دكتور غنام
قناة دكتور أكرم على يوتيوب

آخـــر الــمــواضــيــع

النتائج 1 إلى 10 من 42

الموضوع: حكايات زورك نيميسيس ..وقصص عن الجن والعفاريت ...يمنع الدخول للأطفال

العرض المتطور

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي حكاية ألفت

    " إنهم حولك .. الكل رآهم وشعر بهم .. الكل فيما عداك أنت أيها المتحذلق "

    - إن بيتنا تحدث فيه أحداث غريبة جدا مؤخرا .. فما رأيك ؟

    قالت لي هذا في عصبية وهي تنظر حولها إلى اللاشيء .. ثم نظرت إلى نظرة تساؤل و استعجال وكأنني الوحيد الذي يعطلها على هذا الكوكب .. لكنني مثل أي بشري ، أحتاج إلى معلومات ولو ضئيلة عن أي شيء قبل أن أبدي فيه رأيا ما .. أما هذا الذي قالته فهو غير قابل للتحليل .. الأمر أشبه بأن تفتح محرك بحث Google وتكتب فيه حرف الميم ، بينما أنت تنوي البحث أصلا عن كلمة موسيقى .. لا تنتظر منه نتائج مشجعة ولو في الصفحة المئة .

    - معذرة عزيزتي ألفت .. هلا أخبرتني بالموضوع من الألف إلى الياء ؟ .. أظن أن هذا من حقي بهذا العقل المتواضع الذي أملكه .

    أخرجت تنهيدة ملل ونظرت إلى في عتاب لا أفهم سببه .. كنا في كافيه يدعى Diva وهو من تلك الكافيهات الغير شهيرة التي تستقطب زبائن الحي الواحد أو الشارع الواحد... فيما بعد ستعرف أن هذه الفتاة – ألفت - هي الفتاة التي وقعت في حبائلها .. أو ربما هي التي وقعت في حبائلي لا أذكر .. أحدنا وقع في هوى الآخر أولا فلم يصدق هذا الآخر نفسه من الفرحة فاعترف له بدوره بكل شيء .. هذه قصتنا ببساطة شديدة .


    لن أضيع وقتك في وصفها .. فالمحبين عادة يجدونها فرصة لا تعوض للثرثرة عن جمال الحبيبة و رقتها .. لكنني سأقرب الصورة إلى ذهنك .. إنها تشبه Filiz .. أو Tuba Büyüküstün الشخصية التي تحول اسمها عندما عبرت من تركيا إلى العالم العربي ليصبح "لميس" .. الأمر الذي لم أستسغه أبدا ولن أفعل .. فأنت عندما تحب شخصا لفترة طويلة و أنت تعرف أن اسمه كريم مثلا ... لن تستسيغه بعد اليوم إذا تحول اسمه ليصبح سيد أو عباس .. الأمر صعب .. حتى اسم المسلسل الذي أحببناه كلنا ( تحت شجرة الزيزفون ) تحول ليصبح ( سنوات الضياع ) .. هؤلاء سفاحين وليسوا مترجمين .

    نعم كان اسمها ألفت .. ونعم أحببتها .. الكل يقول لها أنها تشبه Filiz .. هذا يغضبها جدا لأنها تكره هذا المسلسل و تكره كل من يشاهده لسبب أجهله ..... لكن التوافق الذي وجدته بيني و بينها و الذي تعدى 100% هو ما جعلها أميرتي .. كفاك حسدا ودعنا نكمل .. فألفت كانت لديها قصة نجحت في إثارة شهيتي حقا ... وسأسلمها القلم الآن لتتحدث حتى أريحك من ثرثرتي لبعض الوقت .


    إن أبي كثير الأسفار .. لا أراه أكثر من مرة كل أسبوع تقريبا .. لذا فأنا أنام مع أمي كل ليلة .. ليس هناك أجمل من النوم مع دفء وحنان الأم .. يستحيل أن تقلق ليلا أو تخاف أو تزورك الكوابيس .. قد تكون الأم ضعيفة جسديا لكن لو أن غوريلا إفريقية كسرت علينا الغرفة الآن ودخلت لن أشعر بالخوف طالما أنا معها... لكن ما حدث في تلك الليلة لن أنساه ما حييت .


    كانت ليلة بلا قمر على الإطلاق .. أراهن أنه لا توجد حتى نجوم في السماء .. إنها تلك اللحظة التي يسكن فيها كل شيء ولا تسمع سوى صوت دقات الساعة الممل .. هذا هو الصوت المزعج الوحيد الذي يمنعني أن أنام كل يوم .. أحيانا يدخل هذا الصوت في أحلامي .. عندها أجدني أحلم مثلا بأن أحدهم يدق مسمارا في الحائط ويظل يفعل هذا لمدة طويلة جدا بشكل مستفز...حتى أستيقظ فأكتشف أنه صوت الساعة إياه .... ها هو النوم أتى يتسلل إلى فأستسلم له في سعادة .. على الأقل أتى ليريحني من دقات الزمن المزعجة المعلقة على الحائط أمامي .

    بعد قليل استيقظت .. الدقات لازالت كما هي ... ياللإزعاج .. فكرت أن أتحول على جانبي الآخر عل هذا يخفف الصوت قليلا .. نحن نكون أغبياء جدا أثناء النوم .. لكن مهلا .. أنا ثقيلة جدا .. وكأنني زدت ألف كيلوجرام دفعة واحدة .. حاولت النظر إلى جسدي لأتأكد أنني لازلت على رشاقتي التي أحافظ عليها منذ ولدت لكنني لم أستطع حتى النظر .. رأسي ثقيلة جدا هي الأخرى ... لكن لا ... الناس لا يثقلون هكذا فجأة .. الأمر أكبر من هذا .. إنه شلل تام ... شلل تعدى مرحلة الشلل الرباعي بكثير .. يا إلهي .. كنت أبكي .. لم أظن قط أنني سأشل يوما ما .. فجأة تحررت .. تمكنت من تحريك يدي فجأة ... ما الذي يحدث لي ؟ هل هذه أعراض الموت ؟ ... بكيت مرة أخرى .. بكيت حتى تمكن مني النوم مرة أخرى .


    أتى اليوم التالي سريعا .. قمت من السرير وأنا أنظر حولي في توتر .. لازلت أذكر ما حدث .. هناك شيء ما زارني أمس و أطبق على صدري ليلا .. دخلت أمي الغرفة فجأة .. كانت تنظر إلى نظرات قلقة جدا .. سألتني إذا كنت بخير .. لكنني لم أكن .. حكيت لها عن كل ما حدث معي أمس .. أمي كانت تنام بجانبي على نفس السرير .. في الواقع لم تبد مندهشة كثيرا .. كانت تخبيء شيئا ما .

    بعد طول نقاش مع أمي عرفت ما كانت تخبئه عني .. استخرجت منها الكلام استخراجا .. كانت تخبيء قصة أرعبتني جدا ... قالت لي أمي أنها رأت كل شيء .. قالت أنها استيقظت من نومها فجأة قلقة علي بلا سبب معين .. ونظرت ناحيتي فرأته .. رأت كيانا بشعا أبيض اللون يجثم علي .. فزعت أمي وحاولت أن تقوم لإبعاده قبل أن تفكر أصلا ما هو .. لكن ذلك الكيان الأبيض صفعها بيده على وجهها فارتدت نائمة و أصيبت بشلل طويل جدا .. ولما أفاقت منه نظرت إلي فوجدتني نائمة في سلام ... ظنت أمي أن كل هذا كان كابوسا .. فأكملت نومها كأن شيئا لم يكن .


    أكثر ما يرعبني في القصة هو أنني لم أجرب على أمي كذبا قط .. هي ليست من النوع الذي يحب اختلاق القصص الخيالية .. أنا أعرفها جيدا .. وطالما قالت أن هذا قد حدث فقد حدث حتما .. في هذا اليوم كنت متوترة جدا وكذلك كانت أمي ... نزلت من البيت وذهني مكدود من التفكير .. ربما أقابل أحمد فأخبره عما حدث .. هذا الفتى يفهم في هذه الأمور .. لكنني لم أقابله .. لما دخلت إلى البيت ثانية بعد العصر كانت أمي تشغل الراديو على القرآن الكريم .. وكان الصوت مضبوطا على أعلى درجة يستطيعها المسجل .. كان الصوت عال جدا جدا .. إنها متوترة حقا .. لكن هذا طمأنني نوعا ما رغم كل شيء .. ألا بذكر الله تطمئن القلوب .


    كنت مع أمي في المطبخ أساعدها و أنا أتذكر قصة الكيان الأبيض ..عندما اتصلت بأحمد ضحك وقال أنه صديقه الجاثوم أتى ليطمئن علي .. ياللسخافة .. و فجأة سمعت أنا و أمي صوت تكسير زجاج من بين أصوات المسجل العالية .. ثم سمعناه مرة أخرى أعلى و أعلى حتى زاد على صوت المسجل نفسه .. الأمر كان وكأن كل زجاج المنزل قد انهار فجأة ... أطلقت أمي صرخة مرعوبة .. خرجت من المطبخ سريعا لأرى ماذا حدث .. لكن لا شيء .. كل نوافذ المنزل بحالة رائعة .. ولا توجد أي قطعة زجاج تشير لأي شيء .

    لن أصف لك حالة أمي و الأذكار التي اندفعت ترددها فجأة في رعب .. فتحت النوافذ لأتأكد .. ربما أتى الصوت من الخارج .. لكن لا شيء .. أغلقت أمي المسجل .. و نظرنا إلى بعضنا في رعب .. نظرات حملت الكثير من الكلمات ... وقادنا حوار النظرات إلى أن نخرج من البيت قليلا حتى يأتي أخي يوسف.. ويوسف فتى شجاع يعرف كيف يشعرك بالأمان دائما .


    أيام مرت وراءها أيام .. أمي و أخي يوسف أقسما أنهما رأياه أكثر من مرة .. رأيا الجان يتحرك داخل المنزل ... أقسما بأغلظ الأيمان ... وأنهما رأياه ذات مرة معا .. مما ينفي أي احتمال للهلاوس ... هذا أمر لا يمكن السكوت عنه .. نحن نحتاج لمساعدة أحدهم ... و أحدهم هذا لا أدري ماذا ستكون مهنته .. بعض الناس يحتاج لطبيب .. البعض يحتاج لسباك أو لنجار .. لكن لا أدري ماذا سنحتاج نحن بالضبط .. سمعت عن طرد الجان من المنزل بطرق معينة لكنني لا أعرف كيف .. سأقول ما حدث لأحمد .. أنتم تعلمون أنه يفهم في هذه الأمور .


    انتهت حكاية ألفت .. هناك فتاة تشعر وأنت جالس معها بالسخافة ... وهناك فتاة تشعر وأنت معها بالتفاهة و السطحية .. هناك فتاة تشعرك بأنك رجل ... وفتاة تشعرك بالجنون .. وهناك فتاة تشعر وأنت جالس معها بالراحة .. وهذه الأخيرة هي من يحبها قلبك .. هذا ملخصنا نحن معشر الرجال .. بالنسبة للأنثى فإن هناك رجل تشعر الفتاة وهي معه بالراحة .. وهناك رجل يشعر الفتاة بالحب .. و آخر تشعر الفتاة معه بأنها رخيصة .. ورجل يعطي الشعور للفتاة دائما بأنها من أهل الطبقة الثانية و أنه من الطبقة الأولى لأنه رجل .. وهناك رجل تشعر الفتاة وهي معه بالأمان .. وهذا الأخير هو حبيبها .. الأمر بهذه البساطة .. ولا أدري لماذا تحتار بعض الفتيات حقأ .


    دعنا نفكر .. مبدئيا فألفت زارها الجاثوم في أبشع صوره .. ليس هذا فقط بل إنه أتى بأصدقائه من الجان معه إلى المنزل .. ثم إنه وصل لمرحلة أن يمد يده اللزجة و يصفع والدتها .. إنه يتحدى إذن .. ألفت أصبحت تعيش في منزل مسكون . هذا أمر مفروغ منه .. وبالنسبة لخبرتي في المنازل المسكونة فهي خبرة لن تفيدها إطلاقا لأنني كونتها من آلاف أفلام الرعب التي شاهدتها عن المنازل المسكونة .. هناك منزل تعرف في آخر الفيلم أنه أقيم على أنقاض مقبرة ملعونة .. أو أنه يجاور مقبرة ملعونة .. أو أن الجن هم أهل المنزل الأصليين بينما اشترته عائلة مسكينة ظانين أنه شاغر حقا كما يدعي المستأجر ..... لن أفيدها بهذا الهراء .. لكنني على الأقل أعرف من يفيدها حقا في هذا الأمر .

    توجهت إلى مسجد الحي .. هذا هو المسجد الذي كنت أذهب فيه إلى " التحفيظ" يوميا في اسطنبول في صغري ... هذا يعيد لي ذكريات جميلة جدا و مؤلمة جدا في نفس الوقت .. ذكريات الأستاذ فازيل ( فضيل ) ذو النظارات إياه وصديقه الشيخ فاروق .. هذا الثنائي كان يحفظنا القرآن في صغرنا .. الأستاذ فازيل لازال موجودا .. هو حتى الآن إمام المسجد و خطيب الجمعة .. إنه خريج جامعة إسلامية ما لا أذكر اسمها .. الآن هو شاب في الثلاثينات .. ولقد عشنا معه قبل عشر سنين أيام لم تكن لطيفة إطلاقا هو و عصاه الرفيعة المرنة المؤلمة جدا ... لم أكن أعرف أنني سأحتاج يوما ما إلى الأستاذ فازيل .


    هناك ما يشبه قاعة وراء المسجد وملحقة به هي التي كنا نحضر فيها التحفيظ وفي داخل القاعة هناك غرفة صغيرة هي غرفة الأستاذ فازيل .. الغرفة التي لم ندخلها قط ولم نرد يوما أن نفعل .. الآن دخلتها أخيرا .. كانت غرفة مكتب بسيطة جدا .. ابتسامة علت وجهه فور أن رآني .. هذا الرجل لم يتغير .. ولو أتيت بعد عشر سنين أخرى سأجده كما هو .. أعرف هذا الطراز من الناس جيدا .. لم يبد اندهاشا وأنا أخبره بحكاية ألفت ... أعطى لي شعورا بأن الموضوع عادي جدا وأنه يحدث كل يوم تقريبا وأن علي ألا أقلق .... قال شيئا عن أننا سنذهب غدا للمنزل ونقرأ فيه كلنا سورة البقرة بصوت عال ...بعدها لن يقرب المنزل أي جان .. هذا رجل يعرف تماما ما يفعله .


    ذهبت مع الأستاذ فازيل بصفتي خطيبها الهمام .. وقفت معه أمام بيتها .. مد يده و رن الجرس في هدوء وأنا وراءه .. هذا الرجل قفاه لم يتغير أبدا .. أتساءل لو أن الـ .... فجأة فتح الباب .. لحظات تعارف قصيرة سمحت لنا فيها والدة ألفت بالدخول .. كان يبدو أن الجميع بانتظارنا بالداخل .

    إنها المرة الأولى التي أدخل فيها بيتا مسكونا .. هؤلاء الجن لا أفهمهم .. هم يعلمون أننا نجتمع الآن لطردهم .. لو أنني في مكانهم لتصرفت بعنف فعلا ... هاقد أجلسنا الأستاذ فازيل في حلقة كما يحب أن يفعل دائما .. كانت المجموعة تضمني أنا و
    ألفت - التي أراها لأول مرة تغطي شعرها بتلك العباءة والإيشارب المصري - ويوسف أخوها ووالدتها علياء و الأستاذ فازيل ... أخبرنا الأستاذ أن الأمر سيأخذ وقتا طويلا نوعا ما لأن سورة البقرة طويلة .. قال أنه سيقرأ ونحن نردد وراءه في صوت واحد قوي .. وسنفعل هذا في كل آية حتى ننهي السورة .. بعدها لن يجرؤ جني على الاقتراب من هنا لأن سورة البقرة حصن قوي .

    انتهينا بعد ساعات .. الأستاذ فازيل تعب و أخذ يجفف عرقه ثم قام واستأذن ورفض أن يأخذ أي نقود .. لا أصدق أن القصة انتهت هنا .. لم أرو ظمأي بعد .. ظننت أننا سنرى شياطين بالداخل .. لكن ما حدث في اليوم التالي أذهلني بمعنى كلمة أذهلني .. لم يذهلني وحدي بل إنه أذهل كل سكان حينا ... أذهلهم لدرجة أنهم كانوا يمشون في الشارع يحدثون أنفسهم كالمجانين .. وأنا أولهم .

    ما حدث هو أنه وفي وقت متأخر من الليل .. حوالي الساعة الحادية عشرة تقريبا .. سمع الكل صوت سيارة الشرطة .. لكنها شرطة غريبة لم أرها في اسطنبول من قبل .. شرطة الآداب .. كان هناك تجمهر من الناس أمام مسجد الحي .. كنت في الشارع وقتها فذهبت تلقائيا إلى هذا التجمع لأرى ما المشكلة ... بعض الواقفين غاضبين جدا .. سيارة شرطة الآداب تقف أمام المسجد .. وتحديدا أمام باب القاعة التي كنا نحضر فيها التحفيظ قديما .. وفجأة خرج الـ .... يا إلهي .. كان الأمر يفوق قدرتي على التحكم بأعصابي .

    خرج مجموعة من رجال الأمن وهو يمسكون بالأستاذ فازيل وليس على جسده سوى منشفة يحاول أن يغطي بها عورته و بجواره فتاة تغطي عريها التام بملاءة بيضاء تكشف أكثر مما تستر .. نعم كانت فضيحة الموسم وكل موسم ... الأستاذ فازيل ... وفي المسجد .. تبا للحظ الذي جعلني أعيش في دولة بهذه القذارة .

    انتهى الأستاذ فازيل تماما ... وانتهت معه ثقتنا في كل البشر .. هناك أناس لا يمكن أن تصدق أن .. تبا ... كان هناك تفسير مرعب اهتديت له بعد أن هدأت قليلا .. إنه يتعلق باليوم السابق للقبض على الأستاذ فازيل .. اليوم الذي كان يحاول فيه طرد الجان من منزل
    ألفت ... نعم ... الأمر ليس له تفسير آخر ... فهذا الرجل سمعته رائعة منذ أكثر من 20 سنة أو أكثر .. فما الذي يجعله يفقد كل شيء وتفضح كل أوراقه هكذا فجأة وفي هذا اليوم بالذات ؟ .. إن وراء هذا قوة لا قبل لنا بها .. وكل ما أعلمه هو أنني كنت مساعده .. و أنني التالي حتما .. وما حدث بعدها أكد لي كل شيء ....بل إنها لم تصبح شكوكا على الإطلاق .. لقد تحولت لوقائع مريعة لن أقدر على نسيانها مهما حاولت ... وللحصول على الصورة كاملة أرجح أن تحكي ألفت الجزء المتبقي من القصة .

    لم ينته أي شيء .. بل زاد .. بيتنا أصبح مرعبا إلى حد لا يصدق .. حتى الجيران أصبحوا يدقون بابنا في أوقات متأخرة لنكف عن أصوات الصرخات التي نحب أن نطلقها ليلا والناس نيام .. وطبعا لن يصدقنا أحد أننا لسنا أصحاب هذه الصرخات .... حتى أتى ذلك اليوم ...ذلك اليوم الذي رن فيه جرس الباب حوالي الساعة التاسعة .. بعد صلاة العشاء مباشرة ... ذهب أخي يوسف ليفتح الباب .. نظرت له لأستشف منه شيئا عن القادم .. كان يوسف يتحدث مع أحدهم في دهشة .. لا ريب أنه واحد من هؤلاء الجيران ثانية .. لكن لا .. يوسف ينظر إلى الداخل في توتر ... لابد أن القادم يريد أن يدخل ... طلب مني يوسف أن أذهب لأنادي أمي بسرعة ... أتت أمي من الداخل تلقائيا لترى من القادم .. كان يوسف يتحدث على الباب مع شيخ كبير في السن عليه هيبة الشيوخ الكبار بثوبه الغريب و لحيته الحمراء ... طلب منا الرجل ببساطة أن يدخل .

    دخل الرجل بخطوات بطيئة وهو ينظر إلى الشقة في ارتياب .. هذا رجل لن تصدق حجم لحيته ما لم تراها .. جلس الرجل على أقرب كرسي وجده أمامه .. وهرعت أمي إلى المطبخ لتحضر مشروبا ساخنا ... و بدأ الرجل يتحدث ... وفهمنا كل شيء .

    إن الحي كله الآن عرف أن بيتنا مسكون .. و الحقيقة أن كل من في الحي يخاف من الاقتراب من عمارتنا .. وجيراننا يعيشون في رعب ليلة بعد ليلة ... أخبرنا الشيخ أنه مبعوث من مسجد الحي .. قال أن لديه خبرة في هذه الأمور بالذات وأن علينا ألا نقلق .... دخلت أمي بصينية عليها الشاي ... رفض الرجل بأدب لكن أمي ألحت عليه .. ثم إن الرجل قد نظر إلي وابتسم و طلب مني مصحفا ... لم يكن يطلب كان يأمر .. يالهيبة هذا الرجل .. قمت من مكاني سريعا و أحضرت المصحف ووضعته أمامه .

    أخرج الشيخ نظارات صغيرة من مكان ما في ثيابه و طلب مني أن أفتح له على سورة الجن لأن نظره ضعيف جدا ولا يمكنه أن يرى جيدا ... سورة الجن .. نعم أعرف مكانها ... ثم طلب مني في أدب أن أذهب لأرتدي العباءة .. حقا أحب الرجل المؤدب ... إن جوالي يرن منذ فترة .. إنه أحمد كالعادة ... هذا الفتى لا يهدأ أبدا .

    بدأ الرجل يقرأ آيات معينة من سورة الجن .. ثم يتوقف ليرشف رشفة من الشاي الساخن ثم يتابع ... ثم طلب مني أن أفتح له على سورة " قَ " .. نظرت إليه .. حقا لحيته كبيرة جدا ... ثم انتفض قلبي من مكانه فجأة ... هذا الرجل يرشف الشاي منذ ربع ساعة ولم تنقص من الكوب قطرة .. لازال مستوى الشاي في الكوب كما أتت به أمي ... ثم إن هذا الرجل لا يمس المصحف .. حتى أنه يطلب من يوسف أن يقلب له الصفحات .. ثم كيف يقول أن نظره ضعيف جدا لدرجة أنه لا يرى أسماء السور بينما هو يقرأ أمامي منذ ربع ساعة ... هذا الرجل ... فجأة قمت من مكاني مسرعة ناحية غرفتي .... يا إلهي هذا الجالس بالخارج ... إنه شيطان .

    اتصلت فورا بأحمد الذي كان وكأنه ينتظر الاتصال ففتح منذ أول جرس .. حكيت له كل شيء بكلمات سريعة .. كنت عصبية جدا ومنفعلة جدا ... المسكين كان قلقا علي جدا .. قال لي أنه في طريقه إلي فورا ... لا أدري ماذا سيفعل .. أو سأفعل أنا بكونه في طريقه إلي من عدمه ... سألته عما أفعل مع هذا الجالس في الخارج ... قال لي أن أحاول أن أخبر أمي أو يوسف بالأمر .. و قال أنه يستحسن أن نطرد هذا الشيء بطريقة مؤدبة من المنزل .. قال هذا ثم أغلق الخط .

    سمعت صوت الرجل يعلو بقراءة القرآن ... إن له صوتا رفيعا لزجا غير محبب ... لكن إذا كان جنا أو شيطانا فكيف يقرأ القرآن ... بدأت أفقد عقلي .. وقفت على أعتاب غرفة الجلوس ... رأيت الرجل منهمك في القراءة .. وأمي متوترة .. أعرف أنها تشعر بشيء ما .. إنها تشعر دائما بأي شيء سيء قبل حدوثه .

    مشيت ببطء حتى جلست أمام الرجل وهو يقرأ .. نظر لي نظرة سريعة لن أنساها ... هذا الرجل لا يمكن أن يكون شيخا .. إن بريق عينيه هو بريق عيني شاب قوي في الثلاثين ... أخذ الرجل يقرأ ويقرأ .. ويوسف تعب حقا من تقليب الصفحات هنا وهناك وهو لا يدري لهذا سببا ... وفجأة انقطع التيار الكهربائي و أظلمت علينا الدنيا .

    صرخت أعظم صرخة في العالم ... وصرخت أمي على صراخي .. أين يوسف ؟ ... لازلت أرى الشيخ جالسا بهدوء بهذا البريق في عينيه ... إنه مخيف ... صرخت وحاولت أن أقوم من مكاني لأفتح أقرب نافذة .... لكنني سمعت صرخة يوسف فالتفتت ورائي ... هناك نار اندلعت من مكان ما ... كل النيران تبدأ صغيرة ثم تكبر .... أما هذا فبدأت كبيرة .... أرى الشيخ على ضوء النار ... إنه لا يفعل شيئا سوى النظر إلينا ... أقسم أنه شيطان ... و صرخت ... صرخت بقسوة .

    أسمع دقات عنيفة على باب شقتنا .. هناك من سمع صراخنا .. الرعب شل حركتي وتفكيري فلم أفكر أصلا أن أفتح الباب .. ثم إن النيران أصبحت تندلع من كل مكان ... الدقات تزداد عنفا ... هناك من ينادي باسمي من الخارج ... وفجأة انكسر الباب .

    انتهت
    حكاية ألفت للمرة الثانية .. نعم كنت أنا الذي كنت على الباب أضربه بعنف .. أنا و أقوى من وجدت في طريقي من الشباب حتى انهار الباب أمام ضرباتنا ... رأينا ألفت جالسة على الأرض تصرخ في هيستيريا ... يقلدها في ذلك كل من يوسف ووالدتها ... كلهم يصرخون ... فقط يصرخون ... كأنهم يعقدون بينهم مسابقة للصراخ ... البيت في حالة رائعة جدا ونظيفة و لا يوجد ما يدعتو لهذه الهيستيريا .. تحدثت ألفت عن نيران وعن تيار كهربائي مقطوع .. وعن الشيخ ذو اللحية الحمراء الذي كان هنا ثم اختفى ... لكنها لم تكمل ... كانت قد فقدت الوعي ... مسكينة حقا .

    كانت تلك هي آخر ليلة تقضيها تلك العائلة في ذلك البيت الذي سكنه الجن فجأة ... انتقلوا إلى حي آخر تماما .. بعيد تماما ... إنه انتصار الجن ... الجاثوم الذي يضرب كل من يحاول أن يعطله عن تأدية عمله ... الأستاذ فازيل الذي اختار نهايته عندما ادعى قدرته على طردهم .. ثم الشيخ العجوز الذي يدق بابك ليلا ليخبرك بأنه طارد للأرواح الشريرة ... الشاي الذي لم ينقص .. المصحف الذي لم يمس ... الآيات المعينة التي يقرأها و التي علمت أنها أحد وسائل تحضير الجن ... النار و انقطاع التيار الذان لم يراهما أحد غير من كان بالداخل .... لقد أدخلوا الشيطان إلى منزلهم وقدموا له مشروبا ساخنا بينما يمارس هو طقوسه في استدعاء المزيد من أعوانه .

    لكن
    ألفت تنسى سريعا ... وتتكيف مع أي وضع سريعا .. ها أنا أراها اليوم في قمة تألقها وجمالها وكأن شيئا لم يكن ... كثيرا ما أضبط نفسي و أنا أحاول تذكر لون عينيها .. الأوراق الرسمية تقول أنها خضراء ... لكنني أرى أن لونها لا يبقى على حال .. أحيانا تكون عيناها رماديتان .. وأحيانا عسليتان .. هذين عينان يتحديان قوانين علم وظائف الأعضاء .. هذين عينين أحببتهما جدا وأحباني جدا .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي جنود الرعب

    " نشعر بالفخر أمام مقابر الشهداء من جنود الحرب .. فقط لأنهم يحاربون لأجلنا ... فماذا لو انقلبت الآية ؟"


    " ...... عزيزي أحمد .. اشتقت إليك كثيرا .. ربما تذكرني وربما لا ... فقد جلسنا معا يوما واحدا .. لكنني شعرت أنني أعرفك منذ ملايين السنين .... شعرت أننا كنا جنبا إلى جنب ذات يوم نحاول الإمساك بالماموث الصوفي أيام العصر الحجري وعلى كل منا مجموعة من الأصواف التي من المفترض أن تحمينا من البرد .... أنا معتز ... الذي قضيت معه يوما كاملا في السنة الماضية في غرفته ... أنا الشاب ذو القدم المشلولة ... هل تذكرتني الآن ؟ ... عرفت أنك أتيت في هذه الإجازة إلى مصر ... ويجب أن أراك مرة أخرى ... قأنا أشعر بفراغ كبير يقتلني قتلا ... حفظت كل الكتب التي لدي و رأيت كل الأفلام ... أنت تعرف أنني لا يمكنني الحركة خارج سريري .... شعور قاتل أن تعرف أنه من المسموح لك الحركة لعدة سنتيمترات يمينا وشمالا .... سريرك هو مملكتك الدائمة .... جزء من هذا السرير تتدثر فيه بالألحفة عند النوم .... جزء آخر ترفع قدمك فوقه وتسند ظهرك للقراءة ليلا ..... حفظت جميع الحفر والبقع الموجودة في السقف ....لن أطيل عليك الكلام ... لكنني أرجو أن تأتي إلي ذات يوم في هذه الإجازة ... وأتمنى أن يكون هذا اليوم قريبا جدا .............. صديقك ... معتز "

    " صديقي معتز .... من حسن حظك أنني ذاهب إلى المنصورة بعد يومين بالضبط لزيارة خالتي هناك ..... ربما يكون هذا هو أول خطاب أبعثه بالبريد في حياتي كلها ... لا أستخدم البريد عادة وأفضل الهاتف .... لازلت أذكر ذلك اليوم الذي قضيته معك كاملا نتحدث في كل شيء .... أنا عادة لا أحب الثرثرة ... لكنني أحببتها معك ..... صدقني أنت يجب أن تكون كاتبا أو مفكرا في يوم من الأيام ... أحيانا أشعر أنك تعرف كل شي وقرأت كل الكتب التي كتبها أي إنسان .... في طريقي إليك قريبا .... أحمد "

    " ... عزيزي أحمد تصل الرسائل عادة بعد إرسالها بيومين حسب سرعة البريد الخيالية التي نملكها في بلدنا الحبيب ... هذا يعني أنك اليوم في المنصورة ..... يجب أراك .. فأنا كما تعلم بدون أصدقاء ... لا يزورني في غرفتي هنا غير أمي المريضة التي تخدمني بعينيها رغم ألم مفاصلها الذي يجعلها تحتاج لمن يخدمها ... بانتظارك ... معتز "

    " عزيزي أحمد .... أسبوع كامل مضى على خطابك الذي أرسلته لي قائلا أنك ستأتي بعد يومين .... لقد عرفت أنك الآن في المنصورة .... فلم لم تأت لزيارتي ياصديقي ؟ .... ربما صدقت نفسي حينما جلست معي يوما واحدا و اعتقدت أن هذا سبب كاف لجعلك صديقي ... يبدو أنني سأموت في مكاني ولن يسمع عني أحد ... أتمنى أن تكون سعيدا في المنصورة ..... صديقك معتز "

    - ألا تفهمون ؟ .. لا يمكنكم الحجز في هذا الفندق بدون بطاقة شخصية أو جواز سفر على الأقل ... أنتم أربعة أطفال مجهولي الهوية لا أعرف عنهم شيئا ..
    - ألا ترى ياسيدي أننا في منتصف الليل وأنك إن لم تدخلنا عندك فلن نجد مكانا لآخر يؤينا ؟
    - هذا لا يخصني يا فتي .... النظام هو النظام ... احضر لي شخصا كبيرا أو اتصل به على الأقل ... أنا لن أتحمل مسؤوليتكم ....
    كنا أربعة أطفال حقا ... أنا وأختي وابن وابنة خالتي ... أحمد وسارة وهشام ونورهان على الترتيب ... ماذا وضعنا في هذا الموقف ونحن نعتبر نوعا ما من أبناء الذوات الذين يجب أن يتناولوا العشاء ويغسلون أسنانهم دائما قبل النوم ؟ ... هذه قصة طويلة عائلية لا دخل لكم فيها ... لكننا الآن هنا ... وسنبيت في هذا الفندق الآن ... حتى بوجود هذا المزعج الذي يحب النظام .... تصنعت الذلة والنكسار ونظرت إلى الأرض قائلا :
    - فليكن ... هيا بنا ... يبدو أننا سنقضي الليلة على الرصيف ...
    واستدرت واستدار الجميع معي متجهين إلى الباب .... وفجأة سمعنا الصوت الذي كنت أتوقعه يقول :
    - فليكن ..... ليلة واحدة فقط .... واحدة فقط ... وتنصرفون غدا صباحا .... وهذا آخر كلام عندي ...
    ابتسمت ابتسامة خبيثة لم يلحظها قائلا :
    - فليكن .. غدا صباحا سننصرف ... وهذا وعد مني بذلك ....

    غرفة سيئة جدا ... جدران بحالة تجعلك تشفق عليها .... ولا داعي لذكر الحمام لأنه يستحيل أن يوصف بالكلمات ...... فكرت في فتح الشرفة علني أجد شيئا يهون علي كل هذا .... ها قد فتحنا الشرفة بعد عناء أنا وهشام .... نظرنا إلى المنظر أمامنا ..... هذا مستحيل .... هذا لا يمكن أن يكون فندقا ........... هذه الشرفة تطل على ...... تطل على مقبرة كاملة .

    يبدو أن حظي السيء بدأ يتذكرني مرة أخرى .... هنا سمعت شقيقتي سارة تقول :
    - هل نغير الغرفة ؟
    - لا بد من هذا ... لن أنام بجوار الأموات ... ألا تذكرون الفيلم ؟ ... لقد حدثت لتلك العائلة التعيسة قصتنا هذه بحذافيرها .... واكتشفوا في النهاية أن الفندق نفسه بني على مقبرة ملعونة .
    ذهبنا معا مرة أخرى إلى الاستقبال في الأسفل ..... تناقشنا مع الرجل الثقيل الظل إياه طويلا ... فهمنا أنه ليس هناك غرف شاغرة سوى في الجهة التي تطل على المقبرة ... الجهة الأخرى محجوزة بالكامل لأنها تطل على النيل .... هذا ما فهمناه .... لكنه قال ليطمئننا :
    - هذه مقابر الجنود الذين استشهدوا في الحرب .... أبطال المنصورة الذين يشهد لهم التاريخ ... الأبطال الذين ضحوا بعمرهم من أجل أن نعيش نحن ...
    عدنا لغرفتنا محملين بالأفكار السوداء حينا والبيضاء حينا آخر ..... المتشائمة حينا و المتفائلة حينا آخر .......لكن هذه الليلة التي قضيناها بجوار هؤلاء الشهداء كانت قاسية نوعا ما ... خاصة على أطفال في سننا ....
    والآن هانحن أغلقنا الغرفة علينا وأصبحنا بداخلها نتأملها ... نظرة لا إرادية إلى النافذة ....نصغي لكل همسة ... لو وقع من أحدنا الآن أي شيء لأصابنا جميعا بالصرع لبقية حياتنا .. قلت في لهجة أحاول أن أجعلها حازمة :
    - لا أريد كلمات من طراز ( هل سمعتم هذا الصوت ؟ ) ... أو ( لن أنام بجانب النافذة ) أو أي تعابير سخيفة أخرى ..
    نظرات صامتة قابلت كلامي جعلتني أنظر إلى النافذة لا شعوريا ... اقتربت من النافذة لأفتحها .. نظرت إلى المقبرة التي تطل عليها .. أرض لا تتحرك فيها ذبابة .. كل شيء فيها ساكن وكأنها لوحة مرسومة .. لمحت هشام يحاول فتح التلفزيون .. كان كل ما يحصل عليه هشام هو مجرد وش طويل لا ينتهي ولا ينذر بقرب ظهور أي صورة ما .. وبينما كنت أنظر إلى اللوحة الساكنة رأيت سيارة تقترب من المقبرة بببطء وصوت الأغاني من المسجل بداخلها يصل إلى هنا . سمعت بداخلها العديد من الضحكات الشابة ... توقفت السيارة أمام المقبرة ونزل منها شابين .. أخذا يتضاحكان كالمخابيل ثم انحنى أحدهما على باب السيارة الخلفي وأخذ يضرب عليه بيده .. فتح الباب الخلفي وخرجت منه فتاتين جميلتين .. نظرة لا شعورية أخرى إلى الساعة في يدي .. إنها قرب الثانية بعد منتصف الليل .. تعالت الضحكات الماجنة مرة أخرى .. أغلق أحدهم المسجل فأصبحت أسمعهم بوضوح تام وكأنني معهم .. لا أعتقد أنهم توقفوا هنا ليقضي أحدهم حاجته .. وإلا كان وبالا عليهم وعلينا وعلى جميع أعداء مصر .. هنا انفصل أحدهم عن المجموعة متجها إلى المقبرة .. و بدأت يداه تحاول فتح أزرار سرواله .. يبدو أن ما توقعته سيحدث .. لمحت هشام ينظر معي إلى نفس المنظر .. أتت سارة ونورهان من الداخل لمشاركتنا النظر .. ابتعد الفتى الذي سيقضي حاجته عن أنظارنا قليلا حتى أصبح مجرد ظل تميزه بصعوبة من حشد الظلال من حوله .. بقية المجموعة يتضاحكون في مجون .. وهنا حدث شيء جعل أعيننا تتسع عن آخرها .. وجعل الضحكات الماجنة تتوقف ... شيء مخيف .

    ليس من الممتع مراقبة ما يحدث لمعتوه يقضي حاجته في مقبرة .. كان ما سمعناه مفزعا .. سمعنا صراخ الشاب من بعيد . تبعه صوت طلقات مسدس سريعة ..وسرعان ما انتقلت الصرخات لباقي أعضاء المجموعة و لنا نحن من قبلهم .. ركبوا السيارة جميعا كيفما اتفق و أصدروا ذلك الصرير المميز للعجلات التي تحتج دائما على الانطلاقات المماثلة .. لكن الأمور لم تمض على خير لسوء حظهم .. فجأة انفجر الإطاران الخلفيان للسيارة بعد انطلاقها فتوقفت مرغمة محدثة صريرا مزعجا .. وكان يبدو أنها النهاية .
    لم ينتظر أحدهم لحظة أخرى .. شعرت أن أبواب السيارة الأربعة فتحت مرة واحدة ومجموعة من المخابيل يركضون بعيدا عنها وكأن شياطين الأرض تركض وراءهم .. وما أدرانا .. ربما تكون شياطين الأرض حقا تطاردهم الآن .. ظللنا نراقبهم وهم يركضون حتى اختفوا عن ناظرينا تماما .. وسكن كل شيء فجأة وكأن شيئا لم يكن .. أبواب السيارة لازالت تتحرك ببطء شديد ربما بفعل الهواء .. وقد أضيفت سيارة مذعورة إلى اللوحة الساكنة لتضيف عليها نكهة جديدة .. نكهة مرعبة .
    - يجب أن نذهب من هنا الآن .
    - ليست فكرة جيدة .. هل تعرفين كم الساعة الآن .
    - لا تهمني الساعة .. أريد أن أذهب من هنا الآن .. وحتى لو لم يأت أحد معي
    كانت هذه هي نورهان .. تؤدي دورها الهيستيري في هذه المسرحية .. إن لم تفعل هذا لشككت أنها فتاة أصلا ... أخذت سارة تهديء قليلا من روعها .. فقد كانت سارة أحكم منها نوعا ما ..
    نظر هشام إلى النافذة قائلا :
    - لا أظن أن أحدنا سينام في هذه الليلة .
    قلت مفكرا :
    - نحن لازلنا في بداية الليلة .. الساعة الثانية بعد منتصف الليل .. لازال أمامنا ثلاث ساعات كاملة حتى الصباح .
    قالت نورهان في هيستيريا :
    - ستكون كافية جدا لنموت كلنا بأيدي هؤلاء الشياطين .
    قلت لها في تحد :
    - أي شياطين أيتها الذكية .. هذه الطلقات التي سمعناها هي حتما من بندقية حارس المقبرة .. لابد لكل مقبرة من حارس على حد علمي .. خاصة لو كانت مقبرة مهمة كهذه .
    قال هشام :
    - يبدو أنك مخطيء .. لو كان هذا حارسا لاكتفى بالطلقات الأولية التي أخافتهم وجعلتهم يهربون بالسيارة .. لكن ما تفسيرك للطلقات الثانية التي فجرت الإطارات ؟
    - ما أدراك أن هناك طلقات فجرت الإطارات .. أنا أرجح أن هناك شيئا ما على الأرض .
    اتجهت نورهان إلى الباب عازمة على الخروج من هذا كله .. وهنا تدخل هشام أخوها قائلا في غلظة :
    - لن تذهبي لأي مكان .. هيا تعالي وكفي عن هذه الحركات البلهاء .
    قلت له في بساطة :
    - اتركها يا عزيزي تذهب .. اتركها من أجلي .
    نظرت لي شذرا .. كانت تعرف أنني أعرف أنها لن تستطيع أن تخطو خطوة واحدة لوحدها خارج هذه الغرفة ... كان جوا متوترا ... مليئا بالصرخات و الشياطين و النقاشات التي لانهاية لها ... و أخيرا سمعنا شيئا وضح حدا لكل هذا الإزعاج وجعلنا ننظر لا شعوريا إلى النافذة .. صوت أبواب سيارة تغلق بقوة .
    نظرة من النافذة وفهمنا كل شيء .. كان الرجل الذي قابلناه في الاستقبال - ثقيل الظل إياه – ومعه رجل آخر يتفحصون السيارة ويتحدثون أحاديثا أعرف أن أغلبها أسئلة عن السيارة و ما الذي أتى بها هنا .
    قلت موجها كلامي للجميع :
    - أرى أن ننزل لنجلس في ساحة استقبال الفندق .. هناك مقاعد مريحة هناك وسنجد أنسا مع طاقم الاستقبال .. وسجد إجابة عن أسئلتنا ( المقبرية ) كلها .
    وافقتني أعين الكل .. وهنا اتجهنا للأسفل معا وأغلقنا الغرفة المشئومة وراءنا ... كان رجل الاستقبال الثقيل الظل بالخارج .. و كان هناك واحد آخر يبدو شابا يجلس في مكانه . سألنا بسرعة :
    - ما الذي أتى بكم .. هل هناك مشكلة في الغرفة ؟
    - لا مشكلة هناك .. لكن لم نستطع النوم .
    - هل تقصدون أصوات الطلقات .. ستعتادون الأمر .. لقد كان الأمر يزعجنا في البداية .. لكنه الآن أصبح أمرا طبيعيا .. أنت بجانب مقبرة للجنود .. ماذا تتوقع أن تسمع غير صوت طلقات ومدافع .. لا أدري لماذا يعقد الجميع الأمور بهذا الشكل .
    كان يبدو الرجل ثرثارا جدا .. وقد وجد فرصة لإشباع جميع رغباته الثرثارية ... لكن هذا كان مفيدا في حالتنا .. كنا نريد معرفة كل المعلومات الممكنة عن كل شيء هنا .. وهنا سألته :
    - ماذا تقصد أننا سنعتاد الأمر .. ألم يكن هذا الرصاص بفعل حارس المقبرة بعد الزيارة التطفلية لهؤلاء الشباب ..
    - هذه المقبرة ليس عليها حراس .. كيف تضع حارسا على مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح ؟
    قال له هشام وقد بدأ هذا الغباء يضايقه :
    - هؤلاء الجنود ماتوا منذ زمن طويل .. وهم شهداء عند ربهم يرزقون الآن .. لا حاجة بهم لإطلاق المزيد من الطلقات كل ليلة .
    - أعرف ما تقصد أيها الصبي اللطيف .. ربما أخطأت أنا التعبير فقط ..كلنا نعلم أن الأموات ليس لديهم الوقت في مقابرهم لإصدار أصوات سخيفة لتخويف الناس .. ما قصدته هو أن هناك جن يسكن هذه المقبرة .. ربما هو القرين .. هل تعرف القرين يا فتى ؟
    سألته وقد بدا لي يدافع عن شيء ما :
    - هل تقصد أن قرناء هؤلاء الجنود يمرحون بإطلاق النار في كل ليلة ؟
    - لا يا عزيزي .. القصة أن هؤلاء القرناء غاضبين لأن هؤلاء الجنود ماتوا دفاعا عن الأهالي هنا .. لكن الأهالي لم يهتموا بهم أو بمقبرتهم .. بل إن هناك رجلا ثريا من المنصورة كان سيبني على هذه الأرض التي فيها المقبرة ... ولولا أن عرف بالموضوع ..لكان بنى فوقها برجا سكنيا طويلا .
    - لكنها الآن مبنية وعليها شواهد لكل قبر .. لقد رأيناها من النافذة بوضوح .
    - معك حق .. وهذا هو السبب الذي جعل الأصوات تخف جدا الآن .. في السابق كان الناس يسمعون أصوات المدافع والدبابات وصرخات الجنود . ولم يكن أحد يرتاد الفندق أبدا .. لذا تبرع مدير فندقنا المتواضع ببناء هذه الشواهد وهذا السور الذي رأيتموه من النافذة .
    هذا الرجل إما يلعب بعقولنا نحن الصغار .. أو أن كلامه صحيح .. و في الحالتين أجد هذا الفندق ليس مريحا جدا.
    و هانحن قد اجتمعنا مرة أخرى في تلك الغرفة الكئيبة نناقش احتمالات خروجنا من هنا أو بقائنا لبضع ساعات أخرى .. طوال حياتي أكره الجبن و الجبناء .. و ما يضايقني أن جميع البنات جبناء بالفطرة .. لم أجد حتى الآن فتاة شجاعة في حياتي .. وإن وجدت لكان هناك تغير ما في هرموناتها الأنثوية الطبيعية .. و أعرف أيضا أنني أعشق
    الرعب .. لذا كان الأمر رغم كآبته يمثل لي متعة خاصة .. وفجأة قلت :
    - من منكم يذهب معي لزيارة مقبرة الشهداء ؟

    أن تشاهد فيلم رعب في السينما لهو مر ممتع جدا .. لكن الأكثر متعة هو أن تعيش أجواء فيلم
    الرعب هذا بنفسك .. أن تمشي بين شواهد مقبرة تعلم مسبقا أنها ملعونة .. أن تسمع أصواتا غريبة من آن لآخر هنا أو هناك .. ما هو أقصى ما يمكن أن يحدث ؟ أن تتفتق الأرض عن مجموعة من الزومبي النصف ميتين ؟ أم أن يحوم الجن حولك عازما على جعلك تفقد كل ذرة عقل كنت تمتلكها ؟ في حالتنا هذه أعرف أنني سأسمع الكثير من طلقات الرصاص و المدافع وربما القنابل أيضا .. وماذا أيضا ؟ .. لا شيء يستحق الخوف منه .. بالعكس .. إنها تجربة ممتعة تستحق أن نخوضها ... و النون في كلمة نخوضها مهمة جدا ... لأن الجماعة دائما تبدد الخوف ..ناقشنا الأمر فيما بيننا طويلا محاولا إقناعهم بوجهة نظري المجنونة و التي ربما لا يؤمن بها في هذا العالم غيري ... لم تقتنع القتاتان بشيء ... لكن هشام كان سهل الإقناع .. فهو مثلي .. يحب المغامرة ... خاصة لو خضناها معا جنبا إلى جنب ... في النهاية تم الاتفاق على أن أذهب مع هشام إلى هناك .. بينما تبقى الفتاتان التعيستان هاهنا .. هذه ستكون تجربة مريعة ....و أنا أحب هذا النوع من التجارب "
    ماذا يمكن للمرء أن يأخذ معه في رحلة إلى مقبرة .. ماء بارد ؟ ... سندوتشات ؟ .. لا أظنها فكرة صائبة ... كما أن شيئا من هذا لا يتوفر معنا في هذه اللحظة . لذا بدأنا فورا في التحرك .. نظرة أخيرة منا إلى الفتاتين رأينا في عيونهما أقسى أنواع التعابير .. وأقسى أنواع التساؤل الأنثوي عن هؤلاء الرجال الذين يتركونهما بعد منتصف الليل لزيارة بعض الأشباح ... وأخيرا انصرفنا وأغلقنا الباب خلفنا في رفق .. قابلنا الرجل الثقيل الظل في الاستقبال فنظر إلينا نظرة كريهة .. فقابلته بنظرة مماثلة وأدرت وجهي عنه عازما الخروج .. توقعت أن يستوقفني متسائلا عن الشيء الذي يدعوني للخروج في هذه الساعة من الليل أنا وهشام .. لكنه لم يفعل .. ووجدنا أنفسنا في الخارج بسلام .. ترى هل هي فكرة صائبة أن نترك شقيقاتنا وحيدات في هذا الفندق الغريب تحت إشراف هذا الرجل الثقيل الدم الذي لم أرتح له منذ أن رأيته .. نظرت إلى هشام فوجدت ملامحه تفكر في ذات الشيء الذي أفكر فيه .. وأخيرا وضعت حدا لكل هذا قائلا :
    - هشام .. سأذهب وحدي ولتبق أنت مع سارة ونورهان
    - وما الذي يدعوك أن تذهب أصلا ؟
    - لست أدري لم أقطع هذه المسافة إلى الأسفل لأرجع بعدها و المقبرة على بعد خطوات مني .
    - فليكن يا أحمد سأنتظرك فوق
    وتحرك بعدها عائدا بسرعة غير منتظر لردي .. أنا أعرف هذا الأسلوب منه .. إنه يضعني في وسط المأزق الذي اخترت أن أضع نفسي فيه لأجد نفسي وحيدا فأخاف وأ صعد بعده مباشرة ... لكنني أعرف هذا الأسلوب وأستخدمه كثيرا .. و لا يؤدي معي إلى أية نتائج ... لذا نظرت إلى الفندق نظرة أخيرة وتقدمت من المقبرة بخطوات بطيئة تميز المترددين الذين يؤثرون التراجع .
    لا أدري لماذا يمشي كل من يزور الأماكن المخيفة بخطوات بطيئة .. القصور المهجورة والمقابر الملعونة .. لماذا يمشون فيها دائما ببطء شديد تاظرين يمينا ويسارا ببطء أشد ... هل يساعدون الشياطين في تخويفهم ؟ .. قررت أن أمشي بخطى عادية وكأنني أزور هذه المقبرة كل يوم ... وهكذا تقدمت منها متسائلا في داخلي عن هذا الجنون الذي أتميز به دائما عن الآخرين .. أحيانا أشعر أنني الوحيد المختلف ... أنني أنا الوحيد الغريب وسط كل هؤلاء البشر ..ربما لأنني أنا نفسي أحب أن أكون مختلفا ... أحب ألا أكون ( آخَر ) ..... وخلال استغراقي في كل هذه الأفكار وجدت نفسي أدوس على طريق مختلف .. طريق مليء بأوراق الأشجار الذابلة .. لماذا تتميز كل المقابر بذات التفاصيل دائما ؟ ... يبدو أنني بدأت أدخل في حيز المقبرة ... هل جرب أحدكم سكون المقابر من قبل ؟ .. إنه سكون تام قاتم .. يمكنك حفا أن تسمع فيه دبيب النملة من تحت قدميك ... كلما تقدمت خطوة أسمع صوت تكسر أوراق الشجر الصفراء الذابلة من تحت قدمي ...وبينما أنا أقف في مكاني أطالع سور المقبرة الذي أصبح يبعد عني خطوتين أو ثلاثة ..سمعت صوت تكسير الأوراق إياه ... لست أنا من أحدث هذا ... كما أنه لا يمكن أن يحدث بفعل قط مثلا أو فأر .. فالصوت الذي سمعته لا يصدر إلا عن قدم بشرية .. وهو صوت لخطوة واحدة فقط ... أي أن من أحدث هذا الصوت مشى خطوة واحدة ثم توقف ... لماذا توقف ؟ ... ولماذا مشيى خطوة واحدة ؟ .. بل لماذا مشى أصلا ؟ ... كلها أسئلة وجدت إجابتا في الدقيقة التالية مباشرة .
    نظرت عند الباب لأجد نقطة صغيرة جدا مشتعلة والدخان يتصاعد منها ... ورأيت هذه النقطة تتحرك لأسفل ثم لأعلى .. أمعنت النظر المذعور لأتبين في النهاية أنها سيجارة مشتعلة في يد شخص ما .. حاولت أن أرى التكوين البشري المفترض أنه يدخنها .. كل ما رأيته هو مجموعة من الأسمال البالية .. وشيء ما يفترض أنه عمة على الرأس .... كانت تكفي نظرة واحدة إلى هذا الشيء لأفزع وأتراجع خطوة إلى الوراء .. ثم أدت بي هذه الخطوة إلى الوقوع على أرض المقبرة ... لا أدري لماذا تذكرت تلك المقولة اللعينة التي كنت أسمعها مرارا من الكبار ( من وقع على الأرض عند زيارته للمقبرة فسيصاب بالجنون الدائم .. هذه حقيقة واضحة مثل شمس الظهيرة ) .. مخاوف عديدة اجتمعت علي في هذا الوقت ... نظرت إلى الأسمال البالية فوجدتها ترمقني في فضول .. ثم استدار هذا الشيء أخيرا وأخذ يمشي ببطء محدثا ذلك الصوت على الأرض ... صوت تكسير الأوراق الرتيب .
    ظللت في مكاني لحظة منتظرا أن أصاب بالجنون ... إن الكبار دائما يستغلون بلاهة الأطفال للتخريف عليهم ... أو كما يقولون في السعودية ( للتفقيع ) عليهم ..

    بعد دقائق مذهولة على الأرض قررت أن أقوم ... نظرت نظرة سريعة من حولي .. الأسمال لازالت تتحرك باتجاه سور المقبرة ... لكن مهلا ... إنني أرى السيارة ... سيارة الشباب ... كيف لم أفكر بزيارتها من قبل ؟.... إنها فرصة لأدقق النظر في إطاراتها لأعرف سبب انفجارها .. مشيت بحرص نحو السيارة ناظرا خلفي إلى تلك الأسمال لأعرف إلى أين وصلت ... أشك أن بداخل هذه الأسمال رجل .. أظن أن بداخلها سلحفاة ما ... هنا وصلت إلى السيارة ... المكان هاديء جدا جدا .. حاولت النظر أسفل السيارة .. لا شيء يدل على أي شيء .. نظرت إلى الفندق .. وبالتحديد إلى شباك غرفتنا .... فوجئت بأن نور الغرفة مطفأ ..... ترى ماذا يعني هذا بالضبط ؟

    هل يعني هذا أنهم في إثري الآن ؟ ... أم تراهم قرروا النوم ... أنا مع الاحتمال الأول .... حتما هم ينزلون الآن إليّ .... فليكن .. لا يجب أن يروني هنا بجانب هذه السيارة السخيفة ... ينبغي أن يعرفوا أنني لست خائفا ... سيجدونني بداخل المقبرة ... وهنا بدأت أتحرك بسرعة مقتربا من بوابة المقبرة ... نظرت إلى الأسمال ... يبدو أن هذا الرجل مات في مكانه وأصبحت الرياح تحركه ... عندما اقتربت منه بطأت قليلا من خطواتي ... ثم وبصوت لا أدري كيف خرج مني قلت له :
    - الـ ... السـ .. السلام عليكم يا حاج ..

    تمنيت ألا يرد .. لكنه التفت لي ببطء قائلا :
    - أين أصدقاءك وصديقاتك ... يا فاسقين يا عديمي التربية والأدب ... أين هم ؟
    - عم تتحدث يا حاج ؟
    - هل تركك أصدقاءك وهربوا من السيارة كالجبناء ؟
    - لحظة يا سيدي هناك خطأ ما و ...
    - اخرس .. أنتم لا تحترمون الموتى .. هل أتيتم هنا لتمارسون الفجور أمام مساكن الموتى ؟
    - سيدي أنا لست ...
    وهنا وضع يده في داخل هذه الأسمال ... لابد أنه سيخرج شيئا ما ... وهذا الشيء لن يكون لطيفا أبدا ... لذا استدرت وجريت بأقصى قوتي ... جريت بسرعة خارقة ..... وهنا تعثرت .... ولم تكن عثرة عادية ... فمع سرعتي تلك وجدت نفسي طرت من على الأرض وانقلبت عدة مرات ثم اصطدمت بالحجارة .... لم أدر ماذا أفعل ... عادة أنا لا أتعثر .... لكن يبدو أن المقبرة فيها سر تجعل كل من يجري فيها يجب أن يتعثر ....بدأت الصورة تهتز في عيني ... هناك شيء دافيء يسيل على جبهتي .. لابد أنه دم .... يالذكائي ... أمعنت النظر قليلا ... كنت أرى الأسمال تتحرك نحوي ببطء ..... لابد أن ميتا جديدا سيضاف إلى قائمة الأموات هاهنا ..

    ينصحونك دائما عندما يجري الأسد وراءك أن تمثل أنك ميت ... عندها سيدور الأسد حولك بضع دقائق ثم ينصرف شاعرا بالحسرة .... قررت أن أفعل هذا الآن .... رأيت الأسد .. أقصد الأسمال تقترب .... لكن الرجل لم يدر حولي .. هو اقترب مني و مد يده إليّ ... تحسس الدماء على جبيني ثم شدني من يدي قائلا :
    - ما الأمر يا بني لماذا جريت ؟ ... أنت مصاب ... تعال معي حتى نجد حلا بسرعة .

    وهنا أمسك بي ذلك الرجل وحملني بيد واحدة ... وأخذ يمشي عائدا إلى المقبرة ... يالرائحة هذه الأسمال ....هل يظن أنه سيجد أدوية بداخل المقبرة ؟ ... هذا الرجل لا يتحدث بدقة ؟ .... هذا الرجل كاذب ... وهنا حاولت التملص منه بأقصى قوتي لكن هيهات .... حاولت أن أصرخ مناديا بأي اسم ....لكن لم يرد أحد ... يبدو أنني ضحية الليلة .. في نظره أنا الشاب العابث الذي قرر أن يقلق منام الأموات... وأنني أستحق العقاب .... فجأة أنزلني على الأرض واتجه إلى مكان ما ليحضر منه شيئا ما .... كانت ساقي تؤلمني بشدة بعد هذه العثرة .. لذا استسلمت تماما ... وفجأة سمعت بعض الأصوات تقترب ... أصوات مألوفة .... إنه صوت هشام يتساءل عن شيء ما .... لا أحتاج للكثير من الذكاء لأعرف ماهية سؤاله ....

    هنا رأيت الرجل قد توقف .... ونظر إلى ناحية الأصوات .... ثم أخذ يقول بضع كلمات غاضبة لم أسمعها جيدا ... لكن لاريب أنها تتحدث عن خراب بيتهم جميعا ... ثم مشى إلى ناحيتهم بحدة .... لا أستطيع أن أحذر أحدا .... إنها نهايتهم ..... وهنا سمعت صرخة نورهان المميزة .... وسمعت خطوات تجري مبتعدة .... أتمنى ألا يتعثروا بدورهم ... سأكون غبيا لو انتظرت لحظة أخرى ..... قمت من مكاني بصعوبة و مشيت محاولا أن أسرع خطواتي إلى الناحية الأخرى من المقبرة .. لم أكن أعرف إلى أين ستوصلني ... لكن حتما ستبعدني عن هذا الكائن الشرير قليلا ....

    اصطدمت في طريقي بالعديد من شواهد القبور .... هذا المكان مخيف جدا جدا ... وهنا سمعت صوت شيء أكد لي أنها نهايتي لهذا اليوم المشئوم .... سمعت صوت كلب .... كلب قوي يتحرك غاضبا نحوي ..... استدرت بأقصى سرعة ونفضت عن نفسي كل التراخي وحاولت أن أجري ... لكن الكلب كان قد وصل لي .. استدرت لأراه قد قفز ناحيتي قفزة هائلة .... أغمضت عيني بقوة ... ترى كيف ستكون العضة ؟ ... أنا لم أجربها من قبل .. أخي الصغير كان يعضني أحيانا ... ماذا عن هذه العضة إذن ؟ ....


    رأيت الكلب يتجاوزني بقفزته ويجري ناحية باب المقبرة .... يالحظي الرائع ... إنه لم يكن يقصدني ... لقد بدا أنه لم يراني أصلا ..... يالتعاسة من سيصل إليه هذا الكلب ...... سمعت أحدهم يصيح بكلمات غاضبة ... والكلب ينبح بقوة ... ثم صرخة أنثوية عرفتها على الفور ..... يالتعاستي .... استدرت وأكملت العدو إلى الناحية الأخرى من المقبرة ..... بحثت عن أي باب .... و فجأة وجدته .... وجدت باب المقبرة الآخر ... دفعت الباب بسرعة و أكملت الجري ..... ثم حدث ما جعلني أتوقف تماما .... نظرت أمامي جيدا .... رأيت مجموعة من خمسة كلاب تتحرك في أرجاء المكان في ملل ..... ويبدو أن قدومي قد أزعجهم جدا .....


    " عزيزي أحمد .... أرسل لك بهذه الرسالة وقد عرفت أين أنت ... اعذرني لأنني لم أكن أعرف .... أتمنى لك الشفاء سريعا ... أنا أعرف الإحساس القاتل الذي يصاحب تلك الحقنة الكبيرة الخاصة بعضة الكلب .... كنت أود زيارتك في المستشفى ... لكن أنت تعلم حالتي جيدا .... لكنني سأحاول فعل المستحيل لزيارتك مع عائلتي .... صديقك العزيز ... معتز "

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي حسناوات بعد منتصف الليل

    " هل تظن حقا أن الجني أكثر إرعابا من الجنية ؟ .. حسنا ، إن هذا لأنك لم تر جنية في حياتك يا عزيزي "

    " اليوم 11 – 7 – 1994 .... مذكرتي العزيزة .. أنا هنا وحيدة ... كنت سأسعد أكثر لو كنت صبيا .. إن الأولاد يخرجون وقتما يحلو لهم أينما يحلو لهم .. أما أنا فأضطر دائما للجلوس في بين هذه الجدران أمام التلفاز أو أمام أي شيء ممل آخر .. كل الأفلام مكررة و متخلفة .. التمثيليات أعرف نهايتها منذ بدايتها .. عندما أسمع صوت الفتيان يلعبون في الشارع أتمنى لو كنت ديناصورا لأبتلعهم كلهم لأريح ضميري للأبد .. وعندما يقررون العودة إلى البيت أخيرا ، لا يكون لهم دور سوى افتعال المشاكل معنا نحن أخواتهم المسكينات .. و هم ينتصرون دائما .. سحقا لهم جميعا .. وسحقا لنا أيضا .

    إن الأولاد الكبار أفضل بكثير .. هم لا يضايقوننا .. بالعكس إن كلامهم معنا يكون لطيفا دائما... أما هؤلاء الذين في مثل سننا فهم شياطين .. أتمنى لو كنت ولدا كبيرا .. سأكون سعيدة جدا حينها.. أقود سيارة والدي وقتما يحلو لي .. أذهب للسينما وحدي مع أصدقائي ليلة السبت .. حتى مصروف يدي سيتضاعف عشرين مرة عما هو الآن ..

    إن اسمي نورهان .. سني هو 10 سنين .. و أقول لكم أن أفضل ما يمكن أن تفعله الفتاة في سننا هي أن تكتب مذكراتها ... إنها فكرة رائعة .. كل فتيات فصلنا يكتبن حكم و أمثال بلهاء في آخر ورقة من كل كراسة يملكنها .. وهي دائما حكم عن الحب .. الشمس خيوط ذهبية والقمر خيوط ذهبية و الحب خيوط .... إلى آخر هذا الهراء .. إنها طاقة مدفونة لدى كل الفتيات .. ولقد تعلمت أن أخرج هذه الطاقة في مذكراتي بدلا من تشويه الكراسات طيلة الوقت .

    نحن اليوم قد ذهبنا لمصيف جديد لم نذهب له من قبل .. ذهبنا إلى ( أرموتلو ) في الشمال الغربي من تركيا .. معي أخي هشام و بنت خالتي و حبيبتي سارة و أخوها أحمد .. و ... "

    - أحمد أيها الأحمق اترك مذكرات نورهان فورا .. أسمع أحدهم قادم
    - هل أنت متأكد ؟
    - يا إلهي .. هيا أيها الأحمق اترك كل شيء وتعال فورا

    كانت هوايتي دائما هو قراءة مذكرات هذه الفتاة ... ربما أكون معجبا ... لكن الفضول يقتلني دائما .. الفتيات يكرهننا جدا كما هو واضح .. هذا المصيف أصابني بالملل منذ أن دخلته أول مرة .. لا يوجد بحر .. بل هي قرية صغيرة عبارة عن عدة بيوت متجاورة ... وهناك مسبح كبير في منتصف القرية .. المسبح نفسه مقسم لجزئين .. واحد للصغار و آخر للكبار ... و القسمين يمكن العبور بينهما بكل بساطة.. أما البحر فهو خارج القرية ويبعد عنها قليلا .. لقد كنا في ( أرموتلو ) .. أخطر مصيف زرته في حياتي كلها .

    كنا نحب الجلوس أمام المسبح في الظلام .. أن تجلس على تلك الكراسي البيضاء الطويلة المخصصة لمن يحبون أخذ حمام شمس في وقت الظهيرة ... يشغلون ليلا هنا الأضواء الخافتة من أعمدة الإنارة المتناثرة هنا وهناك لتعكس ضوءها الأبيض على صفحة الماء ... كنا بعد منتصف الليل.... و يبدو أنه لا أحد يحب الجلوس هنا سواي أنا وهشام وأخي الصغير مصطفى الذي يصر على مرافقتي كالطحلب في كل مكان.... الجو رائع بشكل لن أصفه لك حتى لا تصاب بعقدة نفسية ... ما يفسد السكون هو أنغام تصل إلينا من ديسكو قريب خارج القرية لكنه في نفس الشارع ... أنغام خافتة لكنها محمومة ... تمددت على الكرسي وسط كل هذا و أعطيت وجهي للنجوم .

    في الصباح يمتليء هذا المكان بالناس ... و في الليل يغادر الجميع إلى مكان ما ... ربما إلى الديسكو القريب ... فالأتراك يحبون العيش على الطريقة الأوروبية ... ينسون دائما أنهم مسلمون و يفعلون مايحلو لهم ... يصل الأمر إلى أنك لو نزلت في الشارع في نهار رمضان في اسطنبول سيخيل إليك أننا في عيد الفطر ... الكل يأكل في الشارع بلا حساب وبلا خجل .... نعم .. اسطنبول مدينة رائعة ... لكنك ستشعر فيها بالغربة ... غربة من نوع آخر ... أناس تربيت معهم وتشعر أنهم غريبون عنك ... إنها غربة لا يمكن للكلمات أن تصفها .. دعني لا أصدع رأسك بالمزيد ... أين كنا ؟ ... نعم ... عند ذلك المسبح هناك .... في تلك اللحظة حدث شيء مخيف ... شيء اقشعرت له أبداننا .

    صاح أخي الصغير فجأة :
    - أحمد ، انظر هناك ... انظر يا هشام

    كان يشير بيده لبعيد ... ناحية الجبال ... نظرنا بسرعة إلى هناك ... هناك على الجبل .. وجدنا... والله شاهد على ما أقول ... وجدنا ثلاثة فتيات ..... طويلات القامة..... ترتدين ثيابا بيضاء .... ذوات شعر طويل بني يصل لأسفل ظهورهن ... كن يمشين بتؤدة على الجبل .... يمشين بهدوء ثقيل وكل واحدة منهن تنظر أمامها وكأنها ترى في الظلام كالخفافيش ...

    كنت مندهشا جدا ... فجأة سمعت حركة سريعة بجانبي ... كان هذا أخي مصطفى يجري كالأحمق ..وفجأة تبعه هشام وهو يضحك على بلاهته ... نظرت نظرة أخيرة على الفتيات لأتأكد من أنني لا أهذي ... ثم جريت وراءهما مندهشا ... يبدو أن أرموتلو كانت تدخر لنا الكثير .

    في اليوم التالي عرفنا أن هناك اجتماع في مكان في نهاية القرية .. اجتماع الكل مدعوون إليه ... فيما بعد عرفنا أنه حفل ختان أحد الأولاد من أهل هذه القرية ... في هذه القرى التركية لديهم هذه العادة ... يختنون الفتى عند سن الخامسة أو السادسة في حفل يحضره كثير من الناس ... وتوزع فيه الكثير من المأكولات التركية والعصائر .. كان يوما حافلا ... لم يكن هذا أول حفل ختان أحضره بالطبع ... لكنني في كل مرة أحب رؤية وجه الفتى المسكين الذي لا يدري شيئا عما سيحل به بعد دقائق .... لكن ما رأيته على الجبل أمس كان يحضرني إذا خلوت إلى نفسي طرفة عين .

    حمدا لله أنني من أم مصرية وإلا لكنت واجهت هذا الويل ولنصبوا لي حفل ختان كهذا ولشعرت بطعم الدماء في حلقي .. بصراحة كنت أبحث بعيني في الحشد عن ثلاثة فتيات طويلات القامة ذوات شعر بني طويل ... هناك الكثير من السيدات الكبيرات هنا ... والسيدات التركيات سمينات عادة ... هو شيء في جيناتهن لا يمكن تغييره ... ليس هذه .. هذه قصيرة نوعا ... لكن مهلا من هؤلاء ؟ .... إن هناك ثلاثة فتيات طويلات يقفن في هذه اللحظة ويتحدثن ويضحكن مع أمي ...

    لكن لقد كن محجبات ... ذلك الحجاب التركي الأنيق الذي لا يمكنك أن ترى فيه شعرة ... الميزة في تركيا أن المحجبات هن محجبات فعلا ... أي أن المتدينين هم متدينون فعلا ... والفاسقين هم فاسقون فعلا ... لقد عشت في مصر أيضا ورأيت كيف أن الوسط ممكن جدا ...تعلمت كيف يمكن أن يكون الحجاب هو للشعر فقط دون غيره ... لكن مهلا ... إن واحدة من هؤلاء الفتيات تنظر إلي في اهتمام ؟ ... نظرت لها بخوف ثم أدرت وجهي ومشيت بعيدا ...

    " اليوم 14 – 7 – 1994 ..... مذكرتي العزيزة .. أصارحك بأنني خائفة جدا ... إن لدي خوف هائل من الجن ... لا تمر لحظة بدون أن أفكر أنهم يراقبونني ... أصعب لحظات حياتي هي عندما أصاب بالعطش في منتصف الليل .. عندها أعرف أنه علي أن أمشي في البيت المظلم كله حتى أصل إلى المطبخ .. فأنت تعرفين يا مذكرتي أن غرفتي هي الأخيرة .. في أغلب الأحيان أحاول أن أكمل نومي وأتحمل .. لكنني لا أستطيع .. عندها أقوم من السرير وأخطو بضع خطوات في غرفتي في حذر ... أكره الذين يصرون على إغلاق الأنوار كلها نهائيا بحجة أن هذا يساعدهم على النوم .. هذا سخف .. لابد من نور ما حتى يرى المرء طريقه على الأٌقل .

    لا تتصوري ذعري وأنا أخرج رأسي من مدخل غرفتي وأتطلع يمنة ويسرة في الرواق لأتأكد أن كل شيء بخير ... كم أتمنى لو فتحت هذا النور الآن .. لكنني أعرف أن انتقام أبي سيكون أبشع من انتقام الجن لو استيقظ في هذه الساعة .. عندما أفتح الثلاجة و يغمرني ضوءها أشعر بنوع من الاطمئنان فأشرب جرعات سريعة جدا من الماء حتى لا أغفل عن مراقبة ما حولي ... نعم يا مذكرتي .. أصارحك إن حالتي أسوأ من هذا .

    عندما أدخل إلى الحمام لأغسل وجهي لا أنظر إلى المرآة .... أبدا ... يخيل إلي أنني سأرى شيئا آخر فيها غير انعكاس صورتي ... أعرف أن الجن يسكنون الحمامات و أعرف أن السبيل الوحيد لرؤيتهم هو مرآة الحمام ... إنني حتى ..... "

    - أختك غريبة جدا يا هشام ... هل يخاف المرء من مرآة بهذا الشكل ؟
    - أنا أيضا أخاف من الحمام جدا ... سأخبرك بسر
    - حسنا
    - أنا لا أجرؤ أن أغمض عيني وأنا أستحم
    - ماذا ؟
    - نعم صدقني ... يخيل لي أنني لو أغمضت عيني لحظة في الحمام فستكون فرصتهم للظهور أو شيء كهذا ...
    - فرصة من ؟
    - الجن ... الجن يا عزيزي


    حقا لقد كنا صغارا جدا في ذلك الوقت ... كنت سني 10 سنوات تقريبا في تلك الأيام ... بعض من مخاوف الأطفال هذه قد يتبقى منها الشيء اليسير عندما يكبرون ... تجد البعض له طقوس غريبة عند النوم تأثرا بتلك المخاوف ... أعرف من كان يخبرني أنه يجب أن ينام وظهره باتجاه الحائط ... لا يمكن أن ينام ووجهه باتجاه الحائط وظهره للغرفة ... إنه لا يأمن .... البعض لازال يفتح نورا قريبا ليبعث له بعض الاطمئنان قبل النوم وهو يخترع لفتحه ألف حجة مقنعة ...

    هناك نوع من البرد يدخل إلى نخاع العظم ...وهو ما أشعر به الآن .. نحن في منتصف الصيف و أشعر بالبرد .. هذا ليس طبيعيا أبدا .. أضم علي غطائي وأحاول أن أتدثر به حتى آخر عظمة ... النافذة مغلقة ... وهشام ينام في السرير الذي بجانبي ويلبس أخف أنواع المنامات ... لكنني أشعر بالبرد ...ثمة رائحة غريبة في الجو لا أدري من أين تأتي ... رائحة لم أجرب مثلها من قبل .... هذا لا يحتمل .... هل أنا مريض ؟ لم أكن أبدا بصحة أفضل من هذه ..... ثم إن هناك تيار بارد خفيف يلفح وجهي بإصرار ... من أين يأتي ؟ دفنت وجهي في الغطاء حتى أصبح كالكفن ...إنني أبدو كميت يشعر بالبرد في مشرحة ... ياللسخرية .

    " اليوم 15 – 7 – 1994 ........ مذكرتي العزيزة .....أشعر بالبرد .... أنا مدمنة أفلام رعب كما تعلمين .. تعلمت أشياء كثيرة من هذه الأفلام ... عرفت أن الأشباح عندما تحضر في مكان ما فإن هذا المكان فإن المكان يصير باردا كالقبر ... لأنها خرجت من القبر ... بيئتها الباردة الأصلية ... أحيانا عندما أجلس أمام المسبح الوحيد في هذه القرية يلفحني تيار بارد للحظات ثم يختفي .... إن هناك شبح في هذه الـ .......... "

    إن نورهان مثقفة جدا فيما يتعلق بأفلام الرعب .. كانت هوايتنا كلنا تأجير أفلام رعب من نادي الفيديو القريب ومشاهدتها يوميا .. كنا ننظر إلى رسالة التحذير في بداية كل فيلم باستخفاف ... هذا الفيلم ممنوع لصغار السن ... لازلت أذكر ذلك الفيلم الخاص بنظرية الأشباح والبرد هذه ... كان الفيلم يتحدث عن هذه النظرية كأنها حقيقة واقعة لا شك فيها ... كانت حضارة ما قديما تؤمن بها بشدة قبل أن يعرفوا أن الأرض تدور حول الشمس .... لكن من آن لآخر ..... بيني وبين نفسي كنت أؤمن بهذه النظرية .

    كانت أيام هذا المصيف تمر ثقيلة جدا .. أتت على بالنا فكرة أن نخرج من القرية لنزور البحر القريب منها .. كان البحر يبعد عن القرية حوالي 5 دقائق من المشي السريع .. نعم فكيف نكون في مصيف بدون بحر ... وهكذا خرجنا ذات يوم من القرية وزرنا البحر ... أصابنا الإحباط التام ... فهو بحر غير صالح للنزول نهائيا ... لا يوجد شاطيء .. إنما هي مجموعة صخور تفصل بين البر والبحر بشكل مستفز .

    حتى أتت تلك الليلة ... كنا قد مشينا في كل أنحاء القرية الصغيرة وحفظناها حتى مللنا منها ... فكرنا أن نخرج من القرية ونقف على البحر قليلا .... أنا عكس كل الناس ... لا أحب البحر في الصباح ... لكنني أعشق الوقوف على شاطئه في الليل ... تشعر أنك تقف أمام كائن أسطوري رهيب جدير بالتأمل ... لكن ليلتنا تلك انتهت بمأساة .

    ليس هناك أجمل من الإمساك بحصى صغير والإلقاء به في البحر المظلم بعد منتصف الليل... يمكنك أن تفعل هذا طيلة حياتك دون ملل ... كنا أربعة أطفال .. أنا وهشام ونورهان وأختي سارة ... ليل بهيم ... وبحر مظلم .. وأطفال ترمي بالحجارة في حماس إلى البحر الواسع .. و أحدهم يشعر ببرد غير مفهوم ...

    " اليوم 16 – 7 – 1994 ........ مذكرتي العزيزة .. لا أستطيع وصف حالتي الآن .. أحمد الله أنني عدت إليك ثانية لأخط هذه الكلمات .... لازلت ألهث والطين لم يجف من حذائي بعد .. لقد رأيتهم يا مذكرتي ... لقد رأيت الجن ... وهم يختلفون تماما عما كنت أظنه أو نظنه كلنا ... رأيت ثلاث جنيات طويلات القامة ... يلبسن ثيابا بيضا .. يقفن على شاطيء البحر وينظرن إلى البحر بنظرة ثابتة بينما يحرك الهواء ثيابهن وشعورهن ... ولقد شعرن بنا يا مذكرتي ... ولقد نظرن ناحيتنا ... إنهن حسناوات ... ذلك الحسن القاسي الذي تنفر منه إذا رأيته ... ولقد جرينا بكل قوتنا ... لقد كانت .... "

    يوم جديد ... اليوم هو يوم السبت ... ويسمونه هنا في أرموتلو يوم السوق ... الباعة المتجولون ينصبون ما ينصبونه في كل الشوارع حتى يتخمونها ... الناس يخرجون اليوم من بيوتهم للتسوق ... ويأتي أيضا أناس من البلدان الصغيرة المجاورة .. زحام لا يطاق .. كل شيء يباع هنا .. بداية من الخضروات وحتى الملابس ... إنها متعة للسيدات والفتيات هنا ... و عذاب لنا نحن .

    أمشي وحيدا وسط كل هذا الزحام ... لا أدري أين ذهب الجميع فقد استيقظت متأخرا جدا اليوم بعدما أصابني الإرهاق من الجري أمس من شاطيء البحر إلى القرية لما رأينا الجنيات ثانية ... لقد كان منظرا مريعا ... للمرة الأولى أرى فتاة جميلة ومخيفة .....والآن استيقظت ووجدت الجميع خرجوا للسوق ... كم أكره التسوق ... هذا تاجر تحف يعرض ممتلكاته لبضع سيدات يبدين اهتماما مريعا لما يعرضه ... تاجر آخر هنا يعرض فاكهة الصيف بكل طريقة ممكنة .. إنه يجعل أحد السادة يجرب المذاق أولا .. يالحماسه ... يستحيل أن تجد والدتك وسط كل هذا ... الكثير يصطدمون بك ولا يأبهون حتى بالاعتذار لأنك لابد أنك أنت المخطيء بالطبع .... .. شعرت ببرد مفاجيء أتى واختفى في لحظات .. تبا .. لابد أن هناك أشباحا تتسوق معنا هاهنا .... وبدون مقدمات ... ووسط كل هذا .... رأيتها .

    كانت تلك الفتاة الطويلة إياها التي نظرت لي باهتمام ونحن في حفل الختان ... كانت تمشي وحدها تنظر إلى البضاعة المعروضة باهتمام ... وعندما نظرت أمامها وجدتني أقف مذهولا أتطلع لها في خوف ... نظرت لي باهتمام ثم أسرعت الخطا ناحيتي ... يا إلهي ... استدرت بأسرع ما أمكنني و جريت وكأن شياطين الأرض تطاردني كما حدث أمس عند الشاطيء ... إنها واحدة منهن ... تعم لابد أنها واحدة منهن .

    تعثرت ألف مرة ... ووقعت على الأرض عدة مرات ... أنظر ورائي لأراها لازالت تحث الخطا السريعة إلي وكأنها تريد رأسي .... اصطدمت بألف بشري ... وتعثرت بألف طفل ..و قد ولد هذا غضبا شديدا عند البعض حتى دفعني أحدهم دفعة قوية مع سبة ما أوقعتني أرضا وسط كل هذا الخضم .

    نظرت ورائي ثانية ... أين هي ؟ ... لقد اختفت ..... نظرت في كل مكان بذعر فلم أجدها ... هنا أمسكت بي يد سمينة وجذبتني بعنف ... كانت أحد السيدات تقول كلاما كثيرا عن أنني شقي جدا ويجب أن أكف عن هذا حتى لا أؤذي نفسي .. أخذت السيدة تضرب بيدها على ملابسي لتزيل الغبار العالق منها ... ثم ضربت على رأسي وشعري بعنف ... كنت مذهولا ... ماهذا الذي يحدث لي كل يوم ؟ ... أنا أكره أرموتلو ... وهنا تركت السيدة السمينة تحدث نفسها وجريت ناحية البيت .

    " اليوم 17 – 7 – 1994 ....... مذكرتي العزيزة ... اليوم كان يوم السوق هنا ... كم أصبحت عاشقة لهذه القرية .. الكثير من الملابس الرائعة اشتريتها بأسعار رخيصة جدا لن تصدقيها لو أخبرتك ... إن أمي تكون متحمسة جدا في مثل هذه الأسواق وتنفق كل ما في جعبتها بدون حساب ... لهذا كنت أختار كل شيء يعجبني ... وفي الليل زارتنا مرفت و مريم و دينيز .. ثلاث صديقات لطيفات تعرفن على والدتي حديثا ... إنهن طريفات جدا ويضحكن طيلة الوقت .. عندما خلعن الحجاب كن مثل عارضات الأزياء حقا .. قوام طويل وشعر جميل .. كم أتمنى أن أكون مثل هذا عندما أكبر .. المشكلة أن أختهم دينيز خرساء ... و اليوم حدث موقف طريف دعيني أحكيه لك .

    دخل علينا أحمد و هن موجودات معنا ... وهنا قامت دينيز فجأة ... إنها تقول أنه يذكرها بأخوها الصغير المتوفي تماما ... لكن أحمد الأحمق صرخ صرخة هائلة عندما حاولت أن تمسك به لتقبله .. أخذ يضربها بيديه الصغيرتين وهو ينادي أمه في ذعر ... لن أفهم الأولاد أبدا .. ولا أريد أن أفهمهم .. لقد غيرت رأيي .. لا أريد أن أصير ولدا ... إن البنات أذكى و أحلى وأرق بكثير .... لن تصدقي كيف كان شكله كالمعتوهين ودينيز تحاول أن تمسكه .. لن أنسى هذا المنظر ما حييت "

    إن معها حق .. أنا معتوه حقا ... لقد أحببت دينيز الخرساء الآن ...... هي لازالت تزورنا هي وصديقاتها كل سنة في اسطنبول حتى يومنا هذا .. لكن بيني وبين نفسي أتساءل كلما نظرت إلى قوامهن و شعرهن وجمالهن الحاد .. هل يمكن فعلا أن تكون هاته الصديقات اللطيفات هن جنيات قرية أرموتلو ... لو أن هذا كان صحيحا فأنا أحب الجنيات ... على الأقل هن لا يؤذين أحدا ...بالعكس .. إنهن اجتماعيات جدا ...... ربما تكتفين بجولات على الجبال أو على شاطيء البحر ليلا من حين إلى آخر ... أظن أن الجني الذكر لا يضيع وقته في الاجتماعيات .. إن لديه أعمال أهم فيما يبدو..... نعم ... ربما "

    تمت


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية ذات المهاق الأبيض

    " كانت بيضاء كأشباح ديزني ، و كان لها شعر ينافس شعر جدتي بياضا "

    - تعال يا أوندير .. دعنا نتعرف على هذه العجوز الشمطاء الصغبرة
    - فليكن عزيزي جيهان .. أنت أيتها العجوز الهزيلة .. هل لك اسم ما ؟

    نظرت لهما الفتاة من وراء نظارتها بحذر وقالت بتردد :
    - اسـ .. اسمي آرزو

    انطلقت ضحكات جيهان و أوندير عالية جدا كعادتهما الأبدية كلما أرادا الضحك .. كنت أنظر إلى هذا المشهد باهتمام من مكاني في الفصل بمدرسة أوزيل إيريشيم الابتدائية في اسطنبول .. هل حكيت لكم حكاية آرزو بعد ؟ .. عجبا لكم .. إذن دعوني أستجمع أفكاري أولا .. فهذه القصة من القصص الغالية على نفسي .

    هل رأيت في حياتك فتاة صغيرة مهقاء ؟ .. ماذا ؟ لا تعرف معنى مهقاء أصلا ؟ .. إنها من المهاق .. و أصحاب هذه الصفة نوع من الناس تكون كل شعرة في جسدهم بيضاء منذ ولادتهم .. شعرهم و حاجباهم وحتى شواربهم وذقونهم .. وهي حالة طبيعية جدا .. يسمون من لديه هذه الحالة أمهق باللغة العربية الفصحى . و Albino باللغة الانجليزية .

    إن آرزو – بمد الواو – كانت مهقاء .. مهقاء بعنف .. دعونا نعود بالذاكرة إلى ما قبل المشهد الأول بربع ساعة .. كنا في حصة ما .. ومدرسنا الهمام يحدثنا بحماس عن شيء ما لا أذكره بتاتا .. سمعنا طرقات خافتة على باب الفصل .. سكت المدرس وبدأنا نحن في الكلام كالعادة.. استدار ليفتح باب الفصل .. نظرنا تلقائيا بلا اهتمام إلى الباب لنعرف من القادم .. كان المدير .. دخل بابتسامته المريعة .. و عيناه المخيفتان .. تبا له .. لازلت أذكر تلك الصفعة التي تلقيتها على وجهي من يديه القذرتين .

    - قيام

    كان هذا هو المدرس يحاول أن يلعب دور القائد الحازم علينا نحن الأطفال المساكين الذين لا حول لنا ولا قوة .. قمنا جميعا كنوع من الاحترام للمدير .. لماذا لا نقوم بهذا الشكل عندما يأتي الفراش ليغير كيس الزبالة .. هل يعني هذا أننا لا نحترمه ؟ .. ظللت أفكر بهذا الخاطر غير سامع للحماقات التي يتحدث المدير والمدرس بشأنها .. ثم فجأة نظر إلينا المدير بجسده .. نعم هذا الطراز من المدراء لا يلتفت لينظر إليك برأسه .. بل هو يحرك جسده كله لمواجهتك .. لذلك تكون أطرف اللحظات عندما يتحدث مع اثنين في ذات الوقت .. و فجأة سمعته يقول بصوت عال :

    - و الآن يا فصل خامسة خامس .. أريدكم أن ترحبوا بزميلتكم الجديدة .. آرزو فولكان .. فصلكم هو الوحيد حاليا الذي فيه مكان شاغر .. تعالي يا آرزو .. تعالي يا عزيزتي .. ادخلي إلى فصلك الجديد .

    الآن بدأنا ننظر في اهتمام .. هناك وافدة جديد إذن على مجتمعنا الرهيب .. ترى كيف ستكون .. هل ستعيش أم ستموت .. هنا دخل مخلوق هزيل أبيض يرتدي نظارات وينظر إلى الأرض في اهتمام .. معذرة فأنا أصف لك أول شيء شعرنا به ونحن ننظر إلى آرزو .. كانت هزيلة .. ومهقاء .. يبدو لك عندما تراها لأول وهلة أنه تم غمسها في برميل طلاء أبيض ..

    هنا سمعت ضحكات مكتومة من ورائي .. ضحكات مكتومة من طراز – خخخخخ – نظر المدير إلينا بغضب محاولا أن يعرف مصدر هذه الضحكة .. كانت آرزو تحمل حقيبة زرقاء تمسكها بكلتا يديها وتنظر إلى الأرض في خجل.. تتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتها لتخفيها من أمامنا .. أعرف هذا الإحساس .. وقد شعرت به في أول يوم لي في هذه الغابة أيضا ..

    - هيا يا آرزو .. هناك مقعدك .. أريدك أن تكوني مجتهدة و تكتبين واجباتك كل يوم .. وحذار من الغياب .

    كان المدير يشير لها للمقعد الوحيد الشاغر في آخر صف .. بجوار النافذة .. في ركن الفصل الخلفي .. نظرت آرزو إلى المقعد ثم نظرت إلى الأرض وبدأت تمشي بين الصفوف وهي تجر حقيبتها الزرقاء خلفها.. يالهذا الشعر الأبيض الطويل .. يبدو أنها ستتعب معنا جدا ... كانت تسمع عبارات خافتة وهي تمشي بين الصفوف ..

    - آآآآرزوووو
    - انتبهي من الضفدع الذي وضعته على مقعدك
    - هي هي هي

    لحظات وانطلق جرس الحصة معلنا انطلاقنا إلى الحرية .. نظرت إلى آرزو فوجدتها تتشاغل بالنظر إلى جدران الفصل وإلى اللوحات المعلقة عليها .. كانت تجلس بجوار فتاة من النوع المشاغب جدا .. كانت تجلس بجوار إسراء .. لابد أنكم تذكرون إسراء .. هي نفسها التي اختفت في حكاية رجل الظلام .. لا عليكم .. يكفي أن تعرفوا أنها تشبه البرغوث و تسبب نفس الصداع الذي يسببه هذا الأخير .

    - تعال يا أوندير .. دعنا نتعرف على هذه العجوز الشمطاء الصغبرة
    - فليكن عزيزي جيهان .. أنت أيتها العجوز الهزيلة .. هل لك اسم ما ؟

    هذا كان أوندير وجيهان .. أسوأ ولدين في هذا العالم .. نظرت لهم الفتاة من وراء نظارتها وقالت بتردد :

    - اسـ ....اسمي آرزو

    كان صوتها مبحوحا خافتا جدا .. تشعر معه أن ثعبانا يسكن داخل حنجرتها الرفيعة .. وهذا زاد من ضحك جيهان عليها ... قال أوندير :

    - أخبريني يا عزيزتي .. كم عمرك بالضبط ؟ ... لابد أنك تعديت السبعين .. هل نسيت أن تكملي تعليمك وتذكرت الآن فجأة ؟

    لم ترد الفتاة ونظرت للأرض في حذر غاضب .. قرصتها إسراء في ذراعها قرصة مؤلمة وقالت لها :

    - ماذا يا جدة ؟ هل نسيت فعلا كم عمرك ؟ .. و هل هذا طقم أسنانك ؟ هلا أريتنا كيف تأكلين به ؟

    أغمضت الفتاة عينيها و أدارت وجهها عنهم .. واستمرت ضحكاتهم عليها و قرص إسراء لها .. رأيتها تغمض عينيها بقوة وتضع يديها على أذنيها ..

    - لابد أن هذا شعر مستعار
    - عجوز
    - شمطاء
    - ساحرة
    - ها ها ها
    - انظروا لهذين الحاجبين

    وهنا فتحت الفتاة عينيها و نظرت لأوندير .. ترى كيف أصف لكم تلك النظرة الرهيبة التي حدجته بها .. كانت نظرة كراهية وغضب وقد اتسعت عيناها عن آخرهما في مشهد مخيف .. تسمر أوندير في مكانه مرتعبا من هذه النظرة .. خاصة أنها كانت تصدر صوتا غاضبا مكتوما كصوت الأفعى ... قطبت حاجبي ناظرا لهذا المشهد الغريب .. إنها مرعبة حقا .

    في اليوم التالي مباشرة غاب أوندير عن المدرسة .. عرفنا أن الفتى الضخم تعرض لحادث مريع كسر معه كاحله ... في وقت الـ Break في نفس اليوم كنت أجلس مع هشام في مطعم المدرسة منتظرين وجبتنا التي لم تتغير منذ شهر .. لقد صار هذا مملا .. رأيت الطباخ النحيل علي يكلم آرزو ذات الشعر الأبيض بحدة .. لم أعرف فحوى الحديث بالضبط لكنني رأيتها تحمل صينيتها الصغيرة التي احتوت على طبق المعكرونة المعتاد و الدجاج المريض الذي يتفننون في طبخه هنا .. كان يبدو أنه يحاول أن يشرح لها شيئا لا تفهمه هي .. وهنا رأيت الطباخ علي يقطب جبينه و ينظر لها بقلق مذعور .. كنت أراها من ظهرها .. إن لها شعرا طويلا ناعما يصل للآخر فقراتها الظهرية .. ترى أين رأيت هذه النظرة المذعورة من قبل ؟

    في اليوم التالي مباشرة وجدت ورقة معلقة على باب المطعم .. كان فيها " على جميع الطلاب الشراء اليوم من ( الكانتين ) فلن تتضمن وجبات اليوم أي لحوم أو دجاج .. لأن السيد علي روزا أصيب بوعكة صحية .." ..
    قلت لمن كان بجانبي :

    - هذا أكثر راحة حقا .. لا بد أن الرجل أكل من الدجاج الذي يطبخه فمرض .
    - يقولون أنه مريض جدا
    - أتمنى أن يستبدلوه قريبا

    إن المصادفات تحدث .. لذا لا داعي للأفكار الشريرة بشأن آرزو .. ذات يوم غاب أحد المدرسين عن حصته .. وكان هذا طبعا يوم عيد للكل .. ترى البعض خرج ليكتب أشياء حمقاء على السبورة .. البعض وجد الفصل مناسبا للسباق أو للمصارعة .. و كنت أنا أتحدث مع شخص ما في أمر تافه ما ..

    سمعت صوت إسراء يأتي من الخلف :

    - ترى ماذا يوجد داخل هذه الحقيبة الزرقاء أيتها العجوز ؟

    أمسكت آرزو بحقيبتها ونظرت لإسراء بحذر .. هنا انضم بعض الطلاب للحفل ...

    - هل تخفين فيها كتب السحر الأسود أيتها الساحرة الشمطاء الهزيلة ؟
    - ربما لو فتحتموها يخرج لكم منها أرنب أبيض ما
    - هي هي أنا أحب الأرانب جدا
    - اتركوا حقيبتي .. اتركوني

    بدأت إسراء تشد الحقيبة حتى انتزعتها .. ثم قفزت فوق أحد المقاعد و قالت بصوتها البرغوثي المزعج :

    - مرحى ياخامسة خامس ، إنه يوم كشف الساحرة الشريرة

    وبدأت تفتح الحقيبة بعنف .. تجمع العديد من الطلاب حولها .. كانت آرزو تقول شيئا ما باحتجاج لكن أحدا لا يسمع شيئا .. هنا قمت لحل هذه المهزلة ..

    - اتركي الحقيبة يا إسراء وإلا صعدت لأنتزعها منك بالقوة
    - ماذا ؟ هو حب جديد إذن ، اسمعوا يا خامسة خامس .. إنه يحبها .. يحب الساحرة الشمطاء

    وهنا قلبت إسراء الحقيبة لتفرغ محتوياتها بعنف .. انفرط كل شيء على الأرض .. مجرد كتب وأقلام وكراسات .. وكانت هناك دمية رخيصة معتنى بها .. أخذت إسراء الدمية و عزمت أن تكسرها .. هنا لم أحتمل .. صعدت على أقرب كرسي .. لكن إسراء قالت :

    - لو اقتربت سأكسرها ولا يهمني ما سيحدث وأنت تعرف هذا
    تقدمت ولم أبال .. وهنا شدت إسراء ذراعيّ الدمية بقوة حتى مزعتها .. وكانت مشاجرة .. ودخل الأستاذ كمال ليحلها .. كان يوما حافلا بالضرب من عصا المدير و الخمش من إسراء .. والعتاب من الأستاذ كمال .. من هو الأستاذ كمال ؟ .. لابد من واحد مماثل في كل مدرسة .

    في اليوم التالي اختفت إسراء من الفصل .. لابد أنكم تذكرون كيف اختفت .. وقد حكيت هذا في السابق عندما كنت أحكي عن رجل الظلام .. لا تنظروا لي بهذا الشكل .. آرزو مجرد فتاة مسكينة و لا خطر منها صدقوني ..


    بعد حوالي ثلاثة أشهر تقريبا من هذه المشاهد كنا في طابور الصباح .. وكان الدور على فصلنا ليقدم برنامج الصباح .. كنت أنا المذيع كالعادة لأن المدير يحب صوتي جدا ويصفه بأنه صوت إذاعي من الدرجة الأولى كان يجعلني أقدم دائما معظم البرامج الصباحية للفصول حتى اعتدت هذا .

    كان معنا العديد من الفقرات .. لكن ما جعل هذه المرة مميزة هو أن آرزو كانت هي التي ستقدم فقرة الأخبار .. كنت قلقا عليها حقا .. كيف يكلفها الأستاذ كمال بهذا و هو يعلم أنها أكثر الطالبات خجلا .. أتمنى حقا ألا تسوء الأمور ..

    - أترككم الآن مع أهم أخبار اليوم .. تذيعها لكم الطالبة آرزو فولكان ...

    تقدمت آرزو إلى الأمام قليلا .. كانت تبدو متوترة جدا .. أخذت تعدل نظارتها بشكل ذكرني بجدتي فعلا .. كانت تنظر إلى ورقتها التي ستقرأ الأخبار منها .. كان قلبي يدق حتى كنت أخشى أن يسمع الناس دقاته خلال المايكروفون الذي أمسك به ..

    بدأت آرزو في الكلام .. وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوتها بهذا الوضوح .. إن لها صوتا مبحوحا خافتا جدا يشعرك أنها ثعبان رهيب .. كنت أنظر إلى وجوه الطلاب الضاحكة أمامي .. آرزو تتلعثم مرة ومرة .. ثم تعدل نظارتها .. سمعت ضحكات مكتومة بدا تأتي من كل مكان .. آرزو بدأت تسعل وتتلعثم ثانية .. بدأت الضحكات المكتومة تتحول لضحكات عادية .. خاصة مع استمرار آرزو في التلعثم و تعديل النظارة بطريقة جدتي .. ثم أخذت تمسح عرقا وهميا من على جبينها و تقرأ ما في الورقة بخفوت محاولة أداء مهمتها .. هنا لم يحتمل الطلاب أكثر ..

    تعالى صوت ضحكاتهم عاليا ... يا إلهي هناك مدرسات يضحكن أيضا .. أرى المدير يصيح بشيء غاضب ما .. لكن لا أحد يأبه به .. آرزو حولت نظرها من الورقة إلى الطلاب .. إنها مذهولة .. الجميع يضحك عليها .. رأيت شبح دموع تترقرق في عينيها .. ياله من موقف .. هنا رأيت الورقة والميكروفون قد سقطا من يدها .. و سالت دموعها ساخنة على وجنتيها .. وأخذت تنظر للجميع بكراهية مقيتة .. ترى أين رأيت هذه النظرة المخيفة من قبل ؟

    رأى الجميع آرزو تجري مغطية وجهها بكفيها متجهة إلى المبنى المجاور الذي فيه فصلنا .. فزاد ضحكهم عليها وتطور إلى قهقهة ثم إلى الوقوع وضرب الأرض حتى لم يعد أحد من المدرسين يستطيع إيقاف هذه المهزلة .. هنا رأيت المدير يتجه إليَ بحدة ثم مد يده وأخذ المايكروفون من يدي بعنف وصرخ قائلا :

    - لن ينصرف طالب إلى فصله اليوم قبل أن يلقى عقابا يجعله ينسى ماذا كان اسمه . ولو سمعت ضحكة أخرى بعد هذه اللحظة سواء من طالب أو من مدرس سيطرد نهائيا من المدرسة .. بلا رجعة .

    خفت صوت الجميع نوعا ما وبدأوا ينظرون إليه بقلق .. رأيت بعض الطلاب يكتم ضحكات أخرى خرجت رغما عنه .. وهنا ناداهم المدير بأسمائهم في غضب .. قال لهم أن يتوجهوا بعد العقاب إلى مكتبه .. لأنهم مطرودون.. تعالت بعض همهمات الاستنكار لكنه لم يبال بها مطلقا .. وهنا التفت لي بحدة وأمرني أن أذهب لأحضر آرزو من الفصل .

    وبينما أنا ذاهب لأداء مهمتي رأيته يقف أمام الطابور الأول من الطلاب .. ثم سمعت صوت ضربة عصاه الغليظة على يد أحدهم... وبينما أنا في طريقي إذ سمعت ضربة أخرى وأخرى .. إنه يعاقب الطلاب واحدا واحدا إذن .. إن هذا يناسب شخصيته تماما .. لكنها المرة الأولى التي يصل فيها معنا لهذه الدرجة .

    - آرزو .. إن المدير يريد أن يراك
    - ........
    - آرزو ؟ إنه يعاقب الطلاب واحدا واحدا من أجلك .. ألا تسمعين صوت الضربات
    - ..............

    لم ترد .. كانت تدفن وجهها بين ذراعيها وتبكي في صمت .. جلست أتأملها برهة .. هذه الفتاة لم يكلمها أحد منذ أتت إلى مدرستنا .. لم أر أحد يكلمها إلا وهو يسخر منها.. إن لها الآن اكثر من ثلاثة شهور بيننا ولم نعرف عنها شيئا واضحا .. ترى من هي ؟ .. كيف تراها تشعر ؟ هنا بدأت أشفق عليها حقا .. وضعت يدي على كتفها قائلا بأكثر لهجة حنون استطعت أن أخرجها :

    - آرزو ؟
    - .................
    - إنني أفهم شعورك يا عزيزتي .. لقد مررت بنفس تجربتك .. كانت أول شهور لي في هذه المدرسة شهورا مرعبة .. الكثير من المشاكل و السخرية وكل شيء .. ثم تكوّن الأصدقاء تلقائيا .. لا يوجد مكان في هذه الدنيا يحوي أعداء فقط .
    -..................................
    - إن هناك طلابا سيطردهم المدير من المدرسة نهائيا لأنهم ضحكوا عليك ؟ ألم تسمعي كلماته ؟

    حاولت أن أرفع وجهها برفق لكنها دفنته أكثر .. مررت بيدي على شعرها الناعم بطريقة حنون قائلا :
    - أرجوك يا آرزو .. نحن سنكون أصدقائك الجدد .. إن طول صمتك ونظرك للأرض هو ما جعلنا نظن أنك لا تريدين مصادقة أحد .. أرجوك .

    هنا رفعت رأسها ونظرت إليَ .. إنها المرة الأولى التي أراها بدون نظارتها .. إنها جميلة حقا .. ولا أدري من السفاح الذي اشترى لها هذه النظارة الكبيرة التي تذكرك بنظارة المحقق كونان .. قلت لها بلطف :

    - اسمي أحمد .. و أتشرف بأن أكون أول صديق لك يا آرزو .

    و مددت يدي لها لأصافحها .. ظلت يدي ممدودة فترة من الزمن بلا أي استجابة من قبلها .. ثم أخيرا مدت يدها المرتعشة لي و قالت وهي تتلعثم :

    - شكـ .. شكرا لك

    لازلت أسمع أصوات الضربات .. وصوت صياح المدير .. كانت تلك أياما حافلة حقا ولا أدري لماذا تبدو الأيام الحالية باردة إلى هذاا الحد ..مرت بضع أيام بعد هذه الحادثة .. وقد تطورت علاقتي مع آرزو إلى السلام كلما رأيتها .. وتعرف هشام ابن خالتي عليها – وهو معي في ذات المدرسة - .. و أخته نورهان أيضا – وهذه معي في نفس الفصل - .. وقد أصبح الطلاب يعاملون آرزو بحذر أكثر منذ ذلك اليوم الرهيب .

    هناك كتاب قرأته ذات مرة عن الساحرات .. يقول أن الساحرة تكون ساحرة منذ ولادتها لكنها لا تعرف أنها ساحرة إلا عندما يقرر الشيطان ذلك .. لا أذكر اسم الكتاب جيدا .. يقولون أن الساحرة لها طاقة نفسية هائلة .. و غضبها دائما ما يتحول إلى خراب ..وأن علينا أن نحرقها وهي طفلة قبل أن تتطور قدراتها هذه ..

    قال لي هشام وهو ينظر إلى آرزو من بعيد في أحد الأيام ونحن نتمشى في فترة الـ Break في المدرسة :
    - كيف تفسر إذن كل هذه الحوادث التي أصابت الكل بعد أن غضبت عليهم آرزو ؟
    - هذا لا يعني أنها ساحرة يا هشام
    - ماذا يعني إذن أيها العبقري ؟
    - يعني أن خيالك واسع ويحتاج لمن يضيقه قليلا
    - هل رأيت نظرتها المرعبة تلك ؟ أنا نفسي أخاف منها جدا وأعاملها بحذر .. أنا لم أستطع أن أحبها أبدا .

    كنا ننظر إلى آرزو التي تجلس على أحد المقاعد العامة وتكتب شيئا ما في أحد الكراسات بشرود .. وفجأة رفعت آرزو رأسها ونظرت لنا بحدة فرأتنا ننظر لها ونتحدث .. لمع انعكاس الضوء على نظارتها فلم أر عينيها جيدا .. لكنها كانت تقطب حاجبيها .. رأيت هشام يقول بذعر وهو يستدير منصرفا :
    - هذه الفتاة ساحرة حقيقية .. لم أعد أحتمل .. لقد سمعتني .. تبا لك يا أحمد .

    وفي أحد الأيام .. بعد هذا بشهور .. أذكر أنه قد دار بيني وبين آرزو حديث مرعب :

    - أنا لست ساحرة يا أحمد .. إنما أنا فتاة ضعيفة .. لكن الله ينتقم ممن يظلمني .
    - من قال أنك ساحرة يا آرزو ؟ لا تلتفتي لمثل هذه التفاهات
    - الكل يقول لي هذا .. حتى أنني أرى هذا في عينينك أنت نفسك عندما تنظر إلي .
    - إن عقلك الباطن يهيء لك أمورا كاذبة .. فلا تصدقيه
    - عقلي الباطن هو أفضل صديق عرفته يا أحمد
    - وماذا أكون أنا إذن ؟
    - أنت ولد من الأولاد الذين يتظاهرون أنهم لطفاء جدا ..
    - هلا كففت عن هذا الكلام يا آرزو .. أنا لم أؤذك يوما بكلمة
    - أنت تخاف مني يا عزيزي .. تخاف أن يصيبك ما أصاب غيرك .. هل تستطيع أن تصفعني الآن يا أحمد ؟
    - كفي عن هذا يا آرزو ..
    - أنت أضعف من أن تفعل .. أنت تخاف مني .. أرى ذلك في عينيك .
    - اخرسي يا آرزو وكفي عن هذا الهراء .. أنت لا تخيفينني .
    - أنت جبان يتظاهر أنه شهم وشجاع .. هيا اصفعني لو كنت رجلا .

    وهنا هوت يدي على وجهها بصفعة غاضبة لا أدري كيف خرجت مني .. أطارت الصفعة لها نظارتها .. فنظرت لي بغل .. نظرت لي بكراهية .. تبا .. إنها تلك النظرة ثانية . .. نظرت لها بخوف .. قائلا :
    - آرزو ... أنا متأسف .. صدقيني لم أقصد هذا أبدا

    كانت لا تزال تنظر لي بكراهية ... هذه النظرة ... إنها تقلق أشد الرجال شجاعة ..

    (أنا لست ساحرة يا أحمد .. إنما أنا فتاة ضعيفة .. لكن الله ينتقم ممن يظلمني )

    لقد أصيب أوندير بكسر رهيب في الكاحل منذ أن سخر منها .. والطباخ علي روزا ظل مريضا لمدة شهر ثم اكتشفنا أنه أصيب بالذبحة الصدرية بلا سبب معروف ..

    (عقلي الباطن هو أفضل صديق عرفته يا أحمد )

    ( اسمي أحمد .. و أتشرف بأن أكون أول صديق لك يا آرزو )

    جميع طلاب المدرسة ضربوا بعنف في مشهد لم يسبق له مثيل فقط لأنهم سخروا منها .. حتى هشام منذ أن نظرت له تلك النظرة المفزعة وهو يحكي لي عن أن حبيبته قد أرسلت له رسالة تعتذر فيها منه لأنها ستتركه ...

    (تخاف أن يصيبك ما أصاب غيرك )

    ( أنت ولد من الأولاد الذين يتظاهرون أنهم لطفاء جدا )

    ماذا عن إسراء أيضا ؟ .. هذا فوق قوانين المصادفة ..

    (لابد أن هذا شعر مستعار )

    (اسمي آرزو )

    ( آرزو فولكان )

    ( أنت أضعف من أن تفعل )

    ( لست ساحرة )

    كنت أنظر لها بخوف ... ثم فجأة اختفت نظرتها المخيفة تلك و انفجرت ضاحكة بصوت مبحوح أشبه بصوت ثعبان البوا عندما ينفجر ضاحكا .. نظرت لها بدهشة ... نظرت لي في امتنان وقالت :

    - لا تخف يا عزيزي أحمد .. أنت أفضل صديق لي حقا .. لقد كنت أرى إذا كنت تصادقني خوفا مني .. شكرا لك يا عزيزي ..

    وهنا انحنت تطبع قبلة سريعة على جبيني المندهش .. ثم انطلقت راكضة بسعادة مختفية عن ناظري ..

    ظللت مندهشا مما حدث فترة من الزمن .. ومرت السنين تلو السنين .. و تخرجنا من المدرسة .. و سافرت إلى الجامعة في مصر ..وقد كانت آخر مرة رأيت فيها آرزو هي في السنة الماضية عندما زرت تركيا كعادتي في نهاية العام .. عندها نظرت لها بدهشة حقيقية ... لكن هذه المرة كان هناك سبب آخر لدهشتي .. كانت تزور نورهان في بيتها بعد أن تطورت صداقتهما جدا .. ورأيتها بشكل جديد تماما هذه المرة .. لقد كانت آرزو محجبة .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية شياطين السيرك


    " لعمري إن مهرجي السيرك كائنات قذرة، خذها كلمة من رجل نام مع هذه المخلوقات في غرفة واحدة "


    حياتي كانت غاية في القصر والتفاهة .. وجدت نفسي أغادر الدنيا قبل أن أوعى عليها .. سنوات حياتي الثلاثة والعشرين لا أذكر منها شيئا ذا قيمة .. كل شيء كان تقليديا .. المدرسة .. البيت .. فتاة الجيران الحسناء .. ابنة عمي التي تصر أمي أنها رائعة رغم أنها كالبومة المكتنزة .. حلم العمل في القاهرة .. خطبة فتاة لم أرها في حياتي سوى في تلك المرة التي يطلقون عليها اسم ( الشوفة ) ؛ حينما تدخل علينا بصينية من الشاي في خجل شاعرة شعور البضاعة وهي تعرض أمام الزبائن ...نعم الجماد يشعر ياعزيزي .. هذا ما ستكتشفه لاحقا بعد أن تغادر هذا العالم القصير جدا .


    أعيش في مدينة ساحلية شعبية تدعى جمصة .. أعرف أنه اسم يشعرك بعدم الارتياح لكنه اسم المكان الذي فرض عليً أن يكون بلدي .. وفرض عليً أن أحبه و أدافع عنه ضد أي شخص يحاول المساس به .. إن جمصة مدينة ساحلية تعتبر مصيفا لمحدودي الدخل ؛ وهو اسم أطلقته الحكومة المصرية على الفقراء الذين يشكلون ثلاثة أرباع الشعب تقريبا .. الشهر الأخير من حياتي كان ملحمة تعلمت فيها أن الدنيا لم تكن أبدا بخير .. و أن البشر هم أضعف السلالات العاقلة التي خلقت ... أضعفها و أكثرها غرورا وغطرسة .


    انتهيت من التعليم الثانوي المصري الحقير سريعا .. وبدأت في رحلة البحث عن العمل إياها ... قمت بعدة سفرات خائبة إلى القاهرة و الإسكندرية لعرض نفسي على أشخاص ربما يجدونني ذا نفع في مؤسساتهم …في النهاية وجدت عملا كخادم لعائلة تسكن في أحد البيوت الراقية في المعادي .. عملت معهم أكثر من سنة حتى عشقوني وأصبحت منهم .. مهلا .. هل أخبرتك باسمي ؟ لا عليك ففي العالم الذي أنا فيه الآن لا نهتم بالأسماء مطلقا .. كان اسمي هو إسماعيل ... إسماعيل سري ... أبيض البشرة .. أزرق العينين .. بني الشعر ناعمه .. يبدو شكلي طفوليا بشكل يزيل توتر كل من يقابلني .. نعم هذه الأوصاف يمكنها أن تشكل ملامح مصرية ريفية رغم أنها نادرة الوجود نوعا ما .


    ربما يكون الشيء الوحيد المختلف في شخصيتي هي أنني أعشق السيرك منذ صغري .. لم أفوت أي عرض سيرك أسبوعي أبدا في أي بلد أسكن فيها .. كانت التذكرة بثمن زهيد .. بالطبع كنت أتابع عروض السيرك على القناة الثانية والتي كانت تعرضها مساء كل يوم ثلاثاء .. رأيت عروضا من سيرك باروم في ألمانيا و سيرك دو هيفير الباريسي .. أيضا سيرك بيلاروسيا المذهل .. وأنا لا أمل أبدا رغم أن العروض ربما تبدو مكررة للبعض .. السيرك قديما كان وحشيا .. قتال و دماء و آلاف المشاهدين تصيبههم نشوة القتل ... كان يدعى الكولوسيوم .. الآن أصبح الأمر أكثر تحضرا بالطبع .. لكن صدقني .. ليس أكثر متعة .


    لم يمض الكثير من الوقت حتى وجدت نفسي مسافرا إلى موسكو .. نعم إلى موسكو في روسيا .. أسمع بالطبع سؤالك و أتوقعه .. كنت منذ قليل أبحث عن عمل في جمصة فمالذي أودى بي إلى روسيا .. كان الشهر الأخير من حياتي غريبا جدا .. لكني سأختصر عليك الأمر .. ببساطة سافرت مع العائلة التي أخدمها في إجازة سنوية قصيرة .. وفكرة هذه العائلة المدللة عن الإجازة السنوية هي شهر من الاستجمام في دولة جميلة ..وفي تلك السنة كانت روسيا هي هدفهم .. وقد قرروا أخذي معهم إلى هناك لخدمتهم خاصة أن الأب لن يسافر معهم ... هذه هي قصة ذهابي لروسيا باختصار .. الأكثر أهمية هو ما حدث لي في روسيا نفسها .. وكيف مت فيها .


    من الصعب جدا أن تأخذ شخصا من أبناء جمصة و ترمي به في موسكو هكذا بدون مقدمات ... وتفترض منه أنه سيكون مسؤولا عن عائلة من أم و ثلاثة أطفال ... وصلنا إلى مطار دوموديدفو الذي بدا لي كبيرا ومنظما بشكل مبالغ فيه رغم وجود آلاف المسافرين .. ليس كالمطار المصري الذي يشعرك أنك في حمام كبير مزدحم .. برغم هذا أنهينا الإجراءات في حوالي ساعتين .. فتشوا كل حقائبنا .. لابد أنني لم أرق لهم .. فمن سيفتش على عائلة مسكينة كهذه لو لم يكن معم أحمق مثلي .


    أمضينا الليلة في فندق ما لا أذكر اسمه .. لكنني عرفت أنه في منطقة ما تدعى الريغستراتسيا .. الاسم الذي لم أكن لأستطيع قراءته أصلا وقتها .. كانت رحلتنا إلى روسيا أسبوعين .. قضيت مع العائلة أسبوعا منهما والباقي قضته العائلة والشرطة في البحث عني .. مسكينة هي هذه العائلة .. أعرف تماما كم أفسدت إجازتهم التي لا يحظون بها إلا مرة في العام .


    نعم مشينا على نهر موسكوفا .. ورأينا مبنى الكريملين .. تلك المنطقة بالذات تشعرك أنها متحف للمباني الواقفة أمامك كعارضات الأزياء .. الكريملين .. قصور سانكت .. قصر الملكة إيكاترينا الأحمر .. كاتدرائيات ... متاحف .. أمضينا وقتا جميلا بين معالم روسيا حتى أتت ليلة الجمعة .. كان مقصدنا في تلك الليلة هو سيرك موسكو الكبير .. ولك أن تتخيل كيف كانت حماستي وقتها ... كنت متحمسا حتى يمكنك أن تسمع دقات قلبي .. تلك الدقات التي سمعتها لآخر مرة في تلك الليلة .


    كان السيرك الذي أراه في جمصة و حتى السيرك المصري الروسي في القاهرة مجرد لعب أطفال أغبياء بالنسبة لهذا الحفل الخيالي الذي رأيته في آخر ليالي حياتي .. مدرجات كالمسرح الروماني الدائري إياه .. قاعة عرض عبارة عن قاعدة متحركة على أحدث الأنظمة في منتصف المدرج الدائري.. مصممة بحيث يصبح بإمكانها النزول تحت مستوى الأرض والتحول إلى خمسة أشكال مختلفة .. جليد .. مياه .. رمال .. جمباز .. و أرضية فيلم ماتريكس السوداء .. كنت موهوما ...رأيت عروضا كثيرة متتابعة غاية في الرقي والإتقان .. أذكر أنه كانت هناك دراجات نارية تدور داخل كرة خشبية عملاقة ... لاعبي جمباز يقفزون في السماء بشكل مرعب بينما الخلفية بالأعلى تتحول لتماثل الفضاء الخارجي بنجومه وكواكبه ... فجأة يتحول المسرح لحوض مائي و نرى عرض التماسيح المتوحشة .. وبعد قليل تجده أصبح أرضا رملية تجري عليها الجياد ... كان كل شيء ساحرا جدا .. تبع هذا كله عرض المهرجين .. وهي فقرة محببة لمعظم الناس .. و أنا منهم .


    اختلاف تام عن مهرجي مصر أصحاب الكروش الكبيرة والصوت الأجش والدم الثقيل .. هؤلاء مهرجين على أحدث طراز ممكن .... أرى كبيرهم يلبس عباءة حمراء طويلة و يضع قرنين على رأسه .. ياله من شكل غريب لمهرج .. شعرت أنه يجب أن أذهب إلى الحمام فورا و إلا ستحدث أمور ليست سارة على الإطلاق ... قمت من مكاني و شرعت في البحث هنا وهناك ... وقد طال الأمر معي .. نسيت أن أخبركم أمرا.. لقد كنت مشهورا بالغباء .


    لازلت أبحث .. أنظر إلى المسرح .. غادر المهرجون المسرح وبدأت فقرة الساحر .. رجل وسيم ذو شعر طويل أنيق أسود يرتدي بدلة سوداء ويقوم بحيل عادية في البداية لا تلبث أن تتحول لحيل لا تصدق ... أين أنا ؟ .. يالغبائي .. لم أحفظ مكان مقعدي ... من المستحيل في هذا المكان أن تعرف أين كنت تجلس .. هذه قاعة تسع أكثر من عشرين ألف شخص على الأقل ...ثم أين هو ذلك الحمام اللعين .


    استوقفت أحد العاملين و قضيت وقتا رهيبا معه حتى فهم أنني أريد الحمام .. لغتي الإنجليزية معدومة ويبدو من منظره أنه لم يسمع أصلا عن اللغة العربية .. في النهاية أخذني من يدي و أراني طريق الحمام ..أنهيت أموري بالداخل سريعا .. لكن ما هذه الضجة بالخارج .؟


    هناك صوت مزعج جدا بالخارج .. خرجت سريعا لأرى .. كل شيء يبدو على مايرام .. الناس كلها حبست أنفاسها وتحولت الأرضية لأرضية فيلم ماتريكس السوداء الشهيرة ذات النقاط .. ما هذه الضجة بالخارج ؟ لاحقا اكتشفت أنه لا توجد ضجة بالخارج .. وأن الضجة التي أسمعها هي بالداخل .. هناك دوخة غريبة أشعر بها وصوت غريب لا أدري ما هيته في دماغي .. لا أذكر ماذا حدث .. آخر ما أذكره هو أنني جاث على ركبتي و هناك على المسرح رجال ببدلات سوداء يؤدون عرضا ما يشبه فيلم ماتريكس .


    بالفعل لا أذكر شيئا البتة .. كانت غيبوبة متقطعة فيما يبدو .. كلما أفتح عيني أرى ستارا أخضر غريبا ومجموعة من الأصوات تتحدث بالروسية .. ثم أغيب مرة أخرى عن الوعي ..

    - موﭽـتي كَفَريت ميدلنا ﭘـﭽالستا ( من فضلك هلا تحدثت ببطء ؟ )

    - يا ني خَتشو أب إتم كَفَريت ( لا أريد التحدث عن هذا )

    - تي مني ﭭيريش؟ ( هل تثق بي ؟ )

    - كَنيشنا ( نعم )

    - ﭘرْدَلـﭽيتي سـﭭَيو رابوتو ﭘـﭽالستا ( إذن تابع عملك من فضلك )

    فتحت عيني ببطء .... أرى بعض المهرجين يقفون أمام مرآة كبيرة يبللون منديلا ما بمادة ما في كأس ما ثم يمسحون به المساحيق الملونة على وجوههم ... إن وجوههم كبيرة نوعا ما ... هاهو رئيسهم ذو العباءة الحمراء يتكلم بضع كلمات آمرة لواحد منهم ثم يشرع في إزالة المساحيق عن وجهه بدوره ... ثم بدأ يخلع القرنين القطنيين الذين كان يضعهما على رأسه ... هناك شيء ما لا أفهمه .. أم أنه تأثير الغيبوبة ... هؤلاء المهرجين .. إنهم ..يبدو أنهم ... كان يجب أن أفقد الوعي مرة أخرى .

    أفتح عيني فجأة .. ظلام تام .. صوت جهاز التكييف الرتيب ... أصوات شخير مقززة ... أنا راقد على الأرض وهناك ما يقرب من أربع أجساد نائمة على أربع أسرة حولي .. تسللت إلى أنفي رائحة منتنة .. يبدو أنني كنت أحلم أحلاما رهيبة .. أذكر أنني رأيت مجموعة من الرجال حمر البشرة جدا ذوو أسنان صفراء مقززة يتحدثون إلي بلغة غريبة .. ثم أنه كانت لديهم قرون قصيرة حمراء .. هذه الرائحة منتنة بحق .. و ها أنا أفقد وعيي للمرة الثالثة و الأخيرة في تلك الليلة .

    فجأة استيقظت على أصوات عالية جدا صمت أذني .. هناك ظلام و أضواء ملونة تتابع على وجهي .. أشعر أنني معلق في السماء بشكل ما ... لا أرى شيئا تقريبا مما هو حولي .. لكني أسمع صوت موسيقى من النوع الذي يميز أفلام الحركة .. بدأت عيني تعتاد البيئة وبدأت أسمع أصوات أناس كثيرة من حولي .. صوت شخص يتحدث عبر المايكروفون .. أصوات هتاف و تصفيق من عدد رهيب من الناس لا أراهم جيدا ... فجأة أضاء المكان كله دفعة واحدة .. ورأيت كل شيء .

    أنا معلق على ارتفاع متوسط بحبال محكمة في وسط مسرح السيرك ... حولي عشرين ألف متفرج يهتفون و يصفقون وينتظرون شيئا ما ... نظرت إلى المسرح من تحتي .. أرى أربع مهرجين يدورون حول القاعة بشكل استعراضي ويحثون الجمهور على الهتاف بصوت أعلى .. أمسك كبير المهرجين بالمايكروفون وقال شيئا ما بنبرة استهزاء و أشار إلي .. المفاجأة التي اكتشفتها هي أنني كنت معلقا هكذا مرتديا ملابس المهرجين .. شعرت بالأنف الأحمر الكبير المثبت على أنفي .. لم أستوعب الأمر .. كنت قد أصبحت فجأة مهرجا معلقا وسط سيرك موسكو الكبير .

    شيء ما أشعر أنه جامد في ملامحي كلها .. أشعر أن ملامحي كلها ضاحكة بشكل إجباري .. كلما حاولت تحريك عضلات وجهي أفشل ويظل التعبير الضاحك هو الغالب .. كان عقلي أصغر من أن يستوعب شيئا وقتها .. أسمع ضحكات الجمهور على دعابة ما قالها أحد المهرجين ... بدأت الموسيقى الحركية مرة أخرى .. تلك الموسيقى التي تجهزك لأمر جلل سيحدث بعدها .. الجمهور مترقب .. المهرجين وقفوا على شكل دائرة تحتي بحيث تكون وجوههم إلى الجمهور .. ما الأمر .. لا أشعر أنني على مايرام .. وفجأة حدث شيء رهيب .

    اشتعلت ملابسي بالنار فجأة ... مع صرخات الدهشة من الجمهور .. عشرون ألف صرخة دهشة سمعتها مع حرارة مفاجأة شعرت بها في أطرافي .. إنني أشتعل .. لا لست أشتعل .. إن أطرافي هي التي تشتعل ... النار شبت فجأة في أكمامي و ساقيً الاثنتين .. ولم تمس باقي الملابس ... لا أفهم شيئا ... ملامحي لازالت ضاحكة .. الحرارة تتزايد ببطء .. النار تأكل الملابس التي اكتشفت أنها ثقيلة حجبت جلدي عن النار لفترة وجيزة .. باقي الملابس على صدري و حوضي لا تصل إليها النار لسبب ما... الجمهور تحولت دهشته إلى تصفيق إعجاب ... مهلا أيها الحمقى .. إن ملابسي تذوب .. شعرت بلسعة النار على أطرافي ... الجمهور يصفق .. صرخت صرخة عالية جدا لم أسمعها أنا نفسي ... موسيقى تصم الآذان ... تصفيق حار .. وأنا أحترق .

    أنظر وسط الناس .. وجوه ضاحكة مستمتعة .. أطفال مندهشون .. مهرجين يستعرضون حركات استعراضية على المسرح ... أنا أحترق .. إن أطرافي تحترق أيها السفاحين .. ألا تشعرون ؟ ... أنا أصرخ بألم رهيب .. لكن بلا جدوى ... لازالت ملامحي ضاحكة جدا ... ما هذا الذي أراه وسط الجمهور .. أنا لا أفهم شيئا .. نزلت دموعي الساخنة على وجنتي الملتهبتين .. كانت أطرافي تحترق فعلا .

    تلك النظرة التي حانت مني إلى الجمهور رأيت فيها أمرا لا يصدق ... رأيت العائلة التي أعمل خادما لديهم يضحكون و يأكلون الفيشار و يستمتعون بالعرض جدا ... إنهم يصفقون مع الناس ... لكن من هذا الذي يجلس بجانبهم هناك .. ياللهول ... لقد رأيت نفسي جالسا مع العائلة .. إنه أنا .. ملامحي المتحمسة والمندهشة من تلك العروض الروسية التي لطالما حلمت برؤيتها ... كنت أستمتع وأضحك جدا .. يالهول ما أرى .
    أنا أموت ببطء .. أموت من الألم و الحرقة .. قدماي و يداي تذوبان بالنيران ... ألم لا يصفه ألف حرف ... المهرجين لازالوا يقولون دعابات تضحك الجمهور .. أرى نفسي بينهم أصفق .. و العائلة تصفق بجانبي ... شعرت بنفسي وقد نزل بي الحبل فجأة على الأرضية التي تحولت لحوض ماء كبير جدا .. نزلت في المياه الباردة ثم أخرجني الحبل مرة أخرى عدة مرات و أنا أسمع ضحكات الجمهور ... ثم أخرجني الحبل و علقني مرة أخرى أمام الكل ....لم أكن أشعر بأي شيء ... ببساطة لأن روحي كانت قد فارقت جسدي صاعدة إلى السماء .

    إن ما تعرفونه أيها البشر عن المهرجين لايكاد يذكر .. هل منكم من أحد له صديق أو قريب يعمل مهرجا في سيرك ؟ هل سمعتم من أحد أصدقائكم أن له قريب أو صديق يعمل مهرجا في السيرك .. أعرف أن الإجابة بالنفي القاطع .. أنتم تنظرون إلى المهرج في السيرك و تظنون بتفكيركم البشري الطبيعي أنه شخص عادي له عائلة و يعيش حياة طبيعية خارج السيرك كأي شخص... لكن دعوني أخبركم أمرا .

    هذه الكائنات ليست من البشر في شيء .. إنها من الشياطين .... شياطين خلقت من نار كبقية الشياطين وتنزلت مع بقية الشياطين لتعمل عمل بقية الشياطين... الفارق أنهم شياطين ذوو كيان مرئي ... يؤدون عملهم على أتم وجه .. يمتعون البشر بحركات و أقوال سخيفة تافهة .. البشر يعلمون بسخافتها لكنهم يستمتعون بها .. ويضحكون عليها ضحكات سريعة لا تدري مدى صدقها ..

    لقد أحرقوا روحي البريئة التي لم تفقه شيئا بعد قربانا لإضحاك بعض البشر الذين رأيت نفسي أضحك بينهم . ..هكذا هو المبدأ أيها الإنسان .. نحن نضحكك ونمتعك .. لكنك تضحك على أمر نفسك التي تتعذب في الجهة الأخرى حتى البكاء ..

    نعم هم في كل مكان .. بل إن منهم من يجري منكم مجرى الدم و لا تشعرون بهم .. يحدثونكم وتحدثونهم .. يناقشونكم و تجادلونهم .. هم مهرجين من الطراز الأول ... يصورون لكم أفعالكم كأنها غاية في الإمتاع .. بينما هي غاية في السخافة ... نعم هم شياطين .. منهم من يتنزلون كل ليلة إلى قاعات السيرك .. يؤدون دورهم اليومي ثم لن تدري عنهم شيئا حتى الليلة التالية .. هؤلاء هم شياطين السيرك .

    - تي مني ﭭيريش؟ ( هل تثق بي ؟ )

    - كَنيشنا ( نعم )

    - ﭘرْدَلـﭽيتي سـﭭَيو رابوتو ﭘـﭽالستا ( إذن تابع عملك من فضلك )

    تمت

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية عين الشر


    " العين حق لتورد الرجل القبر والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتي في العين"


    إنها حضرموت .. المدينة الوحيدة العربية التي تحمل نفس الاسم منذ آلاف السنين .. حضارة عريقة لازالت تترك ندوبا في عادات أهلها .. ابتسم بفخر يا رجل فأنت تعيش في وادي المسيلة .. ذلك الوادي الذي كان نهرا عظيما تربت على ضفافه أعتى الحضارات في القدم .. واجعل ابتسامتك تتسع أكثر فأنت منتم لقبيلة الحموم .. القبيلة التي تفخر بين القبائل اليمنية الأخرى أنها لم ترضخ للحكومة الأجنبية أثناء استعمارها للبلاد .. ولو لم تكن من قبيلتنا فابتسم أيضا بفخر لأنك تحدث الآن واحدا من الحموم .. محدثك هو السيد طويبة .. طويبة الحموم .

    معذرة لأنني لم أقدم نفسي أولا .. طويبة الحموم ، مقاول مخضرم من أهل حضرموت .. لكنني لست هنا للحديث عن نفسي .. ولا عن قبيلتي .. أنا هنا للحديث عن ذلك الرجل الواقف هناك .. هل رثيت لحاله من النظرة الأولى ؟ رجل هزيل أعمى في الثلاثينات يتكيء على عصا يمشي بها على غير هدى بينما يعدل النظارة الشمسية الكبيرة التي يحب العميان لبسها لسبب غير مفهوم .. هل تصدقني لو أخبرتك أن هذا الرجل لا يجرؤ أهل اليمن كلهم على الوقوف في وجهه ؟ هذا الرجل الهزيل هو أرحب .. أرحب الحموم .. أخي .

    سأنقل لك الصورة منذ البداية و كأنني أعرض فيلما على آلة عرض أفلام قديمة... فلنبدأ معا .. هل ترى ذلك الطفل الجالس في فصله في انعزال على تلك المنضدة هناك ؟ نعم ذلك الذي تركز عليه الكاميرا .. هذا هو أرحب أخي في سن الثامنة .. إن له حاجبين صارمين نوعا ما ونظرات جادة بالنسبة لطفل في سنه ... الشاشة الآن تعرض لك ست صور لأطفال صغار ، كل صورة طفل مكتوب تحتها اسمه .. وهذا التاريخ الذي تراه تحت كل صورة والذي كتب على طراز ( من عام ...... حتى عام ..... ) يمثل الفترة التي عاشها كل طفل منهم حتى مات .. نعم كلهم ماتوا وهم أطفال .. ربما ستجد كلامي غريبا نوعا ما لكن هؤلاء الأطفال كانوا أقرب أصدقاء لأخي أرحب في فترة الدراسة الابتدائية .

    تنتقل بك الكاميرا الآن إلى مشهد آخر .. هل ترى ذلك الفتى الراقد على السرير ؟ هذا هو أرحب أخي في مرحلة مراهقته .. كان يعاني من إفراط في حبوب الشباب التي استعمرت وجهه لمدة طويلة ... والآن ابق معي .. هل ترى ذلك الشاب الوسيم الواقف يتحدث هناك .. أنت تراه من جانبه الأيمن .. بعد لحظات سيستدير لتراه بوضوح .. ها هو هناك يتحرك .. هل رأيت ؟ .. لا تفزع .. إن الجانب الآخر من وجهه محروق .. اللحم دخل على بعضه ليشكل منظرا بشعا .. هذا الشاب يدعى فاتح .. وهو شاب سيء الحظ .. تعرض لحادث سيارة رهيب احترق فيه نصف وجهه .... حرق لا أمل في إصلاحه .. إن فاتح كان شابا أحبته وعشقته فتاة تدعى سندس ... و سندس هي ابنة خالة أرحب .. وهي الفتاة التي كان يهواها أرحب في تلك الفترة .. بل كان يتنفسها .

    دعنا نكمل قصتنا .. ترى الآن مشهدا من داخل سيارة ... إن الشاب الذي يقود السيارة هو أرحب .. إنه مسافر في طريق سريع ما .. هناك سيارة فخمة تتجاوزه بسرعة ... نظر أرحب إلى السيارة قليلا ثم أعاد بصره ليركز على الطريق ... بعد أكثر من عشرة أميال رأى أرحب السيارة مرة أخرى ... لكنها كانت مقلوبة على جانب الطريق السريع .. تابعها ببصره حتى تجاوزها و أكمل طريقه وهو يهز كتفيه متحسرا في فتور على طيش السائقين الشباب هذه الأيام .

    الآن انتقلت الكاميرا بك إلى مشهد صاخب نوعا ما .. رقص و طبول .. إنه عرس كبير ... كل هؤلاء الحاضرين أقربائي .. أعراس قبيلة الحموم لها طابع خاص جدا .. يمكنك أن ترى العريس بين الحشود .. ها هو هناك .. نعم إنه أنا .. وهو عرسي ...كنت سعيدا لأنني تزوجت فتاة كنت أريدها فعلا .. هذا الجالس هناك هو أرحب .. أراك اعتدت ملامحه وعظام وجهه البارزة الآن ... كانت ليلة من أحلى ليالي حياتي ... استيقظت في اليوم التالي لأجد زوجتي ترقد بجانبي ميته .. سكت قلبها عن الخفقان لسبب لا أدريه حتى الآن .. لقد سمعت عن موت الفجأة و أستعيذ منه دائما .. لكن يبدو أنه أتاني في أحب الناس إلى قلبي .

    هل تريد مشاهد أخرى لتفهم الحقيقة المرة أم أن هذا يكفي ؟ نعم أنا أعترف .. أنا أخ شقيق لأشد عين حسودة في اليمن كلها .. بل في العالم كله على حسب ظني .. إن أرحب الحموم مشهور في اليمن ... لا يجرؤ شخص مهما كان عاقلا رزينا أن يواجهه أو يتعرف به خوفا على نفسه .. كانت هناك أوقات أرى أخي أرحب يمشي ليتباعد الناس عن مساره حتى لا يراهم .. كان مرعبا .. نعم أقولها ... لو كان الحقد رجلا لكان أرحب .

    لقد بلغت شهرته أن عقدت معه أحد المجلات العربية الشهيرة جدا مقابلة كاملة قرأها الكثير من الناس ولم يصدقوها ... كان يقول إن كل شيء يحدث رغما عنه .. عندما ينظر إلى شيء جميل لا يقدر إلا أن ينظر له تلك النظرة التي قد لا تستمر أكثر من ثانية .. لكنها تكون كافية .. ثم يختم اللقاء بالقول إنه ومنذ صغره و الكل يتحاشاه ولا يحبه أحد حتى أقرباءه .. وكل ما يفعله هو أنه يعامل الناس بالمثل .. من حقك أن تكره من يكرهك .. ولو كرهك كل الناس فمن حقك أن تكره كل الناس .. وليس لك أدنى ذنب إذا كان كرهك هذا يؤذيهم بهذا الشكل .

    لم يعاني أحد مثلما عانينا نحن قبيلة الحموم .. لقد أسقط أرحب سمعة العائلة التي أصبحت مرتبطة باسمه المقبض حتى الآن .. هذا بغض النظر عن أن أذيته طالتنا أكثر من غيرنا لأننا أكثر الناس الذين يحتكون به .. عندما تتعامل مع أرحب و تحدثه فإنك تتعامل مع شخص عادي جدا .. لا تشعر بشيء مريب فيه إلا أنه صموت بعض الشيء و كلامه مقتضب وجيز .. لكنك بعد أن تغادره تتكشف لك مصيبة لاتزال تنهش فيك حتى تهلكك .. أحيانا قد يحدث هذا إذا مررت من أمامه و ألقيت عليه التحية فقط ... أو حتى مررت ولم تلقها ... كان رجلا شريرا حقودا .

    لك أن تتصور حال أرحب وشعوره .. كل الذين يكرهونه و يكرههم يرتعبون منه .. لذا كان يتسلط .. لا يجرؤ أحد أن يرفض له طلبا مهما كان ... فعل أرحب كل شر يمكنك تصوره في العالم ... أخذ أموال أناس أمام أعيتهم ... ضرب .. اعتدى .. اغتصب ... وصل إلى مرحلة أن خرجت عليه إشاعات أنه هو المسيح الدجال نفسه .. البعض بدأ يصدق هذا بالفعل ... كان يجب أن يوضح حد لكل هذه المأساة قبل أن ينهار اسمنا على رأسنا ولا تقوم لنا قائمة مرة أخرى .

    لقد أريتك إياه في البداية وهو أعمى البصر يهتدي بعصا حقيرة .. رغم هذا فلا يزال هناك من يرتعب و يرتجف عندما يلتفت ناحيته أرحب وهو أعمى مرتديا تلك النظارات السوداء .. كيف أصبح أعمى ؟ هل هذا سؤالك ؟ إن لهذا قصة ...

    كانت هناك محاولات عديدة لقتل أرحب .. ليس هذا غريبا و كل أهل اليمن يتمنون موته .. لكن كل المحاولات باءت بالفشل رغم أن بعضها كان بالأسلحة النارية ... لكن الله إذا كتب عليك أن تعيش ، فستعيش و لو اجتمع الكون كلهم للفتك بك .. هذه قاعدة مسلم بها .

    أذكر في تلك الأيام ذلك الاجتماع الكبير لقبيلة الحموم ... كل الرؤوس الكبيرة حضروا الاجتماع ....كانوا بالطبع يتناقشون في أمر واحد ... أرحب الحموم .. وما حدث لنا بسبب أرحب الحموم ... كانت الآراء متضاربة جدا إلى حد النزاع الحاد ... لكن في النهاية اتفق الكل على ما سيحدث .. لقد قررنا أن نجرده من سلاحه إلى الأبد ...قررنا أن نغتال بصر ابننا أرحب .

    كان تفكيرنا منطقيا جدا رغم بشاعته ... هذا رجل سيقتل عاجلا أو آجلا .. اسم الحموم أصبح في التراب .. وأصبح ينعكس علينا كأشخاص في تعامل الناس معنا .. لابد أن نفعلها نحن .. لن نقتله بالطبع فلسنا بمجرمين ... نحن فقط سنغتال بصره .. ويجب أن نفعل هذا بأيدينا نحن .. وأن يكون هذا على مرأى ومسمع من كل القبائل ... فيعود لنا ماء وجهنا و تعود لنا هيبتنا بينهم .


    دعني أنقل لك الصورة كاملة كما حدثت في تلك الفترة المشهودة .. وجد أرحب الحموم نفسه ذات يوم مدعوا إلى حفل عائلي بسيط ... عائلة من قبيلتنا تحتفل لسبب عائلي ليس مهما جدا ... من الغريب أن يدعوه أحد ... لكنه قبل الدعوة بساطة وحضر الاحتفال .. في منتصف تلك الليلة أصيب أرحب بدوار مباغت .. دوار أجبره على أن يسند رأسه على المائدة التي كان يجلس إليها ويغيب عن الوعي بهدوء .

    يمكنك الآن أن تراني قد أتيت و معي بعض الرجال من أقاربنا لنحمل أرحب بعيدا عن تلك الصالة وندخله إلى أخد غرف البيت .. يمكنك أن تراني أيضا أكشف عن ذراعه و أحقنه بمادة ما بسرعة .. ثم ترانا نغلق الباب بإحكام وراءنا وننسحب في هدوء ونعود لنكمل الحفل .

    في اليوم التالي يمكنك أن ترى تجمعا في الشارع الرئيسي بوادي المسيلة يزداد كلما مر الوقت ..... كان تجمهرا كبيرا من الناس يبدون و كأنهم أتوا لرؤية حدث ما .. ثم يمكنك أن ترى مجموعة من الرجال يحملون شخصا معصوب العينين ويخترقون صفوف الجموع متجهين إلى ساحة رملية قريبة .. نعم هذا أنا و بعض من أقربائي نحمل أرحب .

    وضعناه على الأرض ... كان مكبلا بشكل يستحيل معه أن يحرك يديه أو قدميه .. الشمس في منتصف السماء والجو حار خانق كأنك تقف في فرن كبير .. هل تتساءل عما نفعله ؟ نحن ننفذ ما اتفقنا عليه نحن أكابر الحموم .. نفعل ما كان يجب أن نفعله منذ زمن .. يمكنك سماع صوت أرحب مكتوما من وراء الكمامة المحكمة التي وضعناها على فمه .. لا أدري لو كنت قد لاحظت أم لا ، لكننا أيضا قيدنا حركة رقبة أرحب بشكل يستحيل له تحريكها .. لا زلت أسمع سؤالك عما نبتغي .. تابع و ستفهم كل شيء .

    الناس ينظرون لبعضهم غير فاهمين لشيء و تعالت أصواتهم ... فجأة أزلنا العصابة عن عين أرحب و اتضح كل شيء ... هناك حديدتان دائريتان غريبتا الشكل كل واحدة موضوعة على عين من عيونه .. ألم تعرف ما هية الحديدتين بعد ؟ إنها أداة استعرناها من عيادة طبيب العيون .. وهي تمسك الجفون لتبقي العين مفتوحة دائما بشكل إجباري مهما حاول المريض إغلاقها .. يستعملونها في العمليات الجراحية على العين عامة .. سمعنا من أرحب صرخة مكتومة لكنها بدت عالية جدا في آذاننا .. صرخة ألم ... فقد كنا قد وجهنا جسده و رأسه عيناه لينظر إجباريا إلى قرص الشمس الكبير .

    حاول أن يتملص مرارا بتحريك جسمه في محاولة للانقلاب على بطنه لكننا طبعا اخترنا أقوى رجالنا لتكبيله و تثبيته على الأرض .. كان أحد مشاهد حضرموت التي لا ينساها أي يمني ... لحظة اغتيال عين الشر ... الناس توقفوا أماكنهم من هول الموقف ... يمكنك أن ترى رجالا من الشرطة يقفون لمشاهدة الحدث دون محاولة للتدخل ... فنحن نفعل فعلا نحافظ به على الأمن العام و ليس العكس .

    كانت هذه هي الخطة ببساطة .. كيف تغتال بصر إنسان دون أن تقدم على أفعال شنيعة مثل فقء العين أو صب ماء ساخن عليها أو حتى اقتلاعها بيدك أو بالسكين أو ضربه عليها مباشرة ... كان أرحب يصرخ .. ويحرك كرة عينيه يمينا و شمالا للهرب من قرص الشمس ... كان يتألم بقسوة ... هل تصفنا بقساة القلوب ؟ أنت لا تعرف الشر الكامن داخل هذا الرجل ... إن الأمر كله يذكرني بمشهد تكرر كثيرا في الحضارات القديمة .. مشهد حرق الساحرة .. لقد كانوا يأتون بها و يصلبونها أمام الكل و يحرقونها .. هي عملية طبيعية يتم فيها تطهير الشر .. الفرق هنا أن الشر متمثل في عيني رجل .

    ظللنا على هذا الحال أربع ساعات كاملة .. حتى نتأكد أن بصره قد احترق .. أصبنا بالإجهاد الشديد نحن وكل الحضور .. في النهاية أضفنا اللمسة الأخيرة .. أخرج ثلاثة منا أقلام من النوع الذي ينبعث منه ليزر ويستعمل في المحاضرات .. تلك الأقلام التي تباع في السوق بمائتي ريال يمني .. وهو سعر زهيد جدا على عكس ما يأتي في الأذهان .. وجهنا الليزر إلى عينيه مباشرة لمدة كافية .. وهكذا أنهينا العملية .. وتطهر اسم قبيلتنا .. كانت عملية اغتيال .. اغتيال بصر .

    أعدنا العصابة على عين أرحب و حملناه على أكتافنا مغادرين المكان إلى منزل العائلة الكبير .. كان منهارا ... وضعناه داخل حمام بارد ليغتسل بعد كل هذا الإجهاد .. ثم أرقدناه على سرير ووضعنا له قماشا مملوء بالثلج على عينيه لنخفف من ألمه .. كان في حالة يرثى لها .. لم ينطق بكلمة ... رغم أن كلام كبير العائلة له كان قاسيا وهو يخبره أنه الآن قد تطهر من شره إلى الأبد وبأنه سيسمح له بالسكن و العيش في أي بيت من بيوت العائلة يختار وهم ملزمين بكافة احتياجاته .. قال له أيضا أنه سيزوجه لو أراد ذلك ... كانت أياما لا تنسى حقا .

    بعد شهر وثلاثة أيام بالضبط توفي أرحب ... وجد ملقى على الأرض في بيت العائلة الكبير .. و خرجت الحموم كلها في جنازته ... كنت من الذين حملوا نعشه ... كانت الجنازة تمشي بهدوء حتى وصلنا إلى مقابر الحموم الشهيرة ... كنا قد جهزنا له قبرا خاصا بعيدا عن القبور الأخرى .. فقد كنا نعتقد أن هذا أكثر أمنا بشكل ما... وصلنا إلى قبره .. لكن ما هذا ؟ لماذا لم يحفر هؤلاء الحمقى القبر جيدا .

    رأيت راعي المقبرة يتجادل مع أحد كبار العائلة و يقسم بأغلظ الأيمان أنه حفر القبر بالحجم المعتاد في كل القبور .. وهو يمارس هذه المهنة منذ عشرين عاما و ليس من المعقول أن يخطيء مثل هذا الخطأ الغبي الآن ... لم نضيع مزيدا من الوقت .. طلبنا منه أن يزيد حجم الحفرة لننهي هذه المهمة بسرعة .. و بالفعل أمسك الرجل جاروفه و بدأ في الحفر .

    لست أدري شيئا عن الحفر .. لكن إما أن هذا الرجل لا يفقه شيئا أو أن هذا التراب لا يتحرك فعلا ..... الرجل يبذل مجهودا هائلا كما هو واضح و جدران القبر كما هي لا تتزحزح .. أخذ يضرب الجدران بجاروفه بقوة بلا فائدة ... وهنا نزل الشباب لمساعدته ... البعض أمسك حجرا ثقيلا وأخذ يضرب على الجدران في محاولة لتوسيع الحفرة ... نصف ساعة كاملة ونحن نحاول .. حتى يئسنا تماما .

    شرع الرجل في حفر قبر جديد . .لكن شيئا حدث في تلك المقبرة ... الرجل أصيب بالذهول العارم ... الأرض لا تستجيب للجاروف كأنها تأباه ... تحول ذهول الرجل إلى رعب و قراءة للمعوذتين .. ثم بدأ اهتمامنا يعود مرة أخرى للقبر الضيق الأول .. حملنا أرحب من نعشه وأدخلناه في ذلك القبر الضيق .. وقد بذلنا في هذا جهدا حقيقيا ... كان هذا هو الحل الوحيد ... لم نعد نريد شيئا أكثر من أن ندفن هذا الرجل لننتهي من هذا العذاب .

    بدأنا في ردم القبر بعد أن أدخلنا أرحب ... حتى سوينا الأرض جيدا .. وبدأنا ننفض التراب عن ملابسنا ... دقائق و سمعنا ما أرجف قلوبنا و أذهل عيوننا كلنا بلا استثناء ... سمعنا صوتا أرضيا خفيفا من النوع الذي تسمعه في وقت الزلزال ... وصوت تكسر عظام واضح جدا .. يا إلهي هل أنا أهذي ؟

    عدنا إلى ديارنا .. وهناك فهمت كل شيء كما حدثنا أحد الشيوخ من قبيلتنا ... حدثنا عن ضيق قبر الحاسد وظلمته .. و هو شيء ليس بغريب على روحه .. ففي حياة الحاسد يكون في كدر نفساني و ضيق دائم في صدره .. ويستمر هذا الضيق معه في قبره ... لكن أن يضم القبر على عظامه حتى يكسرها فهذا عذاب منزل من الله لهذا الرجل الحسود بالذات دون غيره .. هكذا كانت نهاية أرحب أخي .. أرحب الحموم .

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي




    " أنتم صنعتم لنا مكانا مثاليا لنعيش فيه .. ونحن هيأنا لكم مكانا حارقا تموتون فيه "



    أشعر بملل رهيب .. الأيام رتيبة بشكل يصيبك بالنعاس .. أنظر من وراء زجاج ( فاترينة ) هذا المحل إلى الشارع في فتور .. يالكمية البشر .. متى أتى كل هؤلاء إلى العالم ؟ ومتى سيرحلون ؟ إن لكل منهم حكايته .. أشعر أن هناك الملايين من الناس يطوفون بالخارج في هذا الحي المزدحم .. يبدون وكأنهم لا يذهبون إلى أي مكان .. هم فقط يطوفون بالخارج .. هذا الحي في مانيلا هو حي باكو ... ونسميه هنا الحي الأصفر .. وهذا لأن أكثر قاطنيه من اليابانيين الذين وفدوا إلى مانيلا منذ قديم الزمان أيام وجود الإسبان فيها .. الإسبان لهم علامات حضارية جميلة في بلدتنا مثل الكاتدرائيات والحدائق .. أما اليابانيين فأشعر أنهم سمجون جدا .. ولم نأخذ من مجيئهم سوى اللون الأصفر .



    أنا في هذا المحل الشهير في وسط الحي الأصفر .. محل ليفيز للملابس الجاهزة .. ألم ترني بعد ؟ ها أنا أقف هناك في الفاترينة الزجاجية .. أنت ضعيف النظر جدا و أحمق مثل كافة بنو جنسك ... انظر جيدا وستراني .. هل ترى هذه الزبونة الذي أتت تتفحص قميصي في إعجاب ؟ نعم إنه أنا التي أحدثك ؟ أنا هي تلك المانيكان الأنيقة يا صاحب العقل القاصر .. أنا سومارا التي لا يمر عليها شخص إلا و أبدى إعجابه بأناقتها .. بعقليتك القاصرة أسمعك تسأل نفسك كيف أحدثك ؟ بل من أنا أصلا ... كنت أود أن أحكي لك الحكاية التي أدخرها سريعا .. لكن يبدو أنني يجب أن أفسر لك ما هيتي أولا .



    نحن هنا منذ البداية .. نحن هنا قبل أن تأتوا أنتم .. هنا منذ ملايين السنين .. والأرض بأكملها كانت ملك لنا وحدنا .. وعندما نزل جنسك البشري إلى الأرض .. حكم علينا بالاختفاء .. تسألني من نحن ؟ إننا الجن أيها القاصر ... الجن الذين تحجمت جميع ممالكهم وإمبراطورياتهم ونفوذهم بسبب كائن أحمق مثلك .. لكننا موجودون .. أنت لا تدري بقصورك و غرورك أننا في كل مكان حولك .. بل إن منا من وكلوا ليكونوا قرناء لشخصك القذر يتابعك أينما تذهب .. ولولا أن هناك حدودا وضعت بين جنسنا الفاخر وجنسك الضعيف لكنا حولنا حياتك إلى جحيم ... وكل حد بين شيئين له ثغرات عدة ... وبسبب كرهنا الشديد لك فقد أصبحنا خبراء في استغلال هذه الثغرات .. وسنظل نفعل هذا ولن نمله على الإطلاق .



    نعم أنا الجنية التي تسكن ذلك المانيكان بريء المنظر الذي يتوسط هذا المحل ... إن الجان أنواع عديدة تفوق قدرتكم على التفكير .. وأنت لا تتخيل أن هناك جنس كامل منا يسكن في تلك الأجساد والتماثيل التي تصنعها أيديكم .. شرط أن يكون هذا الجسد برأس ذات رقبة .. سواء كان جسد إنسان أو حيوان أو حتى جسد كائن خرافي ... فور انتهاء صانعيكم من صنعه يحل فيه واحد من جنسنا .. وأنتم تفرطون في صنع هذه الأجساد بمسميات كثيرة ... الأصنام الأثرية .. التماثيل في المتاحف أو الميادين .. المانيكانات ... ألعاب الأطفال بأنواعها .. أيها القاصر ... هل أدركت الآن أننا حولك في كل مكان وأنت لا تشعر ؟ مهلا .. هناك وجه جديد أراه لأول مرة يعمل في محلنا .. فتاة مكتنزة متوسطة الجمال ..ذات ملامح غير مريحة ... يبدو أنه قد تم تعيينها اليوم فقط ..



    إنها ترتدي ذلك الزي الأزرق الذي ترتديه العاملات في محلنا .. قميص و تنورة قصيرة فوق الركبة وربطة شعر زرقاء ... إنها تضحك مع جريس .. جريس تعمل هنا منذ سنوات ويبدو أنهما سيكونان صداقة ما .. هي أحد المحظوظات ....لإنه لا يعمل في محل ليفيز الشهير إلا المحظوظات فقط .. قطع ضحكاتهن أن دخل المحل شاب ياباني وسيم ألقى التحية بصوت عال ..وعندما أقول أنه شاب ياباني وسيم فما أعنيه هو أن عيناه أوسع من غيره ... اليابانيون يحملون عقدة من ضيق عيونهم دائما ، لذا تجد كل شخصيات الكرتون اليابانية ذات أعين واسعة جدا تحمل ثلث الوجه ... هذا أول شرط تتعلمه إذا أردت احتراف هذا النوع من الفن .. الرسم الياباني يصب الاهتمام على العين فقط بينما تقتصر باقي ملامح الوجه على بعض الخطوط هنا وهناك ... الخلاصة أن الشاب الوسيم كان يحتاج إلى بزة رسمية .. وهاهي جريس قد ساقته وراءها لتختار له شيئا مناسبا ... وهاهي تلك الفتاة الجديدة - التي عرفت فيما بعد أن اسمها هو مادل - تمشي وراءهما لتتعلم كيفية جعل الزبون يخرج من المحل وقد صرف كل ما يملك .



    الحكاية المعتادة .. الشاب غاب عقله تماما عن جريس التي نبحت صوتها في الكلام عن هذه البزة أو تلك .. بينما عيناه تسترق نظرات إلى مادل .. إنه عيب هذه المهنة ... من الصعب أن تكمل فيها فتاة مكتنزة متوسطة الجمال .. لكن مادل رسمت وجها ثلجيا وأبدت أنها تهتم لكل كلمة تقولها جريس ... الشاب استنفذ كل الطرق التي يمكن أن تجذب بها اهتمام فتاة ما .. لكن الجليد على وجه مادل كان يزداد ... جرب الفتى أن يكون طريفا ففشل .. جرب أن يضيق عينيه من حين لآخر ليعطي انطباعا بالخطورة ففشل .. جرب أن يسأل مادل عن رأيها في كل قطعة تعرضها له جريس فكانت تقول كلمات مقتضبة جدا من النوع الذي يقتل فيك أي رغبة للحديث .. في النهاية تظاهر الفتى أن وراءه أمرا ما ... فقط ليعود ثانية بالطبع فيجرب مرة أخرى ... هذا السيناريو رأيته آلاف المرات ... وسيتكرر اليوم عشرات المرات مع عشرات الفتيات ... ألم أقل أنها حياة رتيبة ؟



    قل لي هل أخبرتك كم يكرهك جنسنا ؟ وكيف أننا نستغل أي فرصة للظفر بك ؟ أنت لا تعرف أن جنسنا هو سبب أي حريق حدث في هذا الكون .. راجع الملفات الجنائية لأي حريق وأحص بنفسك عدد المجسمات والتماثيل التي كانت موضوعة في المكان .. كيف نسبب الحريق ؟ سؤال أحمق كصاحبه .. سل لماذا نسبب الحريق ... لازلت تجعلني أتكلم في أمور لا أريدها .. إن جهلك لا يطاق .



    لقد أتينا من النار .. هي جزء من أرواحنا .. وعندما تتقد وتشتعل في عالمك القاصر ، يكون الانضمام إليها من أجمل متعنا .. و الذوبان فيها هو قمة شهوتنا و نشوتنا .. لكن ليس لأجل النار نفسها .. بل لأجل الأرواح التي تحرقها في طريقها .. دعك من اللذة الغامرة التي تنتابنا عندما تحرق هذه النار أرواح بشرية .. البشر ضحايا أغبياء .. ونحن نشعلها نارا كلما سنحت لنا الفرصة .. هل قابلت بشريا بعد أن مات بالاحتراق ؟ هل حدثك عما رأى ؟ هل حدثك عن جنسنا ؟ لن أتحدث أكثر من هذا .. التزم الصمت و دعني أكمل لك ما بدأته .



    في اليوم التالي دخل علينا الشاب الياباني واسع العينين نفسه و ألفى التحية بصوت عال ... اتجهت له جريس و تكلما بضع دقائق ... ثم مشت ومشى وراءها .. أشارت لمادل لتتبعهما ففعلت .. وها هي تعرض له أنواعا من البزات ... وها هو ينسى كل شيء ويحاول أن يجذب انتباه مادل التي رسمت الوجه الثلجي إياه .. وأجابت بنفس العبارات المقتضبة إياها .. في النهاية مثل الفتى وكأن هناك موعدا هاما وراءه وانصرف بسرعة ... هذا يبدو مألوفا جدا .. لقد قلت أن الحياة رتيبة وتتكرر .. لكن ليس هكذا .. في اليوم التالي أتى الفتى الوسيم إياه .. و ألقى التحية إياها ... و اتجهت له جريس .. و عرضت له الأنواع إياها .. و مادل كانت هناك بالوجه الجليدي إياه .. وفي اليوم التالي أتى نفس الشاب و ...



    مهلا ... ألاحظ أشياء غريبة هذه الأيام بالفعل ... الفتى الكاشير الذي يدعى موديستو يتشاجر كل يوم مع رجل سمين ذو شارب كث يأتي و يبدأ بالتذمر على الأسعار ثم ينتهي بسب موديستو بأمه ... هناك كذلك طفل شحاذ ذو شعر أحمر ناري يدخل هنا كل يوم ويتفحص بعض الملابس في قسم الأطفال حتى يأتي رجل الأمن الضخم المدعو بينجي فيلقي به خارجا ... أرى الآن أمامي امرأة ممتلئة جدا تدخل مع زوجها .. هذه تأتي كل يوم في هذا الوقت و تخرج وقد اشترت نفس أنواع الملابس ويخرج زوجها كل يوم متذمرا ... هناك فتيات يأتين هنا كل يوم بملابس المدرسة بعد انتهاء يومهم الدراسي و يقفن لتفحص نفس أنواع الملابس كل يوم .. وكل يوم يخرجن ضاحكات ولا يشترين شيئا .. وهاهو الفتى الياباني الوسيم يدخل مرة أخرى ...



    إنه منتصف الليل ... موعد إغلاق المحل قد حان الآن ... لازال هناك زبائن قليلة جدا يحاول الكاشير موديستو أن ينجر أمورهم بسرعة .. لم تمض عشر دقائق إلا وقد أصبح المحل خال .. وبدأ رجل الأمن يغلق أنوار المحل تدريجيا ... ثم أغلق أبواب المحل الكبيرة .. فساد الظلام الدامس ... و سمعته يغلق الأبواب الحديدية في الخارج .. ثم انصرف الجميع ... إنه وقت حريتنا الآن .. أخيرا يمكنني التحرك بهذا الجسد الغبي الذي أسكن فيه ... لست وحدي هنا ... هناك قبيلة كاملة من المانيكانات بدؤوا يتحركون الآن بحرية في المحل ... نعم ... نحن نأخذ حريتنا عندما تغيب عنا أعينكم القذرة .. لا خوفا منكم حاشانا .. و إنما لأن هذا قانون صارم جدا على جنسنا كله ... كل ذا رقبة يتحرك عندما تغيب عنه أعين البشر ... و البشر أغبى من أن يلاحظوا شيئا عند عودتهم إليه ... حتى لو تغير وضع وقفته فهم أغبى من أن يلاحظوا .. و إن لاحظوا فإن تفكيرهم أكثر قصورا من مجرد الشك في حقيقة ما حدث .

    أرى الآن المانيكانات ميريل و نيبريدا و سييلو و أفانسينا و ديلاروز كلهن وجدنها فرصة لفك القيد الذي كانت تحاصرهم به أعين البشر وبدؤوا في التحرك و الحديث بحرية ... بالفعل لاحظ الكل أن هناك مشاهد تتكرر كل يوم منذ أسبوع بشكل مستفز ... حتى أن سييلو أقسمت أن هناك شاب يأتي كل يوم ويتحسس قميصها بإعجاب ثم ينادي العامل و يصر أن يشتري القميص الموضوع عليها وليس الموجود على الرف .. ويصر على رأيه حتى يضطر العامل أن يخلع القميص عن سييلو و يبيعه إياه بسعر أغلى من سعره ... و يأتي الفتى كل يوم ويشتري كل قميص يضعونه على سييلو المسكينة .

    طبعا كل ما أقوله لك الآن غريب على مسامعك ... لكننا اتفقنا على أنك قاصر العقل ... هذه الأمور نراها نحن أقل غرابة لأننا نعرف أكثر .. نعرف أن القرين بعد موت صاحبه وبعد مضي مئات السنين عل الدفن ، يكلف أن يعيد أداء مشاهد معينة من حياة صاحبه ... لماذا ؟ لا أحد يدري ... ولا أحد سيدري ... إنها أسرار جنس كامل .. في عالمك إفشاء الأسرار شيء سهل جدا ... لكن عالمنا يختلف ... هذه أشياء مستحيلة الحدوث ... هذا يعني أن كل هؤلاء الذين يأتون و يروحون كل يوم هم قرناء ... لكن لماذا يجتمعون كل يوم في محل ليفيز للملابس الجاهزة ؟

    إنه يوم جديد .. أرى نفس الشخصيات قد أتت و اجتمعت في المحل كل يؤدي مشهدا رأيته عشرات المرات من قبل ... جريس تحاول منذ أسبوع إقناع الشاب الياباني أن يشتري شيئا ما .. وهناك ذلك الشاب يجادل العامل في أمر قميص سييلو ... فجأة حدث شيء في غاية الغرابة ... بدأ بعض الشباب يغلقون أبواب المحل فجأة بعنف .. وعلت همهمة الزبائن .. أفاق الحارس بينجي من غفوته .. لم يستوعب شيئا ... أخرج الشباب مسدسات من مكان ما و أطلقوا عدة طلقات في الهواء .. هذه عملية سطو مسلح .. والسطو على محل ليفيز في هذا الوقت من اليوم مربح جدا .... من ذا الذي قال أن الحياة مملة .. كم أحببت هؤلاء الشباب .

    صرخات نساء .. بكاء أطفال ... همهمات رجال ... طلقات مسدسات .. مجرمين يطالبون الكل بالجلوس على الأرض ... أرى الكل قد جلس .. لكن ذلك الطفل الشحاذ ذو الشعر الأحمر مازال واقفا بتحدي .. و أرى أيضا ذلك الرجل السمين ذو الشارب الكث كف عن التشاجر مع موديستو ووقف مقطبا جبينه رافضا الجلوس ... فتيات المدارس توقفن عن الضحك و نظرن نظرة جامدة و أبين أن يجلسن مع الجالسين ... الشاب الياباني إياه أراه يقف راسما أعتى علامات الخطورة على وجهه ... طلقات المسدس اشتعلت مرة أخرى ... صيحات مجرمين ... إنهم يهددون الواقفين بتحويل أجسادهم إلى مصفاة ... وهاهو أحدهم يصوب مسدسه على الرجل ذو الشارب الكث ... وهاهو الرجل يقف في تحدي .. وهاهو المجرم يطلق النار .

    " لكن لماذا يجتمعون كل يوم في محل ليفيز للملابس الجاهزة ؟ "

    صرخات نساء ورجال .. نحيب أطفال .. كرش رجل ذو شارب كث ينزف دما بينما يقف الرجل مكانه وكأن كل هذا لا يعنيه ... مجرمون ينظرون في ذهول ... مجرمون آخرون يصوبون مسدساتهم ويفتحوا النار على صاحب الشارب الكث .. دماء تنزف ... رجل سمين ذو شارب كث يبدو بصحة عالية رغم أن جسده تحول إلى مصفاة .. مجرمون تحول ذهولهم إلى رعب جنوني وبدأوا في إطلاق النار في كل مكان على كل الواقفين .. طفل شحاذ ذو شعر أحمر ينزف دما أحمر من رأسه بينما ينظر في جمود ... فتيات مدارس لوثت ملابسهن المدرسة بدمائهن بينما ينظرن لبعضهن في فتور ... صرخات مجرمين ... زبائن مغمى عليهم أو ماتوا بالسكتة القلبية لن تعرف أبدا .

    " وجه جديد أراه لأول مرة يعمل في محلنا "

    أسمع أصوات سيارات الشرطة بالخارج .. أرى المجرمين في حالة من الذعر .. ليس من الشرطة بالطبع وإنما مما رأوه بداخل محل ليفيز .. هاهم يفرون إلى الباب .. رغم أن الشرطة بالخارج إلا أنها أكثر رحمة من هذا العذاب .. يحاولون فتح الأبواب التي أغلقوها ... لكن لا مجال .. لقد أوصدت الأبواب .. لا تسأل عن الكيفية .. فقط أوصدت .

    " فتاة مكتنزة متوسطة الجمال ..ذات ملامح غير مريحة "

    نظر المجرمون إلى الخلف في رعب .... وهنا رأى الكل مشهدا عجيبا ... بدأت الملامح الجامدة لكل الواقفين الذين أخافوا المجرمين تتحول إلى ملامح مذعورة جدا .. ملامح رسمت عليها أعتى علامات الرعب .. وكانوا كلهم ينظرون إلى نقطة واحدة .. مادل ... التي بدأت تطلق النار عليهم بدورها ... لكن في هدوء شديد .... وأصبحوا يتساقطون أمام طلقاتها .. لا تزعج عقلك القاصر بالتفكير ... هذه الفتاة هي قاتلتهم ... وموضوع تكرر المشاهد لم نلاحظه إلا بعد عمل هذه الفتاة في المحل ... كانت هذه هي قاتلتهم في حياتهم الحقيقية ... وقاتلتهم بعد مماتهم .

    مهلا ... أرى المانيكان ديلاروز بدأت في إعطاء إشارة ما .. هناك سيجارة مشتعلة سقطت من فم أحد المجرمين إلى الأرض الرخامية .. لكن ديلاروز نجحت في جعل السيجارة تلامس أحد أقمشة الملابس المعروضة .. نجحت ولم ينتبه أحد لحركاتها وسط كل هذا الجنون ... هذا يعني أن الموازين ستنقلب .. وأنه دورنا في هذه المسرحية .

    نار بدأت صغيرة لكنها اشتعلت بسرعة غير مفهومة في كل ما حولها .. سرعة اشتعال النيران في الحرائق نحن سببها الوحيد .. فالجذوة الصغيرة يمكننا جعلها نيران رهيبة تأكل غابة بأكملها .. الناس تصرخ .. المجرمون يصرخون .. هناك أجساد واقفة تنزف منها الدماء وتنظر لكل ما يحدث في برود تام .... واشتعلت النار أكثر ... أسمع ضربات على الأبواب بالخارج ... هناك نوافذ لكنها عالية جدا وتحتاج لسلالم ليمكن الوصول إليها .

    الكل في الداخل أصبح يجري و يصرخ .. ضربات على الأبواب و محاولات مستميتة لفتحها دون جدوى ... تسألني من أوصد الأبواب فجأة هكذا ؟ .... لا تستهن بجنسنا أيها القاصر ... لحظة إنهم يكسرون الباب من الخارج ... إنهم ينجحون في هذا ... لقد كسروا الباب الكبير الرئيسي .... الكل في الداخل والخارج توافد على الباب ... أناس بالداخل يودون الخروج .. و شرطة بالخارج تحاول الدخول للقبض على بعض من في الداخل ... لكن مهلا ... فجأة سقطت كل الأبواب الحديدية الخارجية واصطدم بها الجميع ؟ هل ستعاود سؤالي عمن أنزل الأبواب أيها القاصر عديم النفع ؟ من خلال الباب أرى في الخارج سيارات مطافيء قد وصلت للمكان و بدأت في تحريك سلمها في اتجاه النوافذ العالية ... لكن هيهات ... لقد كان حفلنا قد بدأ ... وصل حجم النار إلى الحجم الذي يسمح لنا بالتحرر ... وقد تحررنا ...

    نعم يمكنني أن أقول أنها كانت ليلة غاية في اللذة و الإشباع ... أرواح بشرية بريئة .. وأرواح مجرمين .. وروح قاتلة مسلسلة .. وقرناء سيئ الحظ .. إن جنسنا هو الذي يسود في النهاية .. لا أحد يقف أمام النار .. نيراننا توقدت في وجه رجال الإسعاف الذين كسروا النوافذ و بدأوا في إطلاق المياه من خراطيمهم السخيفة ... هؤلاء تساقطوا من فوق النوافذ إلى داخل المبنى و ليس إلى الخارج ... من الممتع إضافة أرواح أبطال المطافيء أيضا إلى المجموعة .

    في داخل محل ليفيز للملابس كنا نتحرك .. فجأة رأى الناس مجموعة من المانيكانات دبت فيها الحياة و توحشت ملامحها وصارت تعطي تعبيرات بوجوهها كالبشر تماما ... وتوحشها ليس توحشا عاديا .. كان توحشا رهيبا حارقا ... كنا نمسك بواحد من هؤلاء البشر و النار مشتعلة فينا .. و نقبض على جسده حتى تشتعل فيه النار .. ويحترق ... ليس فقط يحترق .. إنه يحترق و تحترق روحه معه .

    إنها لذة ما بعدها لذة ... لثد قدرت جريدة مالايا الفلبينية عدد ضحايا هذا الحريق بحوالي مائتان و سبعون شخصا ... وكتبت كلمات بشرية حمقاء عن الخبراء الذين تحدثوا عن ماس كهربائي ما ... وعن تحليل جنائي للحريق وعلاقته بمجموعة المجرمين الذين صادف وجودهم هناك في ذلك الوقت .

    مرحبا بكم مرة أخرى .. محدثتكم سومارا من محل يوكاي للملابس الجاهزة على أطراف مانيلا ... نعم أنا المانيكان ... هل تفتح عقلك و أصبحت تدرك معنى هذه الكلمة الآن يا صاحب العقل القاصر ... لن أعرفك على باقي المجموعة ... يمكنك رؤيتهم بنفسك ... نيبريدا و سييلو و أفانسينا ... كلهن واقفات بأناقة هنا وهناك .. و مجموعة من الوجوه البلهاء تنظر لهن في إعجاب ... نحن المانيكان .. بل نحن أكثر من هذا .. لطالما كنا نراقبك .. وسنظل نراقبك .. و إننا نراقبك الآن .. لا تنظر لنا هكذا أيها القاصر ... فقط تذكر ما قلته لك يوما ... لولا أن هناك حدودا وضعت بين جنسنا الفاخر وجنسك الضعيف لكنا حولنا حياتك إلى جحيم .. لكنها فقط مسألة وقت ... نعم ... إنها مسألة وقت .

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية الدماء المقدسة


    "يابني أنا والدتك .. لكنك إذا رأيتني وقد طال الشعر على وجهي و تقوس ناباي و أصبحت أكره نور الصباح ، فاقتلني يابني "


    كم أمقت تلك الأيام التي كنت فيها واحدة من أمثالكم .. أفكر مثلكم .. أحلم أحلاما حمقاء و أبحث عن متع زائفة.. أتجمل و أتعطر لأبدو أكثر احتراما أمام أناس يتجملون و يتعطرون لنفس السبب .. أقرأ كتبكم البلهاء لأبدو أكثر ثقافة أمام مجموعة من الجهلاء ... والآن أنظر إلى ما أنتم عليه من التدهور ثم أنظر إلى مرآتي و أبتسم ... لست شخصية أنانية لأستأثر لنفسي بما وصلت إليه ... بل إن هدفي أن يرتقي غيري في السلسة الحيوية كما ارتقيت .. أعود أنظر إلى مرآتي و أبتسم ... و ناباي يبتسمان معي في سخرية .

    سأتبسط في حديثي نوعا ما .. فأنتم تحتاجون إلى هذا .. أنا الدكتورة بريانكا شونرا ، استشارية أمراض الدم الشهيرة بمستشفى العائلة المقدسة في بومباي بالهند .. توفي زوجي و أنا طالبة في الكلية خلال السنين الأولى من زواجنا .. كنت قد أنجبت منه ابني راج .. بعد وفاة زوجي كرست حياتي كلها من أجل راج .. وراج وحده .. لأجله تخرجت من كليتي بدرجات عالية .. ولأجله وحده سافرت إلى انجلترا و أمريكا لأحصل على الماجيستير و الدكتوراه وهو معي .. ثم عدت إلى الهند .. كان تخصصي في الطب هو أمراض الدم .. ولا أدري لماذا اخترت هذا المجال بالذات .. لكني شعرت أنه الأنسب .

    وصلت إلى كل ما تحلم به أي طبيبة في الهند من ناحية المادة و مستوى المعيشة المتقدم ... سيارة فاخرة .. بيت كبير في بندره بمدينة بومباي .. راتب شهري يزيد جدا عما يجب أن تكون عليه حاملة الدكتوراه من أمريكا ... ربيت راج تربية صارمة جدا .. كنت اختار له كل شيء منذ أن كان طفلا مرورا بمرحلة المراهقة وحتى هذه اللحظة وهو في بداية العشرينات .. ملابسه .. قصة شعره ... وحتى كلية الطب فرضتها عليه فرضا .. فرضت عليه الفتاة التي يجب أن تكون زوجته .. ولكن راج عند هذه النقطة عصاني .. نعم يمكنك أن تفرض على أي شخص أي شيء إلا أن تفرضعليه أن يحب أو يكره .

    هذه مشكلة كل أم في العالم تربي ابنا وحيدا .. هي تفني عمرها كله من أجله فقط لتأتي طفلة من صاحبات الصدور غير المكتملة لتأخذه على طبق من ذهب .. فقط لأنها ضحكت له ذات مرة في بلاهة .. لن أسرد لكم تلك الدراما الاجتماعية المألوفة .. أنتم في غنى عن كل هذا .. بل إن كل هذا سخف بشر .. ولست هنا للحديث عن سخف بشر ... تعرفتم علي بما فيه الكفاية الآن ... ما أنا هنا للحديث عنه هو الطوق الذي سينقلكم من بحر السخف الذي تعيشون فيه إلى بر الرقي .. أنا هنا لأحدثكم عن البورفوريا ... وتذكروا هذه الكلمة جيدا .

    إن الدم مخلوق عظيم .. هو ليس مجرد سائل كما تقول كتبكم ... بل إنه مخلوق .. لأنه حي .. كل شيء فيه حي .. بداية بالبروتينات الجانبية التي تنقل الغذاء وانتهاء بالخلايا البيضاء الدفاعية ... لقد نوهت لك أنني استشارية في أمراض الدم .. تعلمت الدم في أرقى مدارسكم العالمية .. علمتموني أن البورفوريا مرض خبيث يصيب الدم و يجب التخلص منه قبل أن يتفاقم .. و بذلتم جهودا خرافية لعلاجه حتى نجحتم وببراعة .. إن البورفوريا أيها الجهلة هي حالة مقدسة تمر بها دماؤكم البشرية لترتقي .. أنتم تذكرونني بالشخص الذي اكتشف جذوة نار دافئة في صحراء شديدة البرودة فأطفأها ظنا منه أنها ربما ستحرقه .

    فلنر ماذا تقول كتبكم ؟ تقول أن الدم ببساطة يتركب من مادة معقدة نوعا ما تدعى هيموجلوبين .. و أن الجسم يصنع هذه المادة ذات الاسم المعقد من مادة أبسط تدعى هيم ...هذا ما تتشدقون به ليل نهار ... لكن عندما يحدث تحور غير مفهوم – كما تقولون - في مادة الهيم البسيطة ، فإنها لا تصنع هيموجلوبين في النهاية بل تؤدي لصنع مواد أخرى غريبة – كما تقولون – أحدها يدعى البورفرين ... وهذا الأخير عندما يتراكم في الدم يوصله لحالة مرضية – كما تقولون – تدعى البورفوريا .

    علمتمونا كيف نعرف مريض البورفوريا عندما نراه أمامنا ؟ ألم رهيب في البطن .... قيء متكرر .. ثم نلاحظ أن المريض زادت نسبة الشعر في وجهه .... و أصبح حساسا جدا لأي ضوء .. ثم وفي النهاية يلتوي ناباه و يزيدان في الطول ... بعدها تبدأ حاجته إلى الدماء تزيد شيئا فشيئا ... هل يذكركم هذا بشيء ؟ بالطبع أنتم تأخذون هذا المريض إلى عياداتكم و تعطونه كل الدماء التي يحتاج إليها بأسلوب طبي ثم تعزلوه عن الناس حتى لا تعدي حالته أحدا ... و تعالجونه حتى يعود إلى طبيعته .

    ما لا تقوله كتبكم ولن تصل إليه عقول علماؤكم هو أن من تأتيه البورفوريا يبدأ دمه في التحور من الدم البشري ليصبح ذا طبيعة أخرى أكثر رقيا ... طبيعة الفامباير .. أو كما تسمونه في مصطلحاتكم الناقصة بمصاص الدماء .. أنتم أطلقتم هذا الاسم لأول مرة على الامبراطور فلاد الثالث ، امبراطور مقاطعة والاشيا برومانيا والذي أسميتموه ( دراكيولا ) أو الشيطان .. رغم أنه لا علاقة تربطه بالشياطين .. إن السيد فلاد ليس أسطورة خيالية ... لقد ارتقى السيد فلاد وتحور من الطبيعة البشرية إلى طبيعة الفامباير المقدسة .. بل و أصبح أشهر فامباير بالنسبة إليكم .. ليس هو كبير عشيرة الفامباير كما هداكم خيالكم المريض .. هو فقط أكثرهم شهرة .... بالطبع استلهمتم من شخصيته الكاسحة أفلاما و روايات لا عدد لها .. وجنيتم من وراءه أموالا لا حصر لها كعادتكم البشرية المعروفة .

    كثير من البؤساء المشهورين أتاهم ذلك النداء – البورفوريا – لكنكم حطمتموه قبل اكتماله ... و أشهرهم الملك جورج الثالث و جدته ماري ستيوارت ... أنتم تظنون أن الفامباير هي أجناس مرعبة و مؤذية كالجن و الشياطين .. هذه حماقة .. إن هدف مصاص الدماء .. أي مصاص دماء هو ترقية البشرية و إعطائهم شرف الوصول إلى الحالة التي وصل هو إليها ... فيما سيأتي سأحكي تجربتي الشخصية مع البورفوريا .. أنا ارتقيت من استشارية بشرية شهيرة حمقاء إلى أكبر مصاصة دماء في الهند بأكملها .

    بدأ كل شيء بالصدفة ... في السنين الأولى من عملي بمستشفى العائلة المقدسة .. بالمناسبة هذا مجرد اسم وضعوه للمستشفى لكنها لا تتعلق بأي عائلات مقدسة ..بدأت الحكاية عندما دخلت على عيادتي الشهيرة فتاة متوسطة الجمال في مرحلة المراهقة .. فاتحة اللون عكس معظم فتيات الهند و ذات عيون بنية يائسة .. تملك شعرا أصفر جميلا تجعله كبنات المدارس الصغيرات حيث ترى خصلتين يخرجان من الشعر كقرون الاستشعار .... كانت تبدو مريضة جدا .. اللون الأصفر الشاحب ينطق من وجهها المراهق ويعطي تأثيرا دراميا مع لون شعرها .. أنا استشارية أمراض دم .. ومجيء هذه الفتاة عندي يعني أنه تم اكتشاف أن لديها غالبا فقر دم ككل الفتيات اللواتي يأتين إلي كل يوم ويتبين أن لديهم نوع من أنواع فقر الدم الخمسة .. لكن ومنذ نطقت الفتاة كلماتها الأولى اتضح لي أنها حالة من الحالات التي يعرف الطبيب أنها ستستهلك الكثير من وقته بالفعل .

    بورفوريا .. هذا مؤكد .. رأيت حالات بورفوريا نادرة فيما سبق من حياتي كان معظمها أثناء إنهائي لرسالة الماجيستير في لندن .. مريض يشكو من الآم في البطن و يحكي عن هلاوس يراها ويسمعها طيلة الوقت لدرجة أن معظمهم يتم تحويلهم للعيادة النفسية لتشارك في العلاج ... كانت الفتاة تدعى ريا .. وهذا كل ما تهمك معرفته حاليا .
    كانت ريا هي أول حالة بورفوريا أراها في الهند .. وقد تصرفت كما تتصرف أي طبيبة استشارية تستحق مركزها وبدأت في طقوس العلاج بالترتيب الذي تعلمته و أعلمه لتلامذتي .. لكن ريا كانت تتصرف بحدة .. وترفض العلاج بقسوة إلى حد أننا كنا نكبلها على سرير المستشفى لنسقيها أو نحقنها العلاج بالقوة .. لا أفهم لماذا أتت إلينا لو كانت ترفض العلاج بهذه الطريقة .... كل ما قالته لنا هو أنها فتاة في السنة الأولى من الجامعة .. و أنها تريد أن ترتاح من آلامها .. و أن اسمها ريا .. و أنها هاربة من بيت أهلها مؤقتا .

    - مقدسة أنفاسنا .. مقدسة دماؤنا .. من الظلام المقدس أتينا .. و في الظلام المقدس نعيش .. وإلى الظلام المقدس نعود ...
    - ماذا تقولين يا ريا ؟
    - خلقنا منذ خلقت الدماء على الأرض .. محرم علينا النور .. محرم علينا الهرم ..
    - إلى متى ستعيشين وسط هذه الأوهام يا فتاتي ؟
    - دماؤكم غذاء أرواحنا .. منها نرتوي ... و ...
    - أفيقي يا ريا .. أفيقي ... فلترحمنا السماء
    - نهاركم ليل لنا .. و ليلكم نهار لنا ..
    - ريا ؟
    - نداؤنا شرف لكم .. فمنكم من يرضى الشرف .. ومنكم من يرضى العار ..

    لقد كانت ريا مصاصة دماء .. لم أكن أفهم شيئا وقتها .. كانت دماؤها تمر بالحالة الانتقالية المؤلمة التي يجب أن يمر بها أي فامباير.. لسبب ما كنت أقدم لها العلاج بشكل غير كامل .. ربما شفقة عليها و استجابة لرغباتها .. وربما فضول لأرى هذه الحالة الغريبة عن قرب .. رأيت كيف نمت لها شعيرات خفيفة ملحوظة على وجنتيها .. وكيف بدأت أنيابها تطول وتلتوي حتى أصبحت مخيفة فعلا .. وكيف كنت أكبلها على السرير فتجد قوة هائلة لفك القيد والانقضاض عليً ... أذكر كيف كانت شراستها حين خمشتني بأظفارها وفي وجهها ذلك التعبير الشبيه بالنمور ... وكيف حاول رجال الأمن إيقافها فاندهشوا من قوة جسدها الضعيف ثم أذكر كيف راوغتهم و هربت .. أذكر أيضا كيف تغيرت حياتي بعد تلك الليلة .. وكيف فهمت كل شيء على حقيقته .

    قرأت كل شيء كتب عن الفامباير و جنسهم .. وكان كل ما قرأته كلاما فارغا جدا ... يتحدثون عن قتلهم بالثوم و أن إبراز الصليب يؤذيهم .. أنا فامباير تحترم نفسها ... وهؤلاء لا يعرفون أنني الآن أمارس حياتي اليومية كأي إنسانة و أطبخ يوميا باستخدام الثوم ... ثم أنني أعلق صليبا ذهبيا صغيرا على رقبتي ... فرغم أنني هندية إلا أنني لا أؤمن بالهندوسية و دجلها .. فأنا من الطائفة المسيحية في الهند .. قرأت أيضا أن الفامباير لا يموتون ويعمرون أبد الدهر ... هراء .. نحن نموت كما تموتون تماما و حالتنا المقدسة لم تعط لنا أي ميزة فيما يتعلق بالعمر ... نحن فقط لا نهرم ولا نشيخ ... لكننا نموت بنفس الطرق التي تموتون بها ... قراءتي لكل هذه التفاهات زادني حيرة على حيرتي في تلك الأيام ... وزادتني تصميما على دراسة الأمر بنفسي عن قرب .

    طلبت من المستشفى أن أكون مسؤولة عن جميع حالات البورفوريا التي تأتي إلى المستشفى رغم وجود عدد من أطباء الدم الآخرين المتخصصين.. لكنني طلبت أن أكون مسؤولة عن هذه الحالات دون سواها .. كان المريض يأتي إليً بآلام في بطنه وهو لا يدري أن لديه بورفوريا .. وعندما أكتشفها باستمتاع ، أتركها تنمو بداخله ... بل لإنني كنت أحفزها وأزيد من سرعة تقدمها .. بمرور الوقت زادت خبرتي في التعامل مع هؤلاء المرضى .. مثلا تعلمت أن أكبل المريض إلى سريره بأغلال حديدية بينما أتابع حالته ... هل يبدو هذا شاذا ؟ دعني أخبرك بأمر لم أخبرك به سابقا .. أنا رئيسة قسم أمراض الدم في المستشفى .. وكل ما أريده ينفذ حرفيا .. خاصة عندما أطلب أن أختلي بالمريض في غرفة الكشف .. أو أن أمنع أي شخص من زيارته سواء من عائلته و أصدقاءه أو حتى الممرضات .. بدعوى الحرص على عدم العدوى التي أدعي أنها سريعة الانتقال بشكل مرعب .

    انتقلت من مرحلة دراسة الحالات إلى مرحلة الفهم الكامل ... هؤلاء المرضى يتحولون لمصاصي دماء .. بالطبع خلال تجاربي أراهم يصبحون شديدي العصبية عندما يتم تكبيلهم هكذا كالسجناء .. لكن هذه لم تكن أبدا مشكلة.. كنت دائما أحقنهم بأقوى أنواع المهدئات ... وعندما أعرف أنهم وصلوا للمرحلة النهائية من مرضهم و أصبحوا بعيدين نوعا ما عن كلمة بشر ، عندها وعندها فقط أطلقهم ..

    الغريب أنني لاحظت أنهم يتصرفون دائما كبشر عاديين يتحدثون ويتعاملون بشكل عادي .. والمفاجأة التي أظهرتها متابعتي الطبية الدقيقة لهم .. هي أن هناك أعصابا زائدة تنمو في أسنانهم .. وتحديدا حول منطقة الأنياب.. وهي تختلف عن كل أعصاب الأسنان في أنها أعصاب من النوع الإرادي .. تسمح لهم بتحكم إلى درجة ما في أنيابهم .. فهي تبرز إذا توحشوا أو تمت إثارتهم عصبيا أو جنسيا أو حتى تم حقنهم بمادة منشطة .. و تضمر عندما يكونون في حالتهم الطبيعية ..

    دائما هم يحتاجون إلى دماء .. ودائما أحقنهم بما يحتاجونه منها ... لكنني إذا حرمتهم منها يزداد توحشهم جدا ...أجدهم يحاولون إخفاء عصبيتهم في البداية كما يحاول أن يخفي أي إنسان عصبيته ... لكنهم في النهاية يتحولون لوحوش كاسرة تحتاج إلى التكبيل بمقابض من حديد .. وهم لا يقبلون بأي دماء .. بل الطازجة منها فقط .

    نعم كنت أدرسهم دراسة احترافية .. ربما أدت هذه الدراسة إلى قتل بعض منهم .. و إيذاء البعض الآخر إيذاء فادحا ... لكنني كنت قد فهمت كل التطورات العضوية التي تطرأ عليهم .. ما كنت أجهله هو بم يشعرون .. لأنني كنت أستغرب جدا أنهم يتعاملون بشكل عادي بريء جدا .. كأن في الأمر سر ما ..

    الحق أنني كنت قد بدأت أهابهم و أخافهم شيئا فشيئا .. وبدأت أحلامي تتحول لكوابيس يومية مليئة بالدماء السوداء .. كل ليلة أقوم من فراشي فزعة ... بعض الكوابيس تصفني كجثة لا حيلة لها وبدلا من أن تنهشها الغربان كما هي العادة أراني تنهشني مجموعة من مصاصي الدماء .. و أحيانا أخرى أراني وكأني أسمع نداء غريبا مسموعا مثل نداء الكنيسة .. ثم أراني أتجه إلى النداء في الشارع ويتبعني مجموعة من الناس بعضهم أعرفهم .. عشت ليال كثيرة أندم فيها على ما فعلت و أقسم أن أعود استشارية عادية كما كنت .. ثم إنني ظللت أسبح في بحر أفكاري هذا حتى استيقظت يوما شاعرة بألم رهيب في معدتي .

    تحول فزعي هذا فورا إلى هيستيريا .. ذهبت إلى المستشفى كالمجنونة لأخضع نفسي للتحاليل التي أطلب من مرضاي أن يجرونها عادة ... النتائج كلها سالبة ... لكن هذا لا يعني شيئا .. النتائج لا تكون موجبة في بداية ظهور المرض .. ربما في مرحلته الثانية .. وعلى الجانب الآخر قد يكون هذا ألم معدة عاديا .. خاصة أنني فقدت شهيتي تماما في الآونة الأخيرة .

    استمر ألم البطن .. و صاحبه قيء متكرر بشكل أشعرني بالضعف الشديد ... رقدت في سريري في تلك الأيام غير قادرة على الحراك إلا بصعوبة .. راج ابني كان قلقا جدا علي ... حتى أنه أعطى لنفسه إجازة من كليته ليبقى بجانبي .. كان يوصلني إلى المستشفى لأخضع للتحاليل يوميا .. النتائج سالبة ... دائما سالبة ..

    في الأيام التالية شعرت أنني أصبحت أكثر وعيا .. أقصد أنني صرت أكثر حساسية لكل شيء يدور حولي .. حساسيتي للأصوات زادت بشكل مزعج حتى أنني أصبحت أسمع صوت وقوف راج على عتبة باب المنزل قبل أن يفتح الباب و أنا راقدة على سريري في غرفتي وراء صوت المكيف ....حساسيتي للروائح أشعر أنها زادت كثيرا .. لكن الأهم هو حساسيتي للأضواء .. في البداية كنت أشعر بصداع عندما يكون نور الغرفة مضاء ... وفي النهار عموما ... ثم تحول الصداع إلى صداع رهيب ثم إلى ألم شديد في البشرة يشبه لسعة الاحتراق .. في ذلك اليوم أيضا كانت نتائج التحاليل كلها سلبية .. لا أصدق .. أنا في بورفوريا لا شك فيها ... أنا أكثر من يعرف البورفوريا عند رؤيتها .. هناك شيء ما مريب .... ثم أنني أهلوس كثيرا جدا ولولا أن رباطة جأشي عالية و عقلي متفتح لكنت جننت منذ زمن .

    لابد أن أموت .. لا أريد أن أكمل هذا السيناريو .. كل هذا السخف يجب نهاؤه .. . رأيت ابني راج دخل عليً مهموما .. طلبت منه بهيستيريا أن يقتلني ليريحني من كل هذا الألم .. لن يفهم أنني أتحول إلى مصاصة دماء و أنه هذا الغافل – غالبا - سيكون أول ضحية لي.. مستحيل .. هذا راج .. وهو أغلى عندي من ذاتي... بدا راج منفعلا مع كلامي ثم أخذ في تهدئتي بحنان لم آلفه فيه .. قال لي أنني سأكون بخير و أن نتائج تحاليل سالبة ولا تشير لوجود أي مرض قاتل أو غير قاتل ...لكنني كنت أصرخ في هستيريا .. وفي النهاية أضطر أن يعطيني حقنة مهدئة رغما عني حتى رحت في النوم .

    " خلقنا منذ خلقت الدماء على الأرض .. محرم علينا النور .. محرم علينا الهرم"

    استيقظت من النوم .. أنظر بنصف عين إلى الغرفة من حولي ... أرى راج نائما على أحد الكراسي القريبة.. هذا الفتى عاطفي بالفعل ... جل ما أفكر فيه الآن هو الانتحار .. هذه ستكون نهاية عادلة أكفر بها عن كل حماقاتي ... أخرجت شريط دواء مهديء و شرعت أخرج كل الحبوب منه .. أخرجت تنهيدة مريضة لم يسمعها سواي .. فجأة استيقظ راج ... نظر إلى بهدوء .. ثم تحولت ملامحه إلى الحدة والغضب عندما عرف ما أنتويه ... أخذ مني الحبوب بغلظة ورماها جانبا .. نظرت إليه باستغراب برهة .. ثم تحول هذا الاستغراب لغضب عارم .

    " مقدسة أنفاسنا .. مقدسة دماؤنا "

    صحت فيه بغلظة كما كنت أصيح فيه منذ صغره وأمرته أن يتركني أفعل ما أريد ... لكنه بدأ يتعلم العند معي هذا الفتى .. أمرته بغلظة أن يوصلني للمستشفى لأخضع للتحاليل مرة أخرى .. لكن راج زاد عناده .. وأنا زادت هيستيريتي .. و إذا به يقبل علي ليحتضنني و يهديء من روعتي فأخمشه بأظفاري و أضربه و أقاومه .. وهو يكبلني بحنان و يتحمل ما أفعله بصبر .. أصبحت شرسة لدرجة أنني جرحته عدة جروح في وجهه .. أمسك ابني راج بمحقن قريب بسرعة .. لكنني ضربت يده في غل ليطير المحقن بعيدا .. ثم صرخت فيه و خمشته مرة أخرى في وجهه ... لكن ما هذا ؟

    " نداؤنا شرف لكم .. فمنكم من يرضى الشرف .. ومنكم من يرضى العار "

    إن ابني راج فد توحش عليً فجأة ... و بدت ملامحه الوسيمة كملامح نمر حبيس ... ثم احتضنني بقوة شديدة لم أعهدها فيه ... نظرت له بدهشة ..فقط لو أن عيناي المرهقتين تخدعانني ... إن ابني راج له أنياب ... أنياب مقوسة تعتزم عنقي .... إن ابني الحبيب راج له عينان مخيفتان .. وعيناه هاتان تحمل رعبا و شراسة لا حد لهما .. انقض ابني راج على ً... أنستني الدهشة أنه يجب أن أقاوم لأبقى .. هذا ابني ... إن قواي تخور مني ... شيء ما تذكرته الآن بسرعة .. دائما راج هو الذي كان يخبرني بنتائج التحاليل جميعها .. ولم أكن أرى ضرورة للنظر فيها بعد كلماته الواثقة .. استسلمت له تماما ... لا أشعر بالألم .. بل بالخدر اللذيذ يسري في عروقي كلها .. أود أن أشعر بهذا الشعور طيلة حياتي ... ثم إنني أغلقت عيني بهدوء واستسلام تامين .. ثم إن راج حملني ووضعني على سريري ببطء .. وطبع على جبيني قبلة حب ورضا .


    تمت

المواضيع المتشابهه

  1. الاتجار في البشر والاستغلال الجنسي للأطفال
    بواسطة ياسمين في المنتدى بحوث ومقالات في القانون الجنائي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-18-2010, 07:36 PM
  2. الاتجار في البشر والاستغلال ****** للأطفال "الظاهرة ودور الانترنت فيها"
    بواسطة هيثم الفقى في المنتدى مكتب أستاذ هيثم الفقي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-25-2010, 12:57 AM
  3. الانفصال يمنع الزوجة من السفرِ
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-04-2010, 03:00 PM
  4. ما الحكم في زوج يمنع زوجته من حضور المؤتمرات العلمية
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-22-2009, 07:30 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •