... عرفت أن الأشباح عندما تحضر في مكان ما فإن هذا المكان فإن المكان يصير باردا كالقبر ... لأنها خرجت من القبر ... بيئتها الباردة الأصلية ... أحيانا عندما أجلس أمام المسبح الوحيد في هذه القرية يلفحني تيار بارد للحظات ثم يختفي .... إن هناك شبح في هذه الـ .......... "

    إن نورهان مثقفة جدا فيما يتعلق بأفلام الرعب .. كانت هوايتنا كلنا تأجير أفلام رعب من نادي الفيديو القريب ومشاهدتها يوميا .. كنا ننظر إلى رسالة التحذير في بداية كل فيلم باستخفاف ... هذا الفيلم ممنوع لصغار السن ... لازلت أذكر ذلك الفيلم الخاص بنظرية الأشباح والبرد هذه ... كان الفيلم يتحدث عن هذه النظرية كأنها حقيقة واقعة لا شك فيها ... كانت حضارة ما قديما تؤمن بها بشدة قبل أن يعرفوا أن الأرض تدور حول الشمس .... لكن من آن لآخر ..... بيني وبين نفسي كنت أؤمن بهذه النظرية .

    كانت أيام هذا المصيف تمر ثقيلة جدا .. أتت على بالنا فكرة أن نخرج من القرية لنزور البحر القريب منها .. كان البحر يبعد عن القرية حوالي 5 دقائق من المشي السريع .. نعم فكيف نكون في مصيف بدون بحر ... وهكذا خرجنا ذات يوم من القرية وزرنا البحر ... أصابنا الإحباط التام ... فهو بحر غير صالح للنزول نهائيا ... لا يوجد شاطيء .. إنما هي مجموعة صخور تفصل بين البر والبحر بشكل مستفز .

    حتى أتت تلك الليلة ... كنا قد مشينا في كل أنحاء القرية الصغيرة وحفظناها حتى مللنا منها ... فكرنا أن نخرج من القرية ونقف على البحر قليلا .... أنا عكس كل الناس ... لا أحب البحر في الصباح ... لكنني أعشق الوقوف على شاطئه في الليل ... تشعر أنك تقف أمام كائن أسطوري رهيب جدير بالتأمل ... لكن ليلتنا تلك انتهت بمأساة .

    ليس هناك أجمل من الإمساك بحصى صغير والإلقاء به في البحر المظلم بعد منتصف الليل... يمكنك أن تفعل هذا طيلة حياتك دون ملل ... كنا أربعة أطفال .. أنا وهشام ونورهان وأختي سارة ... ليل بهيم ... وبحر مظلم .. وأطفال ترمي بالحجارة في حماس إلى البحر الواسع .. و أحدهم يشعر ببرد غير مفهوم ...

    " اليوم 16 – 7 – 1994 ........ مذكرتي العزيزة .. لا أستطيع وصف حالتي الآن .. أحمد الله أنني عدت إليك ثانية لأخط هذه الكلمات .... لازلت ألهث والطين لم يجف من حذائي بعد .. لقد رأيتهم يا مذكرتي ... لقد رأيت الجن ... وهم يختلفون تماما عما كنت أظنه أو نظنه كلنا ... رأيت ثلاث جنيات طويلات القامة ... يلبسن ثيابا بيضا .. يقفن على شاطيء البحر وينظرن إلى البحر بنظرة ثابتة بينما يحرك الهواء ثيابهن وشعورهن ... ولقد شعرن بنا يا مذكرتي ... ولقد نظرن ناحيتنا ... إنهن حسناوات ... ذلك الحسن القاسي الذي تنفر منه إذا رأيته ... ولقد جرينا بكل قوتنا ... لقد كانت .... "

    يوم جديد ... اليوم هو يوم السبت ... ويسمونه هنا في أرموتلو يوم السوق ... الباعة المتجولون ينصبون ما ينصبونه في كل الشوارع حتى يتخمونها ... الناس يخرجون اليوم من بيوتهم للتسوق ... ويأتي أيضا أناس من البلدان الصغيرة المجاورة .. زحام لا يطاق .. كل شيء يباع هنا .. بداية من الخضروات وحتى الملابس ... إنها متعة للسيدات والفتيات هنا ... و عذاب لنا نحن .

    أمشي وحيدا وسط كل هذا الزحام ... لا أدري أين ذهب الجميع فقد استيقظت متأخرا جدا اليوم بعدما أصابني الإرهاق من الجري أمس من شاطيء البحر إلى القرية لما رأينا الجنيات ثانية ... لقد كان منظرا مريعا ... للمرة الأولى أرى فتاة جميلة ومخيفة .....والآن استيقظت ووجدت الجميع خرجوا للسوق ... كم أكره التسوق ... هذا تاجر تحف يعرض ممتلكاته لبضع سيدات يبدين اهتماما مريعا لما يعرضه ... تاجر آخر هنا يعرض فاكهة الصيف بكل طريقة ممكنة .. إنه يجعل أحد السادة يجرب المذاق أولا .. يالحماسه ... يستحيل أن تجد والدتك وسط كل هذا ... الكثير يصطدمون بك ولا يأبهون حتى بالاعتذار لأنك لابد أنك أنت المخطيء بالطبع .... .. شعرت ببرد مفاجيء أتى واختفى في لحظات .. تبا .. لابد أن هناك أشباحا تتسوق معنا هاهنا .... وبدون مقدمات ... ووسط كل هذا .... رأيتها .

    كانت تلك الفتاة الطويلة إياها التي نظرت لي باهتمام ونحن في حفل الختان ... كانت تمشي وحدها تنظر إلى البضاعة المعروضة باهتمام ... وعندما نظرت أمامها وجدتني أقف مذهولا أتطلع لها في خوف ... نظرت لي باهتمام ثم أسرعت الخطا ناحيتي ... يا إلهي ... استدرت بأسرع ما أمكنني و جريت وكأن شياطين الأرض تطاردني كما حدث أمس عند الشاطيء ... إنها واحدة منهن ... تعم لابد أنها واحدة منهن .

    تعثرت ألف مرة ... ووقعت على الأرض عدة مرات ... أنظر ورائي لأراها لازالت تحث الخطا السريعة إلي وكأنها تريد رأسي .... اصطدمت بألف بشري ... وتعثرت بألف طفل ..و قد ولد هذا غضبا شديدا عند البعض حتى دفعني أحدهم دفعة قوية مع سبة ما أوقعتني أرضا وسط كل هذا الخضم .

    نظرت ورائي ثانية ... أين هي ؟ ... لقد اختفت ..... نظرت في كل مكان بذعر فلم أجدها ... هنا أمسكت بي يد سمينة وجذبتني بعنف ... كانت أحد السيدات تقول كلاما كثيرا عن أنني شقي جدا ويجب أن أكف عن هذا حتى لا أؤذي نفسي .. أخذت السيدة تضرب بيدها على ملابسي لتزيل الغبار العالق منها ... ثم ضربت على رأسي وشعري بعنف ... كنت مذهولا ... ماهذا الذي يحدث لي كل يوم ؟ ... أنا أكره أرموتلو ... وهنا تركت السيدة السمينة تحدث نفسها وجريت ناحية البيت .

    " اليوم 17 – 7 – 1994 ....... مذكرتي العزيزة ... اليوم كان يوم السوق هنا ... كم أصبحت عاشقة لهذه القرية .. الكثير من الملابس الرائعة اشتريتها بأسعار رخيصة جدا لن تصدقيها لو أخبرتك ... إن أمي تكون متحمسة جدا في مثل هذه الأسواق وتنفق كل ما في جعبتها بدون حساب ... لهذا كنت أختار كل شيء يعجبني ... وفي الليل زارتنا مرفت و مريم و دينيز .. ثلاث صديقات لطيفات تعرفن على والدتي حديثا ... إنهن طريفات جدا ويضحكن طيلة الوقت .. عندما خلعن الحجاب كن مثل عارضات الأزياء حقا .. قوام طويل وشعر جميل .. كم أتمنى أن أكون مثل هذا عندما أكبر .. المشكلة أن أختهم دينيز خرساء ... و اليوم حدث موقف طريف دعيني أحكيه لك .

    دخل علينا أحمد و هن موجودات معنا ... وهنا قامت دينيز فجأة ... إنها تقول أنه يذكرها بأخوها الصغير المتوفي تماما ... لكن أحمد الأحمق صرخ صرخة هائلة عندما حاولت أن تمسك به لتقبله .. أخذ يضربها بيديه الصغيرتين وهو ينادي أمه في ذعر ... لن أفهم الأولاد أبدا .. ولا أريد أن أفهمهم .. لقد غيرت رأيي .. لا أريد أن أصير ولدا ... إن البنات أذكى و أحلى وأرق بكثير .... لن تصدقي كيف كان شكله كالمعتوهين ودينيز تحاول أن تمسكه .. لن أنسى هذا المنظر ما حييت "

    إن معها حق .. أنا معتوه حقا ... لقد أحببت دينيز الخرساء الآن ...... هي لازالت تزورنا هي وصديقاتها كل سنة في اسطنبول حتى يومنا هذا .. لكن بيني وبين نفسي أتساءل كلما نظرت إلى قوامهن و شعرهن وجمالهن الحاد .. هل يمكن فعلا أن تكون هاته الصديقات اللطيفات هن جنيات قرية أرموتلو ... لو أن هذا كان صحيحا فأنا أحب الجنيات ... على الأقل هن لا يؤذين أحدا ...بالعكس .. إنهن اجتماعيات جدا ...... ربما تكتفين بجولات على الجبال أو على شاطيء البحر ليلا من حين إلى آخر ... أظن أن الجني الذكر لا يضيع وقته في الاجتماعيات .. إن لديه أعمال أهم فيما يبدو..... نعم ... ربما "

    تمت


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية ذات المهاق الأبيض

    " كانت بيضاء كأشباح ديزني ، و كان لها شعر ينافس شعر جدتي بياضا "

    - تعال يا أوندير .. دعنا نتعرف على هذه العجوز الشمطاء الصغبرة
    - فليكن عزيزي جيهان .. أنت أيتها العجوز الهزيلة .. هل لك اسم ما ؟

    نظرت لهما الفتاة من وراء نظارتها بحذر وقالت بتردد :
    - اسـ .. اسمي آرزو

    انطلقت ضحكات جيهان و أوندير عالية جدا كعادتهما الأبدية كلما أرادا الضحك .. كنت أنظر إلى هذا المشهد باهتمام من مكاني في الفصل بمدرسة أوزيل إيريشيم الابتدائية في اسطنبول .. هل حكيت لكم حكاية آرزو بعد ؟ .. عجبا لكم .. إذن دعوني أستجمع أفكاري أولا .. فهذه القصة من القصص الغالية على نفسي .

    هل رأيت في حياتك فتاة صغيرة مهقاء ؟ .. ماذا ؟ لا تعرف معنى مهقاء أصلا ؟ .. إنها من المهاق .. و أصحاب هذه الصفة نوع من الناس تكون كل شعرة في جسدهم بيضاء منذ ولادتهم .. شعرهم و حاجباهم وحتى شواربهم وذقونهم .. وهي حالة طبيعية جدا .. يسمون من لديه هذه الحالة أمهق باللغة العربية الفصحى . و Albino باللغة الانجليزية .

    إن آرزو – بمد الواو – كانت مهقاء .. مهقاء بعنف .. دعونا نعود بالذاكرة إلى ما قبل المشهد الأول بربع ساعة .. كنا في حصة ما .. ومدرسنا الهمام يحدثنا بحماس عن شيء ما لا أذكره بتاتا .. سمعنا طرقات خافتة على باب الفصل .. سكت المدرس وبدأنا نحن في الكلام كالعادة.. استدار ليفتح باب الفصل .. نظرنا تلقائيا بلا اهتمام إلى الباب لنعرف من القادم .. كان المدير .. دخل بابتسامته المريعة .. و عيناه المخيفتان .. تبا له .. لازلت أذكر تلك الصفعة التي تلقيتها على وجهي من يديه القذرتين .

    - قيام

    كان هذا هو المدرس يحاول أن يلعب دور القائد الحازم علينا نحن الأطفال المساكين الذين لا حول لنا ولا قوة .. قمنا جميعا كنوع من الاحترام للمدير .. لماذا لا نقوم بهذا الشكل عندما يأتي الفراش ليغير كيس الزبالة .. هل يعني هذا أننا لا نحترمه ؟ .. ظللت أفكر بهذا الخاطر غير سامع للحماقات التي يتحدث المدير والمدرس بشأنها .. ثم فجأة نظر إلينا المدير بجسده .. نعم هذا الطراز من المدراء لا يلتفت لينظر إليك برأسه .. بل هو يحرك جسده كله لمواجهتك .. لذلك تكون أطرف اللحظات عندما يتحدث مع اثنين في ذات الوقت .. و فجأة سمعته يقول بصوت عال :

    - و الآن يا فصل خامسة خامس .. أريدكم أن ترحبوا بزميلتكم الجديدة .. آرزو فولكان .. فصلكم هو الوحيد حاليا الذي فيه مكان شاغر .. تعالي يا آرزو .. تعالي يا عزيزتي .. ادخلي إلى فصلك الجديد .

    الآن بدأنا ننظر في اهتمام .. هناك وافدة جديد إذن على مجتمعنا الرهيب .. ترى كيف ستكون .. هل ستعيش أم ستموت .. هنا دخل مخلوق هزيل أبيض يرتدي نظارات وينظر إلى الأرض في اهتمام .. معذرة فأنا أصف لك أول شيء شعرنا به ونحن ننظر إلى آرزو .. كانت هزيلة .. ومهقاء .. يبدو لك عندما تراها لأول وهلة أنه تم غمسها في برميل طلاء أبيض ..

    هنا سمعت ضحكات مكتومة من ورائي .. ضحكات مكتومة من طراز – خخخخخ – نظر المدير إلينا بغضب محاولا أن يعرف مصدر هذه الضحكة .. كانت آرزو تحمل حقيبة زرقاء تمسكها بكلتا يديها وتنظر إلى الأرض في خجل.. تتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتها لتخفيها من أمامنا .. أعرف هذا الإحساس .. وقد شعرت به في أول يوم لي في هذه الغابة أيضا ..

    - هيا يا آرزو .. هناك مقعدك .. أريدك أن تكوني مجتهدة و تكتبين واجباتك كل يوم .. وحذار من الغياب .

    كان المدير يشير لها للمقعد الوحيد الشاغر في آخر صف .. بجوار النافذة .. في ركن الفصل الخلفي .. نظرت آرزو إلى المقعد ثم نظرت إلى الأرض وبدأت تمشي بين الصفوف وهي تجر حقيبتها الزرقاء خلفها.. يالهذا الشعر الأبيض الطويل .. يبدو أنها ستتعب معنا جدا ... كانت تسمع عبارات خافتة وهي تمشي بين الصفوف ..

    - آآآآرزوووو
    - انتبهي من الضفدع الذي وضعته على مقعدك
    - هي هي هي

    لحظات وانطلق جرس الحصة معلنا انطلاقنا إلى الحرية .. نظرت إلى آرزو فوجدتها تتشاغل بالنظر إلى جدران الفصل وإلى اللوحات المعلقة عليها .. كانت تجلس بجوار فتاة من النوع المشاغب جدا .. كانت تجلس بجوار إسراء .. لابد أنكم تذكرون إسراء .. هي نفسها التي اختفت في حكاية رجل الظلام .. لا عليكم .. يكفي أن تعرفوا أنها تشبه البرغوث و تسبب نفس الصداع الذي يسببه هذا الأخير .

    - تعال يا أوندير .. دعنا نتعرف على هذه العجوز الشمطاء الصغبرة
    - فليكن عزيزي جيهان .. أنت أيتها العجوز الهزيلة .. هل لك اسم ما ؟

    هذا كان أوندير وجيهان .. أسوأ ولدين في هذا العالم .. نظرت لهم الفتاة من وراء نظارتها وقالت بتردد :

    - اسـ ....اسمي آرزو

    كان صوتها مبحوحا خافتا جدا .. تشعر معه أن ثعبانا يسكن داخل حنجرتها الرفيعة .. وهذا زاد من ضحك جيهان عليها ... قال أوندير :

    - أخبريني يا عزيزتي .. كم عمرك بالضبط ؟ ... لابد أنك تعديت السبعين .. هل نسيت أن تكملي تعليمك وتذكرت الآن فجأة ؟

    لم ترد الفتاة ونظرت للأرض في حذر غاضب .. قرصتها إسراء في ذراعها قرصة مؤلمة وقالت لها :

    - ماذا يا جدة ؟ هل نسيت فعلا كم عمرك ؟ .. و هل هذا طقم أسنانك ؟ هلا أريتنا كيف تأكلين به ؟

    أغمضت الفتاة عينيها و أدارت وجهها عنهم .. واستمرت ضحكاتهم عليها و قرص إسراء لها .. رأيتها تغمض عينيها بقوة وتضع يديها على أذنيها ..

    - لابد أن هذا شعر مستعار
    - عجوز
    - شمطاء
    - ساحرة
    - ها ها ها
    - انظروا لهذين الحاجبين

    وهنا فتحت الفتاة عينيها و نظرت لأوندير .. ترى كيف أصف لكم تلك النظرة الرهيبة التي حدجته بها .. كانت نظرة كراهية وغضب وقد اتسعت عيناها عن آخرهما في مشهد مخيف .. تسمر أوندير في مكانه مرتعبا من هذه النظرة .. خاصة أنها كانت تصدر صوتا غاضبا مكتوما كصوت الأفعى ... قطبت حاجبي ناظرا لهذا المشهد الغريب .. إنها مرعبة حقا .

    في اليوم التالي مباشرة غاب أوندير عن المدرسة .. عرفنا أن الفتى الضخم تعرض لحادث مريع كسر معه كاحله ... في وقت الـ Break في نفس اليوم كنت أجلس مع هشام في مطعم المدرسة منتظرين وجبتنا التي لم تتغير منذ شهر .. لقد صار هذا مملا .. رأيت الطباخ النحيل علي يكلم آرزو ذات الشعر الأبيض بحدة .. لم أعرف فحوى الحديث بالضبط لكنني رأيتها تحمل صينيتها الصغيرة التي احتوت على طبق المعكرونة المعتاد و الدجاج المريض الذي يتفننون في طبخه هنا .. كان يبدو أنه يحاول أن يشرح لها شيئا لا تفهمه هي .. وهنا رأيت الطباخ علي يقطب جبينه و ينظر لها بقلق مذعور .. كنت أراها من ظهرها .. إن لها شعرا طويلا ناعما يصل للآخر فقراتها الظهرية .. ترى أين رأيت هذه النظرة المذعورة من قبل ؟

    في اليوم التالي مباشرة وجدت ورقة معلقة على باب المطعم .. كان فيها " على جميع الطلاب الشراء اليوم من ( الكانتين ) فلن تتضمن وجبات اليوم أي لحوم أو دجاج .. لأن السيد علي روزا أصيب بوعكة صحية .." ..
    قلت لمن كان بجانبي :

    - هذا أكثر راحة حقا .. لا بد أن الرجل أكل من الدجاج الذي يطبخه فمرض .
    - يقولون أنه مريض جدا
    - أتمنى أن يستبدلوه قريبا

    إن المصادفات تحدث .. لذا لا داعي للأفكار الشريرة بشأن آرزو .. ذات يوم غاب أحد المدرسين عن حصته .. وكان هذا طبعا يوم عيد للكل .. ترى البعض خرج ليكتب أشياء حمقاء على السبورة .. البعض وجد الفصل مناسبا للسباق أو للمصارعة .. و كنت أنا أتحدث مع شخص ما في أمر تافه ما ..

    سمعت صوت إسراء يأتي من الخلف :

    - ترى ماذا يوجد داخل هذه الحقيبة الزرقاء أيتها العجوز ؟

    أمسكت آرزو بحقيبتها ونظرت لإسراء بحذر .. هنا انضم بعض الطلاب للحفل ...

    - هل تخفين فيها كتب السحر الأسود أيتها الساحرة الشمطاء الهزيلة ؟
    - ربما لو فتحتموها يخرج لكم منها أرنب أبيض ما
    - هي هي أنا أحب الأرانب جدا
    - اتركوا حقيبتي .. اتركوني

    بدأت إسراء تشد الحقيبة حتى انتزعتها .. ثم قفزت فوق أحد المقاعد و قالت بصوتها البرغوثي المزعج :

    - مرحى ياخامسة خامس ، إنه يوم كشف الساحرة الشريرة

    وبدأت تفتح الحقيبة بعنف .. تجمع العديد من الطلاب حولها .. كانت آرزو تقول شيئا ما باحتجاج لكن أحدا لا يسمع شيئا .. هنا قمت لحل هذه المهزلة ..

    - اتركي الحقيبة يا إسراء وإلا صعدت لأنتزعها منك بالقوة
    - ماذا ؟ هو حب جديد إذن ، اسمعوا يا خامسة خامس .. إنه يحبها .. يحب الساحرة الشمطاء

    وهنا قلبت إسراء الحقيبة لتفرغ محتوياتها بعنف .. انفرط كل شيء على الأرض .. مجرد كتب وأقلام وكراسات .. وكانت هناك دمية رخيصة معتنى بها .. أخذت إسراء الدمية و عزمت أن تكسرها .. هنا لم أحتمل .. صعدت على أقرب كرسي .. لكن إسراء قالت :

    - لو اقتربت سأكسرها ولا يهمني ما سيحدث وأنت تعرف هذا
    تقدمت ولم أبال .. وهنا شدت إسراء ذراعيّ الدمية بقوة حتى مزعتها .. وكانت مشاجرة .. ودخل الأستاذ كمال ليحلها .. كان يوما حافلا بالضرب من عصا المدير و الخمش من إسراء .. والعتاب من الأستاذ كمال .. من هو الأستاذ كمال ؟ .. لابد من واحد مماثل في كل مدرسة .

    في اليوم التالي اختفت إسراء من الفصل .. لابد أنكم تذكرون كيف اختفت .. وقد حكيت هذا في السابق عندما كنت أحكي عن رجل الظلام .. لا تنظروا لي بهذا الشكل .. آرزو مجرد فتاة مسكينة و لا خطر منها صدقوني ..


    بعد حوالي ثلاثة أشهر تقريبا من هذه المشاهد كنا في طابور الصباح .. وكان الدور على فصلنا ليقدم برنامج الصباح .. كنت أنا المذيع كالعادة لأن المدير يحب صوتي جدا ويصفه بأنه صوت إذاعي من الدرجة الأولى كان يجعلني أقدم دائما معظم البرامج الصباحية للفصول حتى اعتدت هذا .

    كان معنا العديد من الفقرات .. لكن ما جعل هذه المرة مميزة هو أن آرزو كانت هي التي ستقدم فقرة الأخبار .. كنت قلقا عليها حقا .. كيف يكلفها الأستاذ كمال بهذا و هو يعلم أنها أكثر الطالبات خجلا .. أتمنى حقا ألا تسوء الأمور ..

    - أترككم الآن مع أهم أخبار اليوم .. تذيعها لكم الطالبة آرزو فولكان ...

    تقدمت آرزو إلى الأمام قليلا .. كانت تبدو متوترة جدا .. أخذت تعدل نظارتها بشكل ذكرني بجدتي فعلا .. كانت تنظر إلى ورقتها التي ستقرأ الأخبار منها .. كان قلبي يدق حتى كنت أخشى أن يسمع الناس دقاته خلال المايكروفون الذي أمسك به ..

    بدأت آرزو في الكلام .. وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوتها بهذا الوضوح .. إن لها صوتا مبحوحا خافتا جدا يشعرك أنها ثعبان رهيب .. كنت أنظر إلى وجوه الطلاب الضاحكة أمامي .. آرزو تتلعثم مرة ومرة .. ثم تعدل نظارتها .. سمعت ضحكات مكتومة بدا تأتي من كل مكان .. آرزو بدأت تسعل وتتلعثم ثانية .. بدأت الضحكات المكتومة تتحول لضحكات عادية .. خاصة مع استمرار آرزو في التلعثم و تعديل النظارة بطريقة جدتي .. ثم أخذت تمسح عرقا وهميا من على جبينها و تقرأ ما في الورقة بخفوت محاولة أداء مهمتها .. هنا لم يحتمل الطلاب أكثر ..

    تعالى صوت ضحكاتهم عاليا ... يا إلهي هناك مدرسات يضحكن أيضا .. أرى المدير يصيح بشيء غاضب ما .. لكن لا أحد يأبه به .. آرزو حولت نظرها من الورقة إلى الطلاب .. إنها مذهولة .. الجميع يضحك عليها .. رأيت شبح دموع تترقرق في عينيها .. ياله من موقف .. هنا رأيت الورقة والميكروفون قد سقطا من يدها .. و سالت دموعها ساخنة على وجنتيها .. وأخذت تنظر للجميع بكراهية مقيتة .. ترى أين رأيت هذه النظرة المخيفة من قبل ؟

    رأى الجميع آرزو تجري مغطية وجهها بكفيها متجهة إلى المبنى المجاور الذي فيه فصلنا .. فزاد ضحكهم عليها وتطور إلى قهقهة ثم إلى الوقوع وضرب الأرض حتى لم يعد أحد من المدرسين يستطيع إيقاف هذه المهزلة .. هنا رأيت المدير يتجه إليَ بحدة ثم مد يده وأخذ المايكروفون من يدي بعنف وصرخ قائلا :

    - لن ينصرف طالب إلى فصله اليوم قبل أن يلقى عقابا يجعله ينسى ماذا كان اسمه . ولو سمعت ضحكة أخرى بعد هذه اللحظة سواء من طالب أو من مدرس سيطرد نهائيا من المدرسة .. بلا رجعة .

    خفت صوت الجميع نوعا ما وبدأوا ينظرون إليه بقلق .. رأيت بعض الطلاب يكتم ضحكات أخرى خرجت رغما عنه .. وهنا ناداهم المدير بأسمائهم في غضب .. قال لهم أن يتوجهوا بعد العقاب إلى مكتبه .. لأنهم مطرودون.. تعالت بعض همهمات الاستنكار لكنه لم يبال بها مطلقا .. وهنا التفت لي بحدة وأمرني أن أذهب لأحضر آرزو من الفصل .

    وبينما أنا ذاهب لأداء مهمتي رأيته يقف أمام الطابور الأول من الطلاب .. ثم سمعت صوت ضربة عصاه الغليظة على يد أحدهم... وبينما أنا في طريقي إذ سمعت ضربة أخرى وأخرى .. إنه يعاقب الطلاب واحدا واحدا إذن .. إن هذا يناسب شخصيته تماما .. لكنها المرة الأولى التي يصل فيها معنا لهذه الدرجة .

    - آرزو .. إن المدير يريد أن يراك
    - ........
    - آرزو ؟ إنه يعاقب الطلاب واحدا واحدا من أجلك .. ألا تسمعين صوت الضربات
    - ..............

    لم ترد .. كانت تدفن وجهها بين ذراعيها وتبكي في صمت .. جلست أتأملها برهة .. هذه الفتاة لم يكلمها أحد منذ أتت إلى مدرستنا .. لم أر أحد يكلمها إلا وهو يسخر منها.. إن لها الآن اكثر من ثلاثة شهور بيننا ولم نعرف عنها شيئا واضحا .. ترى من هي ؟ .. كيف تراها تشعر ؟ هنا بدأت أشفق عليها حقا .. وضعت يدي على كتفها قائلا بأكثر لهجة حنون استطعت أن أخرجها :

    - آرزو ؟
    - .................
    - إنني أفهم شعورك يا عزيزتي .. لقد مررت بنفس تجربتك .. كانت أول شهور لي في هذه المدرسة شهورا مرعبة .. الكثير من المشاكل و السخرية وكل شيء .. ثم تكوّن الأصدقاء تلقائيا .. لا يوجد مكان في هذه الدنيا يحوي أعداء فقط .
    -..................................
    - إن هناك طلابا سيطردهم المدير من المدرسة نهائيا لأنهم ضحكوا عليك ؟ ألم تسمعي كلماته ؟

    حاولت أن أرفع وجهها برفق لكنها دفنته أكثر .. مررت بيدي على شعرها الناعم بطريقة حنون قائلا :
    - أرجوك يا آرزو .. نحن سنكون أصدقائك الجدد .. إن طول صمتك ونظرك للأرض هو ما جعلنا نظن أنك لا تريدين مصادقة أحد .. أرجوك .

    هنا رفعت رأسها ونظرت إليَ .. إنها المرة الأولى التي أراها بدون نظارتها .. إنها جميلة حقا .. ولا أدري من السفاح الذي اشترى لها هذه النظارة الكبيرة التي تذكرك بنظارة المحقق كونان .. قلت لها بلطف :

    - اسمي أحمد .. و أتشرف بأن أكون أول صديق لك يا آرزو .

    و مددت يدي لها لأصافحها .. ظلت يدي ممدودة فترة من الزمن بلا أي استجابة من قبلها .. ثم أخيرا مدت يدها المرتعشة لي و قالت وهي تتلعثم :

    - شكـ .. شكرا لك

    لازلت أسمع أصوات الضربات .. وصوت صياح المدير .. كانت تلك أياما حافلة حقا ولا أدري لماذا تبدو الأيام الحالية باردة إلى هذاا الحد ..مرت بضع أيام بعد هذه الحادثة .. وقد تطورت علاقتي مع آرزو إلى السلام كلما رأيتها .. وتعرف هشام ابن خالتي عليها – وهو معي في ذات المدرسة - .. و أخته نورهان أيضا – وهذه معي في نفس الفصل - .. وقد أصبح الطلاب يعاملون آرزو بحذر أكثر منذ ذلك اليوم الرهيب .

    هناك كتاب قرأته ذات مرة عن الساحرات .. يقول أن الساحرة تكون ساحرة منذ ولادتها لكنها لا تعرف أنها ساحرة إلا عندما يقرر الشيطان ذلك .. لا أذكر اسم الكتاب جيدا .. يقولون أن الساحرة لها طاقة نفسية هائلة .. و غضبها دائما ما يتحول إلى خراب ..وأن علينا أن نحرقها وهي طفلة قبل أن تتطور قدراتها هذه ..

    قال لي هشام وهو ينظر إلى آرزو من بعيد في أحد الأيام ونحن نتمشى في فترة الـ Break في المدرسة :
    - كيف تفسر إذن كل هذه الحوادث التي أصابت الكل بعد أن غضبت عليهم آرزو ؟
    - هذا لا يعني أنها ساحرة يا هشام
    - ماذا يعني إذن أيها العبقري ؟
    - يعني أن خيالك واسع ويحتاج لمن يضيقه قليلا
    - هل رأيت نظرتها المرعبة تلك ؟ أنا نفسي أخاف منها جدا وأعاملها بحذر .. أنا لم أستطع أن أحبها أبدا .

    كنا ننظر إلى آرزو التي تجلس على أحد المقاعد العامة وتكتب شيئا ما في أحد الكراسات بشرود .. وفجأة رفعت آرزو رأسها ونظرت لنا بحدة فرأتنا ننظر لها ونتحدث .. لمع انعكاس الضوء على نظارتها فلم أر عينيها جيدا .. لكنها كانت تقطب حاجبيها .. رأيت هشام يقول بذعر وهو يستدير منصرفا :
    - هذه الفتاة ساحرة حقيقية .. لم أعد أحتمل .. لقد سمعتني .. تبا لك يا أحمد .

    وفي أحد الأيام .. بعد هذا بشهور .. أذكر أنه قد دار بيني وبين آرزو حديث مرعب :

    - أنا لست ساحرة يا أحمد .. إنما أنا فتاة ضعيفة .. لكن الله ينتقم ممن يظلمني .
    - من قال أنك ساحرة يا آرزو ؟ لا تلتفتي لمثل هذه التفاهات
    - الكل يقول لي هذا .. حتى أنني أرى هذا في عينينك أنت نفسك عندما تنظر إلي .
    - إن عقلك الباطن يهيء لك أمورا كاذبة .. فلا تصدقيه
    - عقلي الباطن هو أفضل صديق عرفته يا أحمد
    - وماذا أكون أنا إذن ؟
    - أنت ولد من الأولاد الذين يتظاهرون أنهم لطفاء جدا ..
    - هلا كففت عن هذا الكلام يا آرزو .. أنا لم أؤذك يوما بكلمة
    - أنت تخاف مني يا عزيزي .. تخاف أن يصيبك ما أصاب غيرك .. هل تستطيع أن تصفعني الآن يا أحمد ؟
    - كفي عن هذا يا آرزو ..
    - أنت أضعف من أن تفعل .. أنت تخاف مني .. أرى ذلك في عينيك .
    - اخرسي يا آرزو وكفي عن هذا الهراء .. أنت لا تخيفينني .
    - أنت جبان يتظاهر أنه شهم وشجاع .. هيا اصفعني لو كنت رجلا .

    وهنا هوت يدي على وجهها بصفعة غاضبة لا أدري كيف خرجت مني .. أطارت الصفعة لها نظارتها .. فنظرت لي بغل .. نظرت لي بكراهية .. تبا .. إنها تلك النظرة ثانية . .. نظرت لها بخوف .. قائلا :
    - آرزو ... أنا متأسف .. صدقيني لم أقصد هذا أبدا

    كانت لا تزال تنظر لي بكراهية ... هذه النظرة ... إنها تقلق أشد الرجال شجاعة ..

    (أنا لست ساحرة يا أحمد .. إنما أنا فتاة ضعيفة .. لكن الله ينتقم ممن يظلمني )

    لقد أصيب أوندير بكسر رهيب في الكاحل منذ أن سخر منها .. والطباخ علي روزا ظل مريضا لمدة شهر ثم اكتشفنا أنه أصيب بالذبحة الصدرية بلا سبب معروف ..

    (عقلي الباطن هو أفضل صديق عرفته يا أحمد )

    ( اسمي أحمد .. و أتشرف بأن أكون أول صديق لك يا آرزو )

    جميع طلاب المدرسة ضربوا بعنف في مشهد لم يسبق له مثيل فقط لأنهم سخروا منها .. حتى هشام منذ أن نظرت له تلك النظرة المفزعة وهو يحكي لي عن أن حبيبته قد أرسلت له رسالة تعتذر فيها منه لأنها ستتركه ...

    (تخاف أن يصيبك ما أصاب غيرك )

    ( أنت ولد من الأولاد الذين يتظاهرون أنهم لطفاء جدا )

    ماذا عن إسراء أيضا ؟ .. هذا فوق قوانين المصادفة ..

    (لابد أن هذا شعر مستعار )

    (اسمي آرزو )

    ( آرزو فولكان )

    ( أنت أضعف من أن تفعل )

    ( لست ساحرة )

    كنت أنظر لها بخوف ... ثم فجأة اختفت نظرتها المخيفة تلك و انفجرت ضاحكة بصوت مبحوح أشبه بصوت ثعبان البوا عندما ينفجر ضاحكا .. نظرت لها بدهشة ... نظرت لي في امتنان وقالت :

    - لا تخف يا عزيزي أحمد .. أنت أفضل صديق لي حقا .. لقد كنت أرى إذا كنت تصادقني خوفا مني .. شكرا لك يا عزيزي ..

    وهنا انحنت تطبع قبلة سريعة على جبيني المندهش .. ثم انطلقت راكضة بسعادة مختفية عن ناظري ..

    ظللت مندهشا مما حدث فترة من الزمن .. ومرت السنين تلو السنين .. و تخرجنا من المدرسة .. و سافرت إلى الجامعة في مصر ..وقد كانت آخر مرة رأيت فيها آرزو هي في السنة الماضية عندما زرت تركيا كعادتي في نهاية العام .. عندها نظرت لها بدهشة حقيقية ... لكن هذه المرة كان هناك سبب آخر لدهشتي .. كانت تزور نورهان في بيتها بعد أن تطورت صداقتهما جدا .. ورأيتها بشكل جديد تماما هذه المرة .. لقد كانت آرزو محجبة .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية شياطين السيرك


    " لعمري إن مهرجي السيرك كائنات قذرة، خذها كلمة من رجل نام مع هذه المخلوقات في غرفة واحدة "


    حياتي كانت غاية في القصر والتفاهة .. وجدت نفسي أغادر الدنيا قبل أن أوعى عليها .. سنوات حياتي الثلاثة والعشرين لا أذكر منها شيئا ذا قيمة .. كل شيء كان تقليديا .. المدرسة .. البيت .. فتاة الجيران الحسناء .. ابنة عمي التي تصر أمي أنها رائعة رغم أنها كالبومة المكتنزة .. حلم العمل في القاهرة .. خطبة فتاة لم أرها في حياتي سوى في تلك المرة التي يطلقون عليها اسم ( الشوفة ) ؛ حينما تدخل علينا بصينية من الشاي في خجل شاعرة شعور البضاعة وهي تعرض أمام الزبائن ...نعم الجماد يشعر ياعزيزي .. هذا ما ستكتشفه لاحقا بعد أن تغادر هذا العالم القصير جدا .


    أعيش في مدينة ساحلية شعبية تدعى جمصة .. أعرف أنه اسم يشعرك بعدم الارتياح لكنه اسم المكان الذي فرض عليً أن يكون بلدي .. وفرض عليً أن أحبه و أدافع عنه ضد أي شخص يحاول المساس به .. إن جمصة مدينة ساحلية تعتبر مصيفا لمحدودي الدخل ؛ وهو اسم أطلقته الحكومة المصرية على الفقراء الذين يشكلون ثلاثة أرباع الشعب تقريبا .. الشهر الأخير من حياتي كان ملحمة تعلمت فيها أن الدنيا لم تكن أبدا بخير .. و أن البشر هم أضعف السلالات العاقلة التي خلقت ... أضعفها و أكثرها غرورا وغطرسة .


    انتهيت من التعليم الثانوي المصري الحقير سريعا .. وبدأت في رحلة البحث عن العمل إياها ... قمت بعدة سفرات خائبة إلى القاهرة و الإسكندرية لعرض نفسي على أشخاص ربما يجدونني ذا نفع في مؤسساتهم …في النهاية وجدت عملا كخادم لعائلة تسكن في أحد البيوت الراقية في المعادي .. عملت معهم أكثر من سنة حتى عشقوني وأصبحت منهم .. مهلا .. هل أخبرتك باسمي ؟ لا عليك ففي العالم الذي أنا فيه الآن لا نهتم بالأسماء مطلقا .. كان اسمي هو إسماعيل ... إسماعيل سري ... أبيض البشرة .. أزرق العينين .. بني الشعر ناعمه .. يبدو شكلي طفوليا بشكل يزيل توتر كل من يقابلني .. نعم هذه الأوصاف يمكنها أن تشكل ملامح مصرية ريفية رغم أنها نادرة الوجود نوعا ما .


    ربما يكون الشيء الوحيد المختلف في شخصيتي هي أنني أعشق السيرك منذ صغري .. لم أفوت أي عرض سيرك أسبوعي أبدا في أي بلد أسكن فيها .. كانت التذكرة بثمن زهيد .. بالطبع كنت أتابع عروض السيرك على القناة الثانية والتي كانت تعرضها مساء كل يوم ثلاثاء .. رأيت عروضا من سيرك باروم في ألمانيا و سيرك دو هيفير الباريسي .. أيضا سيرك بيلاروسيا المذهل .. وأنا لا أمل أبدا رغم أن العروض ربما تبدو مكررة للبعض .. السيرك قديما كان وحشيا .. قتال و دماء و آلاف المشاهدين تصيبههم نشوة القتل ... كان يدعى الكولوسيوم .. الآن أصبح الأمر أكثر تحضرا بالطبع .. لكن صدقني .. ليس أكثر متعة .


    لم يمض الكثير من الوقت حتى وجدت نفسي مسافرا إلى موسكو .. نعم إلى موسكو في روسيا .. أسمع بالطبع سؤالك و أتوقعه .. كنت منذ قليل أبحث عن عمل في جمصة فمالذي أودى بي إلى روسيا .. كان الشهر الأخير من حياتي غريبا جدا .. لكني سأختصر عليك الأمر .. ببساطة سافرت مع العائلة التي أخدمها في إجازة سنوية قصيرة .. وفكرة هذه العائلة المدللة عن الإجازة السنوية هي شهر من الاستجمام في دولة جميلة ..وفي تلك السنة كانت روسيا هي هدفهم .. وقد قرروا أخذي معهم إلى هناك لخدمتهم خاصة أن الأب لن يسافر معهم ... هذه هي قصة ذهابي لروسيا باختصار .. الأكثر أهمية هو ما حدث لي في روسيا نفسها .. وكيف مت فيها .


    من الصعب جدا أن تأخذ شخصا من أبناء جمصة و ترمي به في موسكو هكذا بدون مقدمات ... وتفترض منه أنه سيكون مسؤولا عن عائلة من أم و ثلاثة أطفال ... وصلنا إلى مطار دوموديدفو الذي بدا لي كبيرا ومنظما بشكل مبالغ فيه رغم وجود آلاف المسافرين .. ليس كالمطار المصري الذي يشعرك أنك في حمام كبير مزدحم .. برغم هذا أنهينا الإجراءات في حوالي ساعتين .. فتشوا كل حقائبنا .. لابد أنني لم أرق لهم .. فمن سيفتش على عائلة مسكينة كهذه لو لم يكن معم أحمق مثلي .


    أمضينا الليلة في فندق ما لا أذكر اسمه .. لكنني عرفت أنه في منطقة ما تدعى الريغستراتسيا .. الاسم الذي لم أكن لأستطيع قراءته أصلا وقتها .. كانت رحلتنا إلى روسيا أسبوعين .. قضيت مع العائلة أسبوعا منهما والباقي قضته العائلة والشرطة في البحث عني .. مسكينة هي هذه العائلة .. أعرف تماما كم أفسدت إجازتهم التي لا يحظون بها إلا مرة في العام .


    نعم مشينا على نهر موسكوفا .. ورأينا مبنى الكريملين .. تلك المنطقة بالذات تشعرك أنها متحف للمباني الواقفة أمامك كعارضات الأزياء .. الكريملين .. قصور سانكت .. قصر الملكة إيكاترينا الأحمر .. كاتدرائيات ... متاحف .. أمضينا وقتا جميلا بين معالم روسيا حتى أتت ليلة الجمعة .. كان مقصدنا في تلك الليلة هو سيرك موسكو الكبير .. ولك أن تتخيل كيف كانت حماستي وقتها ... كنت متحمسا حتى يمكنك أن تسمع دقات قلبي .. تلك الدقات التي سمعتها لآخر مرة في تلك الليلة .


    كان السيرك الذي أراه في جمصة و حتى السيرك المصري الروسي في القاهرة مجرد لعب أطفال أغبياء بالنسبة لهذا الحفل الخيالي الذي رأيته في آخر ليالي حياتي .. مدرجات كالمسرح الروماني الدائري إياه .. قاعة عرض عبارة عن قاعدة متحركة على أحدث الأنظمة في منتصف المدرج الدائري.. مصممة بحيث يصبح بإمكانها النزول تحت مستوى الأرض والتحول إلى خمسة أشكال مختلفة .. جليد .. مياه .. رمال .. جمباز .. و أرضية فيلم ماتريكس السوداء .. كنت موهوما ...رأيت عروضا كثيرة متتابعة غاية في الرقي والإتقان .. أذكر أنه كانت هناك دراجات نارية تدور داخل كرة خشبية عملاقة ... لاعبي جمباز يقفزون في السماء بشكل مرعب بينما الخلفية بالأعلى تتحول لتماثل الفضاء الخارجي بنجومه وكواكبه ... فجأة يتحول المسرح لحوض مائي و نرى عرض التماسيح المتوحشة .. وبعد قليل تجده أصبح أرضا رملية تجري عليها الجياد ... كان كل شيء ساحرا جدا .. تبع هذا كله عرض المهرجين .. وهي فقرة محببة لمعظم الناس .. و أنا منهم .


    اختلاف تام عن مهرجي مصر أصحاب الكروش الكبيرة والصوت الأجش والدم الثقيل .. هؤلاء مهرجين على أحدث طراز ممكن .... أرى كبيرهم يلبس عباءة حمراء طويلة و يضع قرنين على رأسه .. ياله من شكل غريب لمهرج .. شعرت أنه يجب أن أذهب إلى الحمام فورا و إلا ستحدث أمور ليست سارة على الإطلاق ... قمت من مكاني و شرعت في البحث هنا وهناك ... وقد طال الأمر معي .. نسيت أن أخبركم أمرا.. لقد كنت مشهورا بالغباء .


    لازلت أبحث .. أنظر إلى المسرح .. غادر المهرجون المسرح وبدأت فقرة الساحر .. رجل وسيم ذو شعر طويل أنيق أسود يرتدي بدلة سوداء ويقوم بحيل عادية في البداية لا تلبث أن تتحول لحيل لا تصدق ... أين أنا ؟ .. يالغبائي .. لم أحفظ مكان مقعدي ... من المستحيل في هذا المكان أن تعرف أين كنت تجلس .. هذه قاعة تسع أكثر من عشرين ألف شخص على الأقل ...ثم أين هو ذلك الحمام اللعين .


    استوقفت أحد العاملين و قضيت وقتا رهيبا معه حتى فهم أنني أريد الحمام .. لغتي الإنجليزية معدومة ويبدو من منظره أنه لم يسمع أصلا عن اللغة العربية .. في النهاية أخذني من يدي و أراني طريق الحمام ..أنهيت أموري بالداخل سريعا .. لكن ما هذه الضجة بالخارج .؟


    هناك صوت مزعج جدا بالخارج .. خرجت سريعا لأرى .. كل شيء يبدو على مايرام .. الناس كلها حبست أنفاسها وتحولت الأرضية لأرضية فيلم ماتريكس السوداء الشهيرة ذات النقاط .. ما هذه الضجة بالخارج ؟ لاحقا اكتشفت أنه لا توجد ضجة بالخارج .. وأن الضجة التي أسمعها هي بالداخل .. هناك دوخة غريبة أشعر بها وصوت غريب لا أدري ما هيته في دماغي .. لا أذكر ماذا حدث .. آخر ما أذكره هو أنني جاث على ركبتي و هناك على المسرح رجال ببدلات سوداء يؤدون عرضا ما يشبه فيلم ماتريكس .


    بالفعل لا أذكر شيئا البتة .. كانت غيبوبة متقطعة فيما يبدو .. كلما أفتح عيني أرى ستارا أخضر غريبا ومجموعة من الأصوات تتحدث بالروسية .. ثم أغيب مرة أخرى عن الوعي ..

    - موﭽـتي كَفَريت ميدلنا ﭘـﭽالستا ( من فضلك هلا تحدثت ببطء ؟ )

    - يا ني خَتشو أب إتم كَفَريت ( لا أريد التحدث عن هذا )

    - تي مني ﭭيريش؟ ( هل تثق بي ؟ )

    - كَنيشنا ( نعم )

    - ﭘرْدَلـﭽيتي سـﭭَيو رابوتو ﭘـﭽالستا ( إذن تابع عملك من فضلك )

    فتحت عيني ببطء .... أرى بعض المهرجين يقفون أمام مرآة كبيرة يبللون منديلا ما بمادة ما في كأس ما ثم يمسحون به المساحيق الملونة على وجوههم ... إن وجوههم كبيرة نوعا ما ... هاهو رئيسهم ذو العباءة الحمراء يتكلم بضع كلمات آمرة لواحد منهم ثم يشرع في إزالة المساحيق عن وجهه بدوره ... ثم بدأ يخلع القرنين القطنيين الذين كان يضعهما على رأسه ... هناك شيء ما لا أفهمه .. أم أنه تأثير الغيبوبة ... هؤلاء المهرجين .. إنهم ..يبدو أنهم ... كان يجب أن أفقد الوعي مرة أخرى .

    أفتح عيني فجأة .. ظلام تام .. صوت جهاز التكييف الرتيب ... أصوات شخير مقززة ... أنا راقد على الأرض وهناك ما يقرب من أربع أجساد نائمة على أربع أسرة حولي .. تسللت إلى أنفي رائحة منتنة .. يبدو أنني كنت أحلم أحلاما رهيبة .. أذكر أنني رأيت مجموعة من الرجال حمر البشرة جدا ذوو أسنان صفراء مقززة يتحدثون إلي بلغة غريبة .. ثم أنه كانت لديهم قرون قصيرة حمراء .. هذه الرائحة منتنة بحق .. و ها أنا أفقد وعيي للمرة الثالثة و الأخيرة في تلك الليلة .

    فجأة استيقظت على أصوات عالية جدا صمت أذني .. هناك ظلام و أضواء ملونة تتابع على وجهي .. أشعر أنني معلق في السماء بشكل ما ... لا أرى شيئا تقريبا مما هو حولي .. لكني أسمع صوت موسيقى من النوع الذي يميز أفلام الحركة .. بدأت عيني تعتاد البيئة وبدأت أسمع أصوات أناس كثيرة من حولي .. صوت شخص يتحدث عبر المايكروفون .. أصوات هتاف و تصفيق من عدد رهيب من الناس لا أراهم جيدا ... فجأة أضاء المكان كله دفعة واحدة .. ورأيت كل شيء .

    أنا معلق على ارتفاع متوسط بحبال محكمة في وسط مسرح السيرك ... حولي عشرين ألف متفرج يهتفون و يصفقون وينتظرون شيئا ما ... نظرت إلى المسرح من تحتي .. أرى أربع مهرجين يدورون حول القاعة بشكل استعراضي ويحثون الجمهور على الهتاف بصوت أعلى .. أمسك كبير المهرجين بالمايكروفون وقال شيئا ما بنبرة استهزاء و أشار إلي .. المفاجأة التي اكتشفتها هي أنني كنت معلقا هكذا مرتديا ملابس المهرجين .. شعرت بالأنف الأحمر الكبير المثبت على أنفي .. لم أستوعب الأمر .. كنت قد أصبحت فجأة مهرجا معلقا وسط سيرك موسكو الكبير .

    شيء ما أشعر أنه جامد في ملامحي كلها .. أشعر أن ملامحي كلها ضاحكة بشكل إجباري .. كلما حاولت تحريك عضلات وجهي أفشل ويظل التعبير الضاحك هو الغالب .. كان عقلي أصغر من أن يستوعب شيئا وقتها .. أسمع ضحكات الجمهور على دعابة ما قالها أحد المهرجين ... بدأت الموسيقى الحركية مرة أخرى .. تلك الموسيقى التي تجهزك لأمر جلل سيحدث بعدها .. الجمهور مترقب .. المهرجين وقفوا على شكل دائرة تحتي بحيث تكون وجوههم إلى الجمهور .. ما الأمر .. لا أشعر أنني على مايرام .. وفجأة حدث شيء رهيب .

    اشتعلت ملابسي بالنار فجأة ... مع صرخات الدهشة من الجمهور .. عشرون ألف صرخة دهشة سمعتها مع حرارة مفاجأة شعرت بها في أطرافي .. إنني أشتعل .. لا لست أشتعل .. إن أطرافي هي التي تشتعل ... النار شبت فجأة في أكمامي و ساقيً الاثنتين .. ولم تمس باقي الملابس ... لا أفهم شيئا ... ملامحي لازالت ضاحكة .. الحرارة تتزايد ببطء .. النار تأكل الملابس التي اكتشفت أنها ثقيلة حجبت جلدي عن النار لفترة وجيزة .. باقي الملابس على صدري و حوضي لا تصل إليها النار لسبب ما... الجمهور تحولت دهشته إلى تصفيق إعجاب ... مهلا أيها الحمقى .. إن ملابسي تذوب .. شعرت بلسعة النار على أطرافي ... الجمهور يصفق .. صرخت صرخة عالية جدا لم أسمعها أنا نفسي ... موسيقى تصم الآذان ... تصفيق حار .. وأنا أحترق .

    أنظر وسط الناس .. وجوه ضاحكة مستمتعة .. أطفال مندهشون .. مهرجين يستعرضون حركات استعراضية على المسرح ... أنا أحترق .. إن أطرافي تحترق أيها السفاحين .. ألا تشعرون ؟ ... أنا أصرخ بألم رهيب .. لكن بلا جدوى ... لازالت ملامحي ضاحكة جدا ... ما هذا الذي أراه وسط الجمهور .. أنا لا أفهم شيئا .. نزلت دموعي الساخنة على وجنتي الملتهبتين .. كانت أطرافي تحترق فعلا .

    تلك النظرة التي حانت مني إلى الجمهور رأيت فيها أمرا لا يصدق ... رأيت العائلة التي أعمل خادما لديهم يضحكون و يأكلون الفيشار و يستمتعون بالعرض جدا ... إنهم يصفقون مع الناس ... لكن من هذا الذي يجلس بجانبهم هناك .. ياللهول ... لقد رأيت نفسي جالسا مع العائلة .. إنه أنا .. ملامحي المتحمسة والمندهشة من تلك العروض الروسية التي لطالما حلمت برؤيتها ... كنت أستمتع وأضحك جدا .. يالهول ما أرى .
    أنا أموت ببطء .. أموت من الألم و الحرقة .. قدماي و يداي تذوبان بالنيران ... ألم لا يصفه ألف حرف ... المهرجين لازالوا يقولون دعابات تضحك الجمهور .. أرى نفسي بينهم أصفق .. و العائلة تصفق بجانبي ... شعرت بنفسي وقد نزل بي الحبل فجأة على الأرضية التي تحولت لحوض ماء كبير جدا .. نزلت في المياه الباردة ثم أخرجني الحبل مرة أخرى عدة مرات و أنا أسمع ضحكات الجمهور ... ثم أخرجني الحبل و علقني مرة أخرى أمام الكل ....لم أكن أشعر بأي شيء ... ببساطة لأن روحي كانت قد فارقت جسدي صاعدة إلى السماء .

    إن ما تعرفونه أيها البشر عن المهرجين لايكاد يذكر .. هل منكم من أحد له صديق أو قريب يعمل مهرجا في سيرك ؟ هل سمعتم من أحد أصدقائكم أن له قريب أو صديق يعمل مهرجا في السيرك .. أعرف أن الإجابة بالنفي القاطع .. أنتم تنظرون إلى المهرج في السيرك و تظنون بتفكيركم البشري الطبيعي أنه شخص عادي له عائلة و يعيش حياة طبيعية خارج السيرك كأي شخص... لكن دعوني أخبركم أمرا .

    هذه الكائنات ليست من البشر في شيء .. إنها من الشياطين .... شياطين خلقت من نار كبقية الشياطين وتنزلت مع بقية الشياطين لتعمل عمل بقية الشياطين... الفارق أنهم شياطين ذوو كيان مرئي ... يؤدون عملهم على أتم وجه .. يمتعون البشر بحركات و أقوال سخيفة تافهة .. البشر يعلمون بسخافتها لكنهم يستمتعون بها .. ويضحكون عليها ضحكات سريعة لا تدري مدى صدقها ..

    لقد أحرقوا روحي البريئة التي لم تفقه شيئا بعد قربانا لإضحاك بعض البشر الذين رأيت نفسي أضحك بينهم . ..هكذا هو المبدأ أيها الإنسان .. نحن نضحكك ونمتعك .. لكنك تضحك على أمر نفسك التي تتعذب في الجهة الأخرى حتى البكاء ..

    نعم هم في كل مكان .. بل إن منهم من يجري منكم مجرى الدم و لا تشعرون بهم .. يحدثونكم وتحدثونهم .. يناقشونكم و تجادلونهم .. هم مهرجين من الطراز الأول ... يصورون لكم أفعالكم كأنها غاية في الإمتاع .. بينما هي غاية في السخافة ... نعم هم شياطين .. منهم من يتنزلون كل ليلة إلى قاعات السيرك .. يؤدون دورهم اليومي ثم لن تدري عنهم شيئا حتى الليلة التالية .. هؤلاء هم شياطين السيرك .

    - تي مني ﭭيريش؟ ( هل تثق بي ؟ )

    - كَنيشنا ( نعم )

    - ﭘرْدَلـﭽيتي سـﭭَيو رابوتو ﭘـﭽالستا ( إذن تابع عملك من فضلك )

    تمت

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية عين الشر


    " العين حق لتورد الرجل القبر والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتي في العين"


    إنها حضرموت .. المدينة الوحيدة العربية التي تحمل نفس الاسم منذ آلاف السنين .. حضارة عريقة لازالت تترك ندوبا في عادات أهلها .. ابتسم بفخر يا رجل فأنت تعيش في وادي المسيلة .. ذلك الوادي الذي كان نهرا عظيما تربت على ضفافه أعتى الحضارات في القدم .. واجعل ابتسامتك تتسع أكثر فأنت منتم لقبيلة الحموم .. القبيلة التي تفخر بين القبائل اليمنية الأخرى أنها لم ترضخ للحكومة الأجنبية أثناء استعمارها للبلاد .. ولو لم تكن من قبيلتنا فابتسم أيضا بفخر لأنك تحدث الآن واحدا من الحموم .. محدثك هو السيد طويبة .. طويبة الحموم .

    معذرة لأنني لم أقدم نفسي أولا .. طويبة الحموم ، مقاول مخضرم من أهل حضرموت .. لكنني لست هنا للحديث عن نفسي .. ولا عن قبيلتي .. أنا هنا للحديث عن ذلك الرجل الواقف هناك .. هل رثيت لحاله من النظرة الأولى ؟ رجل هزيل أعمى في الثلاثينات يتكيء على عصا يمشي بها على غير هدى بينما يعدل النظارة الشمسية الكبيرة التي يحب العميان لبسها لسبب غير مفهوم .. هل تصدقني لو أخبرتك أن هذا الرجل لا يجرؤ أهل اليمن كلهم على الوقوف في وجهه ؟ هذا الرجل الهزيل هو أرحب .. أرحب الحموم .. أخي .

    سأنقل لك الصورة منذ البداية و كأنني أعرض فيلما على آلة عرض أفلام قديمة... فلنبدأ معا .. هل ترى ذلك الطفل الجالس في فصله في انعزال على تلك المنضدة هناك ؟ نعم ذلك الذي تركز عليه الكاميرا .. هذا هو أرحب أخي في سن الثامنة .. إن له حاجبين صارمين نوعا ما ونظرات جادة بالنسبة لطفل في سنه ... الشاشة الآن تعرض لك ست صور لأطفال صغار ، كل صورة طفل مكتوب تحتها اسمه .. وهذا التاريخ الذي تراه تحت كل صورة والذي كتب على طراز ( من عام ...... حتى عام ..... ) يمثل الفترة التي عاشها كل طفل منهم حتى مات .. نعم كلهم ماتوا وهم أطفال .. ربما ستجد كلامي غريبا نوعا ما لكن هؤلاء الأطفال كانوا أقرب أصدقاء لأخي أرحب في فترة الدراسة الابتدائية .

    تنتقل بك الكاميرا الآن إلى مشهد آخر .. هل ترى ذلك الفتى الراقد على السرير ؟ هذا هو أرحب أخي في مرحلة مراهقته .. كان يعاني من إفراط في حبوب الشباب التي استعمرت وجهه لمدة طويلة ... والآن ابق معي .. هل ترى ذلك الشاب الوسيم الواقف يتحدث هناك .. أنت تراه من جانبه الأيمن .. بعد لحظات سيستدير لتراه بوضوح .. ها هو هناك يتحرك .. هل رأيت ؟ .. لا تفزع .. إن الجانب الآخر من وجهه محروق .. اللحم دخل على بعضه ليشكل منظرا بشعا .. هذا الشاب يدعى فاتح .. وهو شاب سيء الحظ .. تعرض لحادث سيارة رهيب احترق فيه نصف وجهه .... حرق لا أمل في إصلاحه .. إن فاتح كان شابا أحبته وعشقته فتاة تدعى سندس ... و سندس هي ابنة خالة أرحب .. وهي الفتاة التي كان يهواها أرحب في تلك الفترة .. بل كان يتنفسها .

    دعنا نكمل قصتنا .. ترى الآن مشهدا من داخل سيارة ... إن الشاب الذي يقود السيارة هو أرحب .. إنه مسافر في طريق سريع ما .. هناك سيارة فخمة تتجاوزه بسرعة ... نظر أرحب إلى السيارة قليلا ثم أعاد بصره ليركز على الطريق ... بعد أكثر من عشرة أميال رأى أرحب السيارة مرة أخرى ... لكنها كانت مقلوبة على جانب الطريق السريع .. تابعها ببصره حتى تجاوزها و أكمل طريقه وهو يهز كتفيه متحسرا في فتور على طيش السائقين الشباب هذه الأيام .

    الآن انتقلت الكاميرا بك إلى مشهد صاخب نوعا ما .. رقص و طبول .. إنه عرس كبير ... كل هؤلاء الحاضرين أقربائي .. أعراس قبيلة الحموم لها طابع خاص جدا .. يمكنك أن ترى العريس بين الحشود .. ها هو هناك .. نعم إنه أنا .. وهو عرسي ...كنت سعيدا لأنني تزوجت فتاة كنت أريدها فعلا .. هذا الجالس هناك هو أرحب .. أراك اعتدت ملامحه وعظام وجهه البارزة الآن ... كانت ليلة من أحلى ليالي حياتي ... استيقظت في اليوم التالي لأجد زوجتي ترقد بجانبي ميته .. سكت قلبها عن الخفقان لسبب لا أدريه حتى الآن .. لقد سمعت عن موت الفجأة و أستعيذ منه دائما .. لكن يبدو أنه أتاني في أحب الناس إلى قلبي .

    هل تريد مشاهد أخرى لتفهم الحقيقة المرة أم أن هذا يكفي ؟ نعم أنا أعترف .. أنا أخ شقيق لأشد عين حسودة في اليمن كلها .. بل في العالم كله على حسب ظني .. إن أرحب الحموم مشهور في اليمن ... لا يجرؤ شخص مهما كان عاقلا رزينا أن يواجهه أو يتعرف به خوفا على نفسه .. كانت هناك أوقات أرى أخي أرحب يمشي ليتباعد الناس عن مساره حتى لا يراهم .. كان مرعبا .. نعم أقولها ... لو كان الحقد رجلا لكان أرحب .

    لقد بلغت شهرته أن عقدت معه أحد المجلات العربية الشهيرة جدا مقابلة كاملة قرأها الكثير من الناس ولم يصدقوها ... كان يقول إن كل شيء يحدث رغما عنه .. عندما ينظر إلى شيء جميل لا يقدر إلا أن ينظر له تلك النظرة التي قد لا تستمر أكثر من ثانية .. لكنها تكون كافية .. ثم يختم اللقاء بالقول إنه ومنذ صغره و الكل يتحاشاه ولا يحبه أحد حتى أقرباءه .. وكل ما يفعله هو أنه يعامل الناس بالمثل .. من حقك أن تكره من يكرهك .. ولو كرهك كل الناس فمن حقك أن تكره كل الناس .. وليس لك أدنى ذنب إذا كان كرهك هذا يؤذيهم بهذا الشكل .

    لم يعاني أحد مثلما عانينا نحن قبيلة الحموم .. لقد أسقط أرحب سمعة العائلة التي أصبحت مرتبطة باسمه المقبض حتى الآن .. هذا بغض النظر عن أن أذيته طالتنا أكثر من غيرنا لأننا أكثر الناس الذين يحتكون به .. عندما تتعامل مع أرحب و تحدثه فإنك تتعامل مع شخص عادي جدا .. لا تشعر بشيء مريب فيه إلا أنه صموت بعض الشيء و كلامه مقتضب وجيز .. لكنك بعد أن تغادره تتكشف لك مصيبة لاتزال تنهش فيك حتى تهلكك .. أحيانا قد يحدث هذا إذا مررت من أمامه و ألقيت عليه التحية فقط ... أو حتى مررت ولم تلقها ... كان رجلا شريرا حقودا .

    لك أن تتصور حال أرحب وشعوره .. كل الذين يكرهونه و يكرههم يرتعبون منه .. لذا كان يتسلط .. لا يجرؤ أحد أن يرفض له طلبا مهما كان ... فعل أرحب كل شر يمكنك تصوره في العالم ... أخذ أموال أناس أمام أعيتهم ... ضرب .. اعتدى .. اغتصب ... وصل إلى مرحلة أن خرجت عليه إشاعات أنه هو المسيح الدجال نفسه .. البعض بدأ يصدق هذا بالفعل ... كان يجب أن يوضح حد لكل هذه المأساة قبل أن ينهار اسمنا على رأسنا ولا تقوم لنا قائمة مرة أخرى .

    لقد أريتك إياه في البداية وهو أعمى البصر يهتدي بعصا حقيرة .. رغم هذا فلا يزال هناك من يرتعب و يرتجف عندما يلتفت ناحيته أرحب وهو أعمى مرتديا تلك النظارات السوداء .. كيف أصبح أعمى ؟ هل هذا سؤالك ؟ إن لهذا قصة ...

    كانت هناك محاولات عديدة لقتل أرحب .. ليس هذا غريبا و كل أهل اليمن يتمنون موته .. لكن كل المحاولات باءت بالفشل رغم أن بعضها كان بالأسلحة النارية ... لكن الله إذا كتب عليك أن تعيش ، فستعيش و لو اجتمع الكون كلهم للفتك بك .. هذه قاعدة مسلم بها .

    أذكر في تلك الأيام ذلك الاجتماع الكبير لقبيلة الحموم ... كل الرؤوس الكبيرة حضروا الاجتماع ....كانوا بالطبع يتناقشون في أمر واحد ... أرحب الحموم .. وما حدث لنا بسبب أرحب الحموم ... كانت الآراء متضاربة جدا إلى حد النزاع الحاد ... لكن في النهاية اتفق الكل على ما سيحدث .. لقد قررنا أن نجرده من سلاحه إلى الأبد ...قررنا أن نغتال بصر ابننا أرحب .

    كان تفكيرنا منطقيا جدا رغم بشاعته ... هذا رجل سيقتل عاجلا أو آجلا .. اسم الحموم أصبح في التراب .. وأصبح ينعكس علينا كأشخاص في تعامل الناس معنا .. لابد أن نفعلها نحن .. لن نقتله بالطبع فلسنا بمجرمين ... نحن فقط سنغتال بصره .. ويجب أن نفعل هذا بأيدينا نحن .. وأن يكون هذا على مرأى ومسمع من كل القبائل ... فيعود لنا ماء وجهنا و تعود لنا هيبتنا بينهم .


    دعني أنقل لك الصورة كاملة كما حدثت في تلك الفترة المشهودة .. وجد أرحب الحموم نفسه ذات يوم مدعوا إلى حفل عائلي بسيط ... عائلة من قبيلتنا تحتفل لسبب عائلي ليس مهما جدا ... من الغريب أن يدعوه أحد ... لكنه قبل الدعوة بساطة وحضر الاحتفال .. في منتصف تلك الليلة أصيب أرحب بدوار مباغت .. دوار أجبره على أن يسند رأسه على المائدة التي كان يجلس إليها ويغيب عن الوعي بهدوء .

    يمكنك الآن أن تراني قد أتيت و معي بعض الرجال من أقاربنا لنحمل أرحب بعيدا عن تلك الصالة وندخله إلى أخد غرف البيت .. يمكنك أن تراني أيضا أكشف عن ذراعه و أحقنه بمادة ما بسرعة .. ثم ترانا نغلق الباب بإحكام وراءنا وننسحب في هدوء ونعود لنكمل الحفل .

    في اليوم التالي يمكنك أن ترى تجمعا في الشارع الرئيسي بوادي المسيلة يزداد كلما مر الوقت ..... كان تجمهرا كبيرا من الناس يبدون و كأنهم أتوا لرؤية حدث ما .. ثم يمكنك أن ترى مجموعة من الرجال يحملون شخصا معصوب العينين ويخترقون صفوف الجموع متجهين إلى ساحة رملية قريبة .. نعم هذا أنا و بعض من أقربائي نحمل أرحب .

    وضعناه على الأرض ... كان مكبلا بشكل يستحيل معه أن يحرك يديه أو قدميه .. الشمس في منتصف السماء والجو حار خانق كأنك تقف في فرن كبير .. هل تتساءل عما نفعله ؟ نحن ننفذ ما اتفقنا عليه نحن أكابر الحموم .. نفعل ما كان يجب أن نفعله منذ زمن .. يمكنك سماع صوت أرحب مكتوما من وراء الكمامة المحكمة التي وضعناها على فمه .. لا أدري لو كنت قد لاحظت أم لا ، لكننا أيضا قيدنا حركة رقبة أرحب بشكل يستحيل له تحريكها .. لا زلت أسمع سؤالك عما نبتغي .. تابع و ستفهم كل شيء .

    الناس ينظرون لبعضهم غير فاهمين لشيء و تعالت أصواتهم ... فجأة أزلنا العصابة عن عين أرحب و اتضح كل شيء ... هناك حديدتان دائريتان غريبتا الشكل كل واحدة موضوعة على عين من عيونه .. ألم تعرف ما هية الحديدتين بعد ؟ إنها أداة استعرناها من عيادة طبيب العيون .. وهي تمسك الجفون لتبقي العين مفتوحة دائما بشكل إجباري مهما حاول المريض إغلاقها .. يستعملونها في العمليات الجراحية على العين عامة .. سمعنا من أرحب صرخة مكتومة لكنها بدت عالية جدا في آذاننا .. صرخة ألم ... فقد كنا قد وجهنا جسده و رأسه عيناه لينظر إجباريا إلى قرص الشمس الكبير .

    حاول أن يتملص مرارا بتحريك جسمه في محاولة للانقلاب على بطنه لكننا طبعا اخترنا أقوى رجالنا لتكبيله و تثبيته على الأرض .. كان أحد مشاهد حضرموت التي لا ينساها أي يمني ... لحظة اغتيال عين الشر ... الناس توقفوا أماكنهم من هول الموقف ... يمكنك أن ترى رجالا من الشرطة يقفون لمشاهدة الحدث دون محاولة للتدخل ... فنحن نفعل فعلا نحافظ به على الأمن العام و ليس العكس .

    كانت هذه هي الخطة ببساطة .. كيف تغتال بصر إنسان دون أن تقدم على أفعال شنيعة مثل فقء العين أو صب ماء ساخن عليها أو حتى اقتلاعها بيدك أو بالسكين أو ضربه عليها مباشرة ... كان أرحب يصرخ .. ويحرك كرة عينيه يمينا و شمالا للهرب من قرص الشمس ... كان يتألم بقسوة ... هل تصفنا بقساة القلوب ؟ أنت لا تعرف الشر الكامن داخل هذا الرجل ... إن الأمر كله يذكرني بمشهد تكرر كثيرا في الحضارات القديمة .. مشهد حرق الساحرة .. لقد كانوا يأتون بها و يصلبونها أمام الكل و يحرقونها .. هي عملية طبيعية يتم فيها تطهير الشر .. الفرق هنا أن الشر متمثل في عيني رجل .

    ظللنا على هذا الحال أربع ساعات كاملة .. حتى نتأكد أن بصره قد احترق .. أصبنا بالإجهاد الشديد نحن وكل الحضور .. في النهاية أضفنا اللمسة الأخيرة .. أخرج ثلاثة منا أقلام من النوع الذي ينبعث منه ليزر ويستعمل في المحاضرات .. تلك الأقلام التي تباع في السوق بمائتي ريال يمني .. وهو سعر زهيد جدا على عكس ما يأتي في الأذهان .. وجهنا الليزر إلى عينيه مباشرة لمدة كافية .. وهكذا أنهينا العملية .. وتطهر اسم قبيلتنا .. كانت عملية اغتيال .. اغتيال بصر .

    أعدنا العصابة على عين أرحب و حملناه على أكتافنا مغادرين المكان إلى منزل العائلة الكبير .. كان منهارا ... وضعناه داخل حمام بارد ليغتسل بعد كل هذا الإجهاد .. ثم أرقدناه على سرير ووضعنا له قماشا مملوء بالثلج على عينيه لنخفف من ألمه .. كان في حالة يرثى لها .. لم ينطق بكلمة ... رغم أن كلام كبير العائلة له كان قاسيا وهو يخبره أنه الآن قد تطهر من شره إلى الأبد وبأنه سيسمح له بالسكن و العيش في أي بيت من بيوت العائلة يختار وهم ملزمين بكافة احتياجاته .. قال له أيضا أنه سيزوجه لو أراد ذلك ... كانت أياما لا تنسى حقا .

    بعد شهر وثلاثة أيام بالضبط توفي أرحب ... وجد ملقى على الأرض في بيت العائلة الكبير .. و خرجت الحموم كلها في جنازته ... كنت من الذين حملوا نعشه ... كانت الجنازة تمشي بهدوء حتى وصلنا إلى مقابر الحموم الشهيرة ... كنا قد جهزنا له قبرا خاصا بعيدا عن القبور الأخرى .. فقد كنا نعتقد أن هذا أكثر أمنا بشكل ما... وصلنا إلى قبره .. لكن ما هذا ؟ لماذا لم يحفر هؤلاء الحمقى القبر جيدا .

    رأيت راعي المقبرة يتجادل مع أحد كبار العائلة و يقسم بأغلظ الأيمان أنه حفر القبر بالحجم المعتاد في كل القبور .. وهو يمارس هذه المهنة منذ عشرين عاما و ليس من المعقول أن يخطيء مثل هذا الخطأ الغبي الآن ... لم نضيع مزيدا من الوقت .. طلبنا منه أن يزيد حجم الحفرة لننهي هذه المهمة بسرعة .. و بالفعل أمسك الرجل جاروفه و بدأ في الحفر .

    لست أدري شيئا عن الحفر .. لكن إما أن هذا الرجل لا يفقه شيئا أو أن هذا التراب لا يتحرك فعلا ..... الرجل يبذل مجهودا هائلا كما هو واضح و جدران القبر كما هي لا تتزحزح .. أخذ يضرب الجدران بجاروفه بقوة بلا فائدة ... وهنا نزل الشباب لمساعدته ... البعض أمسك حجرا ثقيلا وأخذ يضرب على الجدران في محاولة لتوسيع الحفرة ... نصف ساعة كاملة ونحن نحاول .. حتى يئسنا تماما .

    شرع الرجل في حفر قبر جديد . .لكن شيئا حدث في تلك المقبرة ... الرجل أصيب بالذهول العارم ... الأرض لا تستجيب للجاروف كأنها تأباه ... تحول ذهول الرجل إلى رعب و قراءة للمعوذتين .. ثم بدأ اهتمامنا يعود مرة أخرى للقبر الضيق الأول .. حملنا أرحب من نعشه وأدخلناه في ذلك القبر الضيق .. وقد بذلنا في هذا جهدا حقيقيا ... كان هذا هو الحل الوحيد ... لم نعد نريد شيئا أكثر من أن ندفن هذا الرجل لننتهي من هذا العذاب .

    بدأنا في ردم القبر بعد أن أدخلنا أرحب ... حتى سوينا الأرض جيدا .. وبدأنا ننفض التراب عن ملابسنا ... دقائق و سمعنا ما أرجف قلوبنا و أذهل عيوننا كلنا بلا استثناء ... سمعنا صوتا أرضيا خفيفا من النوع الذي تسمعه في وقت الزلزال ... وصوت تكسر عظام واضح جدا .. يا إلهي هل أنا أهذي ؟

    عدنا إلى ديارنا .. وهناك فهمت كل شيء كما حدثنا أحد الشيوخ من قبيلتنا ... حدثنا عن ضيق قبر الحاسد وظلمته .. و هو شيء ليس بغريب على روحه .. ففي حياة الحاسد يكون في كدر نفساني و ضيق دائم في صدره .. ويستمر هذا الضيق معه في قبره ... لكن أن يضم القبر على عظامه حتى يكسرها فهذا عذاب منزل من الله لهذا الرجل الحسود بالذات دون غيره .. هكذا كانت نهاية أرحب أخي .. أرحب الحموم .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي




    " أنتم صنعتم لنا مكانا مثاليا لنعيش فيه .. ونحن هيأنا لكم مكانا حارقا تموتون فيه "



    أشعر بملل رهيب .. الأيام رتيبة بشكل يصيبك بالنعاس .. أنظر من وراء زجاج ( فاترينة ) هذا المحل إلى الشارع في فتور .. يالكمية البشر .. متى أتى كل هؤلاء إلى العالم ؟ ومتى سيرحلون ؟ إن لكل منهم حكايته .. أشعر أن هناك الملايين من الناس يطوفون بالخارج في هذا الحي المزدحم .. يبدون وكأنهم لا يذهبون إلى أي مكان .. هم فقط يطوفون بالخارج .. هذا الحي في مانيلا هو حي باكو ... ونسميه هنا الحي الأصفر .. وهذا لأن أكثر قاطنيه من اليابانيين الذين وفدوا إلى مانيلا منذ قديم الزمان أيام وجود الإسبان فيها .. الإسبان لهم علامات حضارية جميلة في بلدتنا مثل الكاتدرائيات والحدائق .. أما اليابانيين فأشعر أنهم سمجون جدا .. ولم نأخذ من مجيئهم سوى اللون الأصفر .



    أنا في هذا المحل الشهير في وسط الحي الأصفر .. محل ليفيز للملابس الجاهزة .. ألم ترني بعد ؟ ها أنا أقف هناك في الفاترينة الزجاجية .. أنت ضعيف النظر جدا و أحمق مثل كافة بنو جنسك ... انظر جيدا وستراني .. هل ترى هذه الزبونة الذي أتت تتفحص قميصي في إعجاب ؟ نعم إنه أنا التي أحدثك ؟ أنا هي تلك المانيكان الأنيقة يا صاحب العقل القاصر .. أنا سومارا التي لا يمر عليها شخص إلا و أبدى إعجابه بأناقتها .. بعقليتك القاصرة أسمعك تسأل نفسك كيف أحدثك ؟ بل من أنا أصلا ... كنت أود أن أحكي لك الحكاية التي أدخرها سريعا .. لكن يبدو أنني يجب أن أفسر لك ما هيتي أولا .



    نحن هنا منذ البداية .. نحن هنا قبل أن تأتوا أنتم .. هنا منذ ملايين السنين .. والأرض بأكملها كانت ملك لنا وحدنا .. وعندما نزل جنسك البشري إلى الأرض .. حكم علينا بالاختفاء .. تسألني من نحن ؟ إننا الجن أيها القاصر ... الجن الذين تحجمت جميع ممالكهم وإمبراطورياتهم ونفوذهم بسبب كائن أحمق مثلك .. لكننا موجودون .. أنت لا تدري بقصورك و غرورك أننا في كل مكان حولك .. بل إن منا من وكلوا ليكونوا قرناء لشخصك القذر يتابعك أينما تذهب .. ولولا أن هناك حدودا وضعت بين جنسنا الفاخر وجنسك الضعيف لكنا حولنا حياتك إلى جحيم ... وكل حد بين شيئين له ثغرات عدة ... وبسبب كرهنا الشديد لك فقد أصبحنا خبراء في استغلال هذه الثغرات .. وسنظل نفعل هذا ولن نمله على الإطلاق .



    نعم أنا الجنية التي تسكن ذلك المانيكان بريء المنظر الذي يتوسط هذا المحل ... إن الجان أنواع عديدة تفوق قدرتكم على التفكير .. وأنت لا تتخيل أن هناك جنس كامل منا يسكن في تلك الأجساد والتماثيل التي تصنعها أيديكم .. شرط أن يكون هذا الجسد برأس ذات رقبة .. سواء كان جسد إنسان أو حيوان أو حتى جسد كائن خرافي ... فور انتهاء صانعيكم من صنعه يحل فيه واحد من جنسنا .. وأنتم تفرطون في صنع هذه الأجساد بمسميات كثيرة ... الأصنام الأثرية .. التماثيل في المتاحف أو الميادين .. المانيكانات ... ألعاب الأطفال بأنواعها .. أيها القاصر ... هل أدركت الآن أننا حولك في كل مكان وأنت لا تشعر ؟ مهلا .. هناك وجه جديد أراه لأول مرة يعمل في محلنا .. فتاة مكتنزة متوسطة الجمال ..ذات ملامح غير مريحة ... يبدو أنه قد تم تعيينها اليوم فقط ..



    إنها ترتدي ذلك الزي الأزرق الذي ترتديه العاملات في محلنا .. قميص و تنورة قصيرة فوق الركبة وربطة شعر زرقاء ... إنها تضحك مع جريس .. جريس تعمل هنا منذ سنوات ويبدو أنهما سيكونان صداقة ما .. هي أحد المحظوظات ....لإنه لا يعمل في محل ليفيز الشهير إلا المحظوظات فقط .. قطع ضحكاتهن أن دخل المحل شاب ياباني وسيم ألقى التحية بصوت عال ..وعندما أقول أنه شاب ياباني وسيم فما أعنيه هو أن عيناه أوسع من غيره ... اليابانيون يحملون عقدة من ضيق عيونهم دائما ، لذا تجد كل شخصيات الكرتون اليابانية ذات أعين واسعة جدا تحمل ثلث الوجه ... هذا أول شرط تتعلمه إذا أردت احتراف هذا النوع من الفن .. الرسم الياباني يصب الاهتمام على العين فقط بينما تقتصر باقي ملامح الوجه على بعض الخطوط هنا وهناك ... الخلاصة أن الشاب الوسيم كان يحتاج إلى بزة رسمية .. وهاهي جريس قد ساقته وراءها لتختار له شيئا مناسبا ... وهاهي تلك الفتاة الجديدة - التي عرفت فيما بعد أن اسمها هو مادل - تمشي وراءهما لتتعلم كيفية جعل الزبون يخرج من المحل وقد صرف كل ما يملك .



    الحكاية المعتادة .. الشاب غاب عقله تماما عن جريس التي نبحت صوتها في الكلام عن هذه البزة أو تلك .. بينما عيناه تسترق نظرات إلى مادل .. إنه عيب هذه المهنة ... من الصعب أن تكمل فيها فتاة مكتنزة متوسطة الجمال .. لكن مادل رسمت وجها ثلجيا وأبدت أنها تهتم لكل كلمة تقولها جريس ... الشاب استنفذ كل الطرق التي يمكن أن تجذب بها اهتمام فتاة ما .. لكن الجليد على وجه مادل كان يزداد ... جرب الفتى أن يكون طريفا ففشل .. جرب أن يضيق عينيه من حين لآخر ليعطي انطباعا بالخطورة ففشل .. جرب أن يسأل مادل عن رأيها في كل قطعة تعرضها له جريس فكانت تقول كلمات مقتضبة جدا من النوع الذي يقتل فيك أي رغبة للحديث .. في النهاية تظاهر الفتى أن وراءه أمرا ما ... فقط ليعود ثانية بالطبع فيجرب مرة أخرى ... هذا السيناريو رأيته آلاف المرات ... وسيتكرر اليوم عشرات المرات مع عشرات الفتيات ... ألم أقل أنها حياة رتيبة ؟



    قل لي هل أخبرتك كم يكرهك جنسنا ؟ وكيف أننا نستغل أي فرصة للظفر بك ؟ أنت لا تعرف أن جنسنا هو سبب أي حريق حدث في هذا الكون .. راجع الملفات الجنائية لأي حريق وأحص بنفسك عدد المجسمات والتماثيل التي كانت موضوعة في المكان .. كيف نسبب الحريق ؟ سؤال أحمق كصاحبه .. سل لماذا نسبب الحريق ... لازلت تجعلني أتكلم في أمور لا أريدها .. إن جهلك لا يطاق .



    لقد أتينا من النار .. هي جزء من أرواحنا .. وعندما تتقد وتشتعل في عالمك القاصر ، يكون الانضمام إليها من أجمل متعنا .. و الذوبان فيها هو قمة شهوتنا و نشوتنا .. لكن ليس لأجل النار نفسها .. بل لأجل الأرواح التي تحرقها في طريقها .. دعك من اللذة الغامرة التي تنتابنا عندما تحرق هذه النار أرواح بشرية .. البشر ضحايا أغبياء .. ونحن نشعلها نارا كلما سنحت لنا الفرصة .. هل قابلت بشريا بعد أن مات بالاحتراق ؟ هل حدثك عما رأى ؟ هل حدثك عن جنسنا ؟ لن أتحدث أكثر من هذا .. التزم الصمت و دعني أكمل لك ما بدأته .



    في اليوم التالي دخل علينا الشاب الياباني واسع العينين نفسه و ألفى التحية بصوت عال ... اتجهت له جريس و تكلما بضع دقائق ... ثم مشت ومشى وراءها .. أشارت لمادل لتتبعهما ففعلت .. وها هي تعرض له أنواعا من البزات ... وها هو ينسى كل شيء ويحاول أن يجذب انتباه مادل التي رسمت الوجه الثلجي إياه .. وأجابت بنفس العبارات المقتضبة إياها .. في النهاية مثل الفتى وكأن هناك موعدا هاما وراءه وانصرف بسرعة ... هذا يبدو مألوفا جدا .. لقد قلت أن الحياة رتيبة وتتكرر .. لكن ليس هكذا .. في اليوم التالي أتى الفتى الوسيم إياه .. و ألقى التحية إياها ... و اتجهت له جريس .. و عرضت له الأنواع إياها .. و مادل كانت هناك بالوجه الجليدي إياه .. وفي اليوم التالي أتى نفس الشاب و ...



    مهلا ... ألاحظ أشياء غريبة هذه الأيام بالفعل ... الفتى الكاشير الذي يدعى موديستو يتشاجر كل يوم مع رجل سمين ذو شارب كث يأتي و يبدأ بالتذمر على الأسعار ثم ينتهي بسب موديستو بأمه ... هناك كذلك طفل شحاذ ذو شعر أحمر ناري يدخل هنا كل يوم ويتفحص بعض الملابس في قسم الأطفال حتى يأتي رجل الأمن الضخم المدعو بينجي فيلقي به خارجا ... أرى الآن أمامي امرأة ممتلئة جدا تدخل مع زوجها .. هذه تأتي كل يوم في هذا الوقت و تخرج وقد اشترت نفس أنواع الملابس ويخرج زوجها كل يوم متذمرا ... هناك فتيات يأتين هنا كل يوم بملابس المدرسة بعد انتهاء يومهم الدراسي و يقفن لتفحص نفس أنواع الملابس كل يوم .. وكل يوم يخرجن ضاحكات ولا يشترين شيئا .. وهاهو الفتى الياباني الوسيم يدخل مرة أخرى ...



    إنه منتصف الليل ... موعد إغلاق المحل قد حان الآن ... لازال هناك زبائن قليلة جدا يحاول الكاشير موديستو أن ينجر أمورهم بسرعة .. لم تمض عشر دقائق إلا وقد أصبح المحل خال .. وبدأ رجل الأمن يغلق أنوار المحل تدريجيا ... ثم أغلق أبواب المحل الكبيرة .. فساد الظلام الدامس ... و سمعته يغلق الأبواب الحديدية في الخارج .. ثم انصرف الجميع ... إنه وقت حريتنا الآن .. أخيرا يمكنني التحرك بهذا الجسد الغبي الذي أسكن فيه ... لست وحدي هنا ... هناك قبيلة كاملة من المانيكانات بدؤوا يتحركون الآن بحرية في المحل ... نعم ... نحن نأخذ حريتنا عندما تغيب عنا أعينكم القذرة .. لا خوفا منكم حاشانا .. و إنما لأن هذا قانون صارم جدا على جنسنا كله ... كل ذا رقبة يتحرك عندما تغيب عنه أعين البشر ... و البشر أغبى من أن يلاحظوا شيئا عند عودتهم إليه ... حتى لو تغير وضع وقفته فهم أغبى من أن يلاحظوا .. و إن لاحظوا فإن تفكيرهم أكثر قصورا من مجرد الشك في حقيقة ما حدث .

    أرى الآن المانيكانات ميريل و نيبريدا و سييلو و أفانسينا و ديلاروز كلهن وجدنها فرصة لفك القيد الذي كانت تحاصرهم به أعين البشر وبدؤوا في التحرك و الحديث بحرية ... بالفعل لاحظ الكل أن هناك مشاهد تتكرر كل يوم منذ أسبوع بشكل مستفز ... حتى أن سييلو أقسمت أن هناك شاب يأتي كل يوم ويتحسس قميصها بإعجاب ثم ينادي العامل و يصر أن يشتري القميص الموضوع عليها وليس الموجود على الرف .. ويصر على رأيه حتى يضطر العامل أن يخلع القميص عن سييلو و يبيعه إياه بسعر أغلى من سعره ... و يأتي الفتى كل يوم ويشتري كل قميص يضعونه على سييلو المسكينة .

    طبعا كل ما أقوله لك الآن غريب على مسامعك ... لكننا اتفقنا على أنك قاصر العقل ... هذه الأمور نراها نحن أقل غرابة لأننا نعرف أكثر .. نعرف أن القرين بعد موت صاحبه وبعد مضي مئات السنين عل الدفن ، يكلف أن يعيد أداء مشاهد معينة من حياة صاحبه ... لماذا ؟ لا أحد يدري ... ولا أحد سيدري ... إنها أسرار جنس كامل .. في عالمك إفشاء الأسرار شيء سهل جدا ... لكن عالمنا يختلف ... هذه أشياء مستحيلة الحدوث ... هذا يعني أن كل هؤلاء الذين يأتون و يروحون كل يوم هم قرناء ... لكن لماذا يجتمعون كل يوم في محل ليفيز للملابس الجاهزة ؟

    إنه يوم جديد .. أرى نفس الشخصيات قد أتت و اجتمعت في المحل كل يؤدي مشهدا رأيته عشرات المرات من قبل ... جريس تحاول منذ أسبوع إقناع الشاب الياباني أن يشتري شيئا ما .. وهناك ذلك الشاب يجادل العامل في أمر قميص سييلو ... فجأة حدث شيء في غاية الغرابة ... بدأ بعض الشباب يغلقون أبواب المحل فجأة بعنف .. وعلت همهمة الزبائن .. أفاق الحارس بينجي من غفوته .. لم يستوعب شيئا ... أخرج الشباب مسدسات من مكان ما و أطلقوا عدة طلقات في الهواء .. هذه عملية سطو مسلح .. والسطو على محل ليفيز في هذا الوقت من اليوم مربح جدا .... من ذا الذي قال أن الحياة مملة .. كم أحببت هؤلاء الشباب .

    صرخات نساء .. بكاء أطفال ... همهمات رجال ... طلقات مسدسات .. مجرمين يطالبون الكل بالجلوس على الأرض ... أرى الكل قد جلس .. لكن ذلك الطفل الشحاذ ذو الشعر الأحمر مازال واقفا بتحدي .. و أرى أيضا ذلك الرجل السمين ذو الشارب الكث كف عن التشاجر مع موديستو ووقف مقطبا جبينه رافضا الجلوس ... فتيات المدارس توقفن عن الضحك و نظرن نظرة جامدة و أبين أن يجلسن مع الجالسين ... الشاب الياباني إياه أراه يقف راسما أعتى علامات الخطورة على وجهه ... طلقات المسدس اشتعلت مرة أخرى ... صيحات مجرمين ... إنهم يهددون الواقفين بتحويل أجسادهم إلى مصفاة ... وهاهو أحدهم يصوب مسدسه على الرجل ذو الشارب الكث ... وهاهو الرجل يقف في تحدي .. وهاهو المجرم يطلق النار .

    " لكن لماذا يجتمعون كل يوم في محل ليفيز للملابس الجاهزة ؟ "

    صرخات نساء ورجال .. نحيب أطفال .. كرش رجل ذو شارب كث ينزف دما بينما يقف الرجل مكانه وكأن كل هذا لا يعنيه ... مجرمون ينظرون في ذهول ... مجرمون آخرون يصوبون مسدساتهم ويفتحوا النار على صاحب الشارب الكث .. دماء تنزف ... رجل سمين ذو شارب كث يبدو بصحة عالية رغم أن جسده تحول إلى مصفاة .. مجرمون تحول ذهولهم إلى رعب جنوني وبدأوا في إطلاق النار في كل مكان على كل الواقفين .. طفل شحاذ ذو شعر أحمر ينزف دما أحمر من رأسه بينما ينظر في جمود ... فتيات مدارس لوثت ملابسهن المدرسة بدمائهن بينما ينظرن لبعضهن في فتور ... صرخات مجرمين ... زبائن مغمى عليهم أو ماتوا بالسكتة القلبية لن تعرف أبدا .

    " وجه جديد أراه لأول مرة يعمل في محلنا "

    أسمع أصوات سيارات الشرطة بالخارج .. أرى المجرمين في حالة من الذعر .. ليس من الشرطة بالطبع وإنما مما رأوه بداخل محل ليفيز .. هاهم يفرون إلى الباب .. رغم أن الشرطة بالخارج إلا أنها أكثر رحمة من هذا العذاب .. يحاولون فتح الأبواب التي أغلقوها ... لكن لا مجال .. لقد أوصدت الأبواب .. لا تسأل عن الكيفية .. فقط أوصدت .

    " فتاة مكتنزة متوسطة الجمال ..ذات ملامح غير مريحة "

    نظر المجرمون إلى الخلف في رعب .... وهنا رأى الكل مشهدا عجيبا ... بدأت الملامح الجامدة لكل الواقفين الذين أخافوا المجرمين تتحول إلى ملامح مذعورة جدا .. ملامح رسمت عليها أعتى علامات الرعب .. وكانوا كلهم ينظرون إلى نقطة واحدة .. مادل ... التي بدأت تطلق النار عليهم بدورها ... لكن في هدوء شديد .... وأصبحوا يتساقطون أمام طلقاتها .. لا تزعج عقلك القاصر بالتفكير ... هذه الفتاة هي قاتلتهم ... وموضوع تكرر المشاهد لم نلاحظه إلا بعد عمل هذه الفتاة في المحل ... كانت هذه هي قاتلتهم في حياتهم الحقيقية ... وقاتلتهم بعد مماتهم .

    مهلا ... أرى المانيكان ديلاروز بدأت في إعطاء إشارة ما .. هناك سيجارة مشتعلة سقطت من فم أحد المجرمين إلى الأرض الرخامية .. لكن ديلاروز نجحت في جعل السيجارة تلامس أحد أقمشة الملابس المعروضة .. نجحت ولم ينتبه أحد لحركاتها وسط كل هذا الجنون ... هذا يعني أن الموازين ستنقلب .. وأنه دورنا في هذه المسرحية .

    نار بدأت صغيرة لكنها اشتعلت بسرعة غير مفهومة في كل ما حولها .. سرعة اشتعال النيران في الحرائق نحن سببها الوحيد .. فالجذوة الصغيرة يمكننا جعلها نيران رهيبة تأكل غابة بأكملها .. الناس تصرخ .. المجرمون يصرخون .. هناك أجساد واقفة تنزف منها الدماء وتنظر لكل ما يحدث في برود تام .... واشتعلت النار أكثر ... أسمع ضربات على الأبواب بالخارج ... هناك نوافذ لكنها عالية جدا وتحتاج لسلالم ليمكن الوصول إليها .

    الكل في الداخل أصبح يجري و يصرخ .. ضربات على الأبواب و محاولات مستميتة لفتحها دون جدوى ... تسألني من أوصد الأبواب فجأة هكذا ؟ .... لا تستهن بجنسنا أيها القاصر ... لحظة إنهم يكسرون الباب من الخارج ... إنهم ينجحون في هذا ... لقد كسروا الباب الكبير الرئيسي .... الكل في الداخل والخارج توافد على الباب ... أناس بالداخل يودون الخروج .. و شرطة بالخارج تحاول الدخول للقبض على بعض من في الداخل ... لكن مهلا ... فجأة سقطت كل الأبواب الحديدية الخارجية واصطدم بها الجميع ؟ هل ستعاود سؤالي عمن أنزل الأبواب أيها القاصر عديم النفع ؟ من خلال الباب أرى في الخارج سيارات مطافيء قد وصلت للمكان و بدأت في تحريك سلمها في اتجاه النوافذ العالية ... لكن هيهات ... لقد كان حفلنا قد بدأ ... وصل حجم النار إلى الحجم الذي يسمح لنا بالتحرر ... وقد تحررنا ...

    نعم يمكنني أن أقول أنها كانت ليلة غاية في اللذة و الإشباع ... أرواح بشرية بريئة .. وأرواح مجرمين .. وروح قاتلة مسلسلة .. وقرناء سيئ الحظ .. إن جنسنا هو الذي يسود في النهاية .. لا أحد يقف أمام النار .. نيراننا توقدت في وجه رجال الإسعاف الذين كسروا النوافذ و بدأوا في إطلاق المياه من خراطيمهم السخيفة ... هؤلاء تساقطوا من فوق النوافذ إلى داخل المبنى و ليس إلى الخارج ... من الممتع إضافة أرواح أبطال المطافيء أيضا إلى المجموعة .

    في داخل محل ليفيز للملابس كنا نتحرك .. فجأة رأى الناس مجموعة من المانيكانات دبت فيها الحياة و توحشت ملامحها وصارت تعطي تعبيرات بوجوهها كالبشر تماما ... وتوحشها ليس توحشا عاديا .. كان توحشا رهيبا حارقا ... كنا نمسك بواحد من هؤلاء البشر و النار مشتعلة فينا .. و نقبض على جسده حتى تشتعل فيه النار .. ويحترق ... ليس فقط يحترق .. إنه يحترق و تحترق روحه معه .

    إنها لذة ما بعدها لذة ... لثد قدرت جريدة مالايا الفلبينية عدد ضحايا هذا الحريق بحوالي مائتان و سبعون شخصا ... وكتبت كلمات بشرية حمقاء عن الخبراء الذين تحدثوا عن ماس كهربائي ما ... وعن تحليل جنائي للحريق وعلاقته بمجموعة المجرمين الذين صادف وجودهم هناك في ذلك الوقت .

    مرحبا بكم مرة أخرى .. محدثتكم سومارا من محل يوكاي للملابس الجاهزة على أطراف مانيلا ... نعم أنا المانيكان ... هل تفتح عقلك و أصبحت تدرك معنى هذه الكلمة الآن يا صاحب العقل القاصر ... لن أعرفك على باقي المجموعة ... يمكنك رؤيتهم بنفسك ... نيبريدا و سييلو و أفانسينا ... كلهن واقفات بأناقة هنا وهناك .. و مجموعة من الوجوه البلهاء تنظر لهن في إعجاب ... نحن المانيكان .. بل نحن أكثر من هذا .. لطالما كنا نراقبك .. وسنظل نراقبك .. و إننا نراقبك الآن .. لا تنظر لنا هكذا أيها القاصر ... فقط تذكر ما قلته لك يوما ... لولا أن هناك حدودا وضعت بين جنسنا الفاخر وجنسك الضعيف لكنا حولنا حياتك إلى جحيم .. لكنها فقط مسألة وقت ... نعم ... إنها مسألة وقت .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية الدماء المقدسة


    "يابني أنا والدتك .. لكنك إذا رأيتني وقد طال الشعر على وجهي و تقوس ناباي و أصبحت أكره نور الصباح ، فاقتلني يابني "


    كم أمقت تلك الأيام التي كنت فيها واحدة من أمثالكم .. أفكر مثلكم .. أحلم أحلاما حمقاء و أبحث عن متع زائفة.. أتجمل و أتعطر لأبدو أكثر احتراما أمام أناس يتجملون و يتعطرون لنفس السبب .. أقرأ كتبكم البلهاء لأبدو أكثر ثقافة أمام مجموعة من الجهلاء ... والآن أنظر إلى ما أنتم عليه من التدهور ثم أنظر إلى مرآتي و أبتسم ... لست شخصية أنانية لأستأثر لنفسي بما وصلت إليه ... بل إن هدفي أن يرتقي غيري في السلسة الحيوية كما ارتقيت .. أعود أنظر إلى مرآتي و أبتسم ... و ناباي يبتسمان معي في سخرية .

    سأتبسط في حديثي نوعا ما .. فأنتم تحتاجون إلى هذا .. أنا الدكتورة بريانكا شونرا ، استشارية أمراض الدم الشهيرة بمستشفى العائلة المقدسة في بومباي بالهند .. توفي زوجي و أنا طالبة في الكلية خلال السنين الأولى من زواجنا .. كنت قد أنجبت منه ابني راج .. بعد وفاة زوجي كرست حياتي كلها من أجل راج .. وراج وحده .. لأجله تخرجت من كليتي بدرجات عالية .. ولأجله وحده سافرت إلى انجلترا و أمريكا لأحصل على الماجيستير و الدكتوراه وهو معي .. ثم عدت إلى الهند .. كان تخصصي في الطب هو أمراض الدم .. ولا أدري لماذا اخترت هذا المجال بالذات .. لكني شعرت أنه الأنسب .

    وصلت إلى كل ما تحلم به أي طبيبة في الهند من ناحية المادة و مستوى المعيشة المتقدم ... سيارة فاخرة .. بيت كبير في بندره بمدينة بومباي .. راتب شهري يزيد جدا عما يجب أن تكون عليه حاملة الدكتوراه من أمريكا ... ربيت راج تربية صارمة جدا .. كنت اختار له كل شيء منذ أن كان طفلا مرورا بمرحلة المراهقة وحتى هذه اللحظة وهو في بداية العشرينات .. ملابسه .. قصة شعره ... وحتى كلية الطب فرضتها عليه فرضا .. فرضت عليه الفتاة التي يجب أن تكون زوجته .. ولكن راج عند هذه النقطة عصاني .. نعم يمكنك أن تفرض على أي شخص أي شيء إلا أن تفرضعليه أن يحب أو يكره .

    هذه مشكلة كل أم في العالم تربي ابنا وحيدا .. هي تفني عمرها كله من أجله فقط لتأتي طفلة من صاحبات الصدور غير المكتملة لتأخذه على طبق من ذهب .. فقط لأنها ضحكت له ذات مرة في بلاهة .. لن أسرد لكم تلك الدراما الاجتماعية المألوفة .. أنتم في غنى عن كل هذا .. بل إن كل هذا سخف بشر .. ولست هنا للحديث عن سخف بشر ... تعرفتم علي بما فيه الكفاية الآن ... ما أنا هنا للحديث عنه هو الطوق الذي سينقلكم من بحر السخف الذي تعيشون فيه إلى بر الرقي .. أنا هنا لأحدثكم عن البورفوريا ... وتذكروا هذه الكلمة جيدا .

    إن الدم مخلوق عظيم .. هو ليس مجرد سائل كما تقول كتبكم ... بل إنه مخلوق .. لأنه حي .. كل شيء فيه حي .. بداية بالبروتينات الجانبية التي تنقل الغذاء وانتهاء بالخلايا البيضاء الدفاعية ... لقد نوهت لك أنني استشارية في أمراض الدم .. تعلمت الدم في أرقى مدارسكم العالمية .. علمتموني أن البورفوريا مرض خبيث يصيب الدم و يجب التخلص منه قبل أن يتفاقم .. و بذلتم جهودا خرافية لعلاجه حتى نجحتم وببراعة .. إن البورفوريا أيها الجهلة هي حالة مقدسة تمر بها دماؤكم البشرية لترتقي .. أنتم تذكرونني بالشخص الذي اكتشف جذوة نار دافئة في صحراء شديدة البرودة فأطفأها ظنا منه أنها ربما ستحرقه .

    فلنر ماذا تقول كتبكم ؟ تقول أن الدم ببساطة يتركب من مادة معقدة نوعا ما تدعى هيموجلوبين .. و أن الجسم يصنع هذه المادة ذات الاسم المعقد من مادة أبسط تدعى هيم ...هذا ما تتشدقون به ليل نهار ... لكن عندما يحدث تحور غير مفهوم – كما تقولون - في مادة الهيم البسيطة ، فإنها لا تصنع هيموجلوبين في النهاية بل تؤدي لصنع مواد أخرى غريبة – كما تقولون – أحدها يدعى البورفرين ... وهذا الأخير عندما يتراكم في الدم يوصله لحالة مرضية – كما تقولون – تدعى البورفوريا .

    علمتمونا كيف نعرف مريض البورفوريا عندما نراه أمامنا ؟ ألم رهيب في البطن .... قيء متكرر .. ثم نلاحظ أن المريض زادت نسبة الشعر في وجهه .... و أصبح حساسا جدا لأي ضوء .. ثم وفي النهاية يلتوي ناباه و يزيدان في الطول ... بعدها تبدأ حاجته إلى الدماء تزيد شيئا فشيئا ... هل يذكركم هذا بشيء ؟ بالطبع أنتم تأخذون هذا المريض إلى عياداتكم و تعطونه كل الدماء التي يحتاج إليها بأسلوب طبي ثم تعزلوه عن الناس حتى لا تعدي حالته أحدا ... و تعالجونه حتى يعود إلى طبيعته .

    ما لا تقوله كتبكم ولن تصل إليه عقول علماؤكم هو أن من تأتيه البورفوريا يبدأ دمه في التحور من الدم البشري ليصبح ذا طبيعة أخرى أكثر رقيا ... طبيعة الفامباير .. أو كما تسمونه في مصطلحاتكم الناقصة بمصاص الدماء .. أنتم أطلقتم هذا الاسم لأول مرة على الامبراطور فلاد الثالث ، امبراطور مقاطعة والاشيا برومانيا والذي أسميتموه ( دراكيولا ) أو الشيطان .. رغم أنه لا علاقة تربطه بالشياطين .. إن السيد فلاد ليس أسطورة خيالية ... لقد ارتقى السيد فلاد وتحور من الطبيعة البشرية إلى طبيعة الفامباير المقدسة .. بل و أصبح أشهر فامباير بالنسبة إليكم .. ليس هو كبير عشيرة الفامباير كما هداكم خيالكم المريض .. هو فقط أكثرهم شهرة .... بالطبع استلهمتم من شخصيته الكاسحة أفلاما و روايات لا عدد لها .. وجنيتم من وراءه أموالا لا حصر لها كعادتكم البشرية المعروفة .

    كثير من البؤساء المشهورين أتاهم ذلك النداء – البورفوريا – لكنكم حطمتموه قبل اكتماله ... و أشهرهم الملك جورج الثالث و جدته ماري ستيوارت ... أنتم تظنون أن الفامباير هي أجناس مرعبة و مؤذية كالجن و الشياطين .. هذه حماقة .. إن هدف مصاص الدماء .. أي مصاص دماء هو ترقية البشرية و إعطائهم شرف الوصول إلى الحالة التي وصل هو إليها ... فيما سيأتي سأحكي تجربتي الشخصية مع البورفوريا .. أنا ارتقيت من استشارية بشرية شهيرة حمقاء إلى أكبر مصاصة دماء في الهند بأكملها .

    بدأ كل شيء بالصدفة ... في السنين الأولى من عملي بمستشفى العائلة المقدسة .. بالمناسبة هذا مجرد اسم وضعوه للمستشفى لكنها لا تتعلق بأي عائلات مقدسة ..بدأت الحكاية عندما دخلت على عيادتي الشهيرة فتاة متوسطة الجمال في مرحلة المراهقة .. فاتحة اللون عكس معظم فتيات الهند و ذات عيون بنية يائسة .. تملك شعرا أصفر جميلا تجعله كبنات المدارس الصغيرات حيث ترى خصلتين يخرجان من الشعر كقرون الاستشعار .... كانت تبدو مريضة جدا .. اللون الأصفر الشاحب ينطق من وجهها المراهق ويعطي تأثيرا دراميا مع لون شعرها .. أنا استشارية أمراض دم .. ومجيء هذه الفتاة عندي يعني أنه تم اكتشاف أن لديها غالبا فقر دم ككل الفتيات اللواتي يأتين إلي كل يوم ويتبين أن لديهم نوع من أنواع فقر الدم الخمسة .. لكن ومنذ نطقت الفتاة كلماتها الأولى اتضح لي أنها حالة من الحالات التي يعرف الطبيب أنها ستستهلك الكثير من وقته بالفعل .

    بورفوريا .. هذا مؤكد .. رأيت حالات بورفوريا نادرة فيما سبق من حياتي كان معظمها أثناء إنهائي لرسالة الماجيستير في لندن .. مريض يشكو من الآم في البطن و يحكي عن هلاوس يراها ويسمعها طيلة الوقت لدرجة أن معظمهم يتم تحويلهم للعيادة النفسية لتشارك في العلاج ... كانت الفتاة تدعى ريا .. وهذا كل ما تهمك معرفته حاليا .
    كانت ريا هي أول حالة بورفوريا أراها في الهند .. وقد تصرفت كما تتصرف أي طبيبة استشارية تستحق مركزها وبدأت في طقوس العلاج بالترتيب الذي تعلمته و أعلمه لتلامذتي .. لكن ريا كانت تتصرف بحدة .. وترفض العلاج بقسوة إلى حد أننا كنا نكبلها على سرير المستشفى لنسقيها أو نحقنها العلاج بالقوة .. لا أفهم لماذا أتت إلينا لو كانت ترفض العلاج بهذه الطريقة .... كل ما قالته لنا هو أنها فتاة في السنة الأولى من الجامعة .. و أنها تريد أن ترتاح من آلامها .. و أن اسمها ريا .. و أنها هاربة من بيت أهلها مؤقتا .

    - مقدسة أنفاسنا .. مقدسة دماؤنا .. من الظلام المقدس أتينا .. و في الظلام المقدس نعيش .. وإلى الظلام المقدس نعود ...
    - ماذا تقولين يا ريا ؟
    - خلقنا منذ خلقت الدماء على الأرض .. محرم علينا النور .. محرم علينا الهرم ..
    - إلى متى ستعيشين وسط هذه الأوهام يا فتاتي ؟
    - دماؤكم غذاء أرواحنا .. منها نرتوي ... و ...
    - أفيقي يا ريا .. أفيقي ... فلترحمنا السماء
    - نهاركم ليل لنا .. و ليلكم نهار لنا ..
    - ريا ؟
    - نداؤنا شرف لكم .. فمنكم من يرضى الشرف .. ومنكم من يرضى العار ..

    لقد كانت ريا مصاصة دماء .. لم أكن أفهم شيئا وقتها .. كانت دماؤها تمر بالحالة الانتقالية المؤلمة التي يجب أن يمر بها أي فامباير.. لسبب ما كنت أقدم لها العلاج بشكل غير كامل .. ربما شفقة عليها و استجابة لرغباتها .. وربما فضول لأرى هذه الحالة الغريبة عن قرب .. رأيت كيف نمت لها شعيرات خفيفة ملحوظة على وجنتيها .. وكيف بدأت أنيابها تطول وتلتوي حتى أصبحت مخيفة فعلا .. وكيف كنت أكبلها على السرير فتجد قوة هائلة لفك القيد والانقضاض عليً ... أذكر كيف كانت شراستها حين خمشتني بأظفارها وفي وجهها ذلك التعبير الشبيه بالنمور ... وكيف حاول رجال الأمن إيقافها فاندهشوا من قوة جسدها الضعيف ثم أذكر كيف راوغتهم و هربت .. أذكر أيضا كيف تغيرت حياتي بعد تلك الليلة .. وكيف فهمت كل شيء على حقيقته .

    قرأت كل شيء كتب عن الفامباير و جنسهم .. وكان كل ما قرأته كلاما فارغا جدا ... يتحدثون عن قتلهم بالثوم و أن إبراز الصليب يؤذيهم .. أنا فامباير تحترم نفسها ... وهؤلاء لا يعرفون أنني الآن أمارس حياتي اليومية كأي إنسانة و أطبخ يوميا باستخدام الثوم ... ثم أنني أعلق صليبا ذهبيا صغيرا على رقبتي ... فرغم أنني هندية إلا أنني لا أؤمن بالهندوسية و دجلها .. فأنا من الطائفة المسيحية في الهند .. قرأت أيضا أن الفامباير لا يموتون ويعمرون أبد الدهر ... هراء .. نحن نموت كما تموتون تماما و حالتنا المقدسة لم تعط لنا أي ميزة فيما يتعلق بالعمر ... نحن فقط لا نهرم ولا نشيخ ... لكننا نموت بنفس الطرق التي تموتون بها ... قراءتي لكل هذه التفاهات زادني حيرة على حيرتي في تلك الأيام ... وزادتني تصميما على دراسة الأمر بنفسي عن قرب .

    طلبت من المستشفى أن أكون مسؤولة عن جميع حالات البورفوريا التي تأتي إلى المستشفى رغم وجود عدد من أطباء الدم الآخرين المتخصصين.. لكنني طلبت أن أكون مسؤولة عن هذه الحالات دون سواها .. كان المريض يأتي إليً بآلام في بطنه وهو لا يدري أن لديه بورفوريا .. وعندما أكتشفها باستمتاع ، أتركها تنمو بداخله ... بل لإنني كنت أحفزها وأزيد من سرعة تقدمها .. بمرور الوقت زادت خبرتي في التعامل مع هؤلاء المرضى .. مثلا تعلمت أن أكبل المريض إلى سريره بأغلال حديدية بينما أتابع حالته ... هل يبدو هذا شاذا ؟ دعني أخبرك بأمر لم أخبرك به سابقا .. أنا رئيسة قسم أمراض الدم في المستشفى .. وكل ما أريده ينفذ حرفيا .. خاصة عندما أطلب أن أختلي بالمريض في غرفة الكشف .. أو أن أمنع أي شخص من زيارته سواء من عائلته و أصدقاءه أو حتى الممرضات .. بدعوى الحرص على عدم العدوى التي أدعي أنها سريعة الانتقال بشكل مرعب .

    انتقلت من مرحلة دراسة الحالات إلى مرحلة الفهم الكامل ... هؤلاء المرضى يتحولون لمصاصي دماء .. بالطبع خلال تجاربي أراهم يصبحون شديدي العصبية عندما يتم تكبيلهم هكذا كالسجناء .. لكن هذه لم تكن أبدا مشكلة.. كنت دائما أحقنهم بأقوى أنواع المهدئات ... وعندما أعرف أنهم وصلوا للمرحلة النهائية من مرضهم و أصبحوا بعيدين نوعا ما عن كلمة بشر ، عندها وعندها فقط أطلقهم ..

    الغريب أنني لاحظت أنهم يتصرفون دائما كبشر عاديين يتحدثون ويتعاملون بشكل عادي .. والمفاجأة التي أظهرتها متابعتي الطبية الدقيقة لهم .. هي أن هناك أعصابا زائدة تنمو في أسنانهم .. وتحديدا حول منطقة الأنياب.. وهي تختلف عن كل أعصاب الأسنان في أنها أعصاب من النوع الإرادي .. تسمح لهم بتحكم إلى درجة ما في أنيابهم .. فهي تبرز إذا توحشوا أو تمت إثارتهم عصبيا أو جنسيا أو حتى تم حقنهم بمادة منشطة .. و تضمر عندما يكونون في حالتهم الطبيعية ..

    دائما هم يحتاجون إلى دماء .. ودائما أحقنهم بما يحتاجونه منها ... لكنني إذا حرمتهم منها يزداد توحشهم جدا ...أجدهم يحاولون إخفاء عصبيتهم في البداية كما يحاول أن يخفي أي إنسان عصبيته ... لكنهم في النهاية يتحولون لوحوش كاسرة تحتاج إلى التكبيل بمقابض من حديد .. وهم لا يقبلون بأي دماء .. بل الطازجة منها فقط .

    نعم كنت أدرسهم دراسة احترافية .. ربما أدت هذه الدراسة إلى قتل بعض منهم .. و إيذاء البعض الآخر إيذاء فادحا ... لكنني كنت قد فهمت كل التطورات العضوية التي تطرأ عليهم .. ما كنت أجهله هو بم يشعرون .. لأنني كنت أستغرب جدا أنهم يتعاملون بشكل عادي بريء جدا .. كأن في الأمر سر ما ..

    الحق أنني كنت قد بدأت أهابهم و أخافهم شيئا فشيئا .. وبدأت أحلامي تتحول لكوابيس يومية مليئة بالدماء السوداء .. كل ليلة أقوم من فراشي فزعة ... بعض الكوابيس تصفني كجثة لا حيلة لها وبدلا من أن تنهشها الغربان كما هي العادة أراني تنهشني مجموعة من مصاصي الدماء .. و أحيانا أخرى أراني وكأني أسمع نداء غريبا مسموعا مثل نداء الكنيسة .. ثم أراني أتجه إلى النداء في الشارع ويتبعني مجموعة من الناس بعضهم أعرفهم .. عشت ليال كثيرة أندم فيها على ما فعلت و أقسم أن أعود استشارية عادية كما كنت .. ثم إنني ظللت أسبح في بحر أفكاري هذا حتى استيقظت يوما شاعرة بألم رهيب في معدتي .

    تحول فزعي هذا فورا إلى هيستيريا .. ذهبت إلى المستشفى كالمجنونة لأخضع نفسي للتحاليل التي أطلب من مرضاي أن يجرونها عادة ... النتائج كلها سالبة ... لكن هذا لا يعني شيئا .. النتائج لا تكون موجبة في بداية ظهور المرض .. ربما في مرحلته الثانية .. وعلى الجانب الآخر قد يكون هذا ألم معدة عاديا .. خاصة أنني فقدت شهيتي تماما في الآونة الأخيرة .

    استمر ألم البطن .. و صاحبه قيء متكرر بشكل أشعرني بالضعف الشديد ... رقدت في سريري في تلك الأيام غير قادرة على الحراك إلا بصعوبة .. راج ابني كان قلقا جدا علي ... حتى أنه أعطى لنفسه إجازة من كليته ليبقى بجانبي .. كان يوصلني إلى المستشفى لأخضع للتحاليل يوميا .. النتائج سالبة ... دائما سالبة ..

    في الأيام التالية شعرت أنني أصبحت أكثر وعيا .. أقصد أنني صرت أكثر حساسية لكل شيء يدور حولي .. حساسيتي للأصوات زادت بشكل مزعج حتى أنني أصبحت أسمع صوت وقوف راج على عتبة باب المنزل قبل أن يفتح الباب و أنا راقدة على سريري في غرفتي وراء صوت المكيف ....حساسيتي للروائح أشعر أنها زادت كثيرا .. لكن الأهم هو حساسيتي للأضواء .. في البداية كنت أشعر بصداع عندما يكون نور الغرفة مضاء ... وفي النهار عموما ... ثم تحول الصداع إلى صداع رهيب ثم إلى ألم شديد في البشرة يشبه لسعة الاحتراق .. في ذلك اليوم أيضا كانت نتائج التحاليل كلها سلبية .. لا أصدق .. أنا في بورفوريا لا شك فيها ... أنا أكثر من يعرف البورفوريا عند رؤيتها .. هناك شيء ما مريب .... ثم أنني أهلوس كثيرا جدا ولولا أن رباطة جأشي عالية و عقلي متفتح لكنت جننت منذ زمن .

    لابد أن أموت .. لا أريد أن أكمل هذا السيناريو .. كل هذا السخف يجب نهاؤه .. . رأيت ابني راج دخل عليً مهموما .. طلبت منه بهيستيريا أن يقتلني ليريحني من كل هذا الألم .. لن يفهم أنني أتحول إلى مصاصة دماء و أنه هذا الغافل – غالبا - سيكون أول ضحية لي.. مستحيل .. هذا راج .. وهو أغلى عندي من ذاتي... بدا راج منفعلا مع كلامي ثم أخذ في تهدئتي بحنان لم آلفه فيه .. قال لي أنني سأكون بخير و أن نتائج تحاليل سالبة ولا تشير لوجود أي مرض قاتل أو غير قاتل ...لكنني كنت أصرخ في هستيريا .. وفي النهاية أضطر أن يعطيني حقنة مهدئة رغما عني حتى رحت في النوم .

    " خلقنا منذ خلقت الدماء على الأرض .. محرم علينا النور .. محرم علينا الهرم"

    استيقظت من النوم .. أنظر بنصف عين إلى الغرفة من حولي ... أرى راج نائما على أحد الكراسي القريبة.. هذا الفتى عاطفي بالفعل ... جل ما أفكر فيه الآن هو الانتحار .. هذه ستكون نهاية عادلة أكفر بها عن كل حماقاتي ... أخرجت شريط دواء مهديء و شرعت أخرج كل الحبوب منه .. أخرجت تنهيدة مريضة لم يسمعها سواي .. فجأة استيقظ راج ... نظر إلى بهدوء .. ثم تحولت ملامحه إلى الحدة والغضب عندما عرف ما أنتويه ... أخذ مني الحبوب بغلظة ورماها جانبا .. نظرت إليه باستغراب برهة .. ثم تحول هذا الاستغراب لغضب عارم .

    " مقدسة أنفاسنا .. مقدسة دماؤنا "

    صحت فيه بغلظة كما كنت أصيح فيه منذ صغره وأمرته أن يتركني أفعل ما أريد ... لكنه بدأ يتعلم العند معي هذا الفتى .. أمرته بغلظة أن يوصلني للمستشفى لأخضع للتحاليل مرة أخرى .. لكن راج زاد عناده .. وأنا زادت هيستيريتي .. و إذا به يقبل علي ليحتضنني و يهديء من روعتي فأخمشه بأظفاري و أضربه و أقاومه .. وهو يكبلني بحنان و يتحمل ما أفعله بصبر .. أصبحت شرسة لدرجة أنني جرحته عدة جروح في وجهه .. أمسك ابني راج بمحقن قريب بسرعة .. لكنني ضربت يده في غل ليطير المحقن بعيدا .. ثم صرخت فيه و خمشته مرة أخرى في وجهه ... لكن ما هذا ؟

    " نداؤنا شرف لكم .. فمنكم من يرضى الشرف .. ومنكم من يرضى العار "

    إن ابني راج فد توحش عليً فجأة ... و بدت ملامحه الوسيمة كملامح نمر حبيس ... ثم احتضنني بقوة شديدة لم أعهدها فيه ... نظرت له بدهشة ..فقط لو أن عيناي المرهقتين تخدعانني ... إن ابني راج له أنياب ... أنياب مقوسة تعتزم عنقي .... إن ابني الحبيب راج له عينان مخيفتان .. وعيناه هاتان تحمل رعبا و شراسة لا حد لهما .. انقض ابني راج على ً... أنستني الدهشة أنه يجب أن أقاوم لأبقى .. هذا ابني ... إن قواي تخور مني ... شيء ما تذكرته الآن بسرعة .. دائما راج هو الذي كان يخبرني بنتائج التحاليل جميعها .. ولم أكن أرى ضرورة للنظر فيها بعد كلماته الواثقة .. استسلمت له تماما ... لا أشعر بالألم .. بل بالخدر اللذيذ يسري في عروقي كلها .. أود أن أشعر بهذا الشعور طيلة حياتي ... ثم إنني أغلقت عيني بهدوء واستسلام تامين .. ثم إن راج حملني ووضعني على سريري ببطء .. وطبع على جبيني قبلة حب ورضا .


    تمت

المواضيع المتشابهه

  1. الاتجار في البشر والاستغلال الجنسي للأطفال
    بواسطة ياسمين في المنتدى بحوث ومقالات في القانون الجنائي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-18-2010, 07:36 PM
  2. الاتجار في البشر والاستغلال ****** للأطفال "الظاهرة ودور الانترنت فيها"
    بواسطة هيثم الفقى في المنتدى مكتب أستاذ هيثم الفقي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-25-2010, 12:57 AM
  3. الانفصال يمنع الزوجة من السفرِ
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-04-2010, 03:00 PM
  4. ما الحكم في زوج يمنع زوجته من حضور المؤتمرات العلمية
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-22-2009, 07:30 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •