حكاية مصر
" عندما يخرج 85 مليون شخص من خير أجناد الأرض يطالبون برأسك فلا تخف .. بل لك أن تفخر يا صديقي .. وأنا الذي كنت أظن أنني الطاغية الأكبر في هذا العالم ... التوقيع : أدولف هتلر "
كنا جلوسا في مصر مع جدي ... إنه عيد ميلاده السبعين .. نعم قد كبر في السن .. ها نحن الآن على أعتاب عام 2056 .. كنا في الشرفة متحلقين حوله وهو ينظر إلى ميدان كبير من ميادين مصر يدعى ميدان الشهداء .. كان ينظر في شرود غريب .. ثم ابتسم ..
فجأة سأله أخي الصغير ذو العشر سنوات بلهجة طفولية :
- ما قصة ذلك التمثال هناك يا جدي ؟
خرج جدي من شروده ونظر لتمثال كبير في منتصف ميدان الشهداء يصور أسودا تلتهم حيوان له رأس إنسان يبدو مألوفا .. ثم قال لأخي في شرود :
- هذا تصوير لما حدث هنا في هذه البلد منذ أكثر من أربعين سنة
- وماذا حدث يا جدي ؟
- تحررت مصر من عائلة من الخنازير كانت تحكمها .. وهذا الذي تأكله الأسود هو زعيم تلك الخنازير
- من هو ؟
- اسمه مبارك .. ربما قرأت عنه في مادة التاريخ في المدرسة .. إنه الرئيس العربي الوحيد الذي قبض عليه شعبه .
هناك يا ولدي في ذلك الميدان الكبير كنت أقف وسط أكثر من مليون إنسان .. في منتصف شتاء مصر القارس .. لكن هذا التجمع الرهيب كان يبث دفئا رهيبا في جسدي و روحي ولا زالل يبث هذا الدفء في أوصالي حتى هذه اللحظة .. ذلك الميدان كان له اسم آخر في ذلك الوقت .. كانوا يسمونه ميدان التحرير .. ولأن مصر في ذلك الزمن فقدت فيه الكثير من أبنائها و هم يهتفون باسمها ، سماه الناس ميدان الشهداء .
لو كنت وسط خمسة من أصدقائك وعزمتم على الذهاب معا بحزم لتحريك شيء ما فأنت ستشعر بالقوة .. ولو ارتفع هذا العدد لعشرة سترتفع تلك القوة في نفسك فيهيأ إليك أنه بإمكانكم تحريك المريخ .. أنا يا ولدي لم اكن وسط خمسة أو عشرة .. لقد كنت و سط مليون رجل مصري .. وقد عزمنا كلنا على تحريك جبل من الخنازير أطبق على بلادنا فطواها و جعلها غير صالحة للاستخدام .
وما أوقد جذوة من الدفء أحاطت بجسدي من كل مكان أن من كان يقود تظاهراتنا تلك أهم رجالات مصر .. أنزه رجال السياسية و وأعظم رجال الدين و أرقى رجال الفن .. كنت ترى رجلا من الإخوان المسلمين يمسك بيد رجل مسيحي ويهتفون بأعلى صوتهم .. شباب و فتيات .. مثقفون و أميون و فلاحون .. فقراء و أغنياء و متوسطون .. أي نظام هذا الذي كرهته كل فئات و مستويات الشعب بلا استثناء ؟
لم يكن نظاما يا ولدي كان مزرعة من الخنازير كلما مات منهم واحد بعد أن شبع ، ولد عشرة صغار جائعين .. يأخذون عرقنا و يحولونه خمرا يلقونه على أجساد عاهراتهم .. الأمر بدا وكأن هناك رجال من الأغنياء يأمرون كلابهم في كل ليلة بالنزول وجمع أموال الفقراء . كان هذا أسهل عليهم و أكثر ربحا من أي طريق ربحي أخر مشروع أو محرم .. لديهم أكثر من خمسين مليون إنسان فقير يمدونهم بالمال .. ما حاجتهم لطرق الربح الأخرى السخيفة ؟
وفي ذات ليلة يا ولدي وبعد أن كظم الشعب غيظه لأكثر من ربع قرن من الزمان ، انفجرت عروقهم واتسعت عيونهم و امتلأت قلوبهم بالغضب و السخط .. وخرجوا إلى الشوارع يهتفون بصوت رجل واحد .. رجل مقهور واحد .. في ثلاثين عاما يا ولدي هي فترة حكم عائلة الخنازير تضاعفت ديون مصر أكثر من عشر مرات .. ليس هذا فحسب و إنما وجدنا أن العائلات الخنزيرية تنجذب إلى بعضها البعض و تساعد بعضها بعضا .. فمن كانوا يحكمونا منهم في مصر أصبحوا يعاونون الخنازير الإسرائيليلة و الأمريكية على نهب أموال و أعراض عرب أخرين .. حتى أصبحنا نمشي وسط العرب منكسي رؤوسنا من العار الذي ألحقوه بنا بعد أن كان المصري يرفع رأسه وسط الدنيا و يقول تعالوا انظروا ماذا فعلت بلدي ... تعالوا انظروا إلى مصر .
فلما رأى الخنازير أنهم في خطر و أن الشعب المصري كله يريد محاكمتهم و ليس فقط رحيلهم بدأت أرواحهم الخبيثة تخرج رائحتها القذرة .. أمروا الشرطة للتصدي للشعب و قتل صوته .. و أتت الشرطة بالهراوات و القنابل المسيلة للدموع و الرصاصات المطاطية أمام شعب أعزل لا يمكلك سوى أصابعه .. فكاد الشعب أن يأكلهم .. حتى كانوا يتراجعون بعرباتهم المصفحة و دروعهم أمام الشعب الغاضب في مشهد لن ينساه بشري .
وحدثت مواجهة بين الطرفين على جسر قصر النيل .. ونزل وقت صلاة العصر .. فوقف بعض الشباب وسط المظاهرة يصلون .. وواصلت الشرطة وو عرباتها المصفحة رش المياه على الشباب واقتربت حتى التصقت بالمصلين ليكون رشاش الماء عليهم في أقوى حالاته .. ولم يتزحزح الشباب المصلين .. وبعد أ أنهوا صلاتهم رأيناهم قاموا قومة رجل واحد دفعوا السيارات المصفحة فتحركت إلى الوراء و وتحركت معها جموع الشرطة إلى الوراء حتى عبر الشعب وخلفوا جهازا كاملا مهزوما من أجهزة الدولة .. في تلك الليلة هربت الشرطة و اعتزلت العمل .. وبقى الشعب المجروح بانتظار المعركة القادمة .
فقرر رئيس الخنازير إلقاء بيان ظن الناس معه أنه استجاب لهم ... لكنهم فوجئوا بأنه عزل الخنازير العجائز الشبعانين و عين خنازيرا آخرين جائعين .. وهنا اشتد غضب الشعب و نزلوا بأكثف مما فعلوا في المرة الآولى ... في نفس الوقت التي صدق فيه الخنزير نفسه و عرض صورته وهو يتعاقد مع الخنازير الجائعة السعيدة .
ثم رأى الخنازير أنهم في خطر أكبر فأمروا الشرطة بإخلاء سبيل المجرمين في السجون ليفيضوا بكل حرمانهم و إجرامهم على الشعب الأعزل ... وكانت هذه ضربة قوية هزت أوصال الشعب سويعات قليلة .. نهب فيها المجرمين المحلات و البيوت و ضربوا الرجال و اغتصبوا النساء .. والشرطة تلعب في أظافرها .. هنا نزل شباب مصر .. كل مجموعة شباب يسكنون حيا نزلوا وقفوا أمام البيوت و المحال ومعهم أسلحة منزلية بدائية .. وفي اليوم التالي كان معظم المجرمين مقبوضا عليهم و سلمهم الشعب للجيش الذي وقف في صف الشعب لحمايتهم و حماية ممتلكاتهم . بعد أن كان المجرم القاتل المحترف المسجل خطر يمشي بنظرة مخيفة ليروع الناس أصبح يمشي مندسا كالقط خائفا أن يراه أحد شباب مصر فيضربه بعصا المطبخ ... وانتصر الشعب في هذه الجولة أيضا .
لم يعقد الشعب لجانا لحماية الممتلكات فقط .. بل عقد لجانا لتنظيم المرور .. و لجان لتفتيش السيارات .. و لجان لتنظيف الشوارع من المياه التي كانت الشرطة تهدرها بغزارة ... نظم الشعب حركة حضارية لها أساس يعود إلى أكثر من سبعة آلاف سنة ... وعم الأمان رغم أظافر الشرطة و أحس المصري أنه مصري .. وشعر الناس بمعنى كلمة مصر .. و الكبار الذين كانوا ينتقدون الشباب المتهور عرفوا الآن كيف ينتقدون أنفسهم .
لكن شيئا لم يتغير .. وبقت عائلة الخنازير تصدر الروائح الكريهة ... فقرر الشعب أن ينزلوا في مظاهرات مليونية في جميع المحافظات .. أي أن ينزل مليون شخص في كل محافظة يتحدثون بصوت واحد ... ربما يكون الخنزير الأعظم يظن أن المليون الذين تظاهروا هم مجرد عينة متمردة من الثمانين مليون ... فلنتحدث بالملايين إذن .
حقق اليوم الآول من المظاهرات المليونية ما بقارب العشرة ملايين متظاهر .. و أرسل الخنازير مندوبا عنهم للتفاوض فرفض الشعب و أصر على إسقاط الرئيس الكبير .... وعادت الشرطة مرة أخرى للساحة باحترام و حاولت الاصطلاح مع الشعب الذين رفض معظمهم أي مساعدات من الشرطة في الحفاظ على الأمن .
في اليوم الثاني قل عدد المتظاهرين عن العشرة ملايين قليلا و نزلت قرارات وزارية في جميع الوزارات بأن من يتغيب عن عمله الحكومي يوما واحدا بدون عذر مقبول سيتم رفده من العمل نهائيا ... في محاولة عقيمة لإيقاف المظاهرات ... في المقابل وكرد من المتظاهرين ظهر المئات يحضرون المظاهرة باكفانهم .. إما الموت و إما النصر .. كعلامة على أن حياتهم الغالية نفسها تهون أمام هدفهم الأسمى .. الحرية .
وفي اليوم الثالث من المظاهرات المليونية وصل عدد المتظاهرين في مصر إلى خمسة عشر مليونا أو يزيدون .. ولم يحصل الشعب المصري على مطالبه بعد ولا على جزء منها ... لازال الخنزير يظن أن هذه نسبة بسيطة من الكل .. لم يحسب عقله العجوز ذو التسعين عاما أن الثمانين مليون هؤلاء منهم خمسين على الأقل ما بين نساء و أطفال و عجائز و مرضى ومعوقين . في نهاية اليوم أعلن المتظاهرين أن الغد هو يوم الرحيل .. يوم قيامة مبارك .. وكان يوافق يوم جمعة .
وأتى الجمعة.. وقرر الشعب التحول من السلم إلى الحرب مهما كان الثمن .. قرروا أن يحصلوا على حريتهم بأنفسهم لا أن يتفضل أحد عليهم ويعطيهم حريتهم .. وكان واضحا أن هناك مذبحة ستحدث ... وتوقع الجميع أن دماء كثيرة ستراق في مصر هذا اليوم .
لكن ما فعله الشعب في جمعة الرحيل كان مفاجأة نوعا ما .. توقع الجميع تجمهرا أمام القصر الجمهوري أو أي من المواقع الهامة .. إلا أن الشعب بعد صلاة الجمعة اتجه إلى ميدان التحرير كالعادة .. وتجمهر هناك في الميدان وما حوله من الضواحي ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص ... يماثلهم ملايين آخرين في باقي محافظات مصر .... ثم أعلن المتظاهرون إعلانا غريبا .
أعلن المتظاهرون أنهم نظموا مكافأة قدرها خمسة ملايين جنيه مصري لمن يقتل الرئيس مبارك .. ومكافأة قدرها عشرة ملايين جنيه مصري لمن يقبض عليه حيا للمحاكمة العسكرية ..و أن هذه المكافأة سيعطونها بأنفسهم من اموالهم لمن يحقق هذا الهدف خفيرا كان أو وزيرا ... مدنيا كان أم عسكريا ... كانت حركة غريبة جدا .. أشبه برسالة للرجال حول الرئيس .
بهذا أصبح الخنزير الكبير كالفأر .. لا يثق سوى في نفسه ... فليس أسهل على أي واحد ممن حوله الآن أن يحقق هدف الشعب و ينعم لبقية حياته في الملايين .. ليس هذا فقط بل إنه سيكون بطلا مصريا قوميا ... كان الإغراء قويا نوعا ما وليس من السهل مقاومته ... و أصبح العقل ذو التسعين عاما يفكر في الخلاص .
ولما غربت شمس ذلك اليوم يا ولدي تحقق الهدف العظيم .. و تحرر العالم العربي .. و سقطت عائلة الخنازير .. وبدت مصر في أعيننا و كأنها مولودة جديدة غاية في الجمال .. لقد قبضت في ذلك اليوم مجموعة من الأفراد على الرئيس مبارك حيا وقدموه للمحاكمة العسكرية ... ووفى المتظاهرون بوعدهم .. جمعوا بالفعل عشرة ملايين جنيه من بعضهم البعض .. كان الأمر يسيرا و هم لديهم ثمانين مليونا يكرهون عائلة الخنازير .
ظهر مشروع مثل جنيه من كل متظاهر وتم جمع أكثر من عشرين مليونا .. وتقرر جعل العشرة الباقية من أجل البلد ووضع جزء منها لعمل التمثال الذي تراه أمامك الآن يا ولدي .
لقد ضرب شعب مصر للعالم يا ولدي أنهم شعب راق متحضر جدا .. وليسوا همجا .. و قد تعلمت منا شعوب العالم معنى كلمة حضارة .. و لك أن تتخيل يا ولدي كيف أصبحت مصر بعد ذلك اليوم ... لقد تقدمت الخنازير للمحاكمة العسكرية و اختار الشعب من يريد .. ونمت مصر كما لم تنم في تاريخها .. و كما لم تنم دولة عربية أخرى . وارتعب كل طاغية في العالم مما حدث من شعب مصر .. مصر الجميلة التي تراها الآن يا ولدي هي نتيجة ذلك اليوم وحده .. إن للحرية طعم جميل يا ولدي ..
هنا انتهى جدي من سرده للقصة .. لقد صارت مصر الآن هي أوروبا العالم العربي ... لا تنازعها في ذلك دولة عربية اخرى ... نحن نعيش الآن في عز و فخر بسببكم أنتم ... وياليتكم ترون مصر الآن .. إن مصر تشكركم و التاريخ يشكركم يا رجال مصر .